المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

ومنشأ توهّم أنّ هذا الفرض يكون من مصاديق الخروج عن محلّ الابتلاء هو صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليهم‌السلام الواردة فيمن رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه هل يصلح الوضوء منه؟ فقال عليه‌السلام : «إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس به ، وإن كان شيئا بينا فلا» فتوهّموا أنّ مفروض السائل هو القطع بإصابة الدم للإناء ، ولكن لا يدري هل أصاب ظهره أو داخله؟ فحيث يكون ظهره خارجا عن محلّ الابتلاء جوز الوضوء من الماء الداخل.

ولكن لا يخفى عليك أنّ مفروض الراوي ليس العلم الإجمالي لأنّه فرض أنّه صار الدم قطعا صغارا ، فيكون مفروض الراوي هو الدوران بين الأقلّ والأكثر ، فالأقلّ وهو إصابة نفس الإناء معلوم عنده ، ولكن كان شكّه في أنّه هل أصاب الماء أيضا أم لا؟ فقال عليه‌السلام : «إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس».

والشيخ رحمه‌الله مع أنّه قال به وحملها المشهور على أنّ إصابة الإناء لا تستلزم إصابة الماء مع ذلك لم يقل بما قلنا ، فافهم.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ كلّ مورد كان بعض الأطراف فيه خارجا عن محلّ الابتلاء لا إشكال في عدم تعلق التكليف المطلق به ، بل قال بعض بأنّ في بعض الفروض يكون التكليف المشروط به أيضا مستهجنا ، وعلى كلّ تقدير كلّ مورد علم فيه بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء لا إشكال في عدم فعلية التكليف فيه ، وكلّ مورد علم فيه بكون الأطراف ضمن محل الابتلاء أيضا لا إشكال في فعلية التكليف وتنجّزه.

إنّما الكلام فيما شكّ في أنّه هل هو خارج عن محلّ الابتلاء حتى لا يصير منجّزا ، أو يكون ضمن محلّ الابتلاء حتى يكون التكليف منجّزا؟ فهل يكون مقتضى القاعدة هو البراءة أو الاشتغال ، أو يكون المورد هو الرجوع الى العمومات وإطلاقات الأحكام؟

٣٠١

قال الشيخ رحمه‌الله : إنّ المرجع في مورد الشكّ هو العمومات والإطلاقات لأنّه بعد عموم الحكم يكون الشكّ في التخصيص فكما في الشبهة المفهومية من المخصص يكون المرجع هو العموم كذلك في المقام.

بل في المقام أولى لأنّ في شبهة مفهومية المخصّص يكون الخارج هو العنوان ، ولا ندري بأنّ ما يكون المفهوم هذا العنوان ، وفي المقام ليس التخصيص بلسان إخراج العنوان ، بل الخارج يكون كل فرد فرد ، هذا الفرد ، وذلك الفرد ، فكلّ فرد ثبت إخراجه نقول بخروجه عن العموم ، وفي الفرد المشكوك نرجع الى العموم ، ولو كان التخصيص هنا بلسان العنوان فلا يكون إلّا بعنوان المشيرية الى الأفراد ، فالخارج حقيقة هو الفرد ، ولا إشكال في أنّ في هذا القبيل يكون المرجع في مورد الشك هو العام.

بل لو تنزّلنا عن ذلك وقلنا بكون المورد من قبيل الشبهات المصداقية ، ولكن في المخصّصات اللبيّة يكون المرجع هو العام ، والمورد هو المخصّص لبّيّا ، لأنّ العقل حاكم باستهجان التكليف مع عدم القدرة عليه.

وقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّ المقام ليس مقام الرجوع الى العمومات والمطلقات ، لأنّ محلّ الرجوع الى العام هو فيما لو أصدر المتكلّم لفظا عاما ويستفاد منه العموم ، وأنّه هل تكون الإرادة الجدّية مطابقة للإرادة الاستعمالية ، أم لا فيرجع الى العموم كما ترى في موارد الرجوع اليه؟ وأمّا لو كان الشكّ من أول الأمر في أنّه هل يكون الخطاب قابلا لتعلقه الى بعض الأفراد ، أو لا كما ترى في النزاع في أنّ الخطابات الشفاهية تشمل المعدومين ، أو لا؟ ففي هذا المقام ليس محلّ الرجوع الى العام ، لأنّ الشك في قابلية الخطاب لتعلقه الى غير المشافهين.

مثلا لو قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) فكان الشكّ في أصل قابلية تعلّق «يا» بالمعدومين فلا يمكن التمسك بالعموم ، لأنّ العموم فرع ذلك ، فلو كان

٣٠٢

للعبارة عموم أو إطلاق ومع ذلك لو كان الشك في ذلك فلا يمكن التمسك لشموله بالعام ، فلفظ (الَّذِينَ آمَنُوا) ولو كان شاملا لعموم الناس حتى المعدومين لكنّ الخطاب لو لم يكن قابلا لتوجّهه اليهم فلا معنى للرجوع الى العموم ، وهذا واضح ، ومحلّ الكلام يكون من هذا القبيل ، إذ الشك في كونه خارجا عن محلّ الابتلاء أو لا يكون شكّا في قابلية توجه التكليف اليه وعدمه ، فلا يمكن التمسك في المقام الى العمومات والمطلقات ، فلو كان في البين أصل نقول به ، وإلّا نلتزم بالبراءة ، فما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في هذا المقام كلام متين حسن ، ولا يرد عليه ما استشكله النائيني رحمه‌الله ، وليس كلام الشيخ رحمه‌الله أيضا في محلّه ، فافهم.

ولكن على مذهب الشيخ رحمه‌الله القائل بالتمسك بالعمومات والإطلاقات مع أنّ الشكّ في كون بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء أو لا يكون المرجع هو العموم ، فلا بدّ من الاجتناب عن الأطراف بحكم بأمر آخر وهو كونه داخلا في محلّ الابتلاء ، لأنّه لو كان خارجا عن محلّ الابتلاء يكون تخصيصا للعموم ، وبمقتضى أصالة العموم نحكم بعدم التخصيص فيحكم بعدم الخروج عن محل الابتلاء.

بل على هذا المبنى لو علم بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء نحكم أيضا بكون الحرام في الطرف الذي يكون محل الابتلاء ، مثل ما لو علم إجمالا بكون الخمر إمّا في هذا الإناء المبتلى به أو في الإناء الخارج عن الابتلاء قطعا فيحكم بمقتضى عموم «اجتنب عن الخمر» على كون الخمر في الإناء الذي يكون محلّ الابتلاء ، كما يلتزمون بذلك في غير ذلك المورد ويقولون بمقتضى أصالة العموم بكون الفرد داخلا تحت العام ، كما يقولون بمقتضاه بخروجه عن تحت العام ، مثلا اذا علم بعدم إكرام زيد لكن لا يدرى بأنّه عالم حتى يكون تخصيصا لعموم «أكرم العلماء» أو يكون جاهلا حتى لا يكون تخصيصا لعموم «أكرم العلماء» فيقولون بمقتضى أصالة العموم بكونه جاهلا.

٣٠٣

غاية الأمر ما قلنا من أنّه لأجل أصالة العموم يدخلون الفرد المشكوك تحت العموم بعض قالوا بذلك حتى في المخصّصات اللفظية أيضا ، كما قالوا في المخصصات اللبية كالشيخ رحمه‌الله ، وبعض قالوا بذلك في المخصصات اللبية فقط كما قال بذلك المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، ونحن أيضا نلتزم بذلك ، فعلى أيّ حال في ما نحن فيه حيث يكون التخصيص تخصيصا لبيا لا إشكال في ذلك ، وعليه فعلى مذهب الشيخ رحمه‌الله لو كان بعض الاطراف متيقنا خارجا عن محل الابتلاء لا بدّ من الاجتناب عن البعض الآخر لما قلنا.

ولكن قلنا بفساد ذلك المذهب ، وأنّه ولو يكون لمتعلق الخطاب عموم وإطلاق لكن حيث يكون الشكّ في قابلية توجّه الخطاب لا يكون مجال للرجوع الى العام ، لأنّه من أول الأمر يكون الخطاب مشكوكا ، فافهم.

ثمّ إنّه أوردوا على الشيخ رحمه‌الله بعض إشكالات أخر :

الأول : ما قاله السيد محمد الأصفهاني رحمه‌الله ، وقال أيضا بذلك شيخنا الحائري رحمه‌الله من أنّه ما ورد من العمومات والمطلقات يكون متكفّلا لمتعلق التكليف وللمكلف ، فالعموم متكفّل لبيان المكلّفين وشامل لهم كلّ فرد فرد من كلّ الطبقات ، وكذلك متعلق التكليف متكفّل لتمام حالاته من سواده وبياضه وصغره وكبره وغير ذلك ، فيمكن في الفرد المشكوك التمسّك بالعموم ، لأنّ العام متكفّل لبيانه ، وأمّا لجهة اخرى وهي أنّ نفس الخطاب فعليّ على كلّ تقدير ، أو على كلّ الأشخاص فلم يكن العام والمطلق متكفّلا لبيان ذلك ، فعلى هذا لا يمكن في مورد الشك في فعليّته على تقدير أو على فرد من التمسّك بالعموم أو الإطلاق.

وحاصل كلامه راجع الى أنّه كما في المباحات لا يكون خطابه متكفّلا لجهات نفس الحكم كذلك في الواجبات والمحرمات. ولا يخفى عليك أنّه لو كان الإشكال هذا فجوابه واضح ، لأنّه في المباحات يلتزمون بحكم اقتضائي ، ولذا لا إشكال بأنّ دليل

٣٠٤

النذر أو غيره من الأدلة ليس معارضا له ، ولا يلتزمون بذلك في الواجبات والمحرمات ، ولذا فدليل النذر وغيره من الأدلة معارض لها ، والسر في ذلك هو ما قلنا من أنّ أدلة المباحات متكفلة لحكم اقتضائي ، بخلاف أدلة الواجبات والمحرمات فإنّها متكفّلة لحكم فعلي ، فهذه الأدلة تثبت الحكم الفعلي على كلّ حال وتقدير ، ومن الحالات كونه خارجا عن محلّ الابتلاء فافهم.

ولكن يمكن تقرير الإشكال بنحو آخر ، وهو أن يقال : إنّ الأدلة تارة تكون متكفّلة لحكم فعلي ، واخرى تكون متكفّلة لحكم غير فعلي كما فرضه المستشكل ، وفيما تكون في مقام بيان الحكم الفعلي لا إشكال بأنّ كلّ ما يكون راجعا الى الشارع يكون الشارع في مقام بيانه ومتكفّلا لهذه الجهة ، ولو سلّمنا بكون الشارع في مقام بيان الحكم الفعلي لكن من الواضح أنّ كلّ ما كان راجعا اليه يكون في مقام فعليّته ، وأمّا ما ليس أمره بيد الشارع فليس الشارع في مقام بيانه ، مثل القدرة فهي راجعة الى العقل فلا يمكن القول بصرف فعلية الحكم بعدم اشتراط القدرة ، إذ ليست هي وظيفة الشارع وبيده.

فكذلك نقول في ما نحن فيه ففي الخروج عن محلّ الابتلاء كان المنشأ هو استهجان الخطاب ، فلو كان خارجا عن محلّ الابتلاء يكون الخطاب مستهجنا ، وهذا بيد العقل ، فاذا كان بيد العقل فخطاب الشارع ولو كان فعليا وغير معلّق على تقدير إلّا أنّه غير معلّق على التقدير الذي كان وظيفته وأمره بيد الشارع ، وهذا ليس بيد الشارع ، فكيف يصحّ التمسك بالإطلاق؟ فافهم.

وقد استشكل شيخنا الحائري رحمه‌الله بالتمسّك بالإطلاقات إشكالا آخر ، وهو : أنّ نتيجة التمسّك بالإطلاقات في مورد الشك ليس إلّا إثبات الحكم الظاهريّ للمشكوك ، لأنّه بعد الشك يثبت الحكم الظاهري ، ولا يفيد الحكم الظاهري ؛ لأنّ منشأ الشك في أنّ خطاب الشارع حسن أم لا؟ فإن كان الخطاب حسنا نحكم به

٣٠٥

بمقتضى الخطاب الواقعي ولا حاجة الى الخطاب الظاهري ، وإن لم يكن الخطاب حسنا فلا فرق حينئذ بين الخطاب الظاهري والواقعي ، فكما أنّ الخطاب الواقعي ليس بحسن فكذلك الخطاب الظاهري ، فما فائدة التمسّك بالإطلاقات؟

وفيه : أنّه لو ثبت ما قلنا سابقا من أنّه بمقتضى أصالة العموم يكشف كون المشكوك داخلا في محلّ الابتلاء ، كما يكون ذلك نتيجة كلام الشيخ رحمه‌الله ، فلا يبقى مجال لهذا الإشكال ، إذ على هذا بمقتضى العمومات ندخله في محلّ الابتلاء فيكون الخطاب به حسنا ، فتدبّر.

ثمّ إنّه بعد عدم إمكان التمسك في مورد الشك بالعمومات والإطلاقات فلا بدّ من الرجوع الى الاصول العملية ، فإن قلنا بأنّ في الشك في القدرة يكون المرجع هو أصالة الاشتغال فلا بد من أن نقول في هذا المقام بها أيضا ، لكونها من مصاديق الشك في القدرة ، وإن لم نقل بذلك ولا يقبل هذا بطريق الكلّية كما لا يبعد أن يكون كذلك ـ ويأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى ـ فيكون المورد جريان البراءة.

ثمّ إنّ للمسألة صورا أربع :

فتارة يكون الخروج عن محلّ الابتلاء قبل العلم.

وتارة يكون بعد العلم.

وفي كلّ منهما تارة يكون الخروج عن محلّ الابتلاء بمقدار زمان التكليف ، مثل أنّه يعلم بالاجتناب عن المعلوم الإجمالي الذي يكون أحد طرفيه داخلا في محلّ الابتلاء والآخر خارجا عن محلّ الابتلاء خمسين سنة ، ويكون هذا الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء أيضا خارجا عن محلّ الابتلاء في تمام هذه المدة.

وتارة لم يكن كذلك ، بل يكون الخروج عن محلّ الابتلاء في بعض هذه المدة.

فاعلم : أنّ كلّ ما قلناه يكون فيما كان الخروج عن محلّ الابتلاء قبل العلم وفي تمام المدة.

٣٠٦

وأمّا لو كان الخروج عن محلّ الابتلاء قبل حصول العلم لكن في بعض المدة فلا يخفى عليك أنّه لو قلنا بالاجتناب حتى في ما كان تدريجيا ففي هذا الفرض يجب الاجتناب ، لأنّه ولو لم يكن فعلا منجزا لخروجه عن محل الابتلاء لكن ينجّز بعد ذلك ، ولا فرق بين الدفعي والتدريجي. وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا باعتبار الدفعية فلا يجب الاجتناب عن الطرف الآخر.

وأمّا لو كان بعد العلم ففي كلا الصورتين يجب الاجتناب ، لأنّ بمجرد العلم صار لزوم الاجتناب عن الاطراف منجّزا ، فلا يرتفع التنجز بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء ، بل لا بدّ بعد التنجّز من الامتثال ، كما نقول بذلك في مورد فقدان بعض الأطراف لو كان بعد العلم ، فتدبّر.

التنبيه الرابع :

[في أن الاجتناب عن الاطراف لازم] ظهر لك ممّا تلوناه عليك بأنّه بعد ما كان في العلم الإجمالي جهة تفصيل ويكون بمجرد قيام العلم منجزا فالاجتناب عن الاطراف كان لازما من باب أنّه لو كان المعلوم فيها لكان منجّزا ، فصرف احتمال تكليف منجّز يكفي في عدم جواز الارتكاب ، فعلى هذا ليس في البين إلّا حيث تفصيل المعلوم ، وهو بعد تنجزه كل ما يكون له من الأثر لا بدّ من ترتبه ، فنكون نحن وهذا الحيث التفصيلي ، فكل ما يكون له من الأثر يترتب ، وأمّا الآثار الأخر فلا ، وهذا المطلب ليس إشكالا في كبراه ، إنّما الكلام في صغرياته.

ثمّ اعلم : أنّه لو كان في بعض أطراف العلم أصل بلا معارض ، مثل أنه قام العلم على خمرية أحد الإناءين ثمّ كان أحدهما مستصحب المائية فلا إشكال في جريانه ، فينطبق المعلوم على الآخر ، وما يكون مورد الكلام هو أنّه لو كان الأصل الجاري في أطراف العلم الإجمالي غير موجب للمخالفة العملية ، كما أنّه لو قام العلم

٣٠٧

على طهارة أحد الإناءين وكان كلّ منها مستصحب النجاسة فهل يجري الأصل فيهما ، أو لا؟

قال الشيخ رحمه‌الله في بعض المواضع منها في الاستصحاب : إنّ جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي لو لم يلزم المخالفة العملية فلا مانع من جريانه ، وتبعه بعض آخر ، ومنشأ هذا التوهّم هو هذه العبارة التي قالها الشيخ رحمه‌الله.

ولكن لا يخفى عليك أنّه كما تلونا عليك في مطاوي كلماتنا بعد قيام العلم حيث يكون هو كشفا تاما ولا سترة فيه فلا مجال لجريان الأصل ، فنفس العلم مانع عن جريان الأصل ، لأنّه بعد قيام العلم بكون إناء زيد طاهرا فقد انتقض اليقين باليقين فلا مجال لجريان الاستصحاب في الأطراف ، فعلى هذا ولو لم يلزم المخالفة العملية ولكن مع هذا لا مجال لجريان الأصل ، وبعد معلومية الواقع فلا مجال لجريان الحكم الظاهري في الشبهات البدوية بعد قيام العلم ولا يكون مجال للبراءة ، فكيف تكون الشبهة المقرونة بعلم إجماليّ أمرها أسهل؟ فلو لم يكن العلم مانعا من جريان الأصل فنقول بجريان البراءة أيضا ، وعليه فنفس العلم مانع من جريان الاصول ولو لم يلزم المخالفة العملية ، والسر فيه : هو ما قلنا من أنّ بعد العلم وانكشاف الواقع كيف يكون مجالا للأصل؟ فتدبّر.

وقلنا بأنّ منشأ ذلك التوهّم ليس إلّا عبارة الشيخ رحمه‌الله ، ولا يخفى أنّ نظر الشيخ رحمه‌الله يكون الى المخالفة العملية في مقابل المخالفة الالتزامية ، وأنّه لو كان جريان الأصل موجبا للمخالفة الالتزامية لا العملية فلا مانع من جريانه ، وهو غير مرتبط بما نحن في مقامه ، وهو فيما يوجب المخالفة العملية ، لأنّ في المثال المتقدم أنّ أثر العلم هو الطهارة ويترتّب عليه عملا بعض الآثار ، منها جواز الوضوء منه ، فلو قلنا بجريان الأصل في الأطراف فلازمه عدم جواز الوضوء ، فذلك مستلزم لمخالفة عملية المعلوم ، فعلى هذا الحق هو ما قلنا من كون نفس العلم مانعا من جريان الاصول ولو

٣٠٨

لم يلزم المخالفة العملية أصلا ، لأنّه بعد قيام العلم على طهارة أحد هذين الإناءين فجريان الأصل في كلّ منهما مخالف للعلم التفصيلي ، وفي أحدهما يكون ترجيح بلا مرجّح ، فتدبّر.

اذا عرفت ذلك فنكون نحن والمعلوم التفصيلي ، فكلّ ما يكون له من الآثار لا بدّ من جريانه في الأطراف أيضا بالبيان الذي قدّمناه سابقا ، وهذا بحسب الكبرى ممّا لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال في صغراه.

منها : أنّه هل يحكم بتنجيس ملاقي بعض الأطراف ، أو لا؟

اعلم أنّ للشيخ رحمه‌الله في هذا المقام عبارة صارت مورد الإشكال ، حيث قال : تنجّس ملاقيه وعدمه مبنيّ على أنّه لو قلنا بأنّ تنجّس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس بناء على أنّ الاجتناب عن النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط فيحكم بنجاسة الملاقي ، ولو قلنا بأنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعيّ سببي يترتّب على العنوان الواقعي من النجاسات ، نظير وجوب الحدّ للخمر فلا يحكم بنجاسة الملاقي.

هذا حاصل كلام الشيخ رحمه‌الله ، فإنّا أوّلا نذكر مراده ، ثمّ ننظر بأنّه هل يكون مورد الإشكال ، أو لا؟

فنقول مقدمة : إنّ مدّعى ابن الزهرة بأنّ معنى نجاسة الشيء هو وجوب الاجتناب عنه وعن ملاقيه بأنّ للنجاسة أثرين عرضيّين : أحدهما الاجتناب عن نفسها ، والثاني الاجتناب عن ملاقيها ، وقد تمسك لذلك بقوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) بانّ معنى الهجر هو الاجتناب عن النجاسة وعن ملاقيها. وبعبارة اخرى : بعد نجاسة شيء يكون للشارع تكليفان عرضيان : الاجتناب عن أصل النجس ، والاجتناب عن ملاقيه ، فالاجتناب عن الملاقي أثر آخر في عرض الاجتناب عن

٣٠٩

نفس النجس ، لا أنّه بعد الحكم بالاجتناب عن النجس يستفاد الاجتناب عن ملاقيه بالملازمة ، بل هو تكليف في عرض تكليف لزوم الاجتناب عن ملاقيه ، فعلى هذا أثر النجس كما يكون الاجتناب عن نفسه كذلك يكون الاجتناب عن ملاقيه.

اذا عرفت ذلك فلا يخفى أنّ مراد الشيخ رحمه‌الله أيضا هذا الذي قلناه ، كما يظهر ذلك من عبارته في الرسائل لو تأمّلت فيه ، فعلى هذا المبنى لا إشكال في لزوم الاجتناب عن ملاقي الأطراف أيضا ، لأنّه بعد ما كان لزوم الاجتناب عن ملاقي النجس حكما تكليفيا ثابتا على النجس في عرض حكم تكليفيّ آخر ثابت على النجس وهو لزوم الاجتناب عنه فكلاهما أثر النجس ، وبعد ما قلنا من أنّ كل ما يكون أثرا للنجس المعلوم في البين لا بدّ من أن يترتب على الأطراف أيضا ، فكما أنّه يجب الاجتناب عن الأطراف لأنّ هذا أثر المعلوم في البين كذلك يجب الاجتناب عن ملاقي الأطراف أيضا ، لأنّ هذا أيضا أثر من آثار المعلوم في البين ، فعلى هذا لا يرد على الشيخ رحمه‌الله ما أورده المحقق الخراساني رحمه‌الله فيما قال.

تنبيهات

التنبيه الأوّل :

اذا علم بجزئية شيء لشيء ولكن شكّ في ركنيته فهل يمكن التمسك بالبراءة ويكون كالأقلّ والأكثر حتى لو تركه نسيانا تجري البراءة أم لا؟

اعلم أنّ الشيخ رحمه‌الله ذكر لهذه المسألة أقساما ثلاثة ، ونحن نذكر أولا ما لو تركه نسيانا فنقول : إنّه في مورد النقص سهوا هل يمكن التمسك بالاصول اللفظية أو الاصول العملية ، أم لا؟

أمّا الشيخ رحمه‌الله فحيث قال بعدم إمكان توجّه التكليف الى الناسي فهو ملتزم بعدم جريان البراءة ، لأنّه بعد ما فرض جزئية هذا الشيء المشكوك ركنيته فجزئيته

٣١٠

في حال العمد مسلّمة ، وبعد ما لا يمكن توجّه التكليف بالناسي فلا يكون له في حال النسيان تكليف آخر ، فيصبح هو مكلفا بما كان مكلفا حال العمد ، ولكن لو تعقّلنا توجّه الخطاب الى الناسي وثبت إمكان ذلك ففي مورد الشك لا إشكال في جريان البراءة ، ويكون حكمه بعين ما قلنا في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ؛ لأن تكليفه بإتيان هذا الجزء في حال العمد معلوم ولا يدري بأنه هل يجب إتيانه في حال النسيان ، أم لا؟ فتجري البراءة ، ويحكم بعدم وجوبه في حال النسيان.

فعلى هذا لا بدّ من بيان أنّه هل يمكن توجّه التكليف والخطاب الى الناسي أم لا؟ فنقول : أمّا على ما قلنا في الصحيح والأعمّ في مقام تصوير الجامع فنقول مثلا في الصلاة : (واذا ظهر حال الصلاة فيكون غيرها مثلها) فهي لها جامع مقولي له أفراد مختلفة ، وليس آبيا من أن يكون له أفراد مختلفة ، وما تعلق به الأمر هو هذا الجامع ، غاية الأمر أنّ هذا الجامع له أفراد : كالقائم والقاعد والمسافر والحاضر وغير ذلك ، فما يقع تحت الأمر هو هذا الجامع ، لكنّه بعد ما كان له أفراد فكلّ من كان موردا لكلّ فرد يجب عليه الإتيان بذلك الفرد ، فالمسافر لا بدّ له من الإتيان بركعتين ، والحاضر لا بدّ له من الإتيان بأربع ركعات ، وهكذا ، وعلى كلّ حال فما وقع تحت الأمر هو هذا الجامع.

فعلى هذا نقول : إنّه كما يكون لهذا الجامع أفراد من الحاضر والمسافر وغيرها يكون من أفراده العامد والناسي ، وهما أيضا مكلّفان بإتيان الجامع به ، فما كان الناسي مكلّفا به هو الجامع ، غاية الأمر في مقام الجعل جعل له فرد الفاقد للجزء المنسيّ ولا يخاطب بذلك ، بل الشارع ـ مثلا ـ قال بأنّ العامد وجب عليه كذا ، والناسي كذا وليس خطابا به حتى لا يكون معقولا ، فعلى هذا على ما اخترناه يكون المطلب واضحا.

وقد أجاب الشيخ رحمه‌الله عن الإشكال كما في تقريراته ، وحاصله هو : أنّه بعد

٣١١

ما التزم الشيخ رحمه‌الله في الصحيح والأعمّ من أنّ الصلاة مثلا تكون لتمام مراتبه النازلة أمرا على حدة ، فلصلاة القاعد أمر مستقلّ وهكذا سائر أفراد الصلاة ، فعلى هذا نقول بانه لا مانع من جعل التكليف للناسي كما يمكن لغيره ولو بلسان الأخبار ، وما يكون غير ممكن في حقّه هو توجّه التكليف به ونلتزم بأنّ الشارع في مقام الجعل جعل لناسي السورة ـ مثلا ـ الصلاة بلا سورة ولو بلسان الإخبار ، مثل أن قال : من كان ناسيا فقد جعل في حقّه كذا. فعلى هذا لا إشكال في جعله ، ثمّ بعد الجعل حيث إنّ الناسي لا يكون ملتفتا الى نسيانه وإلّا لخرج عن موضوع النسيان يتوهّم في نفسه أنّه عامد ، فيقصد إتيان العمل متقربا به الى الله ، لكن حيث هو ناس للجزء فلا يأتي به ، بل يأتي بسائر الأجزاء ، فهو أتى بالعمل وأتى بما هو مسجّل في حقّه ، غاية الأمر تخيل أنّه عامد ويأتي بتوهّمه المأمور به العامد ، والحال أنّه ناس ، وأمّا قصد القربة وإتيان سائر الأجزاء فهو قد أوقعها في محلّها وأتى بالمأمور به الناسي ، وصرف أنّه تخيّل نفسه عامدا لا يكون مضرّا ، لأنّ هذا من قبيل الخطأ في التطبيق ، وإلّا هو يكون بحيث لو علم انّه مأمور بما هو مأمور به الناسي لقصد ذلك.

والأمر والبعث لا يلزم إلّا لتحريك المكلف وانبعاثه نحو الفعل وبعد ما يكون المكلف منبعثا الى نحو الفعل ولو من باب الخطأ في التطبيق فلا حاجة الى الأمر أصلا فبهذا التقرير أيضا يرتفع الاشكال.

وما أورده النائيني رحمه‌الله على ما في تقريراته من أنّه كيف يمكن البعث والأمر بالناسي كسائر الأفراد النازلة كالقاعد وغيره؟ لا وجه له ؛ لأنه بعد ما قلنا من أنّه حاجة الى الأمر ، بل يكفي صرف الجعل ، وبعد الجعل وإتيان المكلف بتمام ما هو مأمور به الناسي ولو من باب تخيّل نفسه عامدا وكان ذلك من باب الخطأ في التطبيق فلا يبقى إشكال أصلا ، فافهم.

وقد ذكر المحقّق الخراساني رحمه‌الله لدفع الاشكال بيانين آخرين :

٣١٢

الأول : أنّه يمكن أن يكون الخطاب للناسي بعنوان ملازم له ، لا بعنوان الناسي ، مثل أن يعلم أنّ كل ناس يكون أصفر اللون ، فيقول : يا أصفر اللون يجب عليك ـ مثلا ـ الصلاة بلا سورة فلا يرد إشكال عدم معقولية الخطاب.

وفيه : أنّ هذا البيان صرف الفرض ولا يكون واقعا ، ومن أين يكون كلّ ناس لكلّ جزء عنوانا ملازما معه ، مع أنّ الخطاب لا يكون تعلقه كذلك أعني بعنوان الملازم؟

الثاني : وهو أنّه أوّلا يأمر ويخاطب الشارع الناسي والذاكر لغير الجزء المنسي ـ مثلا ـ يأمر كلّا منهما بالصلاة التي أجزائها هي سبعة ، ثمّ يأمر بأمر على حدة الذاكر بإتيان الجزء الآخر الذي نسيه الناسي ، فعلى هذا أيضا يرتفع الإشكال ؛ لعدم توجّه خطاب مخصوص بالناسي بعنوان الناسي.

وفيه : أنّ هذا البيان أيضا لا يكفي لدفع الإشكال ؛ لأنّه بعد ما قلنا في بعض كلماتنا من أنّ موضوع الواحد لا يقبل إلّا لأمر واحد ، وأمر المتعدّد أيضا لا يعقل تعلّقه بموضوع واحد ، ومن أنّ معنى الارتباطية هو أن يكون الموضوع واحدا غاية الأمر له أجزاء ، ومحلّ الكلام يكون فيما نسي الجزء ، فعلى هذا نقول : إنّ ما قلت من تعلق أمر أوّلا بالناسي والذاكر بالأجزاء الغير المنسية ، ثمّ تعلّق أمر آخر بالذاكر للجزء الذي نسيه الناسي إن كان الأمر الثاني المتعلّق بالجزء الآخر موجبا لأن يكون هذا الجزء موضوعا آخر غير مرتبط بموضوع الأمر الأول فهذا خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ محلّ الكلام هو في كون الأجزاء مرتبطة كلّ منها بالآخر ، فينسى أحدهما ويكون هو جزءا للمأمور به ، لا شيء آخر مأمور به غير مرتبط بالمأمور به الأول.

وإن كان الأمر الثاني مرتبطا بالأول ويكون المأمور به واحدا ، غاية الأمر أنّ هذا المأمور به له عشرة أجزاء للذاكر وتسعة أجزاء للناسي فهذا غير معقول ، لأنّه

٣١٣

كيف يمكن أمر واحد تعلقه بالنسبة الى أحد بنحو وبالنسبة الى الآخر بنحو آخر؟ وإن قلت بالأمر الثاني يصير الذاكر مختلفا مع الناسي فهذا أيضا باطل ؛ لأنّه بعد ما قلنا من أنّ تعدّد الأمر كاشف عن تعدّد المتعلّق فلا بدّ أن يكون متعلّق الأمرين متعددا ، فيعود محذور الأول. وإن قلت بأنّه ولو أنّ الأمر متعدد ولكنّ الثاني بعنوان الجزئية للأول فأيضا يعود الإشكال ، ولا بدّ من تغاير الذاكر والناسي في المأمور به ، وهذا عين الإشكال.

وممّا قلنا ظهر لك فساد ما قاله النائيني رحمه‌الله على ما في تقريراته من أنّ الارتباطية ليس ميزانها وحدة الأمر ، بل ميزانها وحدة الغرض ، فعلى هذا ولو كان الأمر متعدّدا لا يضرّ ، لأنّه لو كان الغرض واحدا فلا بدّ من أن يكون الأمر أيضا واحدا ، فلا معنى لتعدّد الأمر ، وإن كان الغرض متعدّدا فلا بدّ من تعدّد الأمر فيخرج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ تعدّد الأمر كاشف عن تعدّد المتعلق ، والحال أنّ كلامنا يكون فيما كان المتعلق والمأمور به واحدا ، غاية الأمر أجزاء المأمور به مختلفة بالنسبة الى الذاكر والناسي ، فافهم.

أمّا الكلام في زيادة الجزء فنقول بعون الله تعالى : إنّ أخذ الجزء جزءا يتصور على أربعة وجوه :

الوجه الأول : أن تكون الطبيعة الصادقة على القليل والكثير جزءا إمّا لأنّ الطبيعة تكون بحيث قابلة لذلك ، وإمّا للتخيير بين الأقلّ والأكثر على فرض تعقّله ، فلو كان جزئية الجزء كذلك فلا معنى للزيادة أصلا ، ولا تتصور الزيادة ؛ لأنّه بعد كون الطبيعة الصادقة على القليل والكثير جزءا مثلا لو أتى بتسبيحة واحدة أتى بالجزء ولو أتى بألف تسبيحة أيضا أتى بالجزء ، ولا يكون أحد منها زائدا.

الوجه الثاني : أن يكون صرف الوجود من الطبيعة جزءا ، ففي هذا القسم أيضا لو أتى بأفراد من الطبيعة دفعة فلم يأت بشيء زائد ، ولو أتى بأفراد من الطبيعة

٣١٤

تدريجا فالأول من الأفراد المأتيّ بها جزء ، وبعد إتيانه سقط الأمر ، فيكون ما بقي زائدا.

الوجه الثالث : هو أن يكون أخذ الجزء بشرط لا ، مثلا الركوع المقيّد بالوحدة تعلّق به الأمر وجزء للصلاة ، وفي هذا القسم لو أتى بالركوع الثاني ما أتى بشيء زائد ، بل ذلك حيث يكون موجبا لبطلان الركوع الأول ونقصانه ، فيكون راجعا الى النقيصة لا الزيادة.

الوجه الرابع : هو أن تكون الجزئية والأمر مقيّدا ، وفرقه مع الثالث هو : أنّه في الثالث يكون الموضوع مقيّدا فالركوع المقيد بالوحدة تعلق به الأمر ، وأمّا في هذا القسم فيكون الموضوع مطلقا ولكنّ الجزئية والأمر مقيدا ، فطبيعة الركوع تعلّق الأمر بواحد منه وجزئيته منحصرة بواحدة ، والثمرة بينهما هي : أنّه في الثالث لو أتى ثانيا فقد نقص الأول ولم يأت بشيء زائد ، بخلاف الرابع فإنّه لو أتى بالركوع الثاني أتى بشيء زائد ولم يبطل الأول.

فعلى هذا ظهر لك أنّ في الوجه الأول لا يتصور الزيادة ، وفي الثاني يتصور الزيادة في صورة وفي صورة فلا ، وفي القسم الثالث يرجع الى النقيصة ، وفي الرابع يتعقل الزيادة. وظهر لك أنّ هذه الأقسام عقلية ولا ربط لها بالعرف ، بل تكون تقسيما عقليا ، وبحسب حكم العقل يتصور أخذ الجزء بأربعة وجوه متقدمة.

فما قاله النائيني رحمه‌الله على ما في تقريراته من أنّ الجزء تارة مأخوذ بشرط لا ، وتارة مأخوذ لا بشرط ، فلو كان مأخوذا بشرط لا فيرجع الى النقيصة ، ولو اخذ لا بشرط فلا معنى للزيادة ، ولأجل ذلك وقع في الإشكال ، وقال فرارا عنه بأنّه ولو لم تكن الزيادة عقيلة ولكنّ ما يلزم هو الزيادة العرفية ليس في محلّه ؛ لما قلنا من أنّ الأقسام عقلية ، ولا يحتاج الى هذه البيانات لتصوير الزيادة بعد ما قلنا من أنّ في بعض الصور يتصور الزيادة ، والعجب أنّه قال بأنّه تصدق الزيادة عرفا ، والحال أنّه

٣١٥

ليس لنا مطلق إلّا في باب الصلاة دليلا لفظيا حتى نرجع الى الصدق العرفي وعدمه.

اذا عرفت تصوير الزيادة فنقول : لو أتى بالزيادة فهل يكون مجال للأصل العملي ، أم لا؟ فنقول بعون الله تعالى : إن الكلام يكون فيما كان منشأ توهّم إخلال العمل هو صرف الزيادة ، لا من جهة اخرى ، مثل ما لو اختلّ بقصد القربة فنقول :

بأنّ الزيادة لو أتى بها شكّ في بطلان العمل لأجلها ، فيرجع الشكّ الى الشكّ في الشرط ، ويعلم ـ مثلا ـ بأنّ الصلاة لها أجزاء وشاكّ في أنّه هل يكون شرطها عدم زيادة الركوع ، أو لا؟ أو يشكّ في أنّ هذا هل مانع ، أم لا؟ فيكون الكلام فيه هو الكلام في الشكّ في الشرط والمانع ، فيكون مورد البراءة ، سواء كان الشك في مانعيته لأصل العمل أو للجزء ؛ لأنّه قلنا بأنّ في مورد الشكّ في أنّ الشيء الفلاني شرط أو جزء للجزء أو الشرط أيضا تجري البراءة.

أمّا الكلام في الزيادة السهوية فهو يتصور فيما كان المفروض بطلان العمل بزيادته العمدية ، ثم زاد الجزء نسيانا ، فشكّ في أنّه هل يكون هذا موجبا لبطلان العمل أم لا؟

فنقول : أمّا على مذهب الشيخ رحمه‌الله من عدم تصوير توجّه الخطاب بالناسي فلا إشكال في جريان قاعدة الاشتغال ، كما كان كذلك في النقيصة ، لأنّه بعد العلم بإبطال الزيادة العمدية ففي حال النسيان لو دلّ الدليل على التقبّل مع فقد هذا الشرط أو المانع لأنّ عدم زيادته شرط ووجوده مانع فهو ، وإلّا تجري قاعدة الاشتغال بلا شبهة.

وأمّا على ما قلنا من تصوير توجّه الخطاب بالناسي فلا إشكال في جريان البراءة ؛ لأنّه على هذا شاكّ في أنّه هل عدم هذا الجزء الزائد شرط ، أو وجوده مانع ، أم لا؟ فتجري البراءة ، إلّا إن دلّ دليل في مورد على البطلان ، وإلّا فمقتضى القاعدة هو البراءة. هذا كلّه في جريان البراءة وعدمها وما قلنا في جريانها.

٣١٦

وقد يتمسّك بصفة العمل وعدم بطلانه بالزيادة بالاستصحاب ببيان : أنّه قبل إتيان الزائد كان للأجزاء وصف الصحة وقابلية تعقّب الأجزاء اللاحقة ، ثمّ بعد الإتيان بالزيادة شاكّ في ارتفاع هذا الوصف ، فبحكم الاستصحاب يحكم ببقاء الوصف.

وقال الشيخ رحمه‌الله في هذا المقام بيانا لطيفا ، وكان صحة كلامه من الواضحات ولا حاجة الى تعرضه ، لكن حيث صار مورد الإشكال نتعرّض لكلامه حتى يتّضح عدم ورود الإشكال. أمّا كلام الشيخ رحمه‌الله فهو قال : إنّ الشيء الزائد الآتي به يتصور على نحوين :

الأول : أن يكون صرف وجوده قاطعا للعمل ، لا لأجل النقص لوجوده في الأجزاء واعتبار عدمه في الأجزاء ، بل لأجل أنّ نفس العمل مشروط بعدمه وهو بنفسه مانع للعمل ، مثلا لو أتى بالركوع الزائد في الصلاة فيكون احتمال شرطية عدمه أو مانعية وجوده لأجل احتمال شرطية عدمه أو مانعية وجوده لأصل الصلاة ، لا لأجل اشتراط الأجزاء بعدمه ، ففي هذا النحو اذا أتى بالجزء الزائد فمع القطع بأنّ الأجزاء السابقة صحيحة فالشكّ في بطلان العمل لأجل هذه الزيادة ، ولو كان العمل فاسدا فيكون فساده مستندا الى فقدان هذا ، لا الى فقد شرط الأجزاء السابقة ، والأجزاء مع صحتها لو كان هذا الزائد سببا للإبطال لا يصحّ العمل ، ومع ذلك لا مجال لاستصحاب صحة الأجزاء السابقة ؛ لأنّه مع القطع لا يدفع هذا الشكّ بعد إتيان الزائد إلّا بالبراءة. ولما قلنا ظهر لك عدم صحة ما قاله النائيني رحمه‌الله على ما في تقريراته من جريان الاستصحاب التعليقي ؛ لما قلنا من أنّه يقطع بصحة الأجراء السابقة ومع ذلك لا يكفي إلّا أن يقال بجريان البراءة.

النحو الثاني : وهو أن يكون في البين احتمال كون وجود الزائد سببا للإخلال بشرط آخر ، لا أن يكون بنفسه شرطا في العمل أو مانعا ، مثل أنّه يعتبر في الصلاة

٣١٧

الهيئة الاتّصالية ، ثمّ بعد الإتيان بالزائد يشكّ في أنّ هذا هل كان موجبا للاختلال بالهيئة الاتّصالية ، أم لا؟ ففي هذه الصورة يكون مورد جريان الاستصحاب ؛ لأنّه قبل الإتيان بالجزء الزائد يعلم بمحفوظية الهيئة الاتصالية ، ثمّ بعد الإتيان بالجزء الزائد يشكّ في بقائها ، فببركة الاستصحاب يحكم ببقائها.

واعلم : أنّ الشيخ رحمه‌الله ليس غرضه أنّ القاطعية تستكشف من الأمر الغيري ، بل ذلك تارة يستفاد من ارتكاز العرف مثل ما قلنا من أنّ الصلاة عمل لا يتناسب معها بعض أفعال المتشرّعة الذين كان ارتكازهم على منافاة بعض الأفعال معه ، وممّا يكون من ارتكازهم هو اعتبار الهيئة الاتّصالية فيها ، ولأجل هذا لا حاجة في قاطعية بعض الأفعال للصلاة الى دليل خاصّ مثل الفعل الكثير.

وتارة تستفاد القاطعية من ظهور بعض الأدلة ، مثل ما ورد في الخبر القريب من هذه المضامين «إن البكاء يقطع الصلاة» ، بل يمكن أن يقال بأنّ تعلّق النهي ببعض الأشياء مثل البكاء أو غيره يكون بالنهي العرضي ، ويكون أوّلا وبالذات حفظ الهيئة الاتّصاليّة ، ولأجل ذلك تعلّق النهي بالعرض ببعض ، كما أنّه على ما التزم بعض في باب الاستقبال بأنّه شرط في الصلاة ، وليس لازمه تعلّق النهي بالاستدبار ويكون بالعرض ، فتدبر.

فعلى هذا لا يرد على الشيخ رحمه‌الله الإشكالات التي استشكلها النائيني رحمه‌الله على ما في تقريراته.

قال : أمّا أولا فلأنّ مجرّد الأوامر الغيرية لا تدلّ على أنّ ما وراء الأجزاء الخارجية يكون أمر آخر معتبر في الصلاة مسمّى بالجزء الصوري.

وفيه : أنّه كما قلنا ليس نظر الشيخ رحمه‌الله الى أنّ كشف القواطع من الأوامر الغيرية هل يكشف ذلك من ارتكاز المتشرّعة ومعلومية أنّ بعض الأفعال قاطع لهذه الهيئة.

وكذلك لا يبقى مجال لإشكاله ثانيا من أنّه ولو فرض كشف أنّ الهيئة

٣١٨

الاتّصالية جزء للصلاة من النهي الغيري ولكنّ تعلّق الطلب به لم يثبت.

وقال ثالثا : فعلى فرض تسليم تعلّق الطلب بالهيئة الاتصالية إلّا أنّه لا إشكال في تعلق الطلب بعدم وقوع القواطع وثبوت النهي عنها ، فعلى هذا ولو جرى الاستصحاب وقلت ببقاء الهيئة الاتّصالية ولكنّ منشأ الشكّ في بقائها هو الشكّ في قاطعية الموجود ، فلو فرض بقاء الهيئة الاتصالية بحكم الاستصحاب ولكن الشكّ في وجود القاطع لا دافع له إلّا البراءة ؛ لأنّ الأصل في المسبّب وهو بقاء الهيئة الاتصالية لا يكفي لرفع الشك في السبب.

وفيه : أنّه بعد ما قلنا من أنّ تعلق النهي لو فرض بالقاطع لا يكون النهي نهي الغيري ، بل يكون نهي العرضي ، فاذا ارتفع الشكّ في ما هو أصل بالنسبة اليه فلا يبقى الشكّ فيما تعلق به نهي العرضي ، فتدبّر.

ولكن يرد على الشيخ رحمه‌الله إشكال آخر ، وهو : أنّه ما المراد من استصحاب الهيئة الاتصالية؟ فإن كان الغرض استصحاب الهيئة الاتصالية من جزء السابقة فهو لا يكون مفيدا للسنّة ، ويحتمل أن تكون هذه الهيئة معتبرة للجزء الأول أيضا ، وإن كان الغرض استصحاب الهيئة الاتصالية حتى بين هذا الجزء المحتمل فيه وبين سائر الأجزاء ما يتوهّم كونه مانعا فلا مجال للاستصحاب ؛ لأنّه في هذا الحال يعلم بوجود الهيئة الاتّصالية بين الأجزاء السابقة ، وأمّا من هذا الجزء والجزء اللاحق فيعلم بعدم وجوده ، فافهم.

ثمّ اعلم : أنّه بعد ما عرفت من حكم الزيادة العمدية والسهوية فيقع الكلام بأنّه ما المراد من الزيادة؟ ومتى تصدق الزيادة؟

فنقول بعون الله تعالى : أمّا الزيادة ففي المركّبات الخارجية لا تصدق إلّا بعد الاتّصال بها وسنخيّتها لها ، وأمّا في المركّبات الاعتبارية فأيضا لا بدّ أن يكون متّصلا بها ومن سنخها ، غاية الأمر لا تكون الزيادة سنخا لها إلّا أن تكون جزءا لها

٣١٩

وأتى بها بقصد الجزئية ، وإلّا فلو أتى بشيء خارج لا تصدق الزيادة وكذلك لو أتى بما يسانخه لكن لا بقصد الجزئية فأيضا لا تصدق الزيادة ، فيشترط في صدق الزيادة في المركّبات الخارجية أن يكون الزائد متصلا بها ومن أجزائها ، لكن لا يعتبر القصد فيها ، حيث إنّه لا مدخلية للقصد في المركبات الخارجية وصيرورتها جزءا لها ، بخلاف المركّبات الاعتبارية فإنّه يعتبر في صدق الزيادة فيها أمران :

الأول : أن يكون الزائد متّصلا بها.

الثاني : أن يكون الزائد جزءا لها ، وصيرورتها جزءا لها لا يصدق إلّا بالقصد ، هذا بمقتضى القاعدة ، فلو أتى بشيء خارج مثل أن رفع يده في حال الصلاة لم يكن آتيا بالزيادة ، وكذا لو أتى بالركوع لا بقصد الركوع لم يزد في الركوع ، كما ورد بعض نظائره في الأخبار.

ولكن في باب النهي عن قراءة سور العزائم في الصلاة ورد في الخبر بأنّ «السجدة زيادة في المكتوبة» ، والحال أنّه على ما قلنا في تحقّق الزيادة ليست السجدة زائدة ، وكذلك في باب التكفير قريب من هذا المضمون «بأنّه عمل وليس في الصلاة عمل» ، والحال أنّ وضع اليد على الاخرى ليس من أجزاء الصلاة ، وقد قالوا في توجيههما بيانات ، وليس هنا محلّ الكلام فيهما ، ولكن ظهر لك أنّ الزيادة على القاعدة محتاجة الى الأمرين المتقدمين ، فتدبّر.

التنبيه الثاني :

اعلم أنّه بعد ما قلنا بأنّه لا إشكال في أنّ جزء كلّ مركب لو كانت جزئيته مطلقة ـ يعني جزءا في حال الاختيار والاضطرار ـ فلو تعذّر إتيانه يسقط الأمر عن المركّب ، لأنّه مقيّد بهذا الجزء وهو متعذر ، ولو كانت جزئيته في حال القدرة فقط فلا إشكال في عدم سقوط الأمر المركّب بتعذّر إتيان هذا الجزء ؛ لأنّ تقييد المركّب به

٣٢٠