المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

التقديرين لا يكون في العلم إجمال ، والتعبير بالعلم التفصيلي والإجمالي ليس معنى كون العلم إجماليا أنّ في العلم يكون الإجمال والترديد ، بل معناه أنّه علم ليس فيه إراءة جميع خصوصيات المعلوم ، بل كاشف ومرئى لبعض خصوصيات العلوم.

وهذا معنى أنّ العلم الإجمالي علم يكون مشوبا بالجهل ، فمع كونه مشوبا بالجهل لا يكون في جهة علمه إجمال ، بل لأجل مشوبيته مع الجهل عبّر عنه بالعلم الإجمالي ، وإلّا فليس في العلم إجمال أصلا ، سواء كان تفصيليا أو إجماليا ، مثلا في الإناءين المشتبهين وإن كان المعلوم غير بيّن إلّا أنّه مع ذلك فإنّ ما تعلّق به العلم يكون مبيّنا وليس فيه إجمال ، مثلا ما تعلّق به العلم هو إناء زيد ، وفي ذلك ليس إجمال ، غاية الأمر أنّ إناء زيد اشتبه بين الإناءين ، وإلّا فمتعلّق العلم في ذلك المعلوم بالإجمال يكون بعين معلوم بالتفصيل.

وقد قلنا بأنّ الفرق ليس بين التفصيلي والإجمالي ، إلّا أنّ في التفصيلي يكون المعلوم مكشوفا من جميع الجهات وتعلق العلم بجميع جهاته ، وفي الإجمالي لا يكون متعلقه مكشوفا من جميع الجهات ، بل لأجل تعلق العلم بجهة خاصّة منه ، وإلّا فبكلّ حيث تعلق العلم لا إجمال فيه ، كما قلنا في الدوران بين الوجوب والحرمة بأنّ المعلوم بالإجمال وهو التكليف المردّد بين الوجوب والحرمة لا إجمال فيه.

اذا فهمت ما تلونا عليك فاعلم : أنّ العلم الإجمالي حيث يكون العلم فيه خارجا مشوبا بالجهل فيكون علم وجهل ، وقلنا في محلّه بأنّ مجرّد العلم يصير الواقع منجّزا ، وبمجرّد قيام العلم وإراءة الواقع ينطبق عليه كبرى الواقع ، مثلا اذا علم بكون هذا خمرا فيجب الاجتناب بمقتضى «كلّ خمر يجب الاجتناب عنه» ، أو اذا قام العلم بوجود الوجوب من قبل الشارع فينطبق عليه كبرى الواقع وهو وجوب إطاعة أوامر الشارع ونواهيه ، كما قلنا سابقا ، ولا فرق في ذلك بين العلم التفصيلي

٢٨١

والإجمالي ، بل في كلّ منهما ينجّز الواقع بكل حيث تعلق به العلم ، ولذا قلنا في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة بأنّه ما تعلق به العلم وهو الحكم المردّد بين الوجوب والحرمة لا إجمال فيه ، فبمجرّد قيام العلم بهذا الحيث تنطبق كبرى الواقع ـ وهي وجوب الإطاعة ـ عليه.

فعلى هذا نعبّر عن قيام العلم بكلا قسميه حيث ينكشف الواقع وبإراءة الواقع ينطبق كبرى الواقع عليه ، فعلى هذا ما تعلق به العلم يصير منجّزا ، ففي العلم الإجمالي أيضا ما تعلق به العلم يصير منجزا ، مثلا ما تعلق به العلم هو إناء زيد ، وإناء زيد وإن صار خارجا مردّدا بين هذا الإناء وذاك لكنّه لا إجمال فيه ، بل الواقع مكشوف ، وأنّه عالم بكون ما في إناء زيد ـ مثلا ـ خمرا ، فكبرى الواقع تنطبق عليه ، فاذا انطبقت عليه لا بدّ من إطاعته بحكم العقل ، غاية الأمر بعد ذلك ـ أعني بعد ثبوت أصل الإطاعة ـ للعقل حكم آخر في أصل الإطاعة ، فلو كان المعلوم مفصّلا وغير مشوب في الخارج مع الشكّ فالعقل يحكم بإتيانه أو تركه ، ولو كان خارجا مشوبا بالجهل فالعقل حيث يكون أصل الإطاعة وكيفيتها بيده يحكم بإتيان الطرفين ، أو الأطراف ، أو ترك الطرفين ، أو الأطراف لحفظ المعلوم.

فالعلم الإجمالي والتفصيلي لا فرق فيهما في أصل الإراءة ، والعقل يحكم بإطاعة كلّ منهما ، يعني على مذهبنا بمجرد قيام العلم تنطبق كبرى الواقع عليه ، ولكن في المقام الثاني ، أعني في كيفية الإطاعة فالعقل يحكم بإتيان المعلوم أو تركه في العلم التّفصيلي ، وفي العلم الإجمالي بإتيان الأطراف أو تركها. ونعم ما قيل من التعبير بأنّه حكم العقل بإتيان الأطراف أو تركها يكون من باب المقدمة العلمية ، فعلى ما قلنا كان لازم العلم ذلك ، والشكّ وإن كان له الأثر ونقول بجريان حديث الرفع أو غيره من الأدلة في الأطراف إلّا أنّ ما يكون مدّعانا هو تنجّز المعلوم ،

٢٨٢

والمعلوم ليس إلّا إناء زيد ، لا أنّ تعلق العلم بهذا أو بذاك ، فالشكّ في كلّ من الأطراف وإن كان موجبا لجريان البراءة إلّا أنّ أثر العلم تنجيز معلومه ، واذا تنجز المعلوم يحكم العقل بترك الأطراف من باب المقدمة ، فافهم.

وبتقريب آخر كما قلنا : كأنّ في العلم الإجمالي علما مشوبا بالجهل ، فيكون علم وجهل ، وأجود تقريب ما قاله الشيخ رحمه‌الله من أنّ العلم بالتكليف مع الشكّ في متعلقه ، فعلى هذا نقول بأنّ العلم أثره تنجيز متعلقه ، فبكلّ ما تعلّق به العلم من أثر فتنجيزه بمجرّد قيام العلم تنطبق عليه كبرى الواقع ، ففي ما علم إجمالا بإناء زيد المردّد بين الإناءين لا إشكال في معلومية إناء زيد وأنّه خمر ، وتكون كبرى محفوظة ، وهي : أنّ كلّ خمر يجب الاجتناب عنه ، فاذا ضمّت هذه الصغرى الى الكبرى فتقول : هذا خمر ، وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه ، فهذا يجب الاجتناب عنه ، وهذا واضح.

فالعلم بعد تعلّقه بكلّ حيث كان لازمه تنجيز متعلقه ، إذ به يثبت الصغرى فيضمّ الى هذه الصغرى كبرى الواقع. هذا بالنسبة الى العلم.

وأمّا بالنسبة الى شكّه فأيضا لا إشكال في أنّ الأطراف تجري فيها أصالة الحلّية بعنوان كونها مشكوكة ، غاية الأمر بعد العلم بالتكليف وثبوته وتنجيز الواقع حيث يحكم العقل بإطاعته ، وحيث إنّ بيده كيفية الإطاعة فيحكم العقل بأنّه لا بدّ من إطاعة الواقع ، وحيث إنّ الواقع خارجا يكون مردّدا بين الأطراف فيحكم العقل من باب المقدمة العلمية بترك الأطراف ، وهذا ليس من باب كون الأطراف بعنوان كونها مشكوكة واجبة الاجتناب ، بل بهذا العنوان قلنا بعدم لزوم الاجتناب عنها ، ولكن المعلوم والواقع حيث يجب إطاعته فيحكم العقل بترك الأطراف بعنوان كونها مقدمة لترك إناء زيد ، ففي الأطراف اجتمع عنوانان : فمن حيث كونها مشكوكة ومعنونة بهذا العنوان تجري فيها أصالة الحلّ ، ومن حيث كونها معنونة

٢٨٣

بعنوان المقدمية لا بدّ من اجتنابها بحكم العقل ، فعلى هذا ترك الأطراف يكون أثر تنجّز العلم بالنسبة الى المعلوم ، وهذا ممّا لا شبهة فيه ، لأنّه يحكم العقل باجتناب الأطراف بحكم دفع الضرر المحتمل.

وفي الشكّ في التكليف وإن كان الأمر بالعكس ، يعني كان مورد جريان قبح العقاب بلا بيان إلّا أنّه قلنا بأنّ كلّ مورد يكون الضرر فيه محتملا يحكم العقل بلزوم دفعه ، وفي الشكّ في التكليف مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان نقطع بعدم الضرر ، وأمّا فيما نحن فيه فليس الأمر كذلك ، بل يكون المورد قاعدة دفع الضرر المحتمل ؛ لأنّ المفروض هو ثبوت الواقع والعلم بإناء زيد والاجتناب عنه ، فبعد العلم لا يكون العقاب عليه من غير بيان لقيام العلم به ، وبعد البيان يحكم العقل بالإطاعة لئلّا تقع في العقاب ، وكيفية الإطاعة هي الاجتناب عن جميع الأطراف ، فلزوم الاجتناب عن الأطراف يكون أثر العلم والواقع المعلوم ، ولذا قلنا بأنّ الأطراف بعنوان كونها مشكوكة ليست واجبة الاجتناب ، وليس ترك ارتكاب الأطراف من باب كونها مشتبهة حتى يقال : إنّه بهذا العنوان تجري فيها أصالة الحلّية ؛ لأنّه قلنا بأنّ الأطراف بعنوان آخر وهو عنوان المقدمية تكون لازمة الاجتناب.

ولذا لو كان للمشكوك أثر آخر لا يترتب ، كما لو نذر بأنّه إن كان في الإناء الأبيض خمرا أعطى الفقير درهما ، فلو كان أحد الأطراف إناء أبيض فلا يجب عليه بذل الدرهم ، لأنّه لعلّ الخمر يكون في الإناء الآخر ، والعلم مقدار تنجّزه ليس إلّا لزوم الاجتناب عن الأطراف ، وأمّا هذا الأثر فليس أثر تنجيز العلم ، فهذا شاهد على أنّ الأطراف ليس لزوم اجتنابها من باب عنوان كونها مشكوكة ، بل بعنوان آخر وهو المقدمية.

فظهر لك أنّ في العلم الإجمالي وإن كان علم وشكّ لكنّ أثر العلم هو ما قلنا ،

٢٨٤

ولا يمكن للشرع ولا للعقل الترخيص في الأطراف ؛ لأنّه لو رخّص الشرع فقد رخّص في ارتكاب مبغوض واقعي ، وكذلك العقل ، بل العقل يحكم بترك الأطراف مقدمة إرشادا ، كما أنّه يمكن للشارع الحكم بترك الأطراف مولويا.

وممّا قلنا ظهر لك حال الموافقة القطعية ، يعني المقام الثاني فلا بد من الموافقة القطعية. كما لا يجوز المخالفة القطعية ؛ لما قلنا من أنّ أثر العلم ذلك ، فكما أنّه لا بدّ من إحراز عدم المخالفة القطعية كذلك فلا بدّ من إحراز موافقة قطعية العلم بحكم العقل ، لأنّ بالعلم صار الواقع منجّزا فلا بدّ من إحراز حفظ الواقع ، فكما أنّه لا يجوز المخالفة القطعية في العلم الإجمالي كما بيّنا كذلك لا إشكال في وجوب الموافقة القطعية فيه ، وممّا مرّ ظهر لك أنّه لا يبقى إشكال في المسألة أصلا ، فافهم.

وعلى هذا فما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في القطع وفي هذا المقام أيضا من أنّ العلم الإجمالي حيث لا يكون فيه تمام الانكشاف فتكون مرتبة الحكم الظاهري فيه محفوظة ليس في محلّه ؛ لأنّه أمّا ما تعلق به العلم يعني المعلوم فليس فيه نقص في الانكشاف ، بل كشف تام ، كما في إناء زيد الذي تعلق به العلم ويكون مشتبها بين الأطراف ومنكشفا تمام الانكشاف ولا نقص في انكشافه. وأمّا الاطراف بعنوان المشكوك وإن كان يجري فيها الأصل وتكون مرتبة الحكم الظاهري فيها محفوظة إلّا أنّه كما قلنا : إنّ الذي نقول بتنجّزه ليس إلّا إناء زيد وهو معلوم ، وبعد معلوميّته وتنجّزه لا بدّ من إطاعته ، والعقل حيث يكون كيفية الإطاعة بيده يحكم بالاجتناب عن الأطراف مقدمة ، فالحكم الظاهري يجري في الأطراف ما لم يكن منافيا مع المعلوم ، ولا يمكن للشارع الترخيص للمناقضة ، فبعد حكم العقل بترك الأطراف بعنوان كونها مقدمة للمعلوم المنجّز فلا مجال للحكم الظاهري ولو كان بعنوان

٢٨٥

المشتبه مجال له ، فعلى هذا لا بدّ من ترك الأطراف بحكم العقل ، لأنّه لو ارتكب الأطراف يقطع بمخالفة المعلوم ويكون هذا محال ، ولو ارتكب أحد الأطراف أيضا يكون مخالفا لحكم العقل ، وليس للشارع أيضا الترخيص للمناقضة.

وأيضا ما قال من أنّه لو كان الحكم بحيث لو علم به تفصيلا لتنجّز فلا يكون العلم الإجمالي منجّزا فنقول :

أمّا أولا فلأنّه كما قلنا سابقا : لو فرض مورد يكون شرطا الفعلية العلم التفصيلي فهذا خارج عن محلّ الكلام ، لأنّ الكلام فيما كان مراتب الحكم تماما والعلم يكون شرطا للتنجز.

وأمّا ثانيا فإنّ إناء زيد يكون معلوما تفصيلا فلا بدّ من إطاعته ، والأطراف وإن كانت مشكوكة إلّا أنّه لا كلام لنا فيها ، واذا كان إناء زيد معلوما تفصيلا فيحكم العقل بإطاعته بهذا النحو ، يعني بترك جميع الأطراف ، فافهم. فظهر لك أنّه لا يمكن للشرع الترخيص بحيث ينافي الواقع المعلوم ، إجماليا كان أو تفصيليّا.

إنّما الكلام بعد ما يكون في مقامين :

المقام الأول : في أصل ثبوت التكليف ، وقلنا في هذا المقام بعدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي ، وأنّه لا يمكن للشارع الترخيص في طرف أو الأطراف في هذا المقام ؛ للتناقض قطعا أو لاحتماله.

وأمّا المقام الثاني : فهو أنّه بعد ثبوت التكليف والواقع بالعلم فحيث تكون كيفية الاطاعة وأصل الإطاعة بيد العقل ، وقلنا بأنّ العقل مستقل بترك الأطراف بعنوان المقدمية لإطاعة الواقع المعلوم فلا يخفى عليك أنّه مع عدم حكم الشرع يكون العقل مستقلا بالاجتناب عن الأطراف من باب المقدمة.

٢٨٦

وما يكون مورد الكلام هو : أنّه هل يمكن للشارع التصرف في حكم العقل وفي المقام الثاني ـ أعني في كيفية الإطاعة ـ بعد الفراغ عن أصل الثبوت ، أم لا؟

اعلم : أنّه لا إشكال في ذلك حتى في العلم التفصيلي أيضا ، فيمكن بعد ثبوت الحكم أن يتصرف الشرع في كيفية الإطاعة ، مثلا لو علم تفصيلا بوجوب صلاة الظهر فلا إشكال في تنجّزه ، فبعد ثبوته وتنجزه تكون كيفية إطاعته بعد ذلك بيد العقل ، فيحكم العقل بإحراز إتيانه ، ولكن مع ذلك يمكن للشارع أن يتصرف في هذا المقام ويحكم بكفاية الامتثال الظني أو الاحتمالي ، مع أنّ العقل مع قطع النظر عن هذا يحكم بلزوم الامتثال القطعي ، كما ترى أنّه لو خرج الوقت ولو أنّه يحكم العقل بلزوم الإتيان ولكنّ الشارع جعل قاعدة الفراغ وحكم بأنّه بعد الوقت يكفي الامتثال الاحتمالي ، فكما يعقل ذلك في العلم التفصيلي وقد وقع في الشرع كذلك يمكن ذلك في العلم الإجمالي أيضا ، فيمكن أن يتصرف الشارع في المقام الثاني ـ أعني في كيفية الإطاعة ـ ويكتفي بالامتثال الاحتمالي فيحكم بكفايته للمعلوم فيجوز ارتكاب بعض الاطراف.

كما أنّه يمكن للشارع أن ينصب طريقا لإثبات ما هو الواقع ، فيجعل البينة مثبتة لما هو الواقع ، مثلا لو قامت البينة بكون الخمر المعلوم بالإجمال في أحد الإناءين تنجّز التكليف بالاجتناب عنه ، ولا يلزم الاجتناب عن الإناء الآخر كذلك يمكن للشارع أن يكتفي بالامتثال الاحتمالي ، فعلى هذا لازم كفاية الامتثال الاحتمالي هو كفاية ترك أحد الإناءين وجواز ارتكاب أحدهما تعيينا أو تخييرا ، ولا يكون ذلك موجبا للتناقض ، إذ التناقض يلزم لو كان الترخيص في أصل الحكم وفي مرتبة ثبوته ـ مثلا ـ بعد ثبوت الحكم بحرمة الخمر يحكم بعدم حرمته.

٢٨٧

وأمّا في المقام الثاني ، ـ يعني في كيفية الإطاعة ـ بعد الفراغ عن أصل الحكم ومقام ثبوته فلا إشكال في تصرف الشارع ويكون نتيجته جعل البدل ، ولا يخفى عليك أنّ كلام الشيخ رحمه‌الله من إمكان جعل البدل وإن كان مجملا إلّا أنّ نظره يكون الى ما قلنا ، فافهم.

فعلى هذا لا مانع من ترخيص الشارع في بعض أطراف العلم الإجمالي ؛ لأنّ هذا يكون تصرفا في المقام الثاني بعد فعلية أصل الحكم وثبوت الحكم وبلوغه مرتبة الفعلية ، لكنّه كما يكون تارة في مقام الامتثال يكفي الامتثال الظنّي كذلك يمكن للشارع أن يكتفي بالامتثال الاحتمالي ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، ونفس جعل البدل معناه هو أنّ الواقع يكون محفوظا ، ثمّ في مقام الامتثال جعل الشارع هذا بدلا للواقع ، وقلنا بأنّه بعد ثبوت الحكم في الواقع وتنجّزه فالعقل تارة يحكم بامتثاله عينا وهو في العلم التفصيلي ، فيأتي بحكم العقل بالمعلوم ، وفي العلم الإجمالي تارة يحكم العقل بإتيان أطراف الاحتمال أيضا ، واخرى يكتفي بامتثال المظنون ، مثل حجية الظن بعد الانسداد فبعد العلم الاجمالي بالواقعيات وحيث إنّه لا طريق عليه من علم أو علميّ يحكم العقل بكفاية الامتثال الظني ، بل ربّما يتفق أنّه يحكم بالامتثال الاحتمالي ، مثل ما لم يكن ممكنا عن الامتثال الظني أيضا فيحكم العقل بكفاية الامتثال الاحتمالي.

ولكنّ كلّ ذلك يكون مع عدم تصرف الشارع ، وإلّا لو تصرف الشارع فلا بدّ من الإطاعة بالكيفية التي أمر الشارع بها ، فتارة أنّ الشارع يحكم بأنّ في كلّ طرف قامت الأمارة يكون ذلك الطرف لازم الامتثال فيكون الانحلال الحكمي ، لأنّه قلنا بأنّ الانحلال تارة يكون انحلالا حقيقيا كما في العلم الإجمالي حيث قام العلم

٢٨٨

التفصيلي على كون النجس في أحد الأطراف ، فينحلّ العلم الإجمالي الى علم تفصيليّ وشكّ بدوي. واخرى يكون الانحلال انحلالا حكميا ، وهذا في ما لو قامت الأمارة على كون النجس أحد الاطراف للمعلوم إجمالا.

وتارة يكون تصرف الشارع بنحو آخر وهو جعل البدل ، فيكتفي في مقام الامتثال بإتيان أحد الاطراف ، ولا إشكال بأنّ هذا التصرف ليس في مقام الثبوت ، كما قلنا باستحالة تصرف الشارع في مقام ثبوت الحكم ، ولكن العلم الاجمالي ولو أنّ الحكم لا إشكال في ثبوته ولكن يجعل الشارع أحد الأطراف بدلا عن الواقع ، فيكون أحد الأطراف بدلا عن الواقع ظاهرا.

إذا عرفت إمكان ذلك وعدم استحالة هذا فيقع الكلام في أنّه هل يكون في مقام الإثبات دليلا على هذا؟ وأنّ أخبار البراءة هل يكون لسانها لسان جعل للبدل ، أم لا؟

اعلم : أنّه ممّا قلنا من أنّ معنى جعل البدل هو الفراغ عن أصل ثبوت الحكم ثمّ البناء ظاهرا في مقام الامتثال على كون الحرام أحد الأطراف يظهر لك : أنّ لسان الأخبار ليس مقتضاه جعل البدل ، بل لسان الأخبار هو الحكم بالحلّية الواقعية ، وأنّ المشتبه حلال ثبوتا ، مثلا حديث الرفع أو «كلّ شيء لك حلال» وغير ذلك يستفاد منها الحلّية ، واذا كان لسانها الحلّية فلا معنى لاستفادة جعل البدل منها ، إذ معنى جعل البدل هو الحرمة الواقعية والحكم بكون الحرام في أحد الأطراف ، وهذا واضح.

وقال الشيخ رحمه‌الله كلاما في هذا المقام لاستفادة جعل البدل من الأخبار ببيان آخر ، وهو : استفادة جعل البدل بالملازمة بأن يقال : معنى «كلّ شيء حلال» هو حلّية هذا الفرد المشكوك ، فلو لم تكن الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي وتكون الشبهة بدوية فتجري البراءة في المشتبه ، ومعناه هو البناء على حلّيته ، ولو كانت الشبهة

٢٨٩

مقرونة بالعلم الإجمالي فجريان «كلّ شيء لك حلال» في أحد الأطراف يكون معناه هو البناء على حلّيته ، وبضميمة العلم الإجمالي يثبت بالملازمة حرمة الطرف الآخر والبناء على ذلك ، وهذا معنى جعل البدل ، لأنّه من جريان البراءة في أحد الأطراف والبناء على حلّية ومقرونية العلم الإجمالي يثبت بالملازمة لزوم البناء على حرمة الطرف الآخر.

ولكنّ فيه : أنّ لسان البراءة كما قدّمنا ليس البناء على الحلّية ، بل لسانها الحلّية الواقعية ، وهذا ليس معنى جعل البدل ، لأنّ جعل البدل محتاج الى البناء على حرمة طرف من الأطراف بعد ثبوت الواقع ، مضافا الى أنّه بعد جريان البراءة في طرف ليس معنى حرمة ارتكاب الطرف الآخر من باب البدلية ، بل يكون ذلك لأجل احتمال كون المعلوم هو هذا ، كما أنّه مقتضى العلم بحكم العقل هو الاجتناب عن الطرف الآخر أيضا ، فافهم.

فظهر لك عدم دليل على جعل البدل وحرمة المخالفة القطعية ، كما أنّه يظهر ممّا مرّ لزوم الموافقة القطعية أيضا بحكم العقل.

وما يمكن أن يتمسّك بالأخبار لعدم وجوب الموافقة القطعية يكون بتقريبين :

الأول : جريان البراءة في كلّ فرد فرد من الأطراف بما هو المشتبه ، غاية الأمر لأجل عدم المخالفة القطعية للعلم الاجمالي لم نلتزم بجريان الأصل في كلّ الاطراف ، لكن في بعضها فلا مانع منه.

وفيه : أنّه لو كان جريان البراءة في الأطراف بما هو المشتبه فنحن أيضا معكم موافقون ، ولا بأس بذلك ، لكن لا ينافي ذلك عدم جريان الاصل بعنوان آخر في الأطراف ، وهو كونها مقدمة لامتثال الواقع المنجّز المعلوم.

التقريب الثاني : أن يقال بالإطلاق ، وأنّ أدلة البراءة لها إطلاق ، فتشمل المشتبه ولو كان مقرونا بالعلم الاجمالي.

٢٩٠

وفيه أولا : أن الإطلاق ممنوع.

وثانيا : أنّ ذلك مناف مع صدر بعض الأخبار ، فإنّ في صدر بعض الأخبار مورد الشبهة غير المحصورة ، وقال قريبا من هذا المضمون : من أجل أنّ في الأجبان يكون جبن حرام لا يوجب الاجتناب عن كلّ الأجبان ففي هذا المورد قال : «كلّ شيء حلال». وأمّا في ما نحن فيه تكون الشبهة محصورة فلا يمكن الالتزام بذلك ، مضافا الى أنّ في المقام أخبارا أخر معارضة لذلك ، فعلى هذا لا بدّ من الموافقة القطعية وتحرم المخالفة القطعية في العلم الإجمالي لكن بشرط تنجزه ، فافهم وتدبّر جيّدا.

واعلم أنّه يتمسّك بعدم وجوب الموافقة القطعية بأمرين :

الأول : بالأخبار المطلقة ، مثل «كلّ شيء فيه حلال وحرام» ، وقد سبق الجواب عنه بأنّ إطلاقه ممنوع.

الثاني : ببعض الأخبار الخاصّة ، وهذه الأخبار بعضها يدلّ على حلّية التصرف في جميع مال يكون مخلوطا بمال الحرام ، فكلّ خبر يكون مدلوله هذا فهو غير مربوط بما نحن فيه ، بل لو أخذنا بظاهرها كان لازمها القول بعدم حرمة المخالفة القطعية ، وبعضها لا يدل على ذلك.

ومن جملة ما تمسّكوا بها للمطلب كما ذكر الشيخ رحمه‌الله هو : موثقة سماعة ، وجه الاستدلال هو قوله في ذيل الموثقة : «ثمّ قال : إن كان خلط الحرام حلالا فاختلط جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال فلا بأس».

وفيه : أنّ الموثّقة لو كانت دالّة على ارتكاب الجميع فتكون خارجة عن محلّ الكلام ، ويكون لازمه جواز المخالفة القطعية ، وإن قلنا بأنّه يظهر منها جواز الارتكاب لا في جميعها فنقول بأنّه مع ذلك لا يمكن الاستدلال بها للمطلوب.

لأنّه لو كان عبارة صدر الموثّقة هو : أنّه قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل

٢٩١

أصاب مالا من عمّال بني امية» يعني كان لفظ الموثّقة «عمّال» ، فعلى هذا يكون حكم المعصوم بجواز الارتكاب لأجل يد المسلم ، إذ ولو يعلم بكون المال الحرام أيضا تحت يده لكن مع ذلك هذا الذي أخذ منه يكون بمقتضى يد المسلم حلالا ، فالعلم الإجمالي وإن كان في البين إلّا أنّه قلنا بأنّه لو كان في أحد الأطراف أمارة أو أصل بلا معارض نأخذ به ، كما أنّه بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين يكون أحدهما مستصحب الطهارة فنقول بطهارته ولزوم الاجتناب عن الآخر ، كذلك أيضا بحكم يد المسلم وحمل فعله على الصحة يجوز التصرف في هذا الذي يأخذ عن يده.

وأمّا لو كان عبارة الموثّقة «من عمل بني امية» كما كانت العبارة كذلك مطابقة لنقل الوسائل ، وأنّ نقل الشيخ رحمه‌الله في الرسائل «من عمّال» فعلى هذا يكون ظاهرها أنّ نفس الشخص يكون آخذا المال الحرام ، وهو أخذ عمل بني امية ، فيمكن أن يقال بأنّ الحكم بجواز الحجّ أو الصدقة بعد الاختلاط يكون من باب التخميس ، وأنّه بعد كون المال مخلوطا بالحرام لو ردّ خمسة فيجوز له التصرف فيه ، غاية الأمر أنّ الموثّقة لم تصرّح بالتّخميس ، ويستفاد ذلك من الأدلة الاخرى ، فعلى هذا أيضا لا تكون مربوطة بما نحن فيه.

ثمّ إنّه ذكر الشيخ رحمه‌الله بعض الأخبار ، وقال : إنّه يستفاد منها لزوم الموافقة القطعية :

منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال».

وفيه : أنّ الرواية تدلّ على أنّ كلّ شيء اجتمع فيه الحلال والحرام فهو كذا ، وفيما نحن فيه لا نعلم بأنّ أحد أطراف العلم اجتمع فيه الحلال والحرام.

وكذا رواية ضريس فإنه قال فيها : «أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل» ؛ فبعض الأطراف لا يدري بأنّه خلطه الحرام.

وكذا رواية التثليث حيث يتمسّك بذيلها بأنه «وقع في المحرّمات وهلك من

٢٩٢

حيث لا يعلم» ، فإنّ في ارتكاب بعض الأطراف أيضا لو كان الحرام فيه واقعا يكون الهلاك ، فيقع التّعارض بينها وبين ما دلّ على جواز ارتكاب بعض الأطراف.

وفيه : أنّه لو تمّ ما يدلّ على جواز ارتكاب بعض الأطراف وعدم لزوم الموافقة القطعية فيكون حاكما على رواية التثليث ؛ لأنّه بعد الدليل على جواز الارتكاب ليس عقاب ، والمراد بالهلاك هو العقاب ، كما قلنا بذلك في البراءة ، وأنّ أخبار البراءة حاكمة عليها ، وعليه فالعمدة في المقام هو حكم العقل بلزوم الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية ، وعدم تمامية ما تمسّكوا به على جعل البدل أو جواز ارتكاب بعض الأطراف.

٢٩٣
٢٩٤

تنبيهات

في جهة

تفصيلية العلم الإجمالي

٢٩٥
٢٩٦

تنبيهات في جهة تفصيلية العلم الإجمالي

التنبيه الأول :

إنّه كما قلنا سابقا لا بدّ في العلم الإجمالي من جهة تفصيلية ، بمعنى أنّه بعد ما لم يكن في العلم إجمال لا بدّ وأن يكون في العلم الإجمالي أيضا جهة تفصيل ، وليس الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي إلّا أنّ العلم التفصيلي فيه التفصيل والانكشاف من كلّ جهة وحيثية ، وأنّ العلم الإجمالي يكون فيه التفصيل من بعض الجهات والخصوصيات ، وما يكون موجبا للتنجّز وكان لنا مفيدا هو حيث تفصيليّته ، فتارة يكون الواقع منكشفا بالعلم تمام الانكشاف من كلّ الجهات ، مثل ما نهى عن ارتكاب هذا الإناء الخاصّ ، فهذا علم تفصيلي ، إذ لا سترة فيه من أيّ جهة. واخرى لا يكون كذلك ، بل نعلم بوجوب مردّد بين هذا وذاك ، بل تارة لا نعلم لون الحكم أيضا مثل ما نعلم بحكم من الشارع لكن لم ندر بأنّه الوجوب أو الحرمة أو غير ذلك ، ففي كلّ منها أيضا يكون في العلم جهة تفصيلية ، فمثلا لو كنّا نعلم بالوجوب ولو لم ندر متعلقه وهذا المقدار يكون تفصيليا وموجبا للتنجّز ولم نقل إلّا بلزوم إطاعة هذه الجهة التفصيلية ولذا قلنا بالمشتبه من الأطراف فلا مانع من جريان الأصل فيها.

فعلى هذا بعد فهم جهة تفصيلية في العلم الإجمالي ينجّز الواقع ، فلا فرق بين

٢٩٧

كون الأطراف متّفقة الحقيقة أو مختلفة الحقيقة ، كما فرّق صاحب الحدائق بينهما ، بل ولا فرق بين كون الخطأ بين الذي يعلم إجمالا بأحدهما متّفقين أو مختلفين ، أو كان متعلّقهما متّفقا أو مختلفا ، لما قلنا من أنّه بعد العلم وتعلّقه بكلّ جهة حيث يكون فيه التفصيل من هذه الجهة يتنجّز ولا بدّ من الإطاعة ، فافهم.

التنبيه الثاني :

وممّا قلنا من أن ما يكون منجّزا ولا بدّ من إطاعته هو المعلوم والجهة التفصيلية التي تكون في البين ، وبمجرّد تحقّق الصغرى بالعلم تنطبق عليها كبرى الواقع ، ولا يجب ترك الأطراف بعنوان المشتبه أصلا ، لكنّ ترك الأطراف يكون من حكم العقل إرشادا من باب المقدمة ، ولو حكم الشارع أيضا بترك الأطراف لا يكون إلّا إرشادا الى حكم العقل ، فلا تكون الأطراف فيها جهة بعنوانها ، بل ليس في البين إلّا حفظ الواقع.

فعلى هذا لو ارتكب بعض الأطراف وصادف الواقع فيعاقب على الواقع لا على ارتكاب المشتبه ، ولذا لو ارتكب بعض الأطراف ولم يصادف الواقع الذي كان في البين لا يترتب عليه عقاب أصلا ، لما قلنا من أنّ لزوم الاجتناب عن الأطراف ليس إلّا من باب حكم العقل ، ولو حكم الشرع أيضا لا يكون مولويا ، بل يكون إرشادا الى حكم العقل ، فافهم. فلا وجه للقول بترتب العقاب على ارتكاب الأطراف ولو لم يصادف مع المعلوم في البين إلّا على القول بالتجري الذي لا نلتزم به وسبق كلامه في القطع ، فتدبّر.

التنبيه الثالث :

[أنّه لا بدّ وأن يكون المعلوم تفصيلا في العلم الإجمالي فعليا] لقد ظهر لك ممّا قدّمنا : أنّه لا بدّ وأن يكون المعلوم تفصيلا الذي يكون في البين في العلم الإجمالي فعليا على كلّ تقدير ، حتى بالعلم يصير منجّزا ولا يبقى لحيث

٢٩٨

فعليّته شيء ، واذا كان فعليا من جميع الجهات يصير بالعلم منجّزا ، وهذا واضح ، فلو كان فعليّته على تقدير ولم يكن فعليا من جميع الجهات فلا يصير منجّزا ، واذا لم يصر منجّزا لا يحكم العقل بالاجتناب عن الأطراف من باب المقدمة ، فهذه الكبرى لا إشكال فيها.

إنّما الكلام في بعض صغرياته ، ومن هنا يظهر أنّه لو كان لبعض الأطراف حكم ثابت بالأمارة أو بالأصل والعلم الاجمالي لا يكون أثره على تقدير كون المعلوم هو في هذا البعض أزيد مما ثبت لهذا البعض مع قطع النظر عن العلم الاجمالي فلا يكون العلم منجّزا ، لأنّه على تقدير كون المعلوم في هذا البعض لا يأتي حكما زائدا فالعلم لم يكن فعليا على كل تقدير ، مثلا لو علم إجمالا بإصابة البول لإناء زيد أو لإناء عمرو وقد قامت الأمارة على كون إناء زيد فيه بول فهذا العلم الاجمالي لم يصر منجّزا ، لأنّه لو كان البول أصاب إناء زيد فما أتى من ناحية العلم الاجمالي حكم زائد ، فافهم ، وهذا واضح لم يكن بمهمّ.

إنّما الكلام فيما لو كان بعض أطراف العلم الاجمالي خارجا عن محلّ الابتلاء فهل يكون العلم الاجمالي منجّزا أم لا؟ فلا بدّ أوّلا من فهم ميزان الخروج عن محلّ الابتلاء ، ثمّ بعد فهمه يظهر لك أنّه لو كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء هل يصير العلم منجزا أم لا؟

لا يخفى عليك أنّ ميزان الخروج عن محلّ الابتلاء هو أنّه لم يكن المكلف مقدورا عليه ، فإن كان غير مقدور للمكلف فيكون خارجا عن محلّ الابتلاء ، وبعد تقدير كونه غير مقدور له فالمعلوم الذي كان في البين لم يكن منجّزا على كل تقدير ، لأنّه لو كان المعلوم في هذا البعض الخارج عن محلّ الابتلاء فلم يكن مقدورا للمكلف ، وبعد عدم قدرته لا يكون فعليا ، فالمعلوم لا يكون فعليا على كلّ تقدير ، ولا يمكن البعث والتحريك نحوه ، فعلى هذا لأجل عدم القدرة لا يكون فعليا ، ففعليّته

٢٩٩

تكون مشروطة ، نعم ، يمكن التكليف به معلّقا ومشروطا بالابتلاء.

وممّا قلنا من أنّ المناط في كون بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء وهو عدم كونه مقدورا عليه يظهر لك الفرق بين الأمر والنهي ، وأنّه في الأمر يصحّ تعلق الأمر المطلق بالشيء ولو كان محتاجا الى مقدمات كثيرة ، بخلاف النهي فإنّه لا يصحّ النهي عن شيء نهيا مطلقا مع كونه غير مقدور عليه فعلا ، لأنّه في الأمر يكون فعلا قادرا على ذي المقدمة ، غاية الأمر يلزم عليه إيجاد مقدماته إمّا عقلا أو شرعا ، فذي المقدمة في الحال مقدور له ، وأمّا النهي فليس كذلك ، فمن كان في مكان بعيد عن المعمورة وليس الخمر عنده قبيحا أن يتعلق به النهي عن شرب الخمر ، لعدم كونه مقدورا بشربه فعلا. نعم ، لو أراد أن يوجد مقدماته بنفسه وصار بصدد تهيئة الخمر صحّ النهي عنه ، ولكن من لم يرد أصلا شرب الخمر ولم يكن مقدورا على شرب الخمر فعلا كان النهي المطلق عنه مستهجنا ، فإنّه ليس قادرا على فعله فعلا ، بخلاف الأمر فإنّه قادر عليه فعلا ، ولا يقبح للشارع الأمر به فعلا ، لأنّ بعد الأمر به يبعث الشرع أو العقل نحو مقدماته أيضا. وأمّا في النهي فلا بعث على مقدماته ، بل هو تحت إرادة نفس المكلف.

فظهر لك أنّ الميزان في الخروج عن محلّ الابتلاء هو ما قلنا ، وما يكون الفرق بين الأمر والنهي لا ما قيل من أنّ في النهي كان الترك حاصلا فلا يحتاج الى النهي ، لأنّه يقال : يمكن له إيجاده ولو بإيجاد مقدماته ، فافهم.

وبعد ما علمت من أنّ الميزان هو ما قلنا فلا يكون بعض المصاديق التي عدوّها خارجة عن محلّ الابتلاء خارجا عن محلّ الابتلاء ، كالإناء والأرض فيكون أحد طرفي الشبهة الإناء وطرفه الآخر هو الأرض ، فإنّه مقدور في الاجتناب عنهما ، وكذلك ليس في مصاديق الخروج عن محلّ الابتلاء ما هو داخل في الإناء وخارجه للقدرة على الاجتناب عن كليهما.

٣٠٠