المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

المقصد الثالث

في الدوران

بين الوجوب والحرمة

٢٦١
٢٦٢

المقصد الثالث

في الدوران بين الوجوب والحرمة

ولا يخفى عليك أنّ محلّ النزاع هو فيما كان الدوران بين الوجوب والحرمة في الشيء الواحد في زمان واحد أو كان في أزمنة ، ولكن يكون هذا الدوران ولم نقل بالتخيير الاستمراري فيما كان الدوران في شيء في أزمنة.

فنقول بعون الله : إنّه تارة يكون الوجوب والحرمة المردّد أحدهما أو كلاهما تعبديا ففي مثل ذلك وإن لم تكن موافقة قطعية للعلم الإجمالي ولكن يمكن المخالفة القطعية ، لأنّه ولو قلنا بالتخيير في المورد ولكن مع ذلك يمكن أن يأتي بالفعل الترك ، بلا قصد التقرب ، فالكلام يكون فيما كان الوجوب أو الحرمة توصليا ، حيث لا يمكن على ذلك لا الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية ، لأنّ أمره دائر بين الفعل والترك ، وعلى أيّ حال لا يمكن المخالفة القطعية ولا المخالفة القطعية.

فنقول : في المسألة وجوه ثلاثة :

القول بالتخيير بمعنى كونه مخيّرا بين الفعل والترك.

والقول بالاباحة بمقتضى البراءة.

والقول بالتوقّف عن الحكم رأسا.

٢٦٣

ومنشأ الإشكال في الباب هو : أنّه هل يكون العلم الإجمالي في المقام منجّزا ، أو لا؟ فإن كان منجّزا فلا بدّ من التخيير ، وإن لم يكن منجّزا فيجري الأصل في الطرفين ، ولازمه القول بالإباحة. وما يظهر من كلام الشيخ رحمه‌الله هو عدم تنجيز العلم الاجمالي أصلا ؛ لعدم إمكان المخالفة العملية ، بل بعض ترقّى عن ذلك وقال : إنّه لا يمكن البعث والانبعاث هنا أصلا ، لأنّ الأمر والنهي يكونان داعيا للمكلف نحو الفعل أو الترك ، وفي المقام حيث لا بدّ للمكلف إمّا من الفعل أو الترك فبعثه اليهما محال ولا وجه له ، ولأجل ذلك لا يمكن أن يتنجّز العلم الإجمالي.

ولكن لا يخفى فساد ما توهّم من عدم تنجيز العلم الاجمالي في المقام. ونقول لتوضيح المطلب : إنّه قلنا سابقا في باب القطع بأنّ العلم لا يكون وظيفته إثبات الحكم وبيانه ، بل ليس للعلم إلّا جهة الإراءة والطريقية وكشف الواقع ، واذا قام علم ينطبق على المعلوم كبرى الكليّة ، مثلا إذا علم بأنّ هذا خمر فلا يثبت العلم إلّا أنّ هذا خمر واقعا ، وأمّا وجوب الاجتناب عنه فهو يثبت من الخارج ، وحيث إنّه يعلم من الخارج بالكبرى وهي أنّ كلّ خمر يجب الاجتناب عنه ، فاذا قام العلم على خمريّة هذا المصداق فتنطبق الكبرى الكلّية على هذه الصغرى.

وأيضا قلنا في باب العلم الاجمالي : إنّه لا يمكن الإجمال في العلم ، بل العلم دائما يكون تفصيليا ، بل الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي يكون من جهة اخرى ، وهي أنّ العلم تارة لا يختلط في الخارج بالشكّ ، واخرى يختلط بالشك ، فإن لم يكن العلم مخلوطا بالشكّ فيكون العلم تفصيليا ، مثل علمك بإناء زيد ، والحال أنّه لا يختلطه شكّ وإن كان مخلوطا بالشك يكون العلم إجماليا ، مثل إناء زيد المردّد بين هذين الإناءين ، ولا يكون على كلّ من التقديرين إجمال في العلم ، بل في كليهما يكون متعلق العلم هو إناء زيد ، غاية الأمر أنّ إناء زيد في العلم التفصيلي لا يشوبه الشكّ ، وفي العلم الإجمالي كان مشوبا بالشك ، كما كان كذلك فيما نحن فيه أيضا فإنّه

٢٦٤

لا إشكال بأنّ حكم الشارع يكون إمّا الوجوب ، وإمّا الحرمة ، فيعلم تفصيلا في هذا الباب بحكم الشارع ، ولا إجمال في علمه بحكم الشارع ، غاية الأمر هذا العلم بحكم الشارع صار مشوبا بالشكّ في الخارج ، فما يكون في المقام معلوما هو حكم الشارع ، ولا إجمال في ذلك ، وما كان فيه الإجمال هو الحكم الوجوبي أو التحريمي ، وكون الشك في الحكم المعلوم أيّا منهما فيكون علم وشكّ ، ولا إجمال من حيث علمه.

ولا يخفى عليك أيضا أنّ الكلام تارة يكون في أصل الإطاعة ، واخرى في أنحاء الإطاعة ، ولا إشكال في أنّه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي في أصل الإطاعة ، بمعنى أنّه كما يجب إطاعة المعلوم تفصيلا كذلك يجب إطاعة المعلوم إجمالا ؛ لأنّ في كلّ منهما إراءة الواقع ، فاذا علم تنطبق عليه الكبرى الكليّة كما قلنا ، فعلى هذا بصرف العلم الاجمالي بالتكليف ينجّز التكليف ، ولا بدّ من الإطاعة كالعلم التفصيلي ، إلّا أنّ الفرق بينهما يكون في الجهة الثانية ، يعني في كيفية الإطاعة ، ولا إشكال بأنّ العقل بعد حكمه بأصل الإطاعة بمقتضى قيام العلم على الواقع يكون له حكم آخر بكيفية الإطاعة. فتارة يكون المعلوم غير مشوب بالشك فيحكم باتيانه ، واخرى يكون مشوبا بالشكّ ، كما كان كذلك في العلم الإجمالي ، فيحكم العقل تارة بإتيان المعلوم والمشكوك الذي اختلط مع المعلوم من باب المقدمة ، واخرى يحكم بإتيان جميع الأطراف أو تركها مقدمة ، وثالثة يحكم بترك بعض الأطراف فقط ، ورابعة يحكم بالتخيير ، وخامسة يرى بأنّ المورد ممّا يكون فيه التخيير تكوينا فلا يحكم بشيء أصلا.

وما نحن فيه يكون من هذا القبيل ، حيث إنّ العقل بعد حكمه بلزوم الإتيان أو الترك المعلوم بالإجمال يكون له حكم آخر في أصل الإطاعة وكيفيتها ، وهذا الحكم غير حكمه الأول ، فيرى في حكمه الثاني بأنّه لا يمكن الموافقة القطعية ؛ لأنّ الدوران بين الحرمة والوجوب يكون في شيء واحد فلا بدّ من أن يحكم بالتخيير ، لكن حيث يرى أنّ التخيير يكون تكوينا في الباب ، لأنّ أمر المكلف دائر بين الفعل والترك فلا

٢٦٥

يحكم بشيء أصلا ، وعليه فعمدة الاشتباه نشأ من عدم الفرق بين المقامين ، يعني مقام أصل الإطاعة ومقام كيفية الإطاعة ، وحيث يرى أنّه لا يكون للعقل حكم في الجهة الثانية ، ولا معنى لحكمه بتوهّم أنّ البعث والتحريك هنا غير ممكن قال بعدم تنجّز العلم الإجمالي في المقام ، ولذا يجري الاصل في كلّ من الوجوب والحرمة ، وغفل عن أنّ ما يكون موجبا للتنجيز هو القدرة على الإتيان والترك والبعث والتحريك ، وهو في الجهة الاولى ، وفي الجهة الاولى يكون البعث والتحريك ممكنا ، ويكون قادرا على إتيان المعلوم ؛ لما قلنا من أنّ الاطاعة ممكنة ، ولا فرق في أصل الإطاعة بين العلم التفصيلي والإجمالي ، وفي كلّ منهما لا إجمال في العلم ، وحيث لا إجمال فلا مانع من البعث والتحريك ويكون قادرا على الإطاعة ، لكنّ كيفية الإطاعة وهو جهة اخرى وهو حكم آخر للعقل فيها لا يمكن إلّا بالفعل أو بالترك ، واذا كان التخيير تكوينا نقول بعدم حكم العقل بالتخيير ، ولكنّ عدم حكم العقل في هذه الجهة لا يتنافى مع الحكم في الجهة الاولى ، يعني أصل الإطاعة ، وعليه فلا مانع من تنجيز العلم الإجمالي ، وأثره هو عدم جريان الاصول.

فظهر لك أنّ بجريان العلم الإجمالي يكون الأثر ، وهو عدم جريان الأصل ، فلا بد من القول بالتخيير ، وتمام الاشتباه نشأ من عدم التكليف بين الجهتين المتقدمتين ، وتوهّموا ما توهّموا.

وقد تحصّل لك أنّه لا إشكال في تنجّز العلم الإجمالي ؛ لأنّه يمكن البعث والتحريك نحو المعلوم ، ولا فرق بينه وبين العلم التفصيلي ، بل لا إجمال في العلم ، فالبعث والتحريك ممكن ، وبعد العلم يصير التكليف منجّزا وإن لم يمكن المخالفة القطعية.

والحاصل : أنّ العلم تفصيليا كان أو إجماليا ليس وظيفته إلّا الطريقية وإراءة الواقع ، ولا يمكن الإجمال في العلم ، فاذا حصل العلم يكون لازمه تنجّز الواقع بحكم العقل بلزوم الإطاعة ، فاذا صار الواقع بسبب قيام العلم منجّزا فيكون للعقل حكم

٢٦٦

آخر في أصل الإطاعة وكيفيته ، وحكمه بكيفية الإطاعة غير حكمه بأصل الإطاعة ، ولذا بعد ثبوت التنجيز يحكم بأنّ كيفية الإطاعة في التعبدي هو بقصد العبودية ، وفي التوصلي بعدم لزوم ذلك.

وفي بعض الموارد يحكم مقدمة لامتثال الواقع بإتيان الأطراف ، وهذا جار في العلم الإجمالي ، فإنّه بعد حكمه بأصل الإطاعة وتنجّز الواقع يحكم بحكم آخر بأنّه لو صار المعلوم مشوبا ومخلوطا بالشكّ فلا بدّ من باب المقدمة من إتيان المشتبه أيضا ، وحكمه بإتيان الأطراف أو ارتكابها من باب المقدمة أيضا شاهد على أنّ الواقع ـ أعني المعلوم ـ صار منجّزا ، ولذا فلأجل حفظه يحكم بحكم آخر بإتيان الأطراف مقدمة ، وفي بعض الموارد لو رأى العقل بأنّ التخيير يكون تكوينا لا يحكم بحكم أصلا ؛ للغوية حكمه ، وعدم حكمه أيضا في هذا المقام لا يكون في أصل الإطاعة ، بل بعد حكمه بإطاعة المعلوم وتنجّزه حيث عليه حكم آخر بكيفية الإطاعة لا يكون هذا الحكم الثانوي في مورد التخيير التكويني ، مثل ما نحن فيه فعدم حكمه بالتخيير ، وفي المقام الثاني ـ يعني كيفية الإطاعة ـ لا يكون سببا لعدم حكمه في المقام الأول ، بل يحكم بأصل الإطاعة ويصير المعلوم منجّزا ولا يحكم في الجهة الثانية.

وفي بعض الموارد مثل ما نحن فيه لو رأى الأهميّة في طرف يحكم أيضا بالأخذ به ، مثلا لو رأى أهميّة حفظ الوجوب يحكم بالأخذ به وإتيانه ، وكذلك عدم حكمه بالتخيير يكون فيما كان الدوران في زمان واحد ، ويكون التخيير ثابتا تكوينا ، وفي هذا المقام أيضا لو كان الدوران استمراريا فيحكم بعدم التخيير استمرارا ، فيحكم بأنّه لا يجوز إتيان ما شكّ في حرمته ووجوبه إتيانه في زمان وتركه في زمان آخر للقطع بمخالفته الواقع.

فظهر لك ممّا قلنا أنّ من قال بعدم تنجيز العلم فيما نحن فيه لعدم تأثير في وجوده وعدمه لكون أمره دائرا بين الوجود والعدم تكوينا ممّا لا وجه له ، ومنشأ خلطه هو ما قلنا من أنّه بعد ما رأى أن في مورد كان الدوران في زمان واحد ولم

٢٦٧

يكن لأيّ من الوجوب والحرمة المشكوكة أهميّة يكون التخيير حاصلا تكوينا ، ولم يكن للعقل حكم ، وللغوية حكمه صار سببا لأن يقال بعدم تنجيز العلم أصلا.

ولكن قلنا بأنّه لا بدّ من التفكيك في أصل الإطاعة وبين كيفية الإطاعة ، فإنّه في المقام الأول لا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي ، وبصرف العلم تحصل الإراءة ، واذا انكشف الواقع يكون الواقع منجّزا ، وقلنا بأنّه لا إجمال في العلم ، بل في العلم الإجمالي أيضا يكون المعلوم بيّنا ، مثلا فيما نحن فيه ما تعلّق به العلم هو أنّ للشارع حكم في المورد ، وهذا يكفي في كون المعلوم مبيّنا ، فعلى هذا يكون الواقع بمجرّد قيام العلم منجّزا ، ومن الواضح أنّه قادر على إتيان المعلوم ، لأنّ المعلوم إمّا الوجوب أو الحرمة ، فهو قادر على إتيان الواقع ويكون عليه منجزا ، غاية الأمر بعد ما صار التكليف منجّزا لا يكون في بعض المواقع حكم للعقل في كيفية الإطاعة ، ومجرد عدم ذلك لا يكفي القول بعدم تنجّز العلم ، لعدم أثر له ، لأنّه يكفي في أثره عدم جريان الاصول في أطرافه ، مع أنّ في بعض موارده يكون له بعض الآثار الاخرى كما أشرنا اليه.

فظهر لك فساد ما توهّم من عدم تنجّز العلم فيما نحن فيه ، فعلى هذا يكون العلم منجّزا ، وبعد تنجّزه يكون أمره كأمر العلم في الشبهة المحصورة ، فكلما قلنا في الشبهة المحصورة بلزوم الموافقة القطعية أو حرمة المخالفة القطعية يجري فيما نحن فيه أيضا ، إلّا أنّ الفرق بين ما نحن فيه وبين الشبهة المحصورة يكون في الشبهة المحصورة للشارع الحكم بكيفية الإطاعة مطلقا ، ولا يمكن ذلك بقول مطلق فيما نحن ، بل في موردها كان الدوران بين وجوب الشيء وحرمته في زمان واحد ولم يكن لأحدهما أهميّة لا يكون العقل حاكما بالتخيير ؛ لأنّ التخيير ثابت تكوينا ، فافهم.

ثمّ إنّه قال هذا المتوهّم بعد ذلك : إنّه بعد عدم تنجّز العلم الإجمالي بأنّه لا تجري أصالة التخيير فيما نحن فيه ، لأنّه ليس له أثر ، لأنّ التخيير كان ثابتا مع قطع النظر عن الأصل تكوينا ، وهذا صحيح ، وقال : لا تجري أصالة الإباحة ، لأنّ من

٢٦٨

المعلوم أنّ هذا الشيء إمّا واجب وإمّا حرام فكيف تجري أصالة الإباحة؟ وأمّا البراءة فلا بدّ من جريان أصالة براءة للوجوب وأصالة براءة اخرى للحرمة ، ولا يكفي إجراء أصالة براءة لواحد ، ولكن لا حاجة الى إجراء أصالة البراءة ؛ لأنّ مع عدم تنجّز العلم الإجمالي يقطع بالمؤمّن من العقوبة فلا حاجة الى اصالة البراءة.

وأمّا حديث الرفع فحيث كان أمر وضعه ورفعه بيد الشارع لا يمكن جريانه فيهما ، لأنّ وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي يكون من باب حكم العقل ، فليس أمر وضعه ورفعه بيد الشرع حتى يرفعه الحديث ، فأمّا الاستصحاب يعني البناء على الحالة السابقة والحكم بعدم الوجوب والحرمة فهو أيضا لا يجري ، لأنّه يعلم بانتقاض الحالة السابقة للعلم بحكم شرعي.

ولكن لا يخفى عليك أنّه على ما التزم به هذا الشخص من عدم تنجيز العلم فيكون العلم كالعدم ، فعلى هذا لا مانع من جريان أصالة الإباحة ؛ لأنّ المانع منه يكون هو العلم ، ومن المفروض أنّ العلم غير منجّز ، وأمّا أصالة البراءة فهو على تقدير عدم تنجّز العلم يكون محتاجا اليها ، لأنه ولو لم يكن علم على هذا في البين إلّا أنّه لم يكن العقاب على التكليف غير المنجّز غير جائز ، فلا بدّ من أن تقول بأنّ العقاب على التكليف غير المنجّز يكون لأجل قبحه ، فاذا كان عدم العقاب لقبحه فهذا معنى أصالة البراءة ، لأن البراءة ليس إلّا قبح العقاب من غير بيان.

وأمّا حديث الرفع فجريانه في أطراف العلم لا يمكن ، لما قيل من أنّ الحكم بالاحتياط في الأطراف يكون بحكم العقل ، فليس أمر وضعه ورفعه بيد الشارع كي يرفعه ، ولكن كما قلنا سابقا : لا إجمال في العلم ، وللشارع أن يرفع ما يكون حكمه في المقام ، فحكم الشارع إمّا يكون الوجوب أو الحرمة ، وحيث إنّ وضع هذا الحكم ورفعه بيد الشارع ، فاذا رفع الشارع حكمه الذي يكون في البين فيرتفع حكم العقل الذي كان بتبع حكم الشارع بالاحتياط في أطراف الشبهة مقدمة لحفظ حكم الشارع.

٢٦٩

وأمّا الاستصحاب فهو أيضا جار لو التزمنا بعدم تنجّز العلم ، كما التزم به هذا الشخص ، لأنّه على تقدير عدم تنجّز العلم يكون وجود العلم كعدمه ، فلا مانع من جريان الاستصحاب ، فالعجب من أنّه مع التزامه بعدم تنجّز العلم قال بعدم جريان الاستصحاب!

فظهر لك ممّا قلنا فساد كلام هذا الشخص ، أعني النائيني رحمه‌الله ، والحق أنّ العلم منجّز ، ولا مانع من تنجيزه كما بيّنّا لك.

وأمّا كلام الشيخ رحمه‌الله حيث قال بعدم تنجّز العلم ؛ لعدم أثر على وجوده وعدمه ، ويظهر هذا الكلام منه في غير مورد ، ومن المحقّق الخراساني رحمه‌الله أيضا فنقول : إنّ كلام الشيخ رحمه‌الله على مبناه في باب القطع بأنّ للعقل حكم باتّباع القطع ولا إشكال بأنّ مراده الحكم باتّباعه العملي فيكون في محلّه ، لأنّ فيما نحن فيه حيث يكون المكلف به أمره تكوينا دائرا بين الوجود والعدم فلا حكم للعقل أصلا ، فلا يكون حكمه باتّباع القطع عملا في المورد.

ولكن على مذهبنا من أنّ القطع ليس وظيفته إلّا إراءة الواقع ، واذا كان وظيفته الإراءة فاذا أراه الواقع انطبق عليه كبرى الواقع قهرا ، وليس للعقل حكم آخر باتّباع القطع ، بل بمجرّد القطع انكشف الواقع ، واذا انكشف الواقع انطبق كبرى الواقع على الصغرى المقطوع ، فليس هذا الكلام في محلّه ؛ لأنّه بعد القطع بحكم إلزام الشارع فالكبرى الواقعيّة وهي وجوب الإطاعة تنطبق عليه ، فعلى هذا يصير العلم منجّزا وكان له الأثر ، لأنّه يلزم الإطاعة وهو قادر عليها ؛ لأنّ المعلوم يكون واحدا من الوجوب والحرمة ، لا كليهما ، وهو قادر عليه ، فيصير التكليف منجّزا ، وبعد ثبوت التكليف في بعض الموارد لا يمكن الامتثال لأجل مشوبيّة المعلوم بالمشكوك ، وهذا لا يضرّ في تنجيزه العلم كما قلنا ، وكان له الأثر وهو عدم جريان الاصول وغيره من بعض الآثار في بعض الموارد ، كما أشرنا اليه.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ منشأ الإشكال في المقام يكون في مقام الثبوت ، وأنّ

٢٧٠

العلم الإجمالي هل يكون له التنجيز ، أو لا؟ فالشيخ والنائيني رحمهما‌الله كان مدّعاهما عدم تنجيز العلم ، غاية الأمر كان الشيخ رحمه‌الله نظره في ذلك الى عدم إمكان المخالفة القطعية ، والنائيني رحمه‌الله كان نظره في ذلك الى أنّ العلم حيث يكون وجوده وعدمه على السواء فلا معنى لتنجّزه ، وأنّنا بما قلنا في المقام أنّ العلم يكون منجّزا ، فعلى هذا أصل الإشكال والخلاف يكون في هذه الجهة.

فعلى هذا ما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله اعتراضا على الشيخ رحمه‌الله بأنّه لا وجه لاختصاص النزاع بما كان الدوران بين الوجوب والحرمة التوصلي ، وأمّا في ما كان أحدهما أو كلاهما تعبديا فلا مجال لهذا الاختلاف ليس في محلّه ، لأنه ولو أنّ المخالفة التفصيليّة ممكنة لو كان أحدهما أو كلاهما تعبديا إلّا أنّه لا فرق بين التوصلية والتعبدية فيما هو المهمّ في المقام ، وهو الحكم بالتخيير ممّا لا وجه له ، لأنّه كما قلنا يكون الكلام ومورد النقض والإبرام هو في مقام الثبوت ، وأنّ العلم هل يمكن تنجّزه أو لا؟ فالشيخ والنائيني رحمهما‌الله قالا بعدم تنجزه ، وأنّنا قلنا بتنجّزه.

وعلى كلّ تقدير يكون قول الشيخ رحمه‌الله بعدم تنجّز العلم لأجل عدم إمكان المخالفة القطعية ، وقول النائيني رحمه‌الله بعدم تنجز العلم لأجل أنّ العلم وجوده وعدمه يكون سواء ، لأنّ أمره تكوينا يكون دائرا بين الوجود والعدم ، فكلام الشيخ رحمه‌الله وكذا كلام النائيني رحمه‌الله يجري ويصحّ ويتم فيما لو كان الوجوب والحرمة توصليا ، لأنّه في التوصّل لا يمكن المخالفة القطعية ، وكذلك في التوصلي يكون أمره تكوينا دائرا بين الوجود والعدم ، فلا أثر للعلم ، وأمّا لو كان أحدهما أو كلاهما تعبديا فيمكن المخالفة القطعية بأن يأتي أو يترك لا بداعي التقرب ، وكذلك يكون للعلم الأثر وهو لزوم الإتيان أو الترك بداعي التقرّب ، وكذلك على ما قلنا أيضا من أنّه لا أثر للعلم في المقام الثاني ، أعني مقام الامتثال ، ولا حكم للعقل بالتخيير ، وهذا يصحّ في التوصّلي.

وأمّا في التعبّدي فللعقل الحكم في المقام الثاني ، يعني في مقام الامتثال وفي

٢٧١

كيفية الإطاعة فهو يحكم بالتخيير مع قصد التقرب ، فعلى هذا لو كان الوجوب أو الحرمة كلاهما أو أحدهما تعبديا يكون راجعا الى مقام الامتثال وقد فرغ من مقام الثبوت ، وإن كان في النتيجة مثل ما لو كانا توصليّين فإنّ في كلّ منهما نحكم بالتخيير ، إلّا أنّ بينهما الفرق في ما كان محلّ الخلاف المتقدم ، وإذا كانا تعبديّين أو أحدهما تعبديا فيكونان من قبيل المتزاحمين ، فإنّه لا يمكن الجمع بينهما في مقام العمل مع كون الملاك في كلّ من الوجوب والحرمة ، ومقتضى القاعدة في المتزاحمين أيضا لو لم يكن أحدهما اهمّ هو التخيير ، لكن مع ذلك كان كلام الشيخ رحمه‌الله في محلّه ، لما قلنا لك ، فافهم.

ثمّ اعلم أنّه على كلّ من القولين ـ أعني ما قلنا وما قال الشيخ والنائيني رحمهما‌الله لا يكون التخيير في المقام تخييرا عقليا ، لأنّ مورد التخيير العقلي هو فيما لو كان الحاكم بالتخيير هو العقل ، وفي المقام يكون التخيير تكوينا بين الوجود والعدم ، ولا يكون تخييره تخييرا شرعيّا ؛ لأنّه ليس التخيير بحكم الشرع ، فعلى هذا نعم ما قيل بأنّ التخيير في المقام يكون تخييرا تكوينيا. نعم ، لو كان الدوران لا في زمان واحد بل في أزمنة ، سواء قلنا بالتخيير الاستمراري أو البدوي يكون التخيير بحكم العقل ، فتدبّر.

ثمّ إنّه هل يكون التخيير إذا كان الدوران في أزمنة تخييرا بدويا؟ بمعنى أنّه اذا أخذ بأحد طرفي الوجود والعدم فلا بدّ من أن يكون دائما على هذا البناء والأخذ ، أو يكون التخيير استمراريا ، بمعنى أنّه في كلّ زمان له الخيار بين الفعل والترك؟

فبعض قال بالأول لأجل الاحتياط ، وبعض قال باستصحاب حكم المختار ، وبعض قال بالثاني لأجل استصحاب التخيير ، ولا وجه لهذه الأقوال الثلاثة.

أمّا الاحتياط فلأنّ بعد الحكم بالتخيير ليس هناك احتمال حتى يلتزم بالاحتياط.

٢٧٢

وأمّا استصحاب المختار فهو معارض مع استصحاب التخيير الحاكم عليه.

وأمّا استصحاب التخيير فلا وجه له ؛ لأنّ العقل لا يكون في حكمه ترديد حتى نستصحب حكمه.

وتارة يقال بعدم الاستلزام بالتخيير الاستمراري ؛ للزوم المخالفة القطعية. ولا يخفى عليك أنّ هذا موقوف على نزاع آخر ، وهو : أنّه هل تكون المخالفة التدريجية مخالفة للعلم ، أو لا؟ فإن قلنا بكون المخالفة التدريجية مخالفة عمليّة للعلم فلا بدّ من الالتزام بكون التخيير بدويا ، وإن قلنا بأنّ المخالفة التدريجية ليست مخالفة للعلم فلا بأس من الالتزام بكون التخيير استمراريا.

والشيخ رحمه‌الله فيما نحن فيه قال بالتخيير الاستمراري ، وقال بأنّ المورد يكون مثل تبدّل رأي المجتهد.

ولكن اعلم : أنّ ما قاله في المقام خلاف ما التزم به في باب القطع ، حيث قال في باب القطع : إنّ المخالفة التدريجية لو كانت مستندة الى قاعدة ظاهرية فلا بأس بالالتزام بها ، ولا يكون مخالفة للعلم ، وأمّا لو لم تكن المخالفة مستندة الى قاعدة من القواعد الظاهرية فيكون مخالفة للعلم ولم يكن جائزا ، ولا إشكال بأنّ تبدّل رأي المجتهد يكون ممّا كان مستندا الى القواعد الظاهرية ، ولذا لم يكن بأس به.

وأمّا فيما نحن فيه فبعد فرض كون عدم الحكم بالإباحة ، بل يكون التخيير التكويني فتكون المخالفة التدريجية مخالفة للعلم ولم يكن جائزا ، فلا بد من الالتزام بالتخيير البدوي. وممّا اخترناه في هذه المسألة من أنّ العلم ينجّز ولو كان في مقام امتثال التخيير التكويني تظهر لك امور ثلاثة :

الأول : أنّه لا تجري الاصول.

الثاني : أنّه لو كان الدوران أزيد من زمان واحد لو قلنا بعدم جواز المخالفة التدريجية في العلم فتكون نتيجة العلم وتنجزه هي : أنّه لا يمكن القول بالتخيير

٢٧٣

الاستمراري بحكم العقل.

الثالث : أنّه لو كان أهميّة في البين يحكم العقل بحفظ الأهم ، مثلا لو كان في مورد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في الشيء الواحد يدور الأمر في أنّه لو كان الواجب قتله واحدا من الكفار وكان على تقدير الحرمة محرّم القتل نبيّا من الأنبياء فالعقل يحكم بحفظ طرف الحرمة لأهميّته ، ولا فرق في حفظ الأهمية بين ما كانت الأهمية معلومة ، أو كان صرف احتمالها ، لأنّ الملاك فيهما واحد ، فعلى هذا لو كان أهميّة في أحد الطرفين يحكم العقل بحفظها ، وهذا بحسب الكبرى لا إشكال فيه ، إنّما الكلام في فهم الصغرى فقيل في فهم الأهمية وجوه :

الأول : شدّة الاحتمال في جانب.

وفيه : أنّه بعد ما قلنا في محلّه بعدم حجّية الظنّ الذي لم يقم على حجيته دليل فشدّة الاحتمال لا يوجب تغليب جانب. نعم ، لو كانت الشدّة في جانب المحتمل بمعنى أنّه يدري أنّه لو كان هذا الشيء واجبا لكان من الواجبات التي حفظها أهمّ من الجانب الآخر فيحكم العقل بترجيحه ، فعلى هذا شدّة الاحتمال لا وجه لها ، ولكنّ شدّة المحتمل فيها وجه كما قلنا.

الثاني : أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، وفي جانب الحرام تكون المفسدة ، فلا بدّ من حفظ جانبه.

وفيه أوّلا : منع الكبرى ، ومن أيّ جهة تقول بأنّ دفع المفسدة مطلقا مقدم على جلب المنفعة ، بل ربّما تكون المنفعة بحيث يجب تقديمها كما تكون فيه منفعة تجبر المفسدة أيضا.

وثانيا : بأنّ فيه خلطا فإنّه ليس دائما يكون في كلّ واجب جلب منفعة وفي الحرام دفع مفسدة ، بل ربّما يكون في ترك الواجب مفسدة.

الثالث : الاستقراء ، بمعنى أنّه كلّما استقرأنا في الشرعيات وجد غلبة جانب

٢٧٤

الحرمة ، ومثّلوا لذلك بالوضوء بماء مشتبه النجاسة ، حيث قالوا بعدم الجواز بالتوضّؤ منه ، وما قالوه من عدم جواز الصلاة في أيام الاستظهار.

وفيه أوّلا : أنّ الاستقراء ممنوع ، فإنّه كيف يكون هذا استقراء حيث لا يوجد له إلّا موردان؟ فلا يكون الاستقراء كذلك.

وثانيا : بأنّ الحكم في الموردين ليس من جهة تغليب جانب الحرمة ، بل في أيام الاستظهار يكون عدم جواز الصلاة لأجل استصحاب الحيض.

وأمّا في الوضوء بالماء المشتبه نجاسته فعدم جوازه يكون لأجل أمر آخر ، وهو : أن لا يبتلى بنجاسة البدن ، ولذا لا يمكن له الصلاة ، ولأجل ذلك لو توضّأ بأحد الماءين وصلّى ثمّ توضأ من الآخر وصلّى فلا بأس ؛ لأنّه على هذا فقد صلّى ، والحال أنّ بدنه كان طاهرا ، وأمّا لو توضّأ بكلّ منهما عقيب الآخر ولم يصلّ بينهما فحيث مقتضى الاستصحاب هو نجاسة البدن فلا يمكن إتيان الصلاة ، فلذا لا يجوز التوضّؤ ؛ لأنّه بمجرّد صبّ أول جزء من الماء الثاني على بدنه يقطع بنجاسة بدنه ، أمّا لأجل صيرورته نجسا بالماء الأول فلم يصر حتى الحال طاهرا وطهارته بعد مشكوكة ، وأمّا لأجل صيرورته نجسا فبسبب الماء الثاني ، فافهم.

٢٧٥
٢٧٦

فصل

في الشكّ في المكلّف به

٢٧٧
٢٧٨

فصل

في الشكّ في المكلّف به

الكلام في الشكّ في المكلّف به بعد العلم بأصل التكليف : بأن كان التكليف بالحرمة أو الوجوب معلوما وكان المشتبه الحرام أو الواجب ، والكلام في هذا الباب أيضا في مقامات كما بيّن الشيخ رحمه‌الله.

ولكنّ العمدة والمهمّ في المقام : هو ما علم بالتكليف وكان الشكّ في الواجب أو الحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي. وبعبارة اخرى : كانت الشبهة موضوعية ، مثل أنّه يدري بحرمة الخمر لكن لا يدري بأنّ الخمر في هذا الإناء أو في ذاك الإناء. وفي الشكّ في التكليف وإن كان المهمّ الشبهة الحكمية لكن في الشك في المكلّف به يكون الأمر بالعكس ، والمهمّ هو الشبهة الموضوعية ، ولذلك قدمناه في البحث كما فعل الشيخ رحمه‌الله أيضا. والكلام فيه أيضا في مقامين :

المقام الأول : في الشبهة المحصورة.

المقام الثاني : في غير المحصورة.

والكلام في الشبهة المحصورة أيضا في موردين :

الأول : في عدم جواز المخالفة القطعية.

الثاني : في وجوب الموافقة القطعية.

٢٧٩

أمّا الكلام في عدم جواز المخالفة القطعية فنقول بعون الله تعالى مقدمة : إنّ محلّ الكلام في هذا المقام هو فيما لو كان الواقع بما هو واقع مورد الوجوب أو الحرمة ، ويكون العلم مأخوذا على وجه الطريقية ، ولا يكون أثر للعلم إلّا إراءة الواقع ، فليس من محلّ الكلام ما لا يكون أخذ العلم على وجه الطريقية وصرف الإراءة ، بل لو كان العلم مأخوذا في الموضوع ، سواء كان مأخوذا في مرتبة إنشاء الحكم ، أو في مرتبة فعليته ، أي كان الواقع فعليا من جميع الجهات ويكون تنجّزه موقوفا على العلم ، وإلّا لو كان الواقع مشكوكا أو كان أخذ العلم على نحو الموضوعية فهذا خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ العلم الموضوعي يختلف بحسب الموارد وتابع لأصل أخذه ، فممّا قلنا يظهر لك أمران :

الأول : أنّ ما كان العلم فيه مأخوذا على نحو الموضوعية فخارج عن محلّ الكلام ، وهذا واضح لا يحتاج الى البيان.

والثاني : أنّ ما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في العلم الإجمالي وفي هذا المقام من أنّه تارة يكون العلم التفصيليّ شرطا لفعلية التكليف ، ولذا يكون العلم التفصيلي علّة تامة والعلم الإجمالي فيه صرف الاقتضاء ، فمع عدم مورد في الشرع لو كان العلم التفصيلي شرطا لمرتبة الفعلية يكون خارجا عن محلّ الكلام ؛ لأنّ محلّ الكلام هو فيما لو كانّ العلم لصرف الإراءة والطريقية.

اذا عرفت تلك المقدمة فنقول : إنّ للشيخ رحمه‌الله في المقام لطائف من الكلام ، ومن جملتها أنّه قال : إنّ محلّ الكلام فيما لو علم التحريم وشكّ في الحرام ، وهذا معنى ما قلنا سابقا من أنّه لا معنى لإجمال العلم ، بل العلم دائما يكون فيه التفصيل والانكشاف ، ولا معنى مع الكشف الإجمال ، لكن تارة يكون العلم تفصيلا وانكشافا لكلّ حيثية من الحيثيات ، واخرى يكون كشفا لجهة وحيث خاصّ ، وعلى كلّ من

٢٨٠