المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

مستحبة.

وكذلك لو ورد خبر ضعيف على استحباب الغسل في الليلة الفلانية وقلنا بجواز الصلاة مع كلّ غسل وإجزاء كلّ غسل عن الوضوء مستحبا كان أو واجبا ، فإن صار هذا الغسل مستحبا بهذه الأخبار فيمكن الصلاة معه ، وإلّا فإن كان إتيان الغسل بصرف الرجاء فلا يمكن الصلاة معه.

ومنها : أنّه لو قلنا باستحباب العمل من جهة أخبار من بلغ فيكون مختصّا بالمستحبات ، أعني ما ورد خبر ضعيف على استحبابه ، وفي الواجبات أيضا ، ولو اشكل بعدم شمول أخبار من بلغ للواجبات ، لأنّ أخبار من بلغ مختصّة بما بلغ الثواب ، وفي الواجبات كان الثواب والعقاب كليهما.

ولكنّ فيه : أنّ أخبار من بلغ تدلّ على إعطاء الثواب فيما بلغ فيه الثواب ، سواء كان في تركه عقاب أيضا كالواجبات ، أو لم يكن في تركه عقاب كالمستحبات ، غاية الأمر في الواجبات ما يعطى ليس إلّا ثوابه ؛ لأنّ في الأخبار وعدوا بذلك فلا يصير ما دلّ على وجوبه من خبر ضعيف واجبا ، بل ما يثبت ببركة أخبار من بلغ هو ليس إلّا استحبابه ، يعني جهة الثواب فقط ، وأمّا جهة العقاب على تركه فغير ثابت فيكون مستحبّا ظاهرا ، ولو كان واجبا واقعا ولكن على المفروض لا تشمل أخبار من بلغ ما اذا دلّ خبر ضعيف على حرمة شيء أو كراهته ؛ لأنّ ما ورد في أخباره هو لفظ «فعمله» ، وفي الحرام والمكروه يكونان متروكين ولا يكون فيهما عمل ، بل يكون المطلوب فيهما الترك ، وما ورد في الأخبار يكون لفظ «العمل» ، فتكون الأخبار مختصة بالواجبات والمستحبات. وأمّا على حسن إتيان العمل رجاء واحتياطا فلا فرق بين الواجب والمستحب وبين الحرام والمكروه ، بل بمجرّد احتمال الوجوب ، أو احتمال الحرمة ، أو احتمال الاستحباب ، أو احتمال الكراهة كان الإتيان أو الترك مستحسنا.

٢٤١

ومنها : أنّه لو قلنا باستحباب العمل من باب أخبار من بلغ فيكون مختصّا بما بلغ شيء عن النبي أو أحد من المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم ، وأمّا في غير ذلك كما لو أفتى الفقيه ـ مثلا ـ باستحباب عمل فلا يثبت استحباب العمل ، لأنّ الفقيه لا يقول بالثواب حتى يقال بأنّ الأخبار موردها يكون بلوغ الثواب ، ولا خصوصية فيها لما بلغ عن المعصومين عليهم‌السلام ، بل الفقيه يقول باستحباب العمل ولو كان لازم قوله الثواب على العمل ، وأمّا على القول بحسن إتيان العمل رجاء واحتياطا فيقول الفقيه أيضا : يجيء الاحتمال ويأتي بصرف الرجاء واحتمال الواقع ، ويترتب عليه الثواب وهو ثواب الانقياد.

ومنها : أنّه لو قلنا باستحباب العمل من باب أخبار من بلغ فيكون العمل مستحبا ويمكن إتيان العمل فيما كان فيه الثواب ، وأمّا في غيره كنقل القصص والحكايات والمواعظ فلا يمكن نقلها بخبر ضعيف بأخبار من بلغ ، وكذلك على القول بإتيان العمل من باب الرجاء والاحتياط ، لأنّ فيهما لا يحتمل الأمر ، أو النهي ، أو الاستحباب ، أو الكراهة حتى يأتي بالعمل رجاء ذلك. نعم ، لو كان نقل القصص والحكايات فيه جهة اخرى يستفاد منها حكما فيمكن نقلها ، فافهم.

التنبيه الثاني :

وهو أنّه لو شكّ في الوجوب التخييري فهل تجري البراءة ، أم لا؟

اعلم : أنّ لذلك صورا ، فنذكر أولا صور المسألة ثم ما يكون حقا أن يقال :

الصورة الاولى : وهي ما كان الشكّ في أصل الوجوب التخييري ، بمعنى أنّه لم يدر بأنّ ارتماس البدن والرأس نهار شهر رمضان موجب لعتق الرقبة ، أو إطعام ستّين مسكينا ، أو صوم شهرين ، أم لا؟ ففي هذه الصورة يعلم بأنّه على تقدير وجوب الكفارة في شيء يكون مخيّرا بين الثلاثة أشياء المتقدمة ، ولكن يكون شكّه

٢٤٢

في أنّ الارتماس هل يوجب ذلك أم لا؟ وبعبارة اخرى : هل يكون الشكّ في الموجب؟

الصورة الثانية : وهي أنّه يعلم بوجوب إطعام ستّين مسكينا ووجوب صوم شهرين ووجوب عتق رقبة كلّها ، ولكن يكون شكّه في أنّه هل يكون وجوب هذه الثلاثة تعيينيا أو تخييريا؟ بمعنى أنّه هل يجب الجمع وإتيان الجميع ، أو لو أنّه أتى بأحدها أتى بالواجب؟

الصورة الثالثة : وهي أنّ وجوب أحد من هذه الثلاثة هل يكون معلوما؟ مثلا وجوب عتق الرقبة يكون معلوما ولكن يكون الشكّ في أنّه هل يكون إطعام ستّين مسكينا وصوم شهرين واجبا حتى يكونا فردين للواجب التخييري ويكون وجوب عتق الرقبة أيضا تخييريا ، أو لا بل يكون الواجب فقط عتق الرقبة ويكون وجوبه تعيينيا؟

الصورة الرابعة : وهي أن يكون وجوب أحد الفردين معلوما ، ومسقطية الفرد الآخر عنه أيضا معلومة ، ولكن يكون الشك في أنّه هل يكون الفرد المسقط واجبا أو يكون مباحا ولكن يكون مسقطا؟ مثلا يعلم بوجوب صوم شهر رمضان للحاضر ويعلم بسقوط هذا الوجوب لو سافر ، ولكن لا يدري بأنّ السفر واجب ومسقط عن الصوم أو مباح مسقط للصوم. ولا تقول بأنّه لا ثمرة في ذلك ، لأنّنا نقول : تكون فيه الثمرة ، حيث إنّه لو قلنا بوجوب السفر في المثال المتقدم من باب كونه فردا للواجب التخييري الذي كان فرده الآخر هو الصوم ، فلو صار المكلف في شهر رمضان مريضا ولم يكن قادرا على الصيام ولكن كان قادرا على السفر كان السفر عليه واجبا ، وأمّا لو كان السفر مسقطا للصوم فقط ولم يكن واجبا بدلا عن الصوم ففي الفرض المتقدم ـ يعني فرض المرض مع قدرة السفر ـ لم يكن السفر عليه واجبا ولو كان قادرا عليه ؛ لعدم وجوبه.

اذا عرفت أنّ للمسألة صورا أربع فنقول بعون الله تعالى :

٢٤٣

أمّا الصورة الاولى : أعني فيما لو كان الشك في أصل الوجوب ، بمعنى أنّه لا يدري ـ مثلا ـ بأن الارتماس في الماء موجب للكفّارة أم لا؟ والحال أنّه يعلم بأنّه على تقدير وجوب الكفّارة يكون مخيّرا بين الثلاثة المتقدمة ففي هذه الصورة لا إشكال في جريان أصالة البراءة ، ومقتضاه عدم وجوب شيء عليه ؛ لأنّه يكون الشكّ في التكليف فتجري أدلة البراءة ، وكذلك يجري أصل عدم الوجوب لأنّه لو لم تكن الكفّارة واجبة فيشك في أنّه هل يوجب وجود هذا الحادث وجوب الكفارة ، أم لا؟ فبمقتضى الاستصحاب يحكم بعدم الوجوب ، ومع كون مقتضى الاستصحاب هو عدم الوجوب ومقتضى البراءة أيضا عدم الوجوب لكن لا تبلغ النوبة الى البراءة ، لوجود أصل موضوعيّ وهو الاستصحاب ، وقلنا سابقا : إنّ مورد جريان البراءة هو فيما لا يكون أصل موضوعي ولو موافقا للبراءة في البين.

وأيضا فرق جريان البراءة والاستصحاب في المقام هو : أنّه لو نذر بأنّه لو وجب عليه واجب يفعل الفعل الكذائي فعلى هذا لو نحكم بعدم الوجوب بمقتضى البراءة فحيث إنّ البراءة لا تنفي إلّا العقاب ، ولا تنفي الوجوب ، ولا تثبت الإباحة فعلى هذا في المثال المتقدم عدم وجوب النذر محتاج لجريان براءة اخرى ؛ لأنّ الشبهة في الموضوع ، فلا يدري أنّ بسبب هذا الموضوع الخارجي وجب عليه شيء حتى يجب عليه الوفاء بالنذر ، أم لا؟ فحيث إنّ في الشبهات الموضوعية تجري البراءة فيحكم بعدم وجوب الوفاء بالنذر ، لكنّ صرف جريان البراءة في عدم وجوب الكفارة لا يكفي لذلك ، أعني لعدم وجوب الوفاء بالنذر ؛ لأنّ البراءة فيه لا تثبت عدم الوجوب ، بل قصارى ما تثبته هو عدم العقاب على ترك الكفّارة ، فلا بدّ من جريان أصل حكميّ في رفع وجوب الكفّارة ، وأصل موضوعيّ في رفع وجوب الوفاء بالنذر.

وأمّا على جريان الاستصحاب ـ يعني أصالة عدم الوجوب ـ فيكفي صرف جريان الاستصحاب في عدم الكفّارة لنفي وجوب الوفاء بالنذر ، لأنّ بالاستصحاب

٢٤٤

يثبت الحكم ، فببركة الاستصحاب يثبت عدم وجوب الكفّارة ، فاذا ثبت عدم وجوب الكفّارة لا يجب الوفاء بالنذر ؛ لأنّ موضوع وجوب الوفاء بالنذر هو ما وجب عليه واجب ، وما وجب عليه واجب فهو بمقتضى الاستصحاب.

فظهر لك الفرق بين جريان الاستصحاب وبين جريان البراءة فيما كان شيء آخر مترتّب على عدم الوجوب ، فعلى جريان الاستصحاب يكفي استصحاب واحد ، وعلى جريان البراءة لا بدّ من جريان براءتين.

أمّا الحكم في الصورة الرابعة ، يعني فيما علم بوجوب شيء وعلم بمسقطية شيء آخر له ، مثل ما علم بوجوب الصوم وعلم بأنّ السفر مسقط عنه ، بمعنى أنّه يعلم بأنّ السفر مسقط لوجوب الصوم عليه ولكن يكون شكّه في أنّ هذا المسقط هل يكون واجبا بدلا عن الصوم ومسقطا له ، أو لم يكن واجبا ، بل يكون هناك فعل مباح ولكنّ إتيانه موجب لسقوط وجوب الصوم عنه؟

فنقول : إنّه تارة نلتزم بأنّ في الواجب التخييري يكون جعل واحد ، مثلا لو صار الصوم والسفر واجبا بالوجوب التخييري يكون وجوب واحد متعلّق بهما. وتارة نلتزم بأنّه في الواجب التخييري يكون جعلين ، مثلا في المثال المذكور يكون وجوبين : فوجوب تعلّق بالصوم ، ووجوب آخر تعلّق بالسفر ، غاية الأمر وجوبهما وجوب تخييري. فإن قلنا بالأول فلا تجري البراءة ؛ لأنّ مورد البراءة هو الشكّ في التكليف ، وهذا في الفرض يعلم التكليف ، ولكن لا يدري كيفية وجوبه ، ففي المثال المتقدم لا يمكن القول بعدم وجوب السفر بمقتضى البراءة ولو أنّه لا يدري وجوبه ، ولا أصالة عدم الوجوب ، يعني الاستصحاب ؛ لأنّه في الفرض يكون الوجوب متيقّنا لكن لا يدري كيفية الوجوب ، فإن كان متعلقا بالصوم فقط يكون السفر غير واجب ، وإن تعلّق بالصوم والسفر كليهما فيكونان طرفا للوجوب فلا يجري الاستصحاب لما قلنا ، وإن نلتزم بالثاني يعني بأنّ في الواجب التخييري يكون جعلان فلا إشكال في جريان استصحاب عدم وجوب السفر ، ونحكم بعدم وجوب

٢٤٥

السّفر ؛ لأنّ الجعل المتعلق بالصوم معلوم ، وأمّا الجعل الآخر المتعلّق بالسفر فيكون مشكوكا ، فيجري استصحاب عدم الوجوب.

وأمّا أصالة البراءة فلا تجري ؛ لأنّ مورد جريانها هو ما كان ضيق من ناحية تكليف المجهول فيرتفع بالبراءة ، وأمّا فيما لم يكن ضيق على المكلف فلا تجري البراءة ، والمقام يكون من قبيل الثاني ، لأنّه في الواقع لو أتى بالفرد المعلوم بكونه واجبا لكان كافيا عن هذا الفرد المسقط المشكوك كونه واجبا ، فبعد الإتيان به قد امتثل الأمر مطلقا ، وقبل الإتيان به فقد وقع في ضيق الوجوب ، لأنّه علم وجوب هذا الفرد ، وبإتيان هذا الفرد المعلوم وجوبه سقط التكليف عن الفرد الآخر المشكوك وجوبه ، فلا يكون في ضيق حتى يرتفع بأصالة البراءة ، مثلا بعد ما علم بوجوب الصوم وعلم بكون السفر مسقطا له وكان شاكّا في وجوب السفر فوجوب الصوم معلوم ، ولو أتى به لا إشكال في عدم ترتّب السفر ولو كان واجبا ، لأنّه أحد فردي الواجب التخييري ، فعلى هذا لا يكون في ضيق حتى يرتفع بالبراءة ، وأصالة البراءة تكون جارية فيما كان فيه ضيق على المكلّف ، فافهم.

وأمّا الصورة الثانية وهي ما يعلم بوجوب كلّ من الشيئين ولكن لا يدري بأنّ وجوبهما وجوب تعييني أو تخييري فيأتي الكلام فيها ـ إن شاء الله تعالى ـ في الشكّ في المكلف به ، لمناسبتها مع الشك في المكلف به.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي أنّه لا يدري بوجوب أحد الشيئين ، ولكن كان الشكّ في أنّه هل كان شيء آخر واجبا بدلا عنه حتى يكون وجوب الفرد المعين تخييريا ، أو لا ، بل يكون ما علم وجوبه وجوبا عينيا؟ مثل ما يعلم بوجوب الصوم ولكن كان شكّه في أنّ السفر أيضا هل يكون واجبا ، أم لا؟ ففي هذه الصورة تارة يقع الكلام في أنّ وجوب فرد معلوم الوجوب هل يكون عينيا أو تخييريا؟ فالكلام في ذلك وما هو الحق فيه يأتي ـ إن شاء الله ـ في مبحث الشك في المكلف به.

واخرى يقع الكلام في الفرد المشكوك وجوبه ، وأنّه هل يكون هذا الفرد

٢٤٦

واجبا حتى يكون أحد فردي الواجب التخييري ، أو لا؟

فنقول كما قلنا سابقا : إنّه تارة نلتزم بأنّ في الواجب التخييري يكون جعل واحد ، بمعنى أنّ وجوبا واحدا تعلق بالفردين ، ويكون المتعلق متعدّدا والوجوب واحدا ، فإن قلنا بذلك لا إشكال في عدم جريان البراءة ؛ لأنّ الوجوب مسلّم ويكون الشكّ في متعلّقه. وبعبارة اخرى : لا يقبح العقاب هنا ، لأنّه بلّغ الحجة ، وأحد الفردين وإن كان وجوبه مشكوكا إلّا أنّه لا يمكن فيه الالتزام بالبراءة ، لأنّ المفروض أنّه ليس إلّا جعل واحد ، وهذا الجعل ـ أعني الوجوب ـ مسلّم ، غاية الأمر يكون الشك في أنّ متعلقه هل هذا الفرد الخاصّ حتى يكون تعيينيا ، أو هذا الفرد وفرد آخر حتى يكون الوجوب وجوبا تخييريا؟ وليس مجال للبراءة في الفرد المشكوك استصحاب عدم الوجوب ؛ لأنّ الوجوب كان متيقّنا لكنّ الشكّ كان في متعلّقه.

وتارة نلتزم بأنّ في الواجب التخييري يكون وجوبان تعلّق بكلّ من الفردين وجوب على حدة ، ويكون جعلان ، فعلى هذا ولو كان وجوبان إلّا أنّه مع ذلك لا مجال للبراءة ؛ لما قلنا من أن مورد البراءة ما يكون فيه ضيق على المكلف ، لأنّه كان في مقام امتنان ، وأمّا فيما لا ضيق فيه على المكلف فلا مجال للبراءة.

ففي المقام أيضا لا إشكال في وجوب الفرد المعلوم ولزوم الإتيان به ، فاذا أتى به فيقطع بعدم وجوب الفرد المشكوك عليه ، لأنّه لو كان الواجب معينا في الفرد المأتيّ به فقد أتى بالواجب ، ولا يكون الفرد المشكوك واجبا ، وإن كان الوجوب وجوبا تخييريا فأيضا لا يلزم عليه الإتيان بالفرد المشكوك لسقوط وجوبه بإتيان بدله وهو الفرد المأتيّ به.

وإن قلت : تظهر ثمرة البراءة فيما تعذّر إتيان الفرد المعلوم وجوبه ، فإجراء البراءة في الفرد المشكوك وجوبه يكون فيه الثمرة ، ونتيجته عدم وجوب إتيانه ولو تعذّر فرد الآخر.

٢٤٧

لأنّا نقول : محلّ الكلام هو في الواجب التخييري ، وليس النزاع في الواجب التعييني ، سواء كان وجوبه التعييني أصلا أو عرضا ، فاذا تعذّر أحد الفردين يصير الآخر على تقدير وجوبه ذا وجوب تعييني بالعرض ، وهو خارج عن محلّ الكلام كما قال الشيخ رحمه‌الله أيضا ، فتدبّر.

وأمّا استصحاب عدم الوجوب فلا إشكال فيه فيجري ، لأنّه سابقا لا يكون الوجوب والحال أنّ الشكّ في وجوب الحادث ، والأصل عدمه. ولكن لا يخفى عليك أنّ لجريان هذا الأصل لا يكون ثمرة ؛ لأنّه إمّا أن نقول في الشك في التعيينية والتخييرية بالبراءة ، وإمّا أن نقول بالاشتغال ، مثلا : اذا علم بوجوب الصوم لكن لا يدري أن وجوبه وجوب تعييني أو تخييري : فإمّا أن نلتزم بالبراءة ، أو بالاشتغال ، فإن التزمنا بالاشتغال فلازمه إتيانه ، فاذا أتى به فلا يلزم إتيان الفرد المشكوك ؛ لأنّه لو كان الواجب هو الفرد المعلوم وجوبه معيّنا فقد أتى به ، ولا يلزم إتيان الفرد الآخر المشكوك وجوبه. وإن قلنا بالبراءة أيضا لا ثمرة في جريان الاستصحاب ؛ لأنّه لا إشكال في أنّ إتيان الفرد المعلوم وجوبه كاف عن الفرد المشكوك وجوبه ، فبعد الإتيان به لا يلزم إتيان الفرد المشكوك أيضا. نعم ، لو نذر العمل بشيء لوجب عليه واجب أعمّ من أن يكون واجبا معينا أو مخيرا ، فباستصحاب عدم وجوب الفرد المشكوك وجوبه يحكم بعدم وجوب العمل الذي تعلق به النذر.

واعلم أنّه ممّا قلنا في الواجب التخييري يظهر لك الحكم في الشك في الوجوب الكفائي ، غاية الأمر الفرق بينهما هو : أنّ في الأول يكون التخيير في المكلف به ، وفي الثاني يكون التخيير في المكلف بالفتح ، وعلى هذا يأتي في الواجب الكفائي الصور الأربع المتقدمة في الواجب التخييري ، والكلام هو الكلام ، فافهم جيّدا.

أمّا الكلام فيما كان الشكّ في الوجوب وغير الحرمة وكان منشأ الشكّ إجمال النّص فالكلام فيه هو عين الكلام فيما كان منشأ الشكّ فقد النصّ ، وهكذا الكلام فيما كان منشأ الشكّ تعارض النصّين ، ويكون مقتضى القاعدة في المتعارضين التساقط ،

٢٤٨

فيكون مقتضى القاعدة البراءة والتخيير ، لأنّه ولو ورد الدليل والحجّة إلّا أنّ ما يمكن أن يحتجّ به المولى ويكون بيانا هو ما يمكن الأخذ والعمل به ، فعلى هذا كانت البراءة جارية بحسب القاعدة ، إلّا أن يقال لأجل الأخبار الواردة في الترجيح بالترجيح أو بالاحتياط ، فالحكم على القاعدة لا إشكال فيه ، إنّما المهمّ هو فهم ما قاله الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في المقام ، وهو : أنّ ما يدلّ على التخيير في خصوص ما نحن فيه من اشتباه الوجوب بغير الحرمة هو التوقيع المرويّ في الاحتجاج عن الحميري ، حيث كتب الى الإمام صاحب الزمان عجّل الله فرجه ، وحاصل مضمون الرواية هو : أنّه سأل عن وجوب التكبير وعدمه عند القيام عن الركعة الثانية بعد التشهّد ، وأنّ بعض الأصحاب قال : يجب ، وبعض قال : لا يجب ، ويجوز أن يقول : بحول الله وقوته أقوم وأقعد؟ وجواب الإمام عليه‌السلام في ذلك قسمان ، أحدهما أنّه اذا انتقل عن حالة الى حالة فعليه التكبير ، والآخر أنّه اذا رفع رأسه عن السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ... الى أن قال : وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا.

ولا إشكال بأنّ المراد من الوجوب الوارد في الخبر ليس الوجوب الاصطلاحي ، بل المراد يكون الاستحباب ، ولو قلنا بأنّ هذا الخبر دالّ على التخيير فيما نحن فيه يرد إشكالان :

الأول : أنّ الخبرين اللذين أمر المعصوم عليه‌السلام فيهما بالتخيير بينهما عموم وخصوص ، لأنّ أحدهما دالّ على التكبير في كلّ ما انتقل من حالة الى حالة ، والآخر دالّ على عدم التكبير في خصوص القيام بعد التشهّد الأول ، فمقتضى القاعدة في هذا المورد على المبنى يكون حمل العام على الخاص ، ولا يكون مقام التخيير لأنّه يمكن الجمع الدلالي.

الثاني : هو أنّ المعصوم عليه‌السلام رفع اليد عن الحكم الواقعي وبيّن الحكم الظاهري ، وهذا أيضا خلاف الظاهر ، فعلى هذا ما قاله الشيخ رحمه‌الله لا يمكن القول به.

٢٤٩

ولا يخفى عليك أنّ الرواية ليست مرتبطة بما نحن فيه أصلا ، بل بعد تسليم استحباب التكبير واستحباب «بحول الله وقوته أقوم وأقعد» فسأل عن الإمام بأيّهما يأتي المكلف حيث كانا مستحبّين؟ قال الإمام : بأيّهما لا مانع من الأخذ ، ويمكن الأخذ بكلّ منهما أيضا ، لا أنّ المعصوم أمر بالتخيير وعدم جواز الإتيان بكل منهما ، فعلى هذا لا ربط للخبر بما نحن فيه.

وما كان منشأ توهّم الشيخ هو : أولا : لفظ الوجوب الوارد في الخبر الذي قلنا فيه بأنّه لا إشكال بأنّ المراد منه الاستحباب.

وثانيا : ذيل الخبر حيث قال : «وبأيّهما أخذت ... الى آخره» ، حيث إنّه يرى أنّ في أخبار تعارض الخبرين كانت هذه العبارة فتخيّل أنّ هذا الخبر أيضا كان مثل أخبار باب التعارض ، ولكن ظهر لك فساده.

وأمّا الكلام فيما لو كان الشكّ في الوجوب وغير الحرمة وكان منشأ الشكّ هو الاشتباه في الموضوع الخارجي فنقول : إنّه في هذا المقام إمّا يكون الشكّ في تحقّق المصداق الخارجي وعدمه ، مثل من يعلم بوجوب صلاة الظهر ولكن لا يدري أنّ ما أتى به مصداق لما هو الواجب فلا إشكال في عدم جريان البراءة ، بل يكون المورد الاشتغال ؛ لأنّ الشكّ يكون راجعا الى مقام الامتثال بعد العلم بالتكليف.

وإمّا أن يكون الشكّ في وجوب ذلك المصداق وعدمه ، مثل أنّه كان يعلم بوجوب إكرام العلماء ولكن لا يدري بأنّ هذا المصداق الخارجي هل يكون عالما حتى يجب إكرامه ، أو لا يكون عالما حتى لا يجب إكرامه؟ فالشك يكون في المصداق الخارجي بعد العلم بالتكليف ، وهذه الصورة هي المسّماة بالشبهة الموضوعية الوجوبية.

ولا يخفى عليك أنّه ممّا مرّ في الشبهة الموضوعية التحريمية يظهر حكم ذلك أيضا ، فنقول : إنّه بعد ما كان التكليف انحلاليا فكلّ فرد تعلّق به وجوب ، فما كان تعلق الوجوب به متيقّنا يجب إتيانه ، وما كان تعلّق الوجوب به مشكوكا فلا يجب

٢٥٠

إتيانه ، وتجري أصالة البراءة ، فزيد المشكوك عالميّته ـ مثلا ـ لا يجب إكرامه للبراءة ، نعم ، لو لم يكن التكليف انحلاليا لا تجري البراءة ، كما قلنا في الصورة الاولى ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الكلام في أنّه مع أنّ المشهور ملتزمون بالبراءة في الشبهة الموضوعية الوجوبية فقد أفتوا بأنّ من علم بفوات صلوات منه ولكن لا يدري بمقدارها ويعلم بمقدار ، مثلا يدري بفوت مائة صلاة منه وكان شكّه في أزيد من ذلك وجب عليه الإتيان بمقدار يظنّ أنّه إتيان لما فات منه ، وكفاية الظنّ أيضا يكون لأجل العسر والحرج لو وجب العلم بقضاء ما فات منه ، وإلّا لا بدّ له من العلم متمسّكا في هذه الفتوى بدليل وجوب القضاء ، والحال أنّه لا إشكال بأنّ المسألة من الشبهات الموضوعية الوجوبية ، ويكون مقتضى القاعدة هو إتيان المقدار المعلوم فوته وعدم لزوم إتيان المقدار الزائد للبراءة ، ولم يفتوا بذلك إلّا في الصلاة.

والحال أنّ في خصوص الصلاة مع قطع النظر عن البراءة يكفي ما ورد من الأخبار بأنّه اذا خرج الوقت وشكّ في أنّه أتى بالصلاة في وقتها أم لا؟ لا يجب عليه الإتيان.

وللوحيد البهبهاني رحمه‌الله توجيه لتصحيح كلام المشهور ، وحاصله هو : أنّ الشخص تارة لا يحصل له العلم حين فوت الصلاة ، بمعنى أنّه على تقدير الفوت لم يكن عالما بالتكليف ، كما لو كان نائما ثمّ استيقظ فشكّ بأنّ زمان نومه كان يومين ـ مثلا ـ أو ثلاثة أيام ، ففي هذا الفرض لا يحصل للمكلف على تقدير الفوت علم بالتكليف بالصلاة حين فوتها ، والحال أنّه شاكّ في مقدار ما فات منه ، فبمقدار المتيقّن يجب القضاء ، وفيما زاد تجري البراءة ، مثل أن يجب عليه قضاء صلوات يومين ، وأمّا أزيد من يومين فلا ، لأنّ الزائد مشكوك فيكون مجرى البراءة.

وتارة لا يكون كذلك ، بل يدري بأنّه لو فات منه الصلاة حصل له العلم بالتكليف بالصلاة. وبعبارة اخرى : على تقدير الفوت يحصل له العلم بالتكليف ،

٢٥١

وبعد الوقت يشكّ بأنّ الفائتة هل تكون صلاتين أو ثلاث صلوات؟ فالفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة هو : أنّه في الصورة السابقة بعد الوقت لا يدري بأنّه لو فات منه ثلاث صلوات كان عالما بالتكليف ففات منه ، وأمّا في هذه الصورة فيدري بأنّه على تقدير الفوت يكون مع العلم بالتكليف ، فعلى هذا يكون مقتضى القاعدة في الصورة الاولى البراءة ، لأنّه شاكّ في التكليف ، ولا يكون كالصورة الثانية.

وأمّا في الصورة الثانية فيكون مقتضى القاعدة هو الاشتغال ؛ لأنّه يعلم بالتكليف ويكون الشكّ في المسقط للتكليف ، ويكون الشكّ راجعا الى مقام الامتثال وليس مجال لجريان البراءة في هذا المقام ؛ لأنّ مورد البراءة هو عدم العلم بالتكليف ، وفي الصورة الثانية يدري بأنّه على تقدير الفوت كان عالما بالتكليف فلو فات منه يكون عن علم ، لا عن جهل حتى تجري البراءة.

فظهر لك الفرق بين الصورتين بما قلنا ؛ لأنّ في الصورة الاولى على تقدير الفوت يكون عن جهل ، وفي الصورة الثانية على تقدير الفوت يكون عن علم ، فالاولى مورد قاعدة البراءة ، والثانية مورد قاعدة الاشتغال ، وكان نظر الوحيد البهبهاني رحمه‌الله الى أنّ مورد فتوى المشهور هو الصورة الثانية وتكون فتواهم على القاعدة ، نعم ، لو كان مورد فتواهم هو الصورة الاولى فتكون فتواهم على خلاف القاعدة.

وبعض الأعلام صار بصدد توجيه كلام الوحيد المتقدم رحمه‌الله وقال : إنّ مراده هو : أنّ جريان البراءة في هذا الفرض يكون من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وقد تحقّق في محلّه عدم الرجوع الى العام في شبهته المصداقية.

بيان كون التمسّك في المقام بالبراءة من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية هو : أنّه على تقدير حصول العلم وعدم الإتيان ليس مورد البراءة ، ففي هذا الحال كان شاكّا في أنّه هل حصل له العلم بالتكليف في الأقلّ أو الأكثر؟ مثلا لا يدري بأنّ ما علم ثبوت التكليف به وفات عنه هو صلاتان أو ثلاث صلوات ،

٢٥٢

وعلى كل تقدير حيث كان يدري بأنّ ما فات منه يكون مع العلم بثبوت التكليف به وفات منه ، فعلى هذا لو حصل له العلم بالتكليف فلا مجال للبراءة ، ولو لم يحصل له العلم بالتكليف بالنسبة الى الأكثر يكون مورد البراءة ، وحيث في الحال ـ يعني بعد الوقت ـ لا يدري بأن حصل له العلم بالتكليف بالأقلّ أو بالأكثر بحيث لو كان علمه بالأكثر لا مجال للبراءة ، وإن كان علمه بالأقلّ فقط يكون في الأكثر مورد البراءة ، وأنّه على تقدير فوت الأقلّ يدري بكونه عالما ، ومع العلم لا مجال للبراءة فحيث الشكّ لا مجال لجريان البراءة ؛ لأنّ التمسّك بها تمسّكا بالعام في الشبهة المصداقية.

ولا يخفى عليك فساد ما قاله بعض الأعلام ؛ لأنّه كما يأتي ـ إن شاء الله ـ في باب الاستصحاب مفصّلا أنّ العلم ما دام موجودا كان له الأثر ، واذا لم يكن موجودا لا يترتب عليه الأثر ، ولذا نقول بأنّ الشك في العلم شكّ في المعلوم ، لأنّ العلم في كلّ حال يكون طريقا وليس فيه إلّا جهة الإراءة والطريقية ، فما دام الطريق موجودا يترتّب عليه الأثر واذا لم يكن موجودا لا أثر له ، فلو كنت عالما في زمان كان له أثره في هذا الزمان ، وفي الزمان الثاني بمجرّد عدم العلم لا يترتّب أثر على العلم السابق.

ففي ما نحن فيه أيضا في ظرف التكليف بعد علمه كان للعلم أثر وهو لزوم الإتيان ، وفي الزمان الثاني لو لم تكن عالما فلا يكون أثر ، وليس للعلم السابق أثر أصلا ، فعلى هذا في هذه الحال لا يكون عالما بالتكليف بالزائد فتجري البراءة ، والعلم السابق ليس له أثر فعلا ؛ لأنّ طريقيته كانت في ظرف وجوده ، فعلى هذا في هذا الزمان لو كان الشكّ في أنّ ما فات منه هو صلاة واحدة أو اثنتين وما يكون فوته متيقّنا يجب إتيانه ، والمشكوك تجري فيه البراءة ، ولا يكون التمسّك بالبراءة تمسّكا بالعام في الشبهة المصداقية ؛ لأنّا قلنا بأنّه على تقدير حصول العلم في السابق لا أثر له فعلا ، فوجوده على تقدير وجوده يكون كالعدم ، لأنّ العلم ما دام موجودا يكون منجّزا ، وفعلا حيث لا علم لا تنجّز للتّكليف. هذا ما في التوجيه.

٢٥٣

ولكن لا يخفى عليك أنّ مراد الوحيد رحمه‌الله ليس أنّ التمسّك بالبراءة يكون من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، بل يكون غرضه أنّ في الفرض بعد العلم بالتكليف يكون الشكّ في المسقط وفي مقام الامتثال ، وليس في هذا المورد البراءة.

فنقول لوضوح الحقّ حتى ترتفع الشبهة عن البين : إنّه لو قلنا بكون القضاء بالأمر سابق إلّا أنّ الأمر بشيء إذا كان زمانه موسّعا انحلاليا بالنسبة الى أجزاء الزمان فيكون ثبوت التكليف في كلّ آن محتاجا الى أمر آخر غير الأمر السابق ، فلو كان انحلاليا فيكون التكليف له في كلّ آن من ظرفه لأمر على حدة ، ولأجل ذلك ترى أنّه على القول بفورية الأمر يكون العصيان في الآن الأول ، فلو كان صرف حدوث الأمر كاف لبقاء الأمر ، أو صرف أمر الجزء الأول كاف للجزء الثاني على تقدير الانحلال فلا معنى للعصيان ؛ لأنّ أمر الواحد عصيانه يصدق بعد عدم إتيانه في تمام ظرفه ، فلا إشكال في أنّ كلّ آن محتاج الى الأمر ، غاية الأمر بعد ما كان الزمان موسّعا يمكن له الإتيان في كلّ جزء منه. ولذا قال صاحب المعالم رحمه‌الله : إنّ الأمر بالنسبة الى زمان التكليف يكون تخييريا كما يتّفق تارة التخيير بين المأمور به ، غاية الأمر يكون في الواجب التخييري المصطلح التخيير في المأمور به ، وهذا التخيير يكون في زمان إتيان المأمور به.

كما أنّه لا إشكال في أنّ شرائط الأمر ومراتبه أيضا تكون كنفس الأمر ، يعني كما أنّ كلّ زمان محتاج الى أمر ، ولا يكفي وجود أمر جزء من الزمان لكلّ زمان التكليف كذلك إنشاء التكليف وفعليته وتنجيزه أيضا يكون كذلك ، فلو كان الأمر بجزء فعليا أو منجّزا لا يكفي لفعلية الأمر بالنسبة الى جزء آخر ، ولهذا لو كان عالما بالتكليف في أوّل جزء من الوقت ولم يأت به ثمّ عرض له النسيان ما دام العمر لا يكون عليه شيء ، مثلا : لو علم بدين في زمان ثمّ نسي حتى مات فلا يكون عليه عقاب ، والسرّ في ذلك : هو ما قلنا من أنّ الأمر في كلّ جزء لا بدّ وأن يكون فعليا ومنجّزا ، ولا يكفي تنجيز أمر جزء السابق ، وكذلك في جزء اللاحق أيضا ، فعرفت

٢٥٤

أنّ كلّ جزء من زمان التكليف محتاج الى أمر غير الأمر بجزء آخر من أمر مستقلّ ، وكذلك لا بدّ من وجود الشرائط لكلّ جزء في نفس زمان الجزء.

اذا عرفت ذلك فنقول : إنّ في ما نحن فيه في الحال ـ يعني بعد الفوت وحين الشكّ ـ لا يعلم بأمر متعلّق عليه وأمر سابق على جزء السابق ، ولو تعلّق فقد مضى زمانه وتنجّزه ، وثبوت التكليف في هذا الحال محتاج الى ثبوت الأمر في هذا الحال ، ولا يكفي أمر سابق على تقدير العلم ، لأنّه الآن شاكّ في علم سابق ولا يدري أنّ علمه كان بصلاة واحدة أو اثنتين ، فالعلم وإن كان فرضا محقّقا في زمان سابق لكنّ الآن شاكّ في علم سابق ، فيكون شاكّا في التكليف ، فعلى هذا لا إشكال بجريان البراءة في المقدار المشكوك.

وعلى هذا ظهر لك أنّه لا وجه للاستصحاب أيضا ؛ لأنّ الاستصحاب محتاج الى يقين سابق في زمان الشك ، والمقام ليس كذلك ؛ لأنّ في حال الشكّ شاكّ في علم سابق فكيف يجري الاستصحاب؟ وكذلك لا مجال لقاعدة الاشتغال ؛ لأنّه محتاج الى ثبوت التكليف ، والحال أنّ في الفرض يكون المكلف شاكّا في التكليف ، وهذا واضح ، وهذا التوجيه الذي قلناه في بطلان كلام الوحيد له نتائج في موارد ، وليس هذا الجواب هو الجواب عن الشبهة المصداقية الذي قلنا بأنّ الشكّ في العلم شكّ في المعلوم ، بل على ما قلنا من انحلالية الأمر ولو كان عالما في الآن الأول من التكليف ليس له أثر في آن حال الشكّ ؛ لأنّ هذا الآن محتاج الى أمره على حدة ويكون شاكّا في علم سابق.

فمن النتائج المترتبة عليه هي : أنّه ولو قلنا في باب الاستصحاب بأنّه على تقدير علم في البين لا يمكن في زمان الشكّ التمسّك بالاستصحاب ؛ لأنّ التمسّك به يكون التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، ولكن مع ذلك يكون ما نحن فيه مورد البراءة ؛ لما قلنا من انحلالية الأمر ، وأنّ كلّ آن محتاج الى تنجيز التكليف الى أمر مستقلّ ، بخلافه في الاستصحاب فإنّه بالاستصحاب يجري أمر سابق لا أمر آخر.

٢٥٥

ومنها : أنّ ما قاله النائيني رحمه‌الله في أحد تنبيهاته في الواجب التخييري : بأنّه تارة يكون الشكّ في حدوث الوجوب فلا إشكال في البراءة ، وتارة يكون الشكّ في بقاء الوجوب فيكون مورد الاشتغال ، مثل أنّه لو علم بوجوب الصوم ثمّ شكّ في أنّه لو كان السفر بدله لما كان وجوبه باقيا ، وعلى ما قلنا من انحلالية الأمر ليس الأمر مطلقا في الشك في بقاء الأمر مورد الاشتغال ، بل لو كان في الآن الثاني أمر على إتيانه كان واجبا وكان مورد الاشتغال ، وإلّا فلا.

ثمّ إنّ كل ما قلناه في توجيه كلام الوحيد البهبهاني رحمه‌الله وما فيه من الفساد يكون على تقدير كون الاشتغال لأجل الأمر ، وأنّ الأمر يكون واحدا ، وقلنا بانحلال الأمر بأوامر متعدّدة.

وقد يقال بالاشتغال لا لأجل الأمر ، بل لأجل دفع الضرر المحتمل ، وهو أن يقال : على تقدير الفوت حيث كان عالما لأنّ الفرض فيما يكون الفوت على تقدير العلم بالتكليف ويشكّ في الزمان الثاني بأنّه هل فات عنه ، أم لا؟ فعلى هذا لو كان عالما بالتكليف ولم يأت ثبت في حقّه العقاب ، ولا دافع لهذا التقدير ، لأنّه لو كان عالما بالتكليف وفات فلا مجال للبراءة ؛ لأنّه بمجرّد أن فوته على تقدير يكون مع العلم فيكون مورد دفع الضرر المحتمل.

غاية الأمر في سائر الموارد نقول بدفع الضرر المحتمل ، وهنا يرفع الضرر المحتمل بإتيان الصلاة في خارج الوقت ، كما ترى أنّه بمجرّد قاعدة دفع الضرر المحتمل لا بدّ الإتيان بالكفّارة ، سواء كان احتمال وجوبها لأجل الشبهة الحكمية كما لو كان شاكّا في أنّه على تقدير الإفطار في شهر رمضان ترتفع الكفارة أو لا ، أو كان من جهة الشبهة الموضوعية ، مثل ما يعلم بأنّ الإفطار موجب الكفّارة ، ولكن كان شكّه في أنّه هل أفطر حتى تجب عليه الكفارة ، أو لا؟ فإن كان يعلم بأنه على تقدير الإفطار كان عالما بالتكليف فلا إشكال بمقتضى القاعدة بلزوم الإتيان بالكفّارة ، لانه لا دافع لهذا الاحتمال ، أعني لزوم رفع ضرر المحتمل ، فالعقل يحكم بالإتيان بالكفّارة حتى يصير

٢٥٦

آمنا من العقاب ولو لم يكن أمر في البين ، فكذلك فيما نحن فيه أيضا بعد ما يعلم بأنّه على تقدير الفوت كان عالما بالتكليف فيحتمل العقاب ، ويمكن تداركه بالقضاء ، فالعقل حاكم بإتيان الصلاة في خارج الوقت ، فلا إشكال في لزوم الإتيان بحكم العقل ، غاية الأمر لا لأجل دفع الضرر المحتمل ، بل لأجل رفع الضرر المحتمل ، ولا فرق في حكم العقل بالإتيان ، سواء كان لأجل دفع الضرر ، أو رفع الضرر ، بل يمكن أن يقال بأنّ رفع الضرر ألزم من دفع الضرر.

نعم ، لو كان مورد لا يمكن التدارك للمأمور به حتى يرتفع بسببه فلا مجال للاتيان به ؛ لأنّه يعلم بأنّ إتيانه لا أثر له في رفع الضرر المحتمل ، ولا بد من إثبات ذلك ، يعني إثبات أنّ المورد ليس قابلا للتدارك بعلم أو أمارة ، وإلّا فبمجرّد الشكّ في إمكان التدارك يحكم العقل بالإتيان.

ولا يخفى عليك فساد وجوب القضاء في المشكوك بهذا البيان أيضا نقضا وحلّا :

أمّا نقضا فبأنّ البناء في الفقه ليس على ذلك أصلا ، أعني ليس بناؤهم في باب قضاء ما وجب قضاؤه على الإتيان بالمشكوك. وأيضا فبأنّه كما قلت : لو كان ما فات غير ممكن التدارك فلا يجب إتيان ما احتمل كونه تداركا له لو قامت الأمارة على عدم امكان التدارك ، وفي المقام لو لم نقل بكفاية البراءة لعدم لزوم التدارك فلا أقلّ أن نقول بكفاية قاعدة التجاوز والشكّ بعد الوقت ، لأنّه لو كان واقعا ضرر فمقتضى جعل الشارع قاعدة الشكّ بعد المحلّ هو تدارك الشارع لما فات منه ، وإن لم يفت منه شيء فلا ضرر أصلا.

وأمّا حلّا فنقول : أمّا الكلام فيما لو كان ما شكّ في فوته واجبا موسّعا فنقول بأنّه كما قلنا سابقا : يكون الشخص مخيّرا بين أزمان ظرف الواجب الموسّع ، ويكون التخيير بين الأزمان ، كما يكون التخيير بين الأفراد ، ولا إشكال في أنّ العصيان في كلّ زمان من الواجب الموسّع يحصل بعدم الإتيان بالواجب في تمام أفراد زمانه ، وإلّا

٢٥٧

فبمجرّد عدم الإتيان في بعض الزمان لا يحصل العصيان ، كما يكون الأمر كذلك في الواجب التخييري بين الأفراد.

فعلى هذا نقول : إنّه على تقدير عدم الإتيان بالواجب الموسّع في أول زمان وجوبه ما حصل العصيان ؛ لأنّه يمكن له الإتيان في زمان الثاني ، والصلاة وإن كان الأمر بقضائها بأمر أول فلازمه هو كون زمانها موسّعا ، فعلى هذا في الزمان الأول لو فرضنا أنّه كان عالما بالتكليف ولم يأت بها إلّا أنّه لا عصيان لما قلنا ، وفي الزمان الثاني بهذا الحال الذي يكون شاكّا في الإتيان وعدمه لا يكون التكليف به منجّزا ؛ لأنّه جاهل بالإتيان وعدمه ، فحيث إنّه يحتمل إتيانه بالواجب فالتكليف في هذا الحال غير منجّز عليه ، وفي زمان العلم وإن كان منجّزا عليه إلّا أنّه على تقدير عدم الإتيان لا يكون معاقبا ، لما قلنا من أنّ العقاب في الواجب التخييري والعصيان لا يحصل إلّا بعدم الإتيان بالمكلف به في جميع أزمان التكليف. هذا اذا كان المشكوك فوته واجبا موسّعا.

وأمّا لو كان ما احتمل فوته واجبا مضيّقا مثل إفطار الصوم فإنّه بمجرّد الإفطار حصل العصيان ، ففي هذا الفرض نقول بأنّه يكفي لعدم وجوب القضاء أوامر التوبة ، لأنّه ولو عصى لكن اذا تاب غفر الله تعالى له فبالتوبة يرتفع الضرر.

وإن قلت : بأنّ التوبة لا بدّ في قبولها أن يؤدّى حقّ الله ، أو حقّ الناس الذي كان عليه.

فنقول : إنّه أمّا على ما قاله العلامة رحمه‌الله من أنّ التوبة تحصل بمجرّد الندم ويرتفع عقاب ما ترك أو أتى به ولكن حقّ الله أو حقّ الناس واجبان آخران ليس لهما مدخلية في حصول التوبة ، بل وجوب أدائهما يكون بأمر آخر ، وإن لم يؤدّ عصى الأمر المتعلق بهما ، وإلّا فالتوبة عن الذنب غير مشروطة بهما ، فلا إشكال في حصول التوبة ، فارتفع احتمال الضرر بالتوبة.

وإن قلنا : إنّ حصول التوبة عن الذنب مشروط بأداء ما وجب عليه من

٢٥٨

حقّ الله تعالى أو حقّ الناس.

فنقول : وإن أبيت التمسّك في رفع شرط التوبة بعمومات التوبة لأجل كون التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية لكن مع ذلك لا مانع من البراءة ؛ لأنّه تكون الشبهة في الموضوع ، ويكون مورد البراءة كما قلنا في محلّه ، فافهم.

وإن قلت : إنّه مع ذلك يحتمل أن يكون الفرض باقيا.

فنقول : إنّه ولو كان من المحتمل بقاء الغرض لكن لا إشكال بأنّا لم نكن مأمورين بتحصيل الغرض ، وإلّا فيحتمل ذلك فيما لو أتى بما هو الواجب أيضا في بعض الموارد ، فتدبّر.

٢٥٩
٢٦٠