المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

الواحد ، لأنّ بقيام خبر الواحد يرتفع موضوع الاستصحاب ؛ لأنّ موضوعه عدم الدليل ، وخبر الواحد يكون دليلا ، وأمّا نسبتهما مع سائر الاصول فللكلام فيهما محلّ آخر ، فافهم.

التنبيه الثالث : لا يخفى عليك في أنّه ولو قلنا بالبراءة في المشتبه إلّا أنّه مع ذلك حسن الاحتياط عقلا ممّا لا إشكال فيه ، ولو لم يكن دليل على الحرمة أو الوجوب ، بل ولو قامت الأمارة على خلافه لكن مع ذلك يكون الاحتياط حسن عقلا ، بل لو كان عبد في مقام الإطاعة والانقياد وترك المشتبهات بصرف احتمال أن لا تكون حراما يثاب أيضا بثواب الانقياد ، بل قال بعض بأنّ في عكسه أيضا يكون العقاب لو تجرّى العبد وارتكب ولم يكن في الواقع حراما ، ولكن نحن ولو لم نقل بالعقاب في صورة التجرّي إلّا أنّه في صورة الانقياد لا إشكال في الثواب.

نعم ، تارة لا يكون الاحتياط حسنا لأجل عوارض أخر مثل ما يكون موجبا لاختلال النظام ، أو يكون بناء الشارع فيه على عدم الاحتياط مثل باب الطهارة والنجاسة ، أو يكون الاحتياط خلاف الاحتياط ولكن الاحتياط في حدّ ذاته مع قطع النظر عن الجهات الخارجية يكون مستحسنا عقلا ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ، فأفهم.

إنّما الكلام في أنّ الاحتياط يكون مستحسنا لصرف إدراك الواقع ، والأمر به أيضا يكون بذلك ، بمعنى أنّه يكون أمره أمرا مولويا ، أو يكون أمره أمرا إرشاديا ؛ لأنّه لو كان الاحتياط لصرف إدراك الواقع فحيث لم يكن فيه ملاك إلّا إدراك الواقع فلا يكون قابلا للأمر المولوي ، إذ على تقدير كونه لحفظ الواقع فحيث يكون باب الإطاعة والمعصية بيد العقل فالعقل بعد ما أمر به كان لإدراك الواقع ومن وظائفه ، فالشارع لو أمر به لا بدّ وأن يكون إرشاديا ، وأمّا لو كان فيه ملاك آخر

٢٢١

غير حفظ الواقع فلو دلّ دليل عليه فيمكن أن يكون ملاك الأمر المولوي فيه وأمر به أيضا ، فلا بدّ هنا من مفروضية جهتين : الاولى كون الملاك فيه ، والثانية الأمر به.

أمّا الملاك في الاحتياط مع قطع النظر عن ملاك حفظ الواقع فيمكن أن يقال : إنّ الاحتياط في المشتبهات يوجب حصول ملكة في الشخص بحيث يجتنب عن المحرمات ، ويحصل له ملكة الورع والتقوى ، ولا إشكال في أنّ الاحتياط يوجب حصول تلك الملكة ، فيكون فيه ملاك الأمر المولوي ، ولكنّ صرف الملاك ليس كاف في كونه مستحبا شرعا ، بل لا بدّ من الأمر.

فنقول : إنّ الأخبار الدالّة على الاحتياط وإن كان بعضها دالّا على ما حكم به العقل لحفظ الواقع إلّا أنّه في أخباره ما يدلّ على ذلك ، يعني على الأمر به لحصول تلك الملكة ، مثل ما يدلّ على أنّ أولى الورع الورع في المشتبهات ، أو غير ذلك من العبارات ، فعلى هذا لا بأس بأنّ يقال : إنّ الاحتياط مع قطع النظر عن حسنه العقلي يكون مأمورا به بأمر مولوي ، فافهم.

التنبيه الرابع : لا إشكال في أنّ جريان البراءة يصحّ في كلّ مورد لا يكون دليل حاكم أو وارد عليها في المورد ، سواء كان الحاكم من الأمارات أو الاصول ، وإلّا لو كان في موردها الحاكم أو الوارد لا تجري البراءة بلا إشكال ، فعلى هذا لو كان في مورد استصحاب الحرمة أو النجاسة فلا تجري البراءة ، ومن هذا القبيل هو الشك في التذكية وعدمها.

ولا يخفى عليك أنّ الأصل الجاري في الحيوان المشكوك تذكيته يكون مختلفا ، فتارة يكون الشكّ في الحيوان في كونه من الحيوانات مأكول اللحم وعدمه ، ففي هذا الشكّ تجري البراءة ، ويحكم بحلّية لحمه لو لم يكن له مانع آخر.

وتارة يكون الشكّ في أنّ هذا الحيوان هل يكون قابلا للتذكية ، أو لا؟ ففي

٢٢٢

هذه الصورة تارة نقول بعدم جريان أصل عدم التذكية ، وتارة نقول بجريانه ، فإن لم نقل بجريانه فأيضا لا إشكال في جريان البراءة ، وأمّا لو قلنا بجريانه فلا تجري البراءة ؛ لأنّ أصل عدم التذكية يكون حاكما على البراءة ، ولكن في الشكّ في كونه مأكول اللحم وعدمه تجري البراءة ، فعلى هذا نحكم بطهارة صوفه وشعره وجواز حمله في الصلاة ، وأمّا لم نقل بحلّية لحمه فلأجل احتمال كونه ميتة.

فظهر لك الفرق بين جريان الأصلين ، فالبراءة لو لم تجر في الشكّ في مأكولية لحمه وعدمه لم يمكن الالتزام بطهارة شعره وصوفه ، ولكن بعد جريانه نقول بطهارة الشعر أو الصوف ، ولو لم يجر أصل عدم التذكية نقول بطهارة لحمه أيضا ، ولكنّ المانع من ذلك هو هذا الأصل ، فافهم. وللتفصيل في هذا الباب مقام آخر.

هذا كلّه في ما يكون الدوران بين الحرمة وغير الوجوب من جهة عدم النصّ ، وهذا هو المسألة الاولى.

المسألة الثانية : فيما لو دار الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من جهة إجمال النص ، وهذا أيضا تارة يكون منشأ الشك إجمال الحكم ، وتارة يكون منشأ الشكّ إجمال الموضوع. أمّا الأول مثل ما اذا لم ندر بأنّ النهي حقيقة في الحرمة أو الكراهة فالموضوع مبيّن ، ولكن الشكّ في الحكم. وأمّا الثاني أعني ما يكون منشأ الشك إجمال الموضوع ، كما اذا كنا لم نعلم ما هو موضوع الغناء؟ ولا يخفى عليك أنّ المراد من الموضوع هنا غير المراد من الموضوع في الشبهة الموضوعية ؛ لأنّ في الشبهة الموضوعية ـ التي يأتي الكلام عنها لاحقا ـ بعدا يكون الموضوع ـ أعني المفهوم ـ مبيّنا ولكنّ الشكّ في المصداق ، وتكون حقيقة الشبهة هي الشبهة المصداقية ، وأمّا في المقام فيكون الموضوع غير مبيّن ، وعليه فالمورد بكلا قسميه ـ أعني سواء كان الإجمال في الحكم أو الموضوع ـ يكون موردا للبراءة ؛ لما قلنا في المسألة السابقة من قبح العقاب من غير بيان وغيره من الأدلة.

٢٢٣

المسألة الثالثة : فيما لو كان دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من جهة تعارض النصين ففي هذا المورد أيضا تجري البراءة ؛ لأنّه بعد ما يكون في باب تعارض النصين مقتضى القاعدة التساقط فأيضا يكون العقاب من غير بيان ؛ لأنّه ولو ورد الدليل إلّا أنّ الدليل لا بدّ وأن يكون بحيث يرشد الشخص ويمكن له التعويل عليه ، وفي مورد تعارض النصين ليس الأمر كذلك ، فعلى هذا يكون المورد هو جريان البراءة. نعم ، لو قلنا بمقتضى الأدلة الأخر بأنّ الحكم في تعارض الخبرين هو التخيير أو الاحتياط يكون أمرا آخر ، ولكن بمقتضى القاعدة بعد ما كان التساقط لا بدّ من القول بالبراءة.

المسألة الرابعة : هي في دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب من جهة الشك في الواقعة الجزئية ، وهذا هو المسمّى بالشّبهة الموضوعية ، ويمكن أن يقال بالشبهة المصداقية ، والكلام في هذه المسألة يكون فيما لو كان الحكم والمفهوم مبينا والشك يكون في المصداق ، مثلا أنّه كان يعلم بأنّ الخمر الذي كان صفته كذا وكذا حرام شربه ، ولكنّ هذا الإناء الخارجي لا يدري بأنّه هل هو خمر حتى يجتنب عنه ، أو ماء حتى لا يجتنب عنه؟ والحال أنّه يعلم حكم الخمر ومفهومه ، وكذا حكم الماء مفهومه ، ولا إشكال في جريان البراءة هنا.

ولكن قد يتوهّم عدم جريان البراءة ؛ لأنّ موضوع جريان البراءة هو عدم البيان ، وأمّا مع البيان فلا مجال للبراءة ، وفي المورد بعد ما بيّن الشارع حكم الخمر ويعلم مفهومه فلا بدّ له من الاجتناب عن هذا المصداق ، إذ وظيفة المولى هنا هي البيان وقد عمل بها فلا يكون عقابه من غير بيان.

وفيه : أنّنا نقول شيئا على سبيل المقدمة : إن في كلام المتوهّم نوعا من الفساد ، وهو : أنّ النهي الذي صدر من الشارع بحسب الثبوت والتصور تارة يكون بنحو القضية المحصّلة ويكون نهيه انحلاليا ، بمعنى أنّ نهيه منحلّ الى نواه كثيرة بعدد

٢٢٤

الأفراد ، مثلا : نهى عن الخمر وكان للخمر مائة فرد وكان نهيه انحلاليا فقد انحلّ نهيه الى مائة نهي بعدد أفراد الخمر ، وكان لازم ذلك أنّه يكون فيه موافقات ومخالفات كثيرة لا موافقة أو مخالفة واحدة ، فلو اجتنب عن أحد أفراد الخمر امتثل أحد النواهي ، ولو ارتكب فردا آخر خالف بالنسبة اليه.

وتارة لا يكون كذلك ، بل يكون بنحو القضية المعدولة ، بمعنى أنّه ولو كان بحسب الظاهر النهي عن الشيء إلّا أنّه يكون لبّا راجعا الى الوجود ، مثلا : إذا قال : لا تأكل الرمان يكون النهي عن الاتصاف بوصف أكل الرمان ، فيكون الاتصاف بهذه الصفة مطلوبا للمولى وهذا الاتّصاف يكون أمرا وجوديا ، وعلى هذا لا يكون هنا إلّا نهي واحد ، ولا يكون له إلّا امتثال واحد ، كما لا يكون له إلّا مخالفة واحدة ، فلو أكل فردا من الرمان خالف النهي ولو ترك سائر أفراد الرمان ؛ لأنّ الاتصاف لا يحصل إلّا بترك جميع أفراده ، وفي هذه الصورة لا تكون موافقات أو مخالفات كثيرة بعدد الأفراد ؛ لأنّ النهي لا يكون انحلاليا.

اذا عرفت أن تحول النهي يتصور بتلك الصورتين فلا إشكال في أنّه في الصورة الاولى كلّما يعلم كون شيء فردا للمنهي عنه يكون لازم الاجتناب ، وفي الفرد المشكوك يكون مقتضى القاعدة هو البراءة ، ولا مجال لأن يقال بأنّ التكليف معلوم فلا مجال لجريان البراءة ؛ لأنّه ما يكون موضوع البراءة هو جهل المكلف وعدم علمه ، وبعد ما كان النهي انحلاليا ففي الفرد المشكوك لا يعلم بالتكليف ، واذا كان كذلك تجري البراءة.

كما أنّه لا إشكال في أنّه في الصورة الثانية يكون المورد قاعدة الاشتغال ؛ لأنّ في الأول يكون الشك في التكليف ، بخلاف الثاني فإنه يكون الشك فيه شكّا في مقام الامتثال ؛ لأنّه ثبت التكليف بوجوب اتصافه بصفة عدم أكل الرمان ، فلا بدّ للمكلف من تحصيل ذلك الموصوف ، وفي الفرد المشتبه لا بد من الاجتناب حتى يعلم بإطاعة

٢٢٥

المولى ، والبراءة عن عهدة التكليف.

نعم ، لو كان أصل مقدم عليه في البين أو أمارة لا بدّ من الأخذ بها ، ويجوز له ارتكاب هذا الفرد المشتبه ، مثل ما كان في البين استصحاب بأن يقال بأنّه قبل ارتكاب ذلك الفرد يكون الوصف حاصلا فكذلك بعده بمقتضى الاستصحاب.

اذا عرفت ذلك فلو كانت نواهي الشارع من قبيل الثاني يكون مورد الاشتغال في الشبهات الموضوعية لو لم يكن أصل أو أمارة حاكما عليه ، وإن كانت نواهي الشارع من قبيل الأول فيكون في الشبهات الموضوعية مورد البراءة ، ولا إشكال في أنّ نواهي الشارع تكون من القسم الأول ، وليس في الشرع نهي وارد من قبيل القسم الثاني.

وقد ظهر لك من مطاوي كلماتنا : أنّه كلّما يكون النهي من قبيل القسم الثاني يكون في الفرد المشتبه مجرى الاشتغال بعد العلم بالتكليف ، وأمّا اذا كان من قبيل القسم الأول فلا اشكال في جريان البراءة ، لأنّ الميزان في جريان البراءة هو جهل المكلف بالتكليف وعدم حجّة من قبل المولى له ، وفي ما كان التكليف انحلاليا ففي ما يعلم أنّ هذا الفرد فرد للتكليف فلا بدّ من الاجتناب ، وأما في الفرد المشتبه فلا يجب عليه الاجتناب ؛ لأنّه لم يعلم ورود نهي على هذا الفرد ، ومعنى انحلالية النهي هو أنّه فيه امتثالات ومخالفات عديدة بعدد أفراده ، فعلى هذا تجري البراءة في الفرد المشتبه.

وإن قلت : إنّ ما يكون وظيفة الشارع وهو البيان قد تمّ ، فلا مانع بعد ذلك من العقاب على تقدير المخالفة.

قلنا : إنّه ولو سلّم أنّ الشارع بيّن الحكم إلّا أنه يكون استحقاق العقاب بعد تمامية الحجة على العبد ، وما لم يتمّ الحجّة لا يصحّ العقاب ، وإلّا فلو يكفي صرف بيان الشارع لا بدّ أنّ يحكم العقل بالعقاب ولو لم يصل البيان الى المكلف ، فهذا شاهد

٢٢٦

على أنّه ما لم تتمّ الحجّة على العبد لا يصحّ العقاب ، فلا شبهة في جريان البراءة في القسم الأول ، أعني إذا كان التكليف انحلاليا ، ومن هذه الجهة نتج الفرق بين الشرطية والمانعية ، فلا تجري البراءة في الأول دون الثاني ، مثلا اذا كان شرط الصلاة استعمال الملبوس من جلد مأكول اللحم فلو شكّ في أنّ شرط صلاته موجود أم لا لا يمكن جريان البراءة والحكم بصحة الصلاة ؛ لأنّ في الشرائط حيث إنّ مورد التكليف هو الوجود فلا يكون انحلاليا ، فعلى هذا لا بدّ له من تحصيل ذلك الوصف ، مثلا وصف لبس جلد مأكول اللحم ، فعلى هذا يكون التكليف معلوما والشكّ يكون في مقام الامتثال ، وفي مثل ذلك المورد يكون مجرى الاشتغال.

وأمّا في الشكّ في المانعية فليس كذلك ، فلو شكّ في أنّه هل هو لابس في صلاته من جنس غير المأكول والحال أنّه عالم بأنّ من موانع الصلاة هو لبس غير المأكول؟ فلا إشكال مع ذلك في جريان البراءة ؛ لما قلنا من أنّ التكليف والنهي يكون انحلاليا ، وينحلّ النهي الواحد الى نواه عديدة ، ففي الفرد المعلوم لا بدّ من الاجتناب ، وفي الفرد المشتبه تجري البراءة لجهل المكلف بالتكليف ، فظهر لك أنّ في الشبهات الموضوعية تجري البراءة ؛ لأنّ تكليف الكلّي وإن كان معلوما إلّا أنّه بالنسبة الى الفرد المشكوك لا يعلم المكلف بالتكليف ، وهذا معنى أنّ الشك يكون في الواقعة الجزئية إلّا اذا لم يكن النهي انحلاليا ، فافهم وتدبّر جيّدا.

هذا كلّه بحسب القواعد الكلية ، مثل قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو حديث الرفع ، ولكن لا يخفى عليك أنّه لا حاجة لنا في جريان البراءة في المقام الى ما قلنا أصلا حتى يقال ويتوهّم بأنّ ذلك في ما يكون النهي انحلاليا ، وأمّا اذا لم يعلم بأنّ النهي انحلالي أو لا فلا مجال للبراءة حتى نحتاج الى أن نقول في الجواب بأنّ النواهي الواردة في الشرائط تكون انحلالية ، بل نقول بأنّ في المقام يكون مقتضى الأصل هو البراءة لأجل أخبار كثيرة واردة في خصوص ما نحن فيه ، مثل رواية عبد الله بن

٢٢٧

سنان ، ومثل الرواية الواردة في الجبن وغيرهما بحيث لا يبقى الإشكال في المسألة.

ومن الروايات التي تمسّك بها للمطلب هي رواية مسعدة بن صدقة «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعلّه سرقة ، والعبد يكون عبدك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة».

وهذه الرواية وإن دلّ صدرها بظاهرها على ما نحن فيه إلّا أنّ صدرها متناقض مع أمثلة الرواية. وبعبارة اخرى : لا تنطبق هذه الأمثلة التي جعلها في الرواية صغرى وكبرى مستفادة من الصدر ؛ لأنّ الحكم في هذه الأمثلة الثلاثة الواردة في الرواية ليس لأجل البراءة في الشبهة الموضوعية ، ولا يمكن الحكم بكون الثوب ملكا له أو العبد عبدا له أو المرأة امرأته بمقتضى البراءة في الشبهة الموضوعية ، بل الحال في الأمثلة كما قال الشيخ رحمه‌الله ليس مستندا الى أصالة الحلّية ، فإنّ الثوب والعبد إن لوحظا باعتبار اليد عليهما حكم بحلّ التصرف فيهما لأجل اليد ، وإن لوحظا مع قطع النظر عن اليد كان الأصل فيهما حرمة التصرف ؛ لأصالة بقاء الثوب في ملك الغير ، وأصالة الحرّية في الإنسان المشكوكة رقّيّته ، والزوجة إن لوحظ فيها أصل عدم تحقّق النسب أو الرضاع فالحلّية مستندة اليه ، وإن قطع النظر عن هذا الأصل فالأصل عدم تأثير العقد فيها فيحرم وطؤها.

وإن لم يمكن الجمع بين الصدر وهذه الأمثلة فلا بدّ إمّا من أن يقال بأنّا ولو نفهم الأمثلة إلّا أنّ الصدر شاهد لما نحن فيه ، وإمّا من طرح الرواية.

ولكن يمكن توجيه الرواية بنحو آخر ، وهو : أن يقال بأنّه في الرواية نكتة لطيفة ، وهي أنّه في تمام هذه الأمثلة الثلاثة كان الاستناد الى الشخص بمعنى أنّ ثوبك أو عبدك أو زوجتك ، لا أنّ الثوب أو العبد أو المرأة ولو لم يكن تحت تصرفك ،

٢٢٨

فالحكم يكون في هذه الأمثلة الثلاثة مع كونها تحت تصرف الشخص حيث قال : «وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعلّه سرقة» ، وهكذا في المثالين الآخرين ، وفي صدر الرواية قال : «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم ... الى آخره» ، ويكون بعد كلّ شيء لفظ «هو» وإن أسقط فيما نقله الشيخ رحمه‌الله في الرسائل ، فعلى هذا يمكن أن يكون جملة «هو لك» صفة لجملة «كلّ شيء» ، فيكون المعنى أنّ كلّ شيء يكون هو أي الشيء لك ، أعني منك وتحت يدك حلال ، ويكون «حلال» خبرا لكلّ شيء ، فعلى هذا يكون لسان الرواية هو : أنّه كما تكون يد الغير أمارة للملكية كذلك تكون يدك أيضا أمارة للملكية ، فاذا كان ثوب تحت يدك ، أو عبد تحت يدك ، أو امرأة تحت يدك وشككت بأنّ الثوب والعبد هل هما ملك لي أو سرقة أو العبد حرّ ، أو المرأة زوجتي أو اختي أو رضيعتي فتقول بأنّ الثوب والعبد ملك لي والمرأة زوجتي بمقتضى يدك عليها.

فمن هذه الرواية يستفاد أنّ اليد أمارة الملكية للشخص أيضا كما هي أمارة الملكية للغير ، وعلى هذا لم تكن الرواية مرتبطة بما نحن فيه ، ولكن بهذا التوجيه يرتفع الإشكال عن الرواية ، وهو توجيه حسن خصوصا مع ما في الأمثلة من الاستناد الى الشخص ، وخصوصا مع لفظ «هو» الوارد في الرواية ولم يكن في سائر روايات الباب ، وخصوصا مع ما ورد في الروايات ما هو شاهد على أنّ يد الشخص أيضا أمارة الملكية لنفسه.

ومثل ذلك ما ورد في باب اللقطة من أنّه سأل شخص من المعصوم عليه‌السلام بأنّي وجدت شيئا في داري ، فأجاب عليه‌السلام بما يقرب من هذه المضامين ، من أنّه هل يجيء أحد في دارك؟ قال : نعم ، فلم يحكم المعصوم عليه‌السلام بكون ما وجده ملكا له.

ثمّ ذكر ما يقرب من هذه المضامين : وجدته في صندوقي ، فقال : هل جاء أحد على رأس صندوقك؟ فقال : لا ، فقال قريبا من هذه المضامين من أنّه ملكك ، وهذا

٢٢٩

شاهد على أنّ يد الشخص أمارة الملكية ، غاية الأمر لو جاء شخص آخر لا يكون منحصرا به فلا يكون في يده ، ولذا لا يحكم بملكيته.

وكذلك في ما حصل الشكّ للشخص بعد تزويج امرأته بأنّها هل هي رضيعته أم لا؟ فورد في بعض الروايات ما يدلّ على عدم الاعتناء بذلك الشكّ ، وهذا أيضا شاهد على أنّ يد الشخص أمارة الملكية كيد الغير. وعلى كلّ تقدير لا تكون الرواية المتقدمة مربوطة بما نحن فيه ، ولجريان البراءة في ما نحن فيه يكفي سائر الأخبار.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّه يظهر من أخبار الباب أنّه لا يجب الفحص في الشبهات الموضوعية ؛ لأنّه قال في بعض أخباره : «حتى يقوم الشاهدان» ، أو في بعض أخباره «حتى تعلم بعينه» ، وهذه العبارات صريحة في عدم وجوب الفحص ، ولا يجب عليه طلب الشاهدين ، بل لو قام بالفحص فلعلّه يكون حراما ، وعليه فلو نلتزم بأنّه لا يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص بحسب القاعدة لكن في ما نحن فيه لا يكون جريان البراءة موقوفا على الفحص ، للأخبار الخاصّة الواردة في المورد.

ثمّ إنّه كما قلنا سابقا في مطاوي كلماتنا : إنّ مورد جريان البراءة فيما لا يكون دليل حاكم أو أصل حاكم أو وارد عليه ، فلو كان في البين أمارة موافقة للبراءة أو مخالفة لها لا يكون مجالا للبراءة ، وكذلك لو كان أصل حاكم في البين ، مثل استصحاب عدم التذكية لو قيل بجريانه فلا إشكال في عدم جريان البراءة ، فتدبّر.

هذا كلّه حول الكلام في ما كان الشكّ بين الحرمة وغير الوجوب.

أمّا الكلام فيما لو كان الشكّ بين الوجوب وغير الحرمة فأيضا تارة يكون منشأ الشكّ لأجل فقدان النص ، واخرى لأجل إجمال النصّ ، وثالثة لأجل تعارض النصّين ، ورابعة لأجل الشكّ في الواقعة الجزئية. نحن إذ نرجّح الكلام في صورة ما لو كان الشكّ بين الوجوب وغير الحرمة وكان منشأ الشكّ هو فقد النصّ ، وبعد إثبات حكم تلك الصورة يظهر حكم سائر الصور أيضا ؛ لعدم الفرق بين تلك الصورة

٢٣٠

وسائر الصور.

فنقول بعون الله تعالى : إنّه ولو لم يجر بعض الأدلّة المتقدمة الدالّة على البراءة في ما لو كان الشك بين الحرمة وغير الوجوب كالذي ورد قريبا من هذا المضمون «كلّ شيء حلال حتى تعرف أنّه حرام بعينه» ولكنّ بعض الأدلة المتقدمة جار في المقام ، مثل قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وحديث الرفع ، وغيرها ، وبعض ما تمسّكوا به للاحتياط في المسألة المتقدمة ليس جار في المقام ، وبعضها الآخر وإن كان يمكن توهّم الاحتياط في المقام لأجله إلّا أنّه قلنا : ما في أدلّة الاحتياط من الفساد مثل رواية زرارة والرواية الواردة في الصيد ، ولم يقل من قال بالاحتياط في الشكّ بين الحرمة وغير الوجوب بالاحتياط في المقام ، فعلى هذا ليست المسألة ـ يعني البراءة ـ فيما لو كان الشكّ بين الوجوب وغير الحرمة محل إشكال.

وينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل :

إنّه لا يخفى عليك أنّه مع ذلك لا بأس بالاحتياط بل لا إشكال في حسن الاحتياط لحكم العقل بذلك ، بل يمكن أن يقال بالثواب عليه : ثواب الانقياد ، حيث إنّ هذا العبد كان في مقام إطاعة المولى قد ترك محتمل الحرمة وأتى بمحتمل الوجوب فهو عبد منقاد ومستحق للثواب على انقياده ، وإن لم نقل بالعقاب في صورة التجري فهذا أيضا ليس قابلا للنزاع ، ولكنّ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله في المقام كلاما صار مورد إشكال.

فنقول مقدمة لفهم مراد الشيخ رحمه‌الله : إنّ الكلام تارة يقع في أنّه بعد ما يكون قصد القربة معتبرا في العبارة هل يكفي في ذلك صرف احتمال الأمر ، أو لا بدّ من العلم بالأمر؟ وبمعنى آخر أنّه فيما احتمل الأمر هل يمكن قصد التقرب بصرف هذا

٢٣١

الاحتمال ، أو لا يمكن قصد التقرب ، بل يعتبر في قصد التقرب من الأمر المعلوم في البين؟ وحاصل الكلام أنّه في إمكان قصد التقرب يكون محتاجا الى أمر بالعمل ، أو لا يلزم ذلك ، بل لو يحتمل أمر بشيء يكفي في إتيانه بداعي التقرب الى الله تعالى؟ فإن كان الكلام في ذلك وكان الشيخ رحمه‌الله مراده أنّه لا يمكن قصد التقرب بصرف احتمال الأمر ، بل لا بدّ من الأمر المعلوم فليس كلامه في محله ، ويرد عليه ما أورده المحقّق الخراساني رحمه‌الله وآخرون ، لأنّه لا إشكال في إمكان قصد التقرب ولو باحتمال الأمر ، ولا يلزم من ذلك العلم بالأمر.

وتارة يكون الكلام في أنّ عبادية الفعل بما ذا تحصل؟ فهل يصير الشيء عبادة بصرف احتمال الأمر به ، أو لا يكون الأمر كذلك ، بل الشيء إمّا أن يكون عبادة واقعا ، أو لا ، سواء تعلق به الأمر ، أو لا؟ فصرف تعلق الأمر بالشيء لا يصير عبادة كما ترى في التزويج وقد أمر به في الشرع ، ولكن مع ذلك لا يكون من العبادات بالمعنى الأخص ، وإن كان موجبا للثواب لو تزوج متقربا الى الله ولكن لا يكون العمل عملا عباديا بمجرد ذلك. وأيضا كما ترى في التوصليات فصرف الأمر بها لا يكفي في عباديتها ، ولو أنّه لو أتى بها بداعي الأمر صار موجبا للثواب.

فظهر لك أنّ صرف احتمال الأمر لا يكفي في عبادية العمل ، نعم ، يكفي للجهة الاولى ، فعلى هذا لو كان كلام الشيخ رحمه‌الله ناظرا الى الجهة الثانية ـ أعني أنّ الفعل لا يصير عبادة بصرف احتمال الأمر ـ لا يرد عليه ما أوردوه عليه ، ولو تأمّلت في كلامه رحمه‌الله يظهر لك أنّ مراده كان الجهة الثانية.

فعلى هذا كون عبادية العمل في المقام ـ أعني فيما لو شكّ في الوجوب وغير الحرمة ـ مثلا اذا لم تدر بأنّه هل غسل اللحية في الوضوء يكون واجبا ، أو يكون مباحا ، أو مستحبا؟ يتوهّم أن يكون إمّا من جهة الانقياد ، وإمّا من جهة أوامر الاحتياط ، وإمّا من جهة أخبار من بلغ.

٢٣٢

ولا يخفى عليك أنّ الثمرة في هذا النزاع تظهر في بعض الموارد ، كما في المثال المتقدم لو قلنا بأنّه لا بدّ وأن يقع المسح في الوضوء بماء وضوء عبادي ، فعلى هذا لو قلنا بأنّ غسل اللحية بأحد الوجوه المتقدمة إما من باب الانقياد ، وإمّا من باب أوامر الاحتياط ، وإمّا من باب أخبار من بلغ صار عبادة ، فلو مسح بماء الوضوء الموجود على لحيته فقد أتى بالمسح الواجب ، وإلّا فلا.

وعلى هذا نقول : إنّ كون العمل عباديا لا يمكن القول به لصرف الانقياد ، وإنّ بهذا العمل يحصل الانقياد ، لأنّه ولو كان العبد الذي أتى بالفعل باحتمال كونه مطلوبا للمولى مطيعا ومنقادا ، وإنه ولو قلنا في باب التجري بعدم العقاب على المتجري ولكن فيما أتى بالفعل باحتمال كونه مطلوبا للمولى يثاب عليه ثواب الانقياد ، إلّا أنّه كما قلنا في التجري لا يوجب التجري قبح الفعل فكذلك لا يوجب الانقياد حسنا في الفعل ، فلا يصير الفعل عبادة ولو يثاب العبد بانقياده ، وصرف مقارنة العمل مع الانقياد وحصول الانقياد به لا يوجب أن يكون العمل عبادة ، فافهم.

وكذلك لا يمكن القول بعبادية الفعل لأجل أوامر الاحتياط ، سواء قلنا بكون أوامر الاحتياط إرشاديّة كما هو ظاهر جلّ أخبارها ، أو قلنا بكون أوامر الاحتياط كما يستفاد من بعض أخبارها مولويّة.

أمّا على القول بكون أوامرها إرشاديّة فلأنّ معنى إرشاديتها هو أنّ الإتيان بالعمل يوجب الثواب في صورة الإصابة مع الواقع ، وفي صورة الخطأ ليس بشيء ، فعلى هذا لا يثبت الأمر الإرشادي إلّا الإرشاد الى الواقع ، لا عبادية العمل ، فيكون تابعا لما يرشد اليه ، فإن كان الفعل عبادة قبل هذا الأمر فهو ، وإلّا فالأمر الإرشاديّ غير واف لإثبات عبادية العمل ، فلو كان أمر نفس العمل عباديا فيكون العمل عباديا ، وإلّا فلا ، وأمر نفسه مع قطع النظر عن أوامر الاحتياط أيضا لا يوجب كون

٢٣٣

الفعل عبادة إلّا اذا كان أمره عباديا ، وإلّا فصرف الأمر بالفعل غير موجب لصيرورته عبادة ؛ لأنّه يمكن أن يكون أمره توصليا.

وأمّا على القول بكون أوامر الاحتياط مولويّة فأيضا لا تكفي في عبادية العمل ؛ لأنّه كما قلنا سابقا : إنّ كون الأمر بالاحتياط في المشتبهات على القول بمولويّته كما يظهر من بعض الأخبار هو لحصول الاتقاء وصيرورة العبد بذلك ، أعني بالاحتياط في المشتبهات معتادا على ترك المحرّمات والإتيان بالواجبات ، فيكون أمر المكلف بالاحتياط لحصول هذه الملكة ، فعلى هذا يكون الاحتياط وجوبه توصليا ؛ لأنّ الغرض من أمره ليس إلّا حصول هذه الملكة ، سواء قصد التقرب أم لا ، فعلى هذا لا تكفي في عبادية العمل أوامر الاحتياط ، إرشاديّة كانت أو مولويّة.

ثمّ بعد ما عرفت من عدم صيرورة الفعل عباديا بصرف الانقياد ولا لأجل أوامر الاحتياط فهل تكفي في عبادية العمل وصيرورته عبادة أخبار من بلغ ، أم لا يكفي؟

ولا يخفى عليك أنّ المدّعي بكون أخبار من بلغ دالة على عبادية الفعل يدّعي بأنّ الفعل تارة يكون مستحبا من حيث الذات ، كما لو أمر بأمر عباديّ على استحباب الإتيان بالشيء الفلاني.

وتارة يصير الفعل عبادة لأجل جهة طارئة ولا يكون بحسب الذات عبادة ، بل عباديّته تكون لأجل عارض ، وبعد ما قام خبر ضعيف أو فتوى مجتهد ـ مثلا ـ على تعلّق أمر بالشيء الفلاني فلأجل أخبار من بلغ وببركتها نقول بعباديّته ، وعبادية ذلك الشيء تكون بجهة عارضة عليه وهي البلوغ ؛ لأنّ أخبار من بلغ دالّة على أنّ من بلغه ثواب على شيء فعمله التماس ذلك الثواب فقد أعطاه الله ، فمجرّد البلوغ موجب للثواب ، وعلى هذا بعد البلوغ لو كان الأمر على هذا الشيء الذي سنده ضعيف أمرا عباديا فيثاب عليه باعتبار عباديته ، وإن كان أمره أمرا غير

٢٣٤

عبادي ـ أي كان توصليا ـ فيثاب عليه باعتبار توصليّته ، فتنتج ثمرة أخبار من بلغ أنّ هذا الشيء قبل أخبار من بلغ لا يمكن إتيانه لأجل ضعف سنده ولو كان عبادة ، وببركة أخبار من بلغ يمكن إتيانه ويثاب عليه باعتبار عباديته ، فتكون أخبار من بلغ مثبتة لعباديته ، فصارت أخبار من بلغ سببا لعبادية هذا الشيء ويثاب العبد بإتيانه ، فيكون المقصود من أخبار من بلغ استفادة استحباب العمل.

فنقول بعون الله تعالى : إنّه يحتمل في أخبار من بلغ احتمالات :

الاحتمال الأوّل : ما ذكره الشيخ الانصاري رحمه‌الله ، وهو : أن تكون أخبار من بلغ طريقية مثل الأمر بتصديق العادل ، ومعنى طريقيّته هو أنّه ليس فيها إلّا جهة الإراءة عن الواقع ، فإن كان هو الواقع فلا بدّ من اتّباع الطريق ، ولذا فمعنى صدق العادل هو أنّه يفرض قول العادل الواقع فتتبعه ، لا أنّه لو لم يكن واقع يجب تصديق العادل ، وتكون أخبار من بلغ طريقية أيضا بهذا المعنى ، بمعنى أنّ البلوغ ليس له موضوعية ، بل يكون طريقا الى الواقع ، فالعمل على طبق ما بلغ يكون لأجل طريقيّته الى الواقع.

ولكن لا يخفى عليك أنّ هذا الاحتمال لا يستفاد من أخبار من بلغ ، ولا يمكن الالتزام به ، ولو أنّه لم يذكره الشيخ رحمه‌الله لم نتعرّض لهذا الاحتمال أصلا ، لأنّه كما ذكر معنى الطريقية هو أنّه ليس فيه جهة إلّا كونها مرئية للواقع ، وإلّا فلو لم يكن واقع لا يجب سلوك الطريق. وبعبارة اخرى : يكون الطريق من العناوين الثانوية ويكون لحفظ الواقع ، وليس فيه في حدّ ذاته جهة إلّا حفظ الواقع كما في صدق العادل ، ولا يمكن القول بذلك في أخبار من بلغ ، لأنّ المستفاد منها هو أنّ لنفس البلوغ موضوعية ، ويكون من العناوين الأولية ، ويكون موضوعا من موضوعات العالم ، كما لو قال : اذا صمت كان لك الأجر الفلاني.

ومن الواضح أن بصرف البلوغ والعمل على طبق ما بلغ يترتب الثواب ، لا بما

٢٣٥

هو مرئيا للواقع ، بل الأخبار صريحة في أنّه ولو لم يكن ما بلغ له واقع لكن يترتب عليه الثواب ، ولا تكون أخبار من بلغ طريقا ، بل نفس البلوغ يكون فيه الموضوعية ، كما في صدق العادل يكون لسانه فرض قول العادل هو الواقع ثم العمل على وفقه ، وليس في أخبار من بلغ كذلك ، بل نصرف البلوغ والعمل على وفق ما بلغ ويترتب الثواب ، وأنّ الثواب يكون على صرف رجاء العبد وتوجّهه نحو جنابه جلّ شأنه ، فالله تعالى لا يحرمه ويعطيه ما يرجوه ولو لم يكن واقعا لما بلغ ، ولا يلزم فرض كون ما بلغ هو الواقع ، بل مع عدم كون ما بلغ واقعا يترتب الثواب ، فهذا شاهد على أنّ نفس البلوغ أيضا موضوع كأحد الموضوعات وليس طريقا ، فتدبّر.

الاحتمال الثاني : وهو أن تكون أخبار من بلغ أخبارا عن أمر آخر ولم تكن مرتبطة أصلا باستحباب العمل ، بل يكون في مقام الإخبار عن من بلغه ثواب فصار في مقام الإطاعة والانقياد ولم يكن واقع ، كما بلغه فيعطي الله ثواب البالغ اليه ، لأنّه كان في مقام الانقياد ، لأنّ من أحد مراتب الإطاعة وإتيان العمل لله هو أن يفعل الفعل رجاء للثواب ، وكذلك من مراتبه الخوف من العذاب ، وعلى هذا فأخبار من بلغ تكون ناظرة الى أنّ الانقياد والإطاعة موجبان للثواب ولسان الأخبار هو الإخبار عن ذلك.

والشاهد على ذلك : هو ما ورد في بعض أخباره «فعمله التماس ذلك الثواب ، أو التماس ذلك الخبر» ، فكأنّ المعنى ـ والله أعلم ـ أنّ تحريك العبد نحو العمل بمجرد بلوغ شيء انقيادا يوجب الثواب ، وعليه فإنّ هذه الأخبار تدلّ على الثواب على الانقياد وتفضّل الله تعالى على العبد المنقاد ، والثواب على الانقياد غير مرتبط بصيرورة العمل عبادة ، فافهم.

الاحتمال الثالث : وهو أن يكون لسان هذه الأخبار كلسان «من سرّح لحيته فله الثواب الكذائي» ، غاية الأمر كان هذا المثال في مورد خاصّ وتكون أخبار من

٢٣٦

بلغ عامة وتشمل جميع الموارد ، وكأنّ المعنى : أنّ من بلغه شيء فعمل به التماس ذلك الثواب كان له الثواب الذي رجاه ، فعلى هذا الاحتمال يصير العمل مستحبا ، إلّا أن هذه الأخبار ساكتة عن كيفية عبادية العمل وتوصليّته ، بل تكون عبادية العمل وتوصليّته تابعة لنوع الأمر الذي تعلّق به ، فلو كان أمره تعبديا فيصير العمل عباديا ، ولو كان خبره الآمر به ضعيفا بحكم أخبار من بلغ ، ولو كان أمره توصليا فيكون العمل توصليا ، وتكون نتيجة أخبار من بلغ هي أنه لو لم تكن أخبار من بلغ لا يكون الخبر الضعيف الدالّ على الاستحباب حجة ، فببركة أخبار من بلغ صار حجة وصار كخبر الحجة ، فافهم.

الاحتمال الرابع : وهو أن لا تكون أخبار من بلغ ناظرة الى استحباب العمل وعباديته ولا الى أصل الثواب ، بل تكون في مقام تقدير الثواب ، وأنّ من بلغه ثواب محدود على عمل فعمله التماس ذلك الثواب المعهود فكان له ذلك ، مثلا لو قام خبر ضعيف على أنّ من صلّى صلاة الليل فله أربعة قصور في الجنة فتكون أخبار من بلغ ناظرة الى أنّ من عمل بذلك التماس ذلك الثواب المعهود ـ أعني أربعة قصور في الجنة ـ فله ذلك ، ولا تكون أخبار من بلغ على هذا مرتبطة باستحباب العمل أو أصل الثواب ، بل لا بدّ أن يستفاد ذلك من الخارج.

وكما ذكرنا في المثال المتقدم يكون استحباب صلاة الليل وأصل الثواب عليه معلوما في الخارج ، لكن ثوابه المحدود وهو أربعة قصور في الجنة ليس معلوما ، فلسان أخبار من بلغ هو اعطاء ذلك الحدّ من الثواب اذا صلّى صلاة الليل ، فالمستفاد من أخبار من بلغ ليس إلّا اعطاء الثواب المحدود على العمل ، وأمّا على استحباب العمل أو عباديته أو أصل الثواب عليه فلا يستفاد منها أصلا.

اذا عرفت احتمالات المقدمة في هذه الأخبار ففي مقام الاستظهار بأيّ من هذه الاحتمالات نقول ونلتزم؟

٢٣٧

فنقول بعون الله تعالى : أمّا الاحتمال الأول فلا يمكن الالتزام به ؛ لأنّ لسان أخبار من بلغ ليس الطريقيّة ، بل المستفاد منها هو موضوعية ذات البلوغ ، ولا يكون خلاف الواقع.

وأمّا الاحتمال الثالث يعني استحباب العمل فغاية الأمر تارة يكون العمل مستحبا في حدّ ذاته ، واخرى يكون مستحبا لبعض الطوارئ ، ففي المقام يكون البلوغ سببا لصيرورة العمل مستحبا ، وهذا الاحتمال هو ما قال به المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وكان منشأ توهّمه هو ما ورد في بعض أخبار من بلغ من استناد الثواب على العمل ، فأيضا لا يمكن الالتزام بما قاله هذا المحقق :

أمّا أولا فلأنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله قال صريحا في مسألة التجرّي : إنّ الثواب والعقاب حتى في الإطاعة والمعصية الحقيقية مترتب على العزم ، كما يكون الأمر كذلك في الانقياد والتجري ، ولا يكونان مترتبين على العمل أصلا حتى في الإطاعة والمعصية الحقيقية ، فمن التزم بذلك في باب القطع في التجري فكيف يقول في المقام بأنّه حيث في صحيحة هشام بن سالم رتّب الثواب على العمل؟ فنفهم بأنّ العمل يكون مستحبا ، لأنّه ولو رتّب الثواب على العمل إلّا أنّه مع ذلك على مبناه يكون الثواب مترتبا على العزم ، فبعد ما كان كذلك فمن أين يستظهر استحباب العمل؟ لأنّ صرف العزم موجب للثواب ، فيمكن أن لا يكون العمل مستحبا أصلا ومع ذلك كان الثواب عليه لأجل انقياده وعزمه على الإطاعة.

وأمّا ثانيا فلأنّه في بعض أخباره لا يستند الثواب الى العمل ، بل في بعضها صرّح بأنه «فعمل بها» ، والضمير راجع الى ما بلغ ، ولا يكون راجعا الى العمل.

وأمّا ثالثا فبأنّه ولو سلّم أن يكون الاستناد الى العمل لكنّه مع ذلك يمكن أن يكون ترتّب الثواب على العمل تارة لأجل كون نفس العمل مستحبا وفيه الثواب ، واخرى يكون لأجل أنّ بهذا العمل حصلت الإطاعة والانقياد ، فالثواب ولو كان

٢٣٨

بالعمل إلّا أنّه لا من حيث ذاته بل لأجل عنوان آخر وهو الانقياد ، فلو كانت الروايات ناظرة الى الجهة الاولى وأنّ الثواب على ذات العمل لا لأجل خصوصية طارئة عليه يكون العمل مستحبا ، وأمّا لو كانت أخبار من بلغ متعرّضة للجهة الثانية يعني أنّ الثواب يكون مترتبا على العمل لمقارنته مع الانقياد بمعنى أنّ الثواب يكون على الانقياد فلا يكون العمل مستحبا ، ومن أين استظهر بأن أخبار من بلغ متعرّضة للجهة الاولى؟

وإنّا وإن لم نقل بأنّ الأخبار متعرّضة للجهة الثانية ، وتكون في مقام بيان نفس الرجاء ، والانقياد موجب للثواب ، ويكون لسانها لسان أخبار الاحتياط ، ويكون الثواب على الانقياد ، ولكن ما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّه لم يستفد من الأخبار أن يكون العمل بداعي الرجاء والانقياد وبما هو احتياط ، والحال أنّه في الاحتياط لا بدّ من العنوان ، وأن يكون إتيان العمل بداعي وبعنوان الاحتياط لا وجه له ؛ لأنّه من أين يلزم ذلك ولم يلزم العنوان في الاحتياط؟ فلا أقلّ من أنّه تتردّد الأخبار بين الاحتمالين المتقدمين.

وأيضا لا يمكن القول باستحباب العمل ، لأنّه من المحتمل أن يكون الثواب على انقياده وكونه بصدد الإطاعة ، فلا يمكن الالتزام بالاحتمال الثالث الذي اختاره المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، فيدور الأمر بين الاحتمال الثاني وهو أن تكون الأخبار متعرّضة لحيث الثواب على الانقياد ، وبين الاحتمال الرابع وهو أن تكون أخبار من بلغ متعرضة لجهة تحديد الثواب ، وأنّ الثواب المحدود يعطيه وإن لم يكن لذلك الثواب المحدود واقع ، وبعد الدوران بين هذين الاحتمالين لا بدّ من اختيار الاحتمال الرابع ، حيث إنّ المستفاد من الأخبار هذا الاحتمال ؛ لأنّه ما من رواية واردة في الباب إلّا وكلمة الثواب أو الشيء أو الخير فيها يكون بلفظ النكرة كما في قوله : شيء من الثواب ، ففرض أصل الثواب ويكون الكلام في مقداره ، أو قال : شيء من الخير.

٢٣٩

فهذا شاهد على أنّ الروايات لا تكون متعرّضة لأصل الثواب أو استحباب العمل ، بل تكون الأخبار متعرّضة لحدّ الثواب ، لأنّ ما ورد في الخبر هو بلفظ النكرة ، وهذا شاهد على أنّ الكلام يكون في الخصوصية ، وقامت رواية ضعيفة على ثواب مخصوص ، فلو عمل التماس ذلك الثواب كان له ذلك الثواب المخصوص.

فعلى هذا لا يستفاد من أخبار من بلغ إلّا هذه الجهة ، يعني بيان حدّ الثواب ، وفيما قام خبر على حدّ من الثواب ، وبلغ حدّا من الثواب فعمله التماس ذلك الثواب المحدود كان له ذلك ، وأمّا استفادة أصل الثواب أو استحباب العمل فأخبار من بلغ لا تدلّ على ذلك أصلا ، فلا بدّ من استفادة أصل الثواب أو استحباب العمل بدليل من الخارج.

وقد تحصّل ممّا مر أنّ استحباب العمل لا يمكن استفادته من أخبار من بلغ ، ولكن مع ذلك يكون إتيان العمل رجاء مستحسنا ، وهذا معنى الاحتياط ، ولا إشكال في حكم العقل بحسنه ، وأيضا ترتّب على إتيانه الثواب ثواب الانقياد ، ولكنّ الثمرة والنتيجة تكون دائرة بين استفادة استحباب العمل من أخبار من بلغ وهو الاحتمال الثالث من الاحتمالات المتقدمة وإتيانه من باب أنّه مستحب ، وبين إتيان العمل رجاء واحتياطا.

وتظهر الثمرة في بعض الموارد :

منها : فيما ورد في خبر ضعيف على استحباب غسل ما استرسل من اللحية والتزمنا بكون ماء المسح من نداوة الوضوء ، سواء كان من أجزائه الواجبة أو المستحبة ، فإن قلنا باستحباب العمل بأخبار من بلغ فيصير غسل ما استرسل من اللحية مستحبا ببركة هذه الأخبار ، فيجوز المسح من نداوة ما استرسل من اللحية ، وإن لم نقل بذلك بل قلنا بحسن إتيانه رجاء فلا يجوز المسح من نداوة ما استرسل من اللحية ، لأنّه لا بدّ من أن يكون المسح من نداوة أجزاء الوضوء ، واجبة كانت أو

٢٤٠