المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

الطوسي رحمه‌الله ـ أعني النقل الثاني ـ فلا إشكال في عدم ورود هذا الإشكال لمّا كان في الرواية «ما لم يرد عليك فيها أمر أو نهي» ، وشرط الورود علينا ، وإن كانت الرواية كما ذكرها الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ أعني نقل الصدوق وهو النقل الأول ـ فتارة يقال بأنّ الرواية متعرّضة الى أنّ الأشياء تكون مطلقة قبل ورود النهي ، واخرى يقال بأنّ الرواية متعرّضة لبيان الحكم الفعلي للمكلف ، وأنّ الأشياء تكون فعلا مطلقة ما لم يرد النهي فيها.

والإنصاف أنّ الرواية تكون في مقام التعرّض للجهة الثانية ، وعلى هذا فالرواية دليل لما نحن فيه ، ويقع التعارض بينها وبين أخبار الاحتياط.

ومن الروايات المتمسّك بها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج في باب العدة ، واعلم : أنّ من تزوّج امرأة في العدّة فإن كان قد دخل بها كانت محرّمة عليه ، سواء كان عالما أو جاهلا ، وإن لم يدخل بها ، فإن كان عالما فأيضا محرّم عليه ، وإن كان جاهلا سواء كان بالحكم أو بالموضوع فلا يكون سببا للتحريم ، وبهذا وردت أخبار كثيرة منها هذه الصحيحة.

ولا يخفى عليك أنّه لا وجه للاستدلال لما نحن فيه بهذه الصحيحة ، إذ حال هذه الصحيحة حال الرواية المتقدمة سابقا الواردة في باب الحجّ ؛ لأنّ محلّ كلامنا في المقام هو أنّه هل تكون دليلا على رفع الحكم التكليفي المشكوك ، أم لا؟ وليس كلامنا في الحكم الوضعي.

فإذا نقول : هذه الرواية تكون في مقام بيان الحكم الوضعي ، وأنّ الحرمة الأبدية التي هي أثر التزويج في العدة لا تكون في مورد الجهل ، ولا إشكال في أنّ الحرمة الأبدية تكون حكما من الأحكام الوضعية ، وليست حكما تكليفيا ، فليست الرواية مربوطة بما نحن فيه أصلا.

نعم ، لو كانت الرواية في مقام بيان الحكم التكليفي وأنّ نفس الإيجاب والقبول

٢٠١

والعقد في العدة مع قطع النظر عن الحرمة الوضعية المرتفعة في حال الجهل يمكن أن يقال بأنّ الرواية شاهدة لما نحن فيه ، ولكن ليس الأمر كذلك.

وأوضح شاهد على أنّ الرواية لم تكن مربوطة بالمقام هو : أنّ لسانها عدم الحرمة الواقعية في مورد الجهل ، ولو في صورة كشف الخلاف وعلمه بالحال ، والحال أنّ المقام ليس كذلك ، بل البراءة لو قلنا بها تكون مفيدة في حال جهل المكلف ، وأمّا بعد علمه فلا إشكال في عدم المعذورية ، فافهم.

هذا كلّه حال الأخبار ، وأنّ بعضها لا يكون دليلا أصلا وبعضا كان لسانها هو ما يحكم العقل من بقبح العقاب بلا بيان ، وبعضها كان لسانها ما ينافي أخبار الاحتياط وكان بينهما التعارض بالتباين ، وأمّا خبر «كلّ شيء حلال ... الى آخره» فلم نتعرض له هنا ونتعرّضه ـ إن شاء الله ـ في الشبهة الموضوعية مع ما فيه من الكلام.

الدليل الثالث : من الأدلة التي تمسّكوا بها للبراءة في محلّ النزاع هو الإجماع. ولا يخفى عليك أنّ البحث فيه غير مفيد ، بل نقول إجمالا : إنّه لو حصل لأحد من هذه الإجماعات المنقولة في الباب وكلمات العلماء القطع بقول المعصوم عليه‌السلام ، أو القطع بدليل معتبر فيكون قطعه حجّة له ، وإلّا فلا.

الدليل الرابع : هو حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ولا يخفى عليك أنّ هذه القاعدة مسلّم بها ولا ينكرها أحد ، كما أنّ حكم العقل بدفع الضرر المحتمل أيضا مسلّم ، وما يكون مورد الكلام في المقام هو : أنّ ما يظهر في بادئ النظر هو جريان كلا القاعدتين في المقام ، ولكنّ دقيق النظر يشهد بأنّ المورد هو جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّه لا إشكال في أنّ كل حكم تنجيزيّ مقدّم على الحكم التعليقي ، فعلى هذا نقول بأنّه في المورد لا بد للأحكام من بيان للشارع ووصوله الى العبد ، فلا بد للشارع من البيان ، ولا بدّ للعبد من الفحص حتى يظفر به ، فاذا تفحّص ولم

٢٠٢

يظفر بالحكم فلا يمكن عقابه ؛ لأنّه ولو أنّ الشارع عمل بوظيفته وبيّن الحكم لكن لم يصل الى العبد ، والعبد تفحّص ولم يظفر به ، فمع ذلك يكون عقابه عقابا بلا بيان ، والمؤاخذة عليه بلا برهان ، وليس للعبد إلّا الفحص.

نعم ، لو لم يتفحّص عن الحكم يكون مستحقّا للعقاب لو كان حكم ، وأمّا لو تفحّص ولم يظفر بالحكم فيكون عقابه قبيحا عقلا ، وهذا هو مضمون الخبر الشريف من أنّه في يوم القيامة يسأل عن العبد بأنّه «هلّا علمت» فإن قال : «ما علمت» قال : «هلّا تعلمت» ، فلو تفحّص ولم يظفر بالحكم لم يكن لله عليه حجّة ، وهذه القاعدة ممّا لا إشكال فيها ، وفي المورد ـ أعني محلّ الكلام ـ أيضا لا يكون جريانه مع قطع النظر عن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لمورد الإشكال.

فإذا كان كذلك فنقول : لا يمكن جريان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل في المقام حتى يقال بأنّه بيان ، وبعد البيان لا يكون العقاب قبيحا ، لأنّ مورد قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وموضوعه يكون هو الاحتمال ، بمعنى أنّه لو كان احتمال الضرر يجب دفعه واحتمال الضرر ليس في المقام إلّا إذا كان بيان ، وإلّا لو لم يكن بيان فلا إشكال في قبح العقاب ، والمفروض أنّ ما يتوهّم أن يكون بيانا ليس إلّا قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، والمفروض أنّ موضوع تلك القاعدة هو الاحتمال ، والمفروض أنّ الاحتمال لا يكون إلّا بعد البيان ، فيلزم الدور وتوقّف الشيء على نفسه ؛ لأنّ الحكم موقوف على الموضوع ، والموضوع لا يكون إلّا بعد الحكم ، ففي ما نحن فيه يكون الحكم ـ أعني وجوب دفع الضرر ـ موقوفا على موضوعه وهو الاحتمال ، والموضوع وهو الاحتمال لا يكون إلّا بعد الحكم ؛ لأنّه ما لم يكن بيان يكون العقاب قبيحا ، والبيان لا يكون في الفرض إلّا وجوب دفع الضرر المحتمل ، ووجوب دفع الضرر لا يكون إلّا مع الاحتمال ، والاحتمال لا يكون إلّا مع وجوب دفع الضرر ؛ لأنّه لا احتمال إلّا مع البيان ، ولا بيان على الفرض إلّا بهذه القاعدة ،

٢٠٣

وهذا دور واضح ، فلا يمكن جريان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل في المقام ، وهذا واضح ولا حاجة الى التطويل والبسط أزيد ممّا قلنا.

ثمّ إنّ في المقام كلاما للشيخ الأنصاري رحمه‌الله وقد استشكل عليه ، وتوهّمنا سابقا أنّ كلام الشيخ غير صحيح ، ولكن نعلم فعلا بأنّ كلامه جيّد ، وما قاله بعض وما قلنا سابقا إشكالا على كلامه كان في غير محله.

قال الشيخ رحمه‌الله : (ودعوى أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقليّ فلا يقبح بعده المؤاخذة مدفوعة : بأنّ الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنّما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمّت عوقب على مخالفتها ، وإن لم يكن تكليف في الواقع لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكور ... الى آخره).

وقد اورد عليه : بأنّه بعد كون ذلك كأوامر الاحتياط إرشاديا فلا يكون العقاب أو الثواب إلّا على مخالفة الواقع المجهول أو موافقته ، ولكن قلنا بأنّ هذا الإشكال ليس بوارد ، لأنّه كما قال الشيخ رحمه‌الله في بعض المواضع : إنّه يمكن أن يكون نفس الظنّ موضوعا للثواب أو العقاب ، كذلك يمكن أن نقول في المقام بأنّ نفس الاحتمال موجب للعقاب أو الثواب ، كما أنّه يمكن أن يقال بذلك في الأحكام الظاهرية على القول بكون المصلحة في نفسها ، لا كونها طريقيا صرفا.

ولكن مع ذلك قلنا بأنّه يرد عليه إشكال آخر ، وهو : أنّ لازم ما قاله هو : أنّه كما هو معترف بأنّ أوامر الاحتياط تكون بيانا للواقع المجهول كذلك هذا أيضا بيان ، ولو كان قاعدة ظاهرية فلازمه تقدّمها على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ولكن لا بدّ لنا من الاعتراف بجهلنا ، وأنّ كلام الشيخ رحمه‌الله صحيح ، ولا يرد عليه ، لا ما اورد ، ولا ما أوردنا ؛ لأنّ مراد الشيخ رحمه‌الله هو : أنّ ما تحكم به قاعدة

٢٠٤

وجوب دفع الضرر المحتمل هو دفع الضرر ، أعني العقاب في مورد الاحتمال ، فما كان حكم العقل هو دفع العقاب في مورد الاحتمال.

وبعبارة اخرى : بكلّ جهة يكون الاحتمال فهو يكون له بيانا ، وأنّ الاحتمال على تقدير موضوعيته يكون بيانا لكلّ جهة تعلّق به الاحتمال ، والاحتمال تعلق بالضرر ، والضرر في محلّ الكلام يكون هو العقاب ، فعلى هذا تعلّق الاحتمال بالعقاب ، فلو كان الاحتمال بيانا يكون بيانا للعقاب ، لا أن يكون بيانا للواقع المجهول ، والواقع المجهول ولو كان ملازما مع العقاب لكن ما يكون بيانا للعقاب لا يكون بيانا للواقع المجهول ، لأنّ هذا لازمه ، ولا يثبت به اللازم ؛ لأنّ الأصل لا يكون كافيا في إثبات لوازمه ، كما ترى في باب الاستصحاب ، وأنّه لو فرضنا أنّه يمكن استصحاب العقاب فلو كان سابقا عقاب متيقّن ونستصحبه في زمان الثاني فإنّه لا اشكال في عدم إثبات الحرمة بمجرد استصحاب العقاب ، والشيخ رحمه‌الله في هذا المقام كان نظره الى ما قلنا.

فعلى هذا على تقدير ثبوت القاعدة تكون قاعدة كلّية ظاهرية ولا تكون مربوطة بالواقع المجهول ، بل على تقدير احتمال العقاب وجريان القاعدة يجب دفع العقاب بمقتضى حكم العقل ، سواء كان في مورده الواقع أو لا ، فلو فرضنا أنّه لم يكن واقع في البين ولكن مع ذلك لو خالف الاحتمال يقع في العقاب ، وهذا شاهد على عدم مدخليته بواقع المجهول ، وعلى هذا لا يرد ما أورده بعض كالمحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّه لا بدّ وأن يكون إرشاديا ؛ لأنّه كما قلنا يكون الاحتمال منجّزا للعقاب ، لا للواقع المجهول حتى يكون إرشاديا.

ولا ما أوردناه عليه من أنّه يكون مع ذلك بيانا للواقع المجهول كما تكون أوامر الاحتياط بيانا ؛ لأنّه لا يكون الاحتمال إلّا منجزا للعقاب ، وهذا غير مربوط بالواقع المجهول.

٢٠٥

فعلى هذا بعد كون الاحتمال منجّزا للعقاب لا الواقع نقول : إنّه لم يكن بيان للواقع المجهول ، وقاعدة قبح العقاب من غير بيان تحكم بقبح العقاب من غير بيان ، وقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل على هذا تحكم بدفع العقاب ، سواء كان واقعا أم لا ، فلا يمكن التمسّك بها للمقام.

واعلم : أنّ المقام بعد عدم كونه موردا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فنقول بأنّ مورد هذه القاعدة هو فيما ثبت الحكم وورد البيان عليه ، ولكن صار مردّدا بين الشيئين أو الأشياء ، كما أنّك تعلم بأنّ الخمر نجس ولكن لا تدري أنّ الخمر في هذا الإناء أو في هذا الاناء ، فأنت تحتمل العقاب في ارتكاب كلّ من الإناءين ، والحال أنّ المحرّم أو النجس ليس إلّا واحدا منهما ، ولكنّ العقل يحكم بعدم ارتكاب كلّ منهما لأجل هذه القاعدة. هذا كلّه لو كان المراد من الضرر هو العقاب.

وأمّا لو كان المراد من الضرر هو غير العقاب ، أعني الضرر الديني مثل البعد عن ساحة المولى ، فلو كان كذلك لا ريب في عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأنّ هذه القاعدة تحكم بعدم العقاب مع عدم البيان ، وأمّا المفاسد الأخر التي لا فرق في ترتّبها ـ كالبعد عن المولى ـ بين العلم والجهل فلا يمكن رفعها بهذه القاعدة.

فقال الشيخ رحمه‌الله في هذا المقام : إنّ الشبهة من هذه الجهة تكون موضوعية ، وفي الشبهات الموضوعية يكون الأصل الجاري هو البراءة باتفاق المجتهدين والأخباريّين ، والأخباريّون قائلون بالبراءة في الشبهات الموضوعية.

واستشكل عليه رحمه‌الله أوّلا : بأنّه لا تكون الشبهة موضوعية ، وليس الملاك في كون الشبهة موضوعية صرف كون الشّك راجعا الى الموضوع ، بل الملاك هو كون منشأ الشكّ الى الامور الخارجية ، كما لو أنّك تعلم بحرمة الخمر ولكن لا تدري بأنّ هل هذا خمر أو لا؟ ولا بدّ أن لا تكون وظيفة الشارع بيانه ، كما ترى في هذا المثال بأنّ للشارع بيان حرمة الخمر ، وأمّا هذا خمر أو لا فليس وظيفته بيان ذلك ، وأما في

٢٠٦

المقام فليس كذلك ، بل يكون للشارع بيان المصالح والمفاسد ، فعلى هذا ليست الشبهة موضوعية.

وثانيا : أنّ ما قلت من أنّ الأخباريّين أيضا معترفون بالبراءة في الشبهات الموضوعية أول الكلام فهم لا يقولون في الشبهات الموضوعية مطلقا بالبراءة ، بل في كلّ مورد يقولون بالدليل مثل «كلّ شيء لك حلال».

ولكن نقول بأنّ تعبير الشيخ رحمه‌الله بأنّ (الشبهة من هذه الجهة موضوعية) صار سببا لتوهّم فساد كلامه ، وعلى هذا نقول بأنّه حيث إنّ هذا الكلام جار في الشبهات الموضوعية ؛ لأنّه يحتمل أن يكون في ارتكابها مفسدة ، كالبعد عن المولى ، والأخباريون أيضا قائلون بالبراءة ولو في بعض الشبهات الموضوعية ، فكلّ ما يقولون في هذا البعض نقول نحن في محلّ الكلام ، فافهم.

وأمّا لو كان المراد من الضرر هو الضرر الدنيوي فهو غير واجب الدفع ، كما ترى أنّ العقلاء يقدمون عليه في بعض الموارد ، فحكم العقل بوجوب دفع الضرر الدنيوي ممنوع.

فظهر لك ممّا قلنا : أنّ بعض الآيات والأخبار لا يدلّ على البراءة ، وبعض الآيات والأخبار يدلّ على البراءة ، وكان مدلوله هو ما حكم به العقل من قبح العقاب من غير بيان ، وبعض الأخبار يدلّ على الترخيص ، فالآيات والأخبار وحكم العقل الدالة على قبح العقاب من غير بيان ليست قابلة للمعارضة مع أدلة الاحتياط لو ثبتت ، لأنّ مورد هذه الآيات والأخبار وحكم العقل هو صورة عدم ورود البيان ، وأدلة الاحتياط على تقدير تماميتها تكون بيانا ، وأمّا الرواية الدالة على الترخيص لا صرف مدلول حكم العقل فقط فتقع المعارضة بينها وبين أدلة الاحتياط على تقدير تماميتها ، فعلى هذا نذكر أدلة الاحتياط ، فلو لم تكن شاهدة على وجوب الاحتياط فتكون أدلة البراءة سليمة عن المعارض ، ولو تمّت أدلة

٢٠٧

الاحتياط فتقع المعارضة بينها وبين ما كانت دالة على الترخيص ، فلا بدّ من معاملة التعارض بينها ، فلنشرع في ذكر أدلة الاحتياط بعون الله تعالى.

فنقول : استدلّوا على وجوب الاحتياط فيما نحن فيه بالأدلّة الثلاثة :

الدليل الأول : الكتاب ، فإنّه ورد فيه بعض الآيات الدالة على عدم الوقوف في ما ليس فيه علم ، وعدم الإفتاء بغير علم ، وفيما نحن فيه يكون القول بالإباحة قول بغير علم ، وأيضا ما يدلّ على الاحتياط والورع والاتّقاء.

وفيه : أنّه أمّا بعض من لا يقول ولا يفتي لا بالحرمة ولا بالإباحة ولا يفتي أصلا ، بل يعامل مع المشتبه معاملة الإباحة فهو لا يفتي بغير علم ، وأمّا عمله فيكون لأجل حكم العقل وبعض الآيات والأخبار.

وأمّا من يفتي بالإباحة فهو أيضا لا يكون عن غير علم ، إذ بعد ما أثبت وجوب اتّباع حكم العقل فهو يفتي بمقتضى حكم العقل ، ومع قطع النظر عن ذلك يفتي بمقتضى بعض الآيات والأخبار ، فلا يكون بغير علم.

وأمّا ما يدلّ على الورع والتقوى فلا يخفى عليك أنّ للفتوى مراتب ، وليس بتمام مراتبها واجبة ، ولا يكون الاتّقاء عن محتمل الحرمة واجبا ، وليس هذا من بعض مراتبه الواجبة.

الدليل الثاني : بعض الأخبار ، وهو أيضا طوائف :

فطائفة منها تدلّ على ما يستفاد من الآيات التي استدلّوا بها ، أعني تدلّ على عدم الوقوف على غير علم ، أو عدم الإفتاء بغير علم ، والجواب عن هذه الطائفة هو عين الجواب عن الآيات التي تمسّكوا بها ، أعني دليلهم الأول.

وطائفة منها تدلّ على الوقوف عند الشبهة ، معلّلا بأنّ الوقوف خير من الاقتحام في الهلكة ، وهذه الطائفة على اختلاف مضامينها تكون كثيرة بحيث لعلّها تكون متواترة ، ولكن لا يمكن الاستدلال بها للاحتياط في المقام ، حيث إنّه غاية ما

٢٠٨

تدلّ عليه هذه الأخبار على اختلاف مضامينها هو التوقّف عند الشبهة ؛ لعدم الوقوع في التهلكة ، ومن الواضح أنّه لا بدّ وأن يكون من الخارج الهلكة مفروضة حتى يجب الوقوف عندها ، ولا يمكن إثبات الهلاك بهذه الروايات ؛ لأنّ الحكم لا يكون موجدا لموضوعه ، بل لا بدّ وأن يكون الموضوع موجودا قبل الحكم حتى يعرضه الحكم.

فعلى هذا كلّ مورد يكون فيه الهلاك وثبت من أن فيه الهلاك يجب عنده الوقوف بمقتضى هذه الأخبار ، وأمّا فيما لا يثبت ذلك فلا يجب الوقوف ، وفيما نحن فيه من أين يثبت الهلاك حتى نلتزم بوجوب الوقوف فيه؟ ولا يخفى عليك أنّ الوقوف يكون باعتبار الهلكة ، والهلكة تكون مواردها مختلفة ، فلا بدّ وأن يكون الوقوف عندها أيضا مختلف.

ففي بعض المقامات يكون عدم الوقوف موجبا للكفر ، مثل عدم الوقوف والقول بغير علم في اصول الدين ، كما يظهر من رواية زرارة. وفي بعض المقامات لا يكون كفرا ، بل يكون واجبا ، وفي بعض المقامات يكون مستحبّا مثل قوله عليه‌السلام : «أورع الناس من وقف عند الشبهة» ، فلا إشكال في عدم وجوبه ، فعلى هذا لا بدّ وأن يكون الوقوف دائرا مدار الهلكة ، ففي كلّ مورد تثبت الهلكة يكون الوقوف ، وبعد ثبوت ذلك أيضا تارة يكون واجبا ، وتارة يكون مستحبا.

فعلى هذا لا يمكن التمسّك بهذه الأخبار لوجوب الاحتياط ؛ لأنّه يلزم إثبات الموضوع ، أعني التهلكة من الخارج ، ثمّ بعد ذلك أيضا بعد كون الهلكة مختلفة فيكون الوقوف أيضا مختلفا ، وفي المقام على تقدير إثبات الهلكة من الخارج لا يكون الوقوف واجبا ، فافهم.

وطائفة هنا لا تدلّ على الاحتياط ، وهذه الطائفة أيضا فيها روايتان واردتان في مورد خاصّ ، وروايات مطلقة.

أمّا الروايتان الواردتان في مورد خاصّ فهما :

٢٠٩

الاولى : صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال : بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد ، فقلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ قال : إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم الاحتياط حتى تسألوا وتعلموا».

وفيه : أنّ ظاهر الرواية هو : أنّه اذا لم تعلموا حكم شيء فلا تقولوا فيه شيئا بغير علم ، بل عليكم بالاحتياط ؛ لأنّ السائل بعد ما قال : «إنّ بعض ...» قال عليه‌السلام : «فعليكم الاحتياط» ، لا أن يكون الأمر بالاحتياط راجعا الى مسألة الصيد ، ومع قطع النظر عن ذلك وتسليم أنّ الأمر بالاحتياط يكون راجعا الى الصيد ونظائره ، فتارة يقال بأنّ الشبهة تكون في التكليف ، بمعنى أن وجوب نصف الجزاء يكون في حقّ كلّ واحد منهما متيقّنا ، ويكون الشك في وجوب الزائد من النصف ، فيكون الشكّ بين الأقلّ والأكثر ، ولا إشكال في البراءة عن الزائد في الشكّ بين الأقلّ والأكثر بالاتفاق. وتارة يقال بأنّ المورد يكون من قبيل الشكّ في المكلف به ، وأنّ تكليفا ثبت ويكون الشكّ في متعلق التكليف ، فهو غير مربوط بما نحن فيه أصلا ؛ لأنّ الكلام في الشبهة الحكمية التحريمية ، وهو يكون في التكليف ، لا متعلّق التكليف حتى يمكن الاستدلال لوجوب الاحتياط بهذه الرواية.

الثانية : موثّقة عبد الله بن وضّاح على الأقوى ، قال : كتبت الى العبد الصالح : يتوارى عنّا القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا ، وتستر عنّا الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذّن عندنا المؤذّنون ، فاصلّي معهم وأفطر إن كنت صائما ، أو انتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب عليه‌السلام : «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك».

وفيه : أنّ هذه الرواية إمّا أن يكون مورد سؤال السائل فيها هو الشبهة

٢١٠

الموضوعية ، ففي الشبهة الموضوعية لا يجب الاحتياط باتّفاق الأخباريين ، فلا بدّ من حمل الاحتياط فيها على الاستحباب.

وإمّا أن يكون موردها الشبهة الحكمية ؛ فحيث يكون الشبهة الوجوبية فأيضا بعد ما لا يجب فيها الاحتياط وبالاتّفاق فلا بدّ من حملها على الاستحباب.

ومع قطع النظر عن ذلك لا يخفى عليك أنّ العامة تلتزم بأنّ وقت المغرب يدخل بمجرّد غروب الشمس ، وفي طرقنا تكون الأخبار مختلفة فبعضها يدل على أنّ بعد غروب الشمس يدخل وقت المغرب ، وبعضها يدل على أنّ العبرة بذهاب الحمرة ، وحملوا الأخبار الدالة على أنّ وقت المغرب يدخل بمجرد استتار القرص على التقية ، ففي هذه الرواية أيضا بيّن المعصوم عليه‌السلام الحكم الواقعي بلسان التقية ، حيث قال : «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة» ، فبيّن حكم الله الواقعي ، ثمّ لأجل التقية قال : «وتأخذ بالحائطة لدينك».

وأيضا لو سلّمنا أنّ الرواية واردة في المورد لكن مع ذلك لم نقل بالبراءة ، وفيما نحن فيه نقول بجريانها مع عدم الاستصحاب في موردها ، وهذا مورد الاستصحاب ، وهو استصحاب اليوم ، واستصحاب عدم دخول الوقت فلا تجري البراءة ، فظهر لك فساد الاستدلال بالرواية لوجوب الاحتياط فيما نحن فيه.

أمّا الأخبار المطلقة الدالة على الاحتياط فهي مع كثرتها لا يمكن الاستدلال بها :

أمّا أولا فلأنّه يلزم تخصيص الأكثر ، حيث إنّه خرج بالاتّفاق عن عموم أدلة الاحتياط الشبهة الموضوعية والشبهة الوجوبية ، وحمل أخبار الاحتياط على الاستحباب أولى من ارتكاب ذلك.

وأمّا ثانيا فلأنّه يدور الأمر بين ظهور العامّ في العموم وظهور الأمر في الوجوب ، ولا يمكن الأخذ بكلا الظهورين.

٢١١

فلو لم نقل بالأخذ بظهور العام في عمومه وحمل الأمر على الاستحباب حتى كان لازمه هو استحباب الاحتياط في كل الموارد حتى في الشبهة الموضوعية فلا أقلّ من الترديد والإجمال ، ولا ترجيح لظهور الأمر في الوجوب ، فعلى هذا لا يثبت وجوب الاحتياط.

وطائفة من الأخبار هي أخبار التثليث ، مثل قوله : «إنّما الامور ثلاثة ... الى آخره» ، وهذه الأخبار أيضا لا تكفي لإثبات الاحتياط وعدم جريان البراءة في المقام.

أمّا ما ورد منها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمكن حملها على صورة إمكان الفحص ، ولا إشكال في عدم جريان البراءة مع التمكّن والقدرة على الفحص عن الحكم ، وأمّا غيرها فعلى تسليم دلالتها معارضة مع ما قلنا من الأخبار الدالة على البراءة ، وعدم ايجاب التوقف والاحتياط ، فلا بدّ من حمل أمرها على الاستحباب ، كما هو البناء في كلّ من الخبرين الدالّ أحدهما على وجوب شيء والأخر على عدمه.

وإن أبيت عن ذلك أيضا فيقع بينهما التعارض ، واذا تعارضا تساقطا فنحكم بالبراءة أيضا بمقتضى حكم العقل. هذا كله مع ما في هذه الأخبار من الخدشة ، مثل أنّه يلزم تخصيص الأكثر ، أو دوران الأمر بين حفظ ظهور العامّ في عمومه وبين حفظ ظهور الأمر في الوجوب ، ولا يكون ظهور الأمر حفظه ألزم من ظهور العام ، فظهر لك أنّ الأخبار مع كثرتها لا تكون طائفة منها ولا واحدة منها دالّة على وجوب الاحتياط فيما نحن فيه.

الدليل الثالث الذي أقاموه على وجوب الاحتياط هو دليل العقل ، وهو على وجهين :

الوجه الأول : هو أنه نعلم إجمالا بأحكام في الدين ، ولا بدّ من العمل بما يكون طرفا للعلم الإجمالي فيجب الاحتياط في المشتبهات ، ولا يخفى عليك أنّه لا إشكال

٢١٢

في العلم الإجمالي بأحكام الشريعة ، كما لا اشكال في وجود أحكام في مؤدّى الطرق والأمارات ، وكما لا اشكال في أنّه في كلّ ما يكون علم إجمالي ثمّ علم تفصيلا ببعض ينحلّ العلم الإجمالي الأول وينطبق على المعلوم التفصيلي ، وكذلك لو حصل علم إجمالي آخر بعد العلم الإجمالي الأول ويكون دائرته أضيق من العلم الإجمالي الأول فأيضا ينحلّ العلم الإجمالي الأول وينطبق على العلم الإجمالي الثاني ، مثلا لو علم بكون الخمر في أحد من عشرة أوان ، ثمّ علم إجمالا بكون الخمر في أحد من خمسة أوان من هذه الأواني العشرة فيحمل العلم الإجمالي الأول على الثاني وينطبق عليه ، ولازمه الاحتياط في خصوص أطراف العلم الإجمالي الثاني ، وهذه الكبريات الثلاث لا إشكال فيها ، إنّما الإشكال في المقام من جهتين :

الجهة الاولى : أنّه بعد العلم الإجمالي بتكاليف الشريعة يجب بمقتضى هذا العلم الإجمالي الاحتياط في أطرافه ، ولكن نعلم أيضا بوجود واجبات ومحرّمات ، أعني تكاليف في مؤدّيات الطرق والأمارات ، ويكون الإشكال في أنّه هل تكون المعلومات في الطرق والأمارات بمقدار العلم الإجمالي الأول حتى ينحلّ العلم الإجمالي الأول الى علم تفصيليّ أم لا؟ مثلا نعلم بثبوت ألف حكم في الدين إجمالا ، ونعلم أيضا بأحكام في مؤدّيات الطرق والأمارات ، لكن يكون الإشكال في أنّ مقدار معلوم الثاني يعني ما يكون في الطرق والأمارات هل يكون بمقدار معلوم الاول ، أم لا؟ فإن كان الإشكال في هذه الجهة فنقول : إنّه لا إشكال بأنّا نعلم بأحكام في مؤدّيات الطرق والأمارات بمقدار معلوم الأول ، فنعلم مثلا بألف حكم في مؤدّيات الطرق والأمارات ، فينحلّ العلم الإجمالي الأول بلا ترديد ، فتدبر.

الجهة الثانية : وهي التي تعرّض لها الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه : بأنّه ولو نعلم بأنّ كلّ مقدار نعلمه بالعلم الأول يكون في مؤدّيات الطرق والأمارات ، ولكن ما نعلمه أولا إجمالا هو أنّ في الشريعة تكون أحكام واقعية ، فنعلم إجمالا

٢١٣

بوجود أحكام واقعية في الشريعة ، فلو سلّمنا أنّ في مؤديات الطرق أيضا أحكام إلّا أنّه ما يوجب الطرق والأمارات هو حجية مؤدّاها ، بمعنى أنّه لو كان الواقع في مؤدّياتها لكان منجّزا ، ولا توجب كون الواقع منحصرا بمؤدّياتها ، فعلى هذا لو كان في مؤدّيات الطرق والأمارات أحكام فلا توجب انحلال العلم الإجمالي الى أحكام واقعية ، إذ يمكن أن لا يكون في مؤدّيات الطرق والأمارات أحكام واقعية.

وأجاب الشيخ رحمه‌الله عن الاشكال من هذه الجهة : بأنه ما يكون وظيفتنا هو العلم بالأحكام التي كانت في مؤديات الطرق والامارات ، فيكون غرضه أن لا تكون وظيفتنا اتباع الأحكام الواقعية ، بل ولو نعلم اجمالا بأحكام واقعية في الشريعة إلّا أنّه لا يكون علينا العمل بهذه الأحكام بل يجب علينا العمل بالأحكام الثابتة بالطرق والأمارات.

وقد استشكل عليه : بأن العقل مستقلّ بتنجيز التكاليف المعلومة بالإجمال ، فيجب الخروج عن عهدتها ، وصرف نصب الطريق لا يوجب إلّا البناء على أنّ مؤدّياتها هو الواقع ، لا أنّ العبد مكلف بالواقع بحسب ما أدّى اليه الطريق ، ولم يرد من الواقع إلّا ما أدى اليه الطريق.

ويمكن منع هذا الإشكال بأن يقال : ليس غرض الشيخ رحمه‌الله انحصار الواقع بما أدّى اليه الطرق والأمارات ، بل يكون مراده أنّ التكليف الفعلي لم يكن إلّا بالواقع الذي أدّى اليه الطريق أو الأمارة ، بمعنى أنّ التكليف لا يصير فعليا إلّا بعد قيام الطريق أو الأمارة عليه ، فيكون قيام الأمارة أو الطريق شرط لفعليته ، ولا مانع من ذلك ، كما قال بذلك المحقّق الخراساني رحمه‌الله في البراءة ، فعلى هذا لا ضير في أن يكون الحكم الواقعي تنجّزه مشروط بذلك.

فعلى هذا ولو نعلم إجمالا بأحكام واقعية إلّا أنّ صرف هذا العلم لا يوجب التنجيز ، فلو علم إجمالا بتكاليف إنشائية لا يجب العمل بها ، إذ لا ينجّز هذه

٢١٤

التكاليف إلّا بعد قيام الطرق عليها ، ولكن لا يخفى عليك أنّه مع ذلك لا يصحّ كلام الشيخ رحمه‌الله ، إذ لا إشكال في أنّ ذلك لا دخل له في فعلية التكليف ، بمعنى أنّه بالطريق والأمارة لا يصير الحكم فعليا ولو التزم بذلك الشيخ رحمه‌الله في بعض المقامات ، فافهم.

ولكن مع ذلك لا يخفى عليك أنّه ينحلّ العلم الإجمالي الأول بالثاني وينطبق عليه ، إذ واضح من أنّه ليس في البين لفظ الانحلال حتى يقال كيف ينحلّ العلم بالطريق والأمارة الظنية؟ بل ما يكون في البين هو : أنّه لو كان في مقابل العلم الإجمالي علم آخر كانت دائرته أضيق منه لصار العلم الإجمالي الأول منطبقا عليه ، والسرّ في ذلك هو : أنّه لو كان في البين معلوم ومشكوك فلازمه تنجيز المعلوم وعدم تنجيز المشكوك ، وكلّ مورد يكون كما نحن فيه يلزم ذلك ، إذ بعد العلم الثاني ما يكون منجّزا هو أطراف العلم الثاني ، وغير أطرافه ممّا كان في دائرة العلم الأول يصير مشكوكا ، إذ يحتمل أن يكون مورد الشبهة في أطراف العلم الثاني ، فالزائد من العلم الثاني مشكوك ، مثلا فيما نحن فيه بعد العلم بأحكام في مؤدّيات الطرق والأمارات ما يكون منجزا هو أطراف الطرق والأمارات ، فقهرا ينطبق العلم الإجمالي الأول على الثاني ، يعني نعلم بكون الأحكام في مؤدّيات الطرق والأمارات وغيرها تكون مشكوكة.

اذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الانحلال تارة يكون انحلالا حقيقيا ، كما علم إجمالا بكون أحد الإناءين خمرا ثمّ علم تفصيلا بكون أحد الإناءين خمرا فينحلّ العلم الإجمالي وينطبق على الثاني حقيقة. وتارة لا يكون الانحلال حقيقيّا ، بل يكون حكميا مثل ما نحن فيه ، ففي ما نحن فيه ولو لم ينحلّ العلم الإجمالي الأول حقيقة إلّا أنّه كما قلنا : ما يكون منجّزا هو أطراف العلم الإجمالي الثاني فيكون الانحلال حكميا ، فافهم.

الوجه الثاني : هو أنّ الأصل الأوليّ في الأشياء هو الحظر حتى يصل دليل

٢١٥

على الإباحة إمّا بالخصوص أو بالعموم ، كالشبهات الموضوعية ، فما لم يصل الدليل من قبل الشارع على الإباحة يكون مقتضى الأصل هو الحظر. واستدلّوا على ذلك بوجهين :

الأول : وهو الذي ذكره الشيخ رحمه‌الله أيضا هو : أنّ الإقدام على ما لا يؤمّن مفسدته كالإقدام على المقطوع مفسدته.

وفيه : أنّ هذا الوجه مدلوله ليس إلّا قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، غاية الأمر تغيّرت العبارة ، فعلى هذا نقول بأنّه قلنا سابقا : إنّه لا مجال لهذه القاعدة مع حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ، ولا يبقى مورد لهذه القاعدة.

الثاني : وهو أمتن من الوجه الأول ، وهو : أنّه لا يجوز التصرّف في متعلّق حقّ إلّا بإذن صاحبه ، وهذه الكبرى مسلّمة ، ومن المسلّم أنّ تمام الأشياء مخلوق الله تعالى ، وهو مالكها وفي يد قدرته أزمة امورها ، والعبد ملك لمولاه فلا يجوز له التصرف إلّا بإذنه لا في سائر الأشياء ، ولا في نفسه ، لأنّ نفسه أيضا ملك لله الأحد ، فعلى هذا لا يجوز للناس التصرف والتدخّل بصورة عامّة إلّا بإذن الله تعالى ، فالاتيان بالمشتبه وارتكابه لا يجوز ، لأنّه تصرف في ملكه بلا إذن منه ، فما لم يأذن الله تعالى لا يجوز تصرف أبدا.

وفيه : أمّا أوّلا فإنّه سلّمنا بأنّ الأشياء مخلوقة له تعالى ، وأنّها في ملكه وفي قبضته ولكنّ ما قلت من أنّه لا يجوز التصرف في الأشياء ليس في محلّه ؛ لأنّه بعد ما نعلم بأنّ بناء الله تعالى ـ كما هو اعتقاد العدلية ـ هو أن لا يأمر بشيء إلّا وأن يكون فيه المصلحة ، ولا ينهى عن شيء إلّا وفيه المفسدة ، فأمره ونهيه تابع للمصلحة والمفسدة ، ففي كلّ ما أمر يلزم الاتّباع لأنّ فيه الصلاح ، وعن كلّ ما نهى يجب الارتداع لأنّ فيه الفساد ، فليس ما قلت من عدم جواز التصرف مطلقا في محلّه.

وإن قلت : بأنه على ما قلت من أنّ أوامره ونواهيه تابع للمصلحة والمفسدة

٢١٦

ففي المشتبه لا ندري بأنه هل فيه المفسدة حتى نهى عنه أولا فلا يجوز الارتكاب؟

أقول : بأنه على ذلك ليس الاستدلال بهذا الوجه ، بل يرجع الى الوجه الأول وقلنا جوابه.

وأمّا ثانيا بأنّه لنا الدليل على الترخيص في الأشياء ولو كان كلّها ملكا لله تعالى ، مثل قوله عزّ من قال : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...) وغير ذلك ، فهذا الدليل لو تمّ يمكن الاستدلال به على الحظر قبل ورود الشرع ، وأما بعد ورود الشرع فلا ؛ لأنّ قبل ورود الشرع ليس للمكلّف دليل على الترخيص ، فبمقتضى هذا الاستدلال على تقدير تماميّته لا يجوز الارتكاب إلّا بعد الترخيص ، بخلافه بعد الشرع وبعثة النبي ، لأنّه لنا الدليل على الترخيص مثل ما قلنا ، أو ما قال عزّ من قائل : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وعليه فهذا الدليل لم يفد الحظر فيما نحن فيه.

وثالثا : مع قطع النظر عن كلّ ذلك لا يمكن التمسّك بهذا الدليل لما نحن فيه ، إذ هذا الدليل على تسليم تماميّته لا يدلّ إلّا على أنّ التصرف لا يجوز إلّا بالإذن ، فلو نعلم بعدم الإذن لا بدّ من الالتزام بعدم جواز التصرف ، وأمّا لو شككنا في أنّه هل أذن أم لا؟ فلا يمكن التمسّك بهذا الدليل والقول بعدم جواز التصرف ؛ لأنّ هذا الدليل لا يكون متكفّلا لحكم هذه الجهة ، لأنّه يكون شبهة مصداقية ولا يمكن التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، كما ترى في عموم «لا يحلّ مال امرى مسلم إلّا من طيب نفسه» ، فلو شككنا في أنّه في هذا المصداق هل يكون طيّب النفس أم لا؟ فلا يجوز التمسّك بعمومه لعدم جواز التصرف في هذا المصداق المشتبه ، بل لو قلنا بجواز التصرف أو عدمه في هذا المصداق نقول بدليل آخر لا بعموم «لا يحلّ ... الى آخره».

ففي المقام أيضا لا يمكن التمسّك بهذا الدليل ؛ لأنّ النزاع لا يكون فيما علم عدم

٢١٧

الإذن ، بل يحتمل أنّه قد أذن لنا ولم يبلغ الينا الإذن ، فالتمسّك بهذا الدليل في حكم ما نحن فيه والقول بالحظر يكون من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، وهذا واضح الفساد كما بيّنا في محلّه ، فعلى هذا لا بدّ في الفرد المشتبه التمسّك بدليل آخر ، وقلنا بأنّ مقتضى قاعدة قبح العقاب من غير بيان هو البراءة ، فتدبّر.

هذه أدلّة الأخباريّين على الاحتياط ، وظهر لك عدم تمامية أدلتهم ، وعدم إمكان التمسّك بها للاحتياط فيما نحن فيه ، والحقّ هو البراءة فيما نحن فيه ، فتأمّل جيّدا.

وينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل :

لا يخفى عليك أنّ منشأ رفع الحكم والاستناد الى رفعه تارة يكون هو قاعدة ظاهرية ، بمعنى أنّ الحكم بعدم حكم في الظاهر يكون منشؤه هو القاعدة الظاهرية.

وبعبارة اخرى : كما يكون صرف الشكّ في الحكم الواقعي موضوعا لرفع الحكم فالأمر كذلك في باب البراءة ، فإنّ صرف الشكّ في الحكم الواقعي موجب للبراءة ، ولا ينافي هذا الحكم الظاهري الحكم الواقعي في مورده ، ولكن كان المكلف جاهلا به. وتارة لا يكون كذلك ، بل يكون المنشأ هو رفع الحكم الواقعي ، وأنّ الجهة التي كان الاستناد اليها لازمها هو رفع الحكم الواقعي.

فهاتان الصورتان مختلفتان ، ففي الأولى لا ينافي الحكم الظاهري الحكم الواقعي ، وفي الثانية لا يكون حكم واقعي أصلا بمقتضى الدليل الذي كان مستندا اليه في رفع الحكم ، وفي هذه الصورة الثانية قلنا بالملازمة بين كون شيء في الواقع مع دليله ، فإن قلنا بأنّه لو كان شيء في الواقع ـ سواء أكان حكما أو غير حكم ـ يكون ملازما مع الدليل عليه ، فإن لم يكن دليل عليه نكشف بالملازمة عدم الشيء في

٢١٨

الواقع ، وهذه الملازمة موقوفة على بعض المقدمات بعد إثبات الملازمة ، وهي : أنّ يكون الشيء ممّا يكون بيانه لازما حتى يكون عدم الدليل على بيانه كاشفا عن عدمه ، وأيضا بعد ذلك لا بدّ بأن يكون الشيء عامّ البلوى بحيث يكون محلّ ابتلاء الأشخاص ، وأمّا لو لم يكن محلّ ابتلاء الأشخاص فيمكن أن لا يبيّنه ولو كان في الواقع ، وعدم الدليل على بيانه لا يكون كاشفا عن عدمه واقعا ، وأيضا بعد ذلك لا بدّ وأن يكون الشيء بحيث يكون عليه توافر الدواعي بحيث لو بيّن لبلغ الينا ، أمّا لو لم يكن كذلك فيمكن أن يكون قد بيّنه ولم يبلغ الينا ، فعدم الدليل عليه ليس كاشفا عن عدمه واقعا ، ففي كلّ مورد يكون الأمر كذلك سواء كان الشيء حكما أو غير حكم يكون عدم الدليل دليل العدم ، فاذا لم يكن دليل على حكم ويكون الحكم محلّ ابتلاء العامة وكان بحيث لو بيّن لبلغ الينا ، فلو لم يكن في الآثار والأخبار دليل عليه نكشف بسبب الملازمة التي تكون بين الحكم ودليله مع هذه المقدمات عن عدم الحكم واقعا.

فعلى هذا كلّ مورد يكون كذلك يكون عدم الدليل كاشفا عن عدم الحكم في الواقع ، بخلاف البراءة ، وهذا هو مراد القدماء من قولهم : عدم الدليل دليل العدم ، كما ترى كثيرا في كلمات صاحب المعالم رحمه‌الله ، وهذا غير البراءة فيما قلنا ، فمراد المحقّق أيضا يكون ذلك. وإن أبيت عن أن يكون مراده ما قلنا فمراد المتقدمين هو ما قلنا.

وبهذا يمكن توجيه كلام المحقق الذي نقله الشيخ رحمه‌الله في هذا المقام في التنبيه الأول في رسائله ولكن الشيخ رحمه‌الله قال بنحو آخر في توجيه كلامه.

وقال : إنّه لا إشكال في أنّ التكليف لو بلغ مرتبة الفعلية يلزم على الشرع البيان ، وإلّا لو لم يبيّن ومع ذلك كان فعليا بمعنى البعث والزجر مع جهل المكلف كان ذلك تكليفا بما لا يطاق ، فمن عدم البيان وعدم الدليل نكشف عدم الفعلية ، وهذا التوجيه وإن كان له وجه إلّا أنّ نتيجته راجعة الى البراءة ، فلا ينافي عدم فعلية

٢١٩

التكليف عدم حكم في الواقع ، ولكن على ما قلنا عدم الدليل كاشف عن عدم الحكم في الواقع أصلا ، فتدبّر.

التنبيه الثاني : لا يخفى عليك أنّه على ما قلنا بمقتضى الأدلة السابقة للبراءة هو عدم عقاب في ارتكاب المشتبه ، كما يستفاد ذلك من حكم العقل وبعض الأخبار ، ولا يكون حكم مستفادا أصلا ، بل المستفاد جواز الارتكاب عملا وعدم العقاب على تقدير مخالفته مع الواقع ، ويستفاد من بعض الأخبار الإباحة الظاهرية ، إلّا أنّه مع ذلك لا يكون منافيا مع الحكم في الواقع.

ولكنّ هذا على ما مشى عليه بعض المتقدّمين الذين قالوا بالبراءة لأجل الاستصحاب ، غاية الأمر استصحاب حال العقل ، وأنّ الأصل عدم ورود الحكم ، فعلى هذا يكون الحكم فيما نحن فيه بالبراءة بمقتضى الاستصحاب ، وعلى هذا يكون من الظنون ؛ لأنّ حجّية الاستصحاب عندهم كان من باب الظنّ ، غاية الأمر ظنّ نوعي ، فعلى هذا يكون الاستصحاب والبراءة من الأمارات ، وبمقتضى البراءة أو الاستصحاب ينفى الواقع ونحكم بعدم حكم واقعا ، بخلاف ما قلنا فلا يكونان على هذا حكما ظاهريا بحيث لا يتنافى مع الحكم الواقعي غير الفعلي في موردهما ، بل بعد استصحاب العدم ينفى الواقع وأنه ولا يكون حكم في الواقع أصلا ، ويكونان على هذا من الأمارات.

ولكن مع ذلك في مقام التعارض بينهما وبين سائر الأمارات يكون سائر الأمارات مقدّما عليهما ؛ لأنّ موضوعهما هو عدم الدليل على الواقع ، واذا قامت أمارة اخرى على خلافهما يكون دليلا ، مثل ما لو قلنا بمقتضى الاستصحاب بعدم حرمة شرب الخمر ، فموضوع الاستصحاب هو عدم الدليل على حرمة شربه ، واذا قام خبر الواحد على حرمة شربه فلا يقع بينهما التعارض ، بل لا بدّ من تقديم خبر

٢٢٠