المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

وأنّه لا يمكن أن يرفعها الشارع فقال : معنى رفعها رفع إيجاب الاحتياط الذي تسبقه المؤاخذة.

ولا نفهم مقصوده من هذا الكلام ؛ لأنّه مع التزامه بأنّ المرفوع هو الحكم لا حاجة له الى ذلك ، ولا يكون إيجاب الاحتياط على هذا مرفوعا ، ولكنّه اعترف في الحاشية وقال : (بعد رفع الحكم لا يمكن القول برفع إيجاب الاحتياط).

وأيضا له عبارة اخرى في المقام في الكفاية فقال : (ثمّ لا يخفى عدم الحاجة الى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية ... الى آخره). ويظهر من كلامه أنّه بعد ما يكون المرفوع هو الحكم فما لا يعلم من الحكم مرفوع ، ولا حاجة الى تقدير شيء.

وفيه : أنّه ولو كان المرفوع هو الحكم ولكن مع هذا لا بدّ من التقدير ، حيث إنّ مراتب الحكم من الإنشاء والفعلية والتنجّز ما يكون منها بيد الشرع هو مرتبة الإنشاء ، وفي مرتبة الفعلية أيضا يمكن للشارع من أخذ قيود في مرتبة الفعلية مطلقا ، أو على مذهب هذا المحقق في مرتبة من الفعلية ، لأنّ مبناه هو أنّ للفعلية مرتبتين ، إمّا مرتبة التنجّز ، أو مرتبة اخرى من الفعلية على مبناه فليس بيد الشارع.

فنقول : أمّا رفع مرتبة الإنشاء ولو كانت بيد الشرع ولكن لا يمكن رفعها للزوم التصويب ، وأمّا مرتبة الفعلية فيمكن له دخل قيود فيه ، فعلى هذا يمكن للشارع أن يدخل قيودا فيه حتى لا يصير فعليا ، أو لا حتى يصير فعليا ، وعليه فيمكن للشارع عدم بلوغ الحكم بمرتبة الفعلية باعتبار منشئها من عدم نصب طريق عليه ، أو الاحتياط ، أو بلوغ الحكم بتلك المرتبة باعتبار منشئها من نصب الطريق أو إيجاب الاحتياط.

فظهر لك أنّ الحكم بنفسه لا مرتبة إنشائه غير قابل للرفع ، بل باعتبار أمر آخر من نصب طريق أو إيجاب احتياط أو عدمهما ، ومرتبة الإنشاء وإن كانت

١٨١

بنفسها قابلة للرفع أو الوضع لكن في المقام يوجب التصويب ، فعلى هذا ولو كان المرفوع هو الحكم ولكن مع ذلك لا بدّ من التقدير لما قلنا ، وعليه فيمكن أن يكون المقدّر في غير «ما لا يعلمون» أيضا عدم إيجاب التحفّظ ، كما أنّ في «ما لا يعلمون» يكون المقدّر هو عدم إيجاب الاحتياط ، فتدبّر.

الموقع الخامس :

بعد ما عرفت من أن مقتضى الحديث هو رفع الأحكام ولو باعتبار منشئها فلذلك يقع الكلام في أنّ المرفوع هو الأحكام التكليفية والوضعية كليهما أو أحدهما. لا يخفى عليك أنّ كلّ حكم تكليفيّ ـ نفسيا كان أو غيريا كان وجوبه وجوبا شرطيّا أو جزئيّا ـ يرفع بمقتضى الحديث بلا تأمّل.

واعلم مقدمة : أنّه كما قلنا في طيّ المبحث يكون المرفوع نفس هذه التسعة ولو باعتبار أثرها ، واسند الرفع الى نفس هذه التسعة لأجل أنّه بعد رفع آثارها فكأنّه يرفع نفس هذه التسعة ، كما ترى في إطلاق نظائرها ، مثل : «لا علم إلّا ما نفع» ففي المقام يكون المرفوع نفس التسعة ، ولو لم تكن هذه التسعة مرفوعة حقيقة لكنّ مجوّز الإسناد هو ما قلنا من أنّه بعد رفع آثار الشيء فالصحيح إسناد الرفع الى نفس الشيء ، فلم يكن التنزيل في البين بأن يقال بأنّه بعد كون المرفوع هو آثار هذه التسعة فكأنّه يكون ذلك بمنزلة رفع نفس هذه التسعة فنزّله بمنزلة رفع نفس هذه التسعة ، مثلا : إذا رفع آثار شيء فيمكن تنزيل الشيء منزلة العدم باعتبار آثارها ، كما يظهر ذلك من تقريرات النائيني رحمه‌الله.

وقد تفرّع على ذلك أنّه يرفع الحديث الآثار الوجودية ، وأمّا الآثار العدمية فلا ترتفع ، ومثّل القائل بما لو نذر على تحريم شرب ماء دجلة ، فلو استكره على تركه لم يرفع بالحديث أثر المترتّب على مخالفة النذر بالحديث ، والسر في ذلك هو : أنّ

١٨٢

الحديث ينزّل الموجود بمنزلة المعدوم ، ولا ينزّل المعدوم بمنزلة الموجود.

ولكنّ هذا كلام فاسد ، لأنّ لسان الحديث ليس هو التنزيل حتى يقال ما قيل ، بل المرفوع لا يكون إلّا نفس هذه التسعة حقيقة لا تنزيلا ، وعلى هذا لا فرق بين العدم والوجود ، فما يكون موجودا يرفعه الحديث ولا يترتّب عليه أثر وجوده ، وما يكون معدوما يرفعه الحديث في الموارد التسعة ولا يترتّب عليه أثر عدمه ، وفي المثال الذي ذكره يشمل الحديث ويرفعه ، ولا فرق بين الوجود والعدم ؛ لأنّ لسان الحديث لا يكون هو التنزيل بل الرفع يكون حقيقة باعتبار الآثار.

ولكنّ الحديث لا يرفع أثر المترتب على وجود الشيء المرفوع أو عدمه ، مثلا لو نذر بأنّه لو شرب الخمر يجب عليه إكرام رجل فالحديث وإن كان يرفع أثر شرب الخمر مؤاخذته أو جميع آثاره إلّا أنّه لا يرفع وجوب إكرام الرجل ؛ لأنّه قلنا : المرفوع هو هذه الأشياء باعتبار آثارها ، لا أنّه رفع نفسها حقيقة بحيث يكون العدم ، ويكون العدم باعتبار الاثر كما قلنا من أنّه لو قال : لا علم إلّا ما نفع فلو نذر إكرام الجاهل لا يكفي في الإطاعة إكرام العالم الذي لا ينفع بعلمه ، فكذلك في المقام لا يرفع الحديث ما يكون مترتبا على عدم الأشياء المذكورة ، لأنّ ما وقع في الخارج لو كان بسبب الجهل مثلا أو الإكراه وهو يرفع أثره بالحديث إلّا أنّه لا يكون وجوده عدما حقيقة حتى يترتّب عليه أثر عدمه ، فتدبّر.

ثمّ إنّ الآثار التي تترتب على الأحكام الشرعية تارة تترتب على ذوات الأحكام ، وتارة تترتب عليها بما هي محرمة ، مثلا تارة ينذر الشخص بأنّه لو شرب الخمر بما هو محرم شرعا ينفق درهما ، وتارة ينذر بأنّه لو شرب الخمر بما هو هو ينفق درهما ، فالحديث يرفع الأثر المترتب على الشيء باعتبار كونه حراما أو واجبا ؛ لأنّه في مورد الجهل أو الإكراه أو غيرهما من التسعة ، ومعنى الرفع هو رفع الحكم ، وعليه فلو لم يشرب في مورد الإكراه الخمر المحرّم فلم يترتب عليه أثره من وجوب

١٨٣

الإنفاق المنذور به ، وأمّا لو كان الأثر مترتبا على نفس المحرم أو الواجب بذاتهما مع قطع النظر عن كونهما واجبا أو حراما فلو جهل وارتكب الحرام أو ترك الواجب أو استكره على أحدهما ولو كان أثرها من المؤاخذة عليهما أو جميع الآثار مرتفعا بمقتضى الحديث لكن لا يرتفع بالحديث ما هو المترتب على ذاتهما ، لأنّه قلنا بأنه ليس الرفع إلّا باعتبار الأثر ، لا أنّه مرفوع ومعدوم حقيقة ، فحديث الرفع يجعل شرب الخمر الإكراهي كالعدم باعتبار الأثر ، لا أنّه لم يشرب الخمر حقيقة.

وكذلك لا يرتفع بمقتضى الحديث إلّا الآثار المترتبة على الأحكام بذواتها وعناوينها مع قطع النظر عن حال الجهل أو العلم أو الإكراه أو الاختيار أو غيرها ، فكلّ حكم يكون على الموضوعات بعناوينها مع قطع النظر عن القيود مرتفع بالحديث.

وبعبارة اخرى : المرفوع هو الآثار المترتبة على الأحكام بعناوينها من حيث هي ، فعلى هذا لا يرتفع بالحديث كلّ حكم يكون موضوعه أحد هذه التسعة ، وأيضا لا يكون المرتفع بالحديث كلّ حكم يكون من أول الأمر دائرته ضيقة كأحكام الموضوعات بوصف العمد ؛ لأنّه ولو أنّ هذا الحكم بهذا الوصف لا يكون في حال الجهل إلّا أنّه لا من باب حديث الرفع ، بل من جهة أنّ موضوعه من أول الأمر يكون ضيقا ، ومثاله حكم الكفّارة ، فعدم الكفّارة في حال الجهل أو الإكراه أو غيرهما من هذه التسعة لا يكون لأجل الحديث الشريف ، بل من أول الأمر يكون موضوع الكفارة هو حال العمد ، فما ذكر في تقريرات النائيني رحمه‌الله من أنّ الحديث يشمل المورد وترتفع الكفارة في غير محلّه.

ومن هذا الباب أيضا حكم بيع المكره ، حيث إنّ من شرائط البيع هو الاختيار مع قطع النظر عن هذا الحديث ، فبيع المكره لا يصحّ لأجل عدم وجدان الشرط وهو الاختيار ، لأنّه لا بدّ وأن يكون تجارة عن تراض ، ولا يكون مربوطا

١٨٤

بحديث الرفع ، فالتمسك لبطلان بيع المكره كما تمسّك به بعض في غير محلّه ؛ لأنّ الحديث لا يشمل إلّا الآثار المترتبة على الأحكام بعناوينها بما هي هي ، وأمّا ما يكون من الأول دائرته ضيّقة رغم كونه مختصّا بموضوعه لكن ليس هذا من باب حديث الرفع ، وبيع المكره يكون من هذا القبيل.

ولكن ما يتوهّم بأن يكون منافيا مع ما قلنا من أنّ الحكم ببطلان بيع المكره يكون من أجل عدم كونه واجدا للشرط وهو الرضا ، لا لأجل حديث الرفع هو صحيحة صفوان المتقدم ذكرها من استشهاد الامام عليه‌السلام لبطلان الحلف بالعتاق والطلاق والصدقة بحديث الرفع ، مع أنّ في هذه الموارد الحلف بها مشروط بالاختيار.

ولكنّ الرواية تكون مؤيدا لما قلنا هنا من أنّ الحديث لا يشمل إلّا رفع الأحكام بعناوينها ، وأما بيع المكره فهو مشروط بالرضا فلا يرتفع بالحديث ، لما قلنا في طيّ كلامنا في الحديث الشريف بأنّ ما قاله المعصوم عليه‌السلام : «قال رسول الله : رفع عن امتي ... الى آخره» لا يكون تعليلا للحكم ، بل بيّن الحكم ثمّ قارنه بذلك لأجل رفع التقية ، وعليه فذكر هذا الكلام يكون لرفع التقية لا للتعليل ؛ لما قاله من بطلان الحلف ، فتدبر.

فعلى هذا يظهر لك أنّ بطلان بيع المكره لا يكون من باب حديث الرفع ، كما ترى في باب إنفاق الزوج للزوجة وأنّه واجب على الزوج ، ولكنّ موضوعه القدرة ، فلو لم تكن النفقة مقدورة للزوج ويكون بذل النفقة موقوفا على شرب الخمر فلا إشكال في عدم جوازه ، ولا يمكن القول بجواز شربه بحديث الرفع ؛ لأنّ فيه ما اضطرّوا اليه ، فهذا شاهد على أنّ في بعض الموارد لو كان الحكم مرفوعا يكون بواسطة تقييده بالاختيار ، ولا يكون مربوطا بالحديث الشريف ، فتدبّر.

ثمّ إنّه يقع الكلام فيما يرفع الحديث من الأحكام الوضعية ، كوجوب الإعادة

١٨٥

أو القضاء فنقول : إنّه تارة يكون الجهل أو النسيان أو غيرهما من التسعة في الحكم ، وتارة يقع في الموضوع ، وتارة يكون الشخص جاهلا أو ناسيا أو غيرهما بنفس العمل ، أعني بنفس المركّب ، أو المأمور به ، مثل أنّه كان جاهلا إمّا بوجوب الصلاة ، أو كان عالما بوجوبها لكنّه كان جاهلا بموضوعها ، وتارة يكون جاهلا أو ناسيا أو غيرهما ببعض ما يعتبر في المأمور به ، كما لو نسي السورة من الصلاة.

أمّا فيما لو كان جاهلا أو غيره من التسعة بنفس العمل والمأمور به والمركّب فلا إشكال في وجوب الإعادة في الوقت والقضاء في خارج الوقت ، ولا ترفع الإعادة أو القضاء بالحديث الشريف ؛ لأنّ ما يرتفع بالحديث هو الجهة التي تعلق بها الجهل أو الاضطرار ، فالصلاة لو تركها أحد عمدا يكون مستحقّا للعقاب ، وهذا مرفوع في مورد الجهل بمقتضى الحديث ، وأمّا حكم الإعادة فهو باق بحاله ، لأنّه مقتضى الأمر بالقضاء ، لأنّه مترتّب على الفوت وبها لا يكون جهل أو إكراه أو اضطرار ، وهذا ليس محلّ الإشكال والكلام سواء كان الجهل بالموضوع أو بالحكم.

وأمّا فيما لو كان جاهلا أو ناسيا أو غيرهما ببعض المأمور به فتارة يكون ناسيا أو جاهلا بالشرط أو الجزء ، وتارة يكون ناسيا أو جاهلا بالمانع.

أما فيما لو كان جاهلا بالمانع مثل أنّه كان ناسيا للقهقهة لا لحكمها ، بل كان ناسيا لموضوعه فنقول : إنّ في هذا الفرض يرتفع بمقتضى الحديث الإعادة أو القضاء.

بيانه : أنّ أثر القاطع أو المانع لا يكون إلّا بطلان الصلاة والإعادة أو القضاء ، وليس له أثر وضعي إلّا إثبات الإعادة أو القضاء ، فعلى هذا بعد حدوث المانع جهلا أو نسيانا فمعنى رفعه ليس إلّا رفع أثره ، والمفروض أنّ أثره لا يكون إلّا الإعادة أو القضاء ، فعلى هذا يرتفع بمقتضى الحديث ؛ لأنّه بعد ما أثبتنا في محلّه من إمكان خطاب الناسي وعدم لزوم التصويب لو كان الجهل في الموضوع ، وعدم الالتزام لما قاله الشيخ رحمه‌الله من عدم إمكان التكليف للناسي وقلنا في باب الأجزاء بأنّه كلّ ما

١٨٦

يكون لسانه لسان الفردية يصير فردا في مقابل الفرد الواقعي ، فنقول في المقام : إنّه بمقتضى الحديث نحكم بأنّ هذا المركّب الواجد للمانع ليس مانعا في حال الجهل أو النسيان أو غيرهما ، وكان فردا من المركّب فيكون لازمه عدم الإعادة والقضاء ، فعلى هذا في كلّ مورد يشمل حديث الرفع ويكون الجهل أو النسيان أو أخواتهما بالمانع فيكون لازم شمول الحديث رفع الحكم الوضعي الذي كان للمانع ؛ لما قلنا من أنّ أثر المانع هو هذا فلا يجب الاعادة أو القضاء ، وكما لو بكي في الصلاة نسيانا أو جهلا بالموضوع ، وكذلك لو أكل في نهار رمضان نسيانا ، غاية الأمر في شهر رمضان دلّ الدليل بالخصوص على وجوب القضاء ، وإلّا فمقتضى القاعدة عدم القضاء.

وأمّا لو كان جاهلا أو ناسيا للجزء أو الشرط جهلا موضوعيا فهل تجب الإعادة أو القضاء ، أو لا؟

اعلم : أنّ الأمر في ما كان جاهلا أو ناسيا للجزء أو الشرط يكون بالعكس ، ولا يرفع الحديث الإعادة أو القضاء فيما لو نسي الجزء أو الشرط ؛ لأنّه لو نسي السورة مثلا لأجل نسيان موضوعه فحديث الرفع ولو أنّه يرفع أثره إلّا أنّه ما يكون أثر ترك السورة هو المؤاخذة عليه فيرفعها ، وأمّا الإعادة أو القضاء فلا يكون من آثار ترك السورة ، بل يكون أثر بقاء الأمر الأول وهو غير مرفوع ، فكلّما نسي الجزء أو الشرط أو جهل بهما فالحديث يرفع كلّ ما يكون أثرا للجزء والشرط ، وما يكون أثرا لهما ليس إلّا المؤاخذة فيرفعها الحديث ، وأمّا الإعادة أو القضاء فهو أثر بقاء الأمر لا أثر ترك الجزء أو الشرط ؛ لأن الوجود لا يمكن أن يكون أثر العدم.

فظهر لك الفرق بين الجزء والشرط وبين المانع ، ففي الجزء والشرط حيث يكون الإعادة أو القضاء من أثر بقاء الأمر الأول لا أثر تركهما فلا يرتفع بالحديث ، وأمّا في المانع فحيث يكون وجود المانع سببا للبطلان فهو مرتفع بالحديث ، ومعنى رفعه ليس إلّا عدم الإعادة أو القضاء ؛ لأنّ الإعادة أو القضاء كانا من أثر وجود

١٨٧

المانع ، وبعد رفع أثر وجود المانع ترفع الإعادة أو القضاء ، فتدبّر.

فظهر لك الفرق الواضح بين الجزء والشرط وبين المانع والقاطع ؛ لأنّ وجود القاطع يكون مضرّا ، وليس أثره إلّا البطلان ، وكلّ ما يتعلّق به الجهل أو النسيان أو غيرهما من أخواتهما يكون مرفوعا بمقتضى الحديث ، وأمّا في الجزء أو الشرط فلا يكون أثرهما إلّا المؤاخذة ؛ وأمّا الإعادة أو القضاء فهما أثران عقليان من جهة بقاء الأمر الأول ، وليس أثر ترك الجزء أو الشرط.

فما قيل من أنّه بعد عدم وجود الشرط أو الجزء ينتفي المركّب ؛ لأنّ المركب يرتفع بارتفاع جزئه ، فعلى هذا لو ترك الجزء لأجل أحد العناوين الواردة في الحديث الشريف كتركه لأجل النسيان ، فحيث إنّ بتركه صار المركّب متروكا فمقتضى رفعه هو رفع الأمر الذي كان على المركب ، فالأمر بالمركب يرتفع بحديث الرفع. وبعبارة اخرى : الأمر بالكلّ يرتفع بالحديث لأجل انتفاء جزئه ، فالمرفوع هو أمر الكلّ.

لا يقال : فلازم هذا الكلام هو عدم وجوب الإتيان بسائر أجزاء المركّب غير هذا الجزء المنسي.

لأنّه يقال : لا يرد هذا الإشكال بعد ما انعقد الإجماع على وجوب الإتيان بما بقي من الأجزاء ، فوجوب الإتيان بما بقي من أجزاء المركّب ليس لأجل الأمر الاول ، بل يكون لأجل الإجماع ، فلا يجب الإعادة أو القضاء ليس في محلّه ؛ لما قلنا من أنّ بقاء الأمر الأول ليس أثر ترك الجزء ، وكذلك ليس أثر ترك الكلّ حتى يقال بأنّه مرفوع فلا يجب الإعادة أو القضاء ، بل يكون وجوب الإعادة أو القضاء أثرا للأمر بوجود الكلّ ، لا أثر ترك الكل حتى يكفي هذا البيان في عدم لزوم الإعادة والقضاء بمقتضى الحديث.

ولكن اعلم : أنّه لا يرد على ما قيل ما اورد في تقريرات النائيني رحمه‌الله ، حيث

١٨٨

توهّم أنّ مراد ما قيل هو ارتفاع ما بقي من أجزاء المركّب بحديث الرفع ، فاستشكل بأنّه لا وجه لذلك ، وواضح أنّه لو كان مراد ما قيل ذلك لا وجه له ، إلّا أنّ مراده ليس ذلك ، بل مراده كما قلنا هو : أنّ ارتفاع الجزء يكون سببا لارتفاع الكلّ ، فلو ترك الجزء نسيانا كان معنى رفعه هو رفع أمر الكل ؛ لأنّه قلنا بأنّ ارتفاع الكل يكون بارتفاع الجزء ، فيكون مراده أنّ الحديث يرفع أمر الكل ، لا أمر ما بقي من الأجزاء ، ولكن في ما قيل من كلام يرد ما قلنا ، فتدبّر.

ثمّ إنّه من الواضح أوّلا : أنّ ما يرفع بالحديث يكون في حال تلبّسه بأحد العناوين الواردة في الحديث ، وأمّا في غير هذا الحال فلا ، مثلا لو استكره على شرب الخمر فما دام الاستكراه باقيا يرفع حكم شرب الخمر وهو الحرمة ، وأمّا بمجرّد رفع الإكراه فلا يجوز شربه.

وثانيا : أنّ هذا الحديث وارد في مقام الامتنان ، فعلى هذا كلّ جهة يكون الامتنان في رفعه فيرتفع به ، فعلى هذا ما يكون في تحمّله مشقّة وفي رفعه منّة هو مرتبة الفعلية من الأحكام ، وأمّا مرتبة الإنشاء أو مرتبة المصلحة فغير مرفوع بالحديث ، فالحديث لا يرفع مصلحة الأحكام للجهات التي وردت في الحديث ، ولا مرتبة الإنشاء من الأحكام ، لعدم منّة في رفعهما ، وما يكون المنة في رفعه هو مرتبة فعلية الأحكام ، فعلى هذا نقول بأنّ في المورد الذي يرفع هذا الحديث الحكم لا يرتفع مصلحته ولا مرتبة انشائه ، بل هما باقيان بحالهما ولو في مورد واحد من المذكورات في الحديث ، وما يرتفع في مورد الحديث هو مرتبة فعلية الأحكام.

اذا عرفت ذلك فنقول : إنّه في أيّ من الموارد المذكورة في الحديث لو ارتفع فيكون موجبا لرفع الحكم ارتفع النسيان أو الجهل الموجبين لرفع الجزء أو الشرط ، فعلى هذا لو التزمنا بأنّ المنسيّ ـ مثلا ـ لا يكون صرف الجزء ، بل يكون الجزئية منسيا ، ولكن يكون مقتضى القاعدة هو الإعادة والقضاء بعد التذكّر أو رفع الجهل ،

١٨٩

لما قلناه أولا ، وثانيا لأنّ رفع الحكم يكون ماداميا ، يعني ما دام بقاء النسيان أو الجهل ، ففي هذا الحال ـ يعني حال النسيان أو الجهل ـ لا يكون التكليف فعليا ، والمانع من فعلية التكليف لا يكون إلّا النسيان أو الجهل ، وأمّا المصلحة والإنشاء فلا يرتفعان ، وبعد رفع النسيان أو الجهل يصير التكليف فعليا ؛ لارتفاع المانع ، فلا بدّ من الإعادة أو القضاء ، إلّا أن يكون ما أتى به في حال النسيان أو الجهل وافيا بتمام مصلحة المأمور به في حال التذكر والعلم.

فعلى هذا كلّ من يقول باكتفاء الأمر الظاهري أو الاضطراري عن الواقعي اذا كانا وافيين بتمام مصلحة المأمور به الواقعي فلا بدّ من أن يلتزم بعدم وجوب الإعادة أو القضاء بعد رفع النسيان أو الجهل ، ولا بد أن يلتزم بذلك المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، لأنّه قائل بالإجزاء في هذه الصورة.

وأمّا على ما قلنا في محلّه من أنّه لا يلزم ذلك في باب الإجزاء ، بل يكفي أن يكون صلاة الاضطراري أو صلاة الظاهري فرد الصلاة الواقعي ، ويكفي صرف الفردية لكونه وافيا لمصلحة المأمور به الواقعي بتمامه ، بل نقول بعدم وجوب الإعادة أو القضاء بعد إحراز الفردية ، ففي المقام نقول بأنّه بعد ما لم نقل بما قاله الشيخ رحمه‌الله من عدم إمكان توجّه التكليف للناسي ، بل قلنا بإمكان ذلك فنقول : يكون هذا الفرد الفاقد للجزء قابلا لأن يتعلق به التكليف ، والمفروض أنّه أتى به الناسي فلا يجب الإعادة أو القضاء ؛ لأنّه بعد فرض القابلية يكون هذا الفرد الناقص فردا للمأمور به في مقابل الفرد الكامل ولا يلزم أزيد من ذلك ، وهذا موجود ، فصلاة من نسي الجزء تكون صحيحة ، ولا يجب عليه الإعادة أو القضاء على هذا المبنى ، لكنّه لا بدّ من أن يكون فاقد الجزء الفرد المأمور به الواقعي ، وما لم يثبت ذلك لا مقتضى للإجزاء ، ولا يثبت ذلك ، فعلى هذا لا بدّ من الاعادة والقضاء فيما اذا نسي الجزء أو جهل به ثم تذكّر أو علم ، فافهم.

١٩٠

وأمّا لو تعلق الجهل أو أحد أخواته بالجزئية ، كما لو كان جاهلا بجزئية السورة أو نسي جزئية السورة فاعلم : أنّ في هذه الصورة لا يمكن التمسّك بالحديث لرفع الإعادة والقضاء ؛ لأنّ في بعض من التسعة الواردة في الحديث الشريف لو أمكن تعلّقه بالجزئية مثل الجهل أو السهو أو النسيان فيسهو مثلا بجزئية السورة أو كان جاهلا بها إلّا أن ما يمكن رفعه بحديث الرفع هو مرتبة الفعلية أو تنجّزها ، ولا يمكن رفع جميع مراتب الحكم ؛ للزوم التصويب ، ومرتبة الفعلية من الحكم وإن أمكن رفعها بالحديث إلّا أنّه كما قلنا سابقا يكون المانع من فعلية الحكم هو الجهل أو السهو أو النسيان ، واذا ارتفع المانع وصار المكلف عالما أو صار متذكرا فيصير الحكم فعليا ، فلا بدّ من الإعادة أو القضاء.

نعم ، لو ثبت كون الناقص هو ما أتى به ونسي جزئية الفرد المأمور به الواقعي فيمكن القول بعدم الإعادة أو القضاء ، ولكنّ هذا يحتاج الى إثبات الفردية ، وهذا غير ثابت ، فافهم.

وفي بعض من التسعة كالاضطرار والإكراه وإن صحّ رفع جميع مراتب الحكم بهما ولا يلزم التصويب إلّا أنّه لا يقع الاضطرار والإكراه بالجزئية أبدا ، وما يتعلق به الاضطرار أو الإكراه هو الجزء لا جزئيته ، فعلى هذا لا يرفع الإعادة أو القضاء في مورد تعلق الجهل أو أخواته بالجزئية. هذا كلّه بالنسبة الى الإعادة والقضاء.

وأمّا في بعض الآثار الوضعية الأخر كالسببية والشرطية فهل يمكن التمسّك بالحديث لرفعهما ، أو لا؟

فنقول : تارة يتعلّق الجهل أو أحد أخواته بالسبب والشرط ، كما لو كان عالما بسببية عقد العربي لحصول الملكية ولكن كان جاهلا بالسبب أو بالشرط ، وتارة يتعلق أحد التسعة في الحديث لا بالسبب والشرط بل بالسببية والشرطية ، كما لو كان جاهلا بشرطية العربيّة.

١٩١

فنقول : أمّا فيما لو كان جاهلا أو ناسيا أو غيرهما بنفس السبب والشرط فيكون الكلام نفس الكلام في الجهل بالجزء والشرط في المأمور به ، فكما قلنا بعدم التمسك بالحديث لرفع الإعادة أو القضاء كذلك نقول هنا بعدم إمكان التمسّك لرفع السبب والشرط بالحديث في حال الجهل أو النسيان أو أحد أخواتهما ، ولا بعد كشف الخلاف ؛ لأنّ فساد العقد ليس أثر ترك الشرط أو السبب ، بل يكون فساد العقد لأجل عدم وجود السبب ، وصحة العقد يكون أثر وجود السبب أو الشرط ، فبالحديث بعد رفع الشرط أو السبب لا يوجب صحة العقد ؛ لأنّ هذا لازمه ، لا أثره ، وهذا واضح.

والفرق بين الجزء والشرط في المأمور به هنا هو : أنّه في الجزء والشرط في المأمور به يصحّ التمسّك بالحديث والدخول في الصلاة ، ولكن بعد كشف الخلاف لا بدّ من الإعادة أو القضاء ، ولكن هنا لا يصحّ التمسك بالحديث ولو في حال الجهل أو النسيان أو غيرهما من التسعة لرفع السبب أو الشرط ، وهذا معنى أنّ الأصل في المعاملات هو الفساد.

وأمّا فيما لو كان أحد التسعة قد تعلّق بالشرطية أو السببية فنقول مقدمة : إنّ عمدة الإشكال في البراءة في الأقلّ والأكثر هو إثبات المتيقن والمشكوك حتى يقال بثبوت التكليف في الأقلّ والشكّ في الأكثر ، وإشكال المحقّق الخراساني رحمهم‌الله يكون في هذا ، وأنّه لا يكون في البين معلوم على كلا التقديرين حتى نقول بالعلم بثبوت التكليف به والشك في الأكثر وقلنا بأنّ الأمر بالمورد يكون أمرا انبساطيا ، بمعنى أنّ الأمر بالكلّ منبسط الى تمام أجزائه ، وهذا ما نعبر عنه في مقام التفهيم بالأمر الضمني ، ولا يكون إلّا أمرا واحدا منبسطا ، فلهذا نقول بأنّ هذا الأمر المنبسط انبساطه بحيث يسري الى هذا الجزء الزائد غير معلوم ، وما نعلم انبساطه في الأقلّ ، وأمّا انبساطه أكثر من ذلك حتى الى الأكثر فمشكوك قلنا في البين معلوم وهو الأقلّ ،

١٩٢

ومشكوك وهو الأكثر ، وأنّ في البين لا يكون إلّا أمر واحد ، ولو كان الأكثر واجبا فهذا الأمر يسري اليه ، لا أمر آخر.

ولذا نقول : إنّ هذا الأمر تعلّقه بالأقلّ معلوم ، وانبساطه وتعلّقه بالأكثر مشكوك ، ولذا نقول بالبراءة عن الأكثر ، وعلى هذا لا بدّ في كلّ مورد من جريان البراءة أن يكون الأقلّ معلوم ، وأن يكون أمر واحد يسري الى الأقلّ أو الأكثر لو كان هو أيضا مأمورا به ، لا أمر آخر ، وإلّا إن كان أمر آخر تعلّق بالأكثر على فرض تعلّقه فيكونان متباينين ، ولا يكون الأقلّ والأكثر.

فعلى هذا نقول في الشكّ في أنّ الشيء جزء السبب أو جزء الشرط فليس كذلك ، أمّا لو كانت السببية أمرا منتزعا فهو منتزع عن منشأ انتزاعه ، وهو ترتّب الملكية على الشيء الفلاني ، ومعنى جعله جعل منشأ انتزاعه ، فإن كان كذلك فلا إشكال في أنّ المورد لا يمكن التمسّك برفعه بحديث الرفع ، لأنّه لا ندري بأنّ ترتب الملكية كان على العقد الفارسي أو المقيّد بالعربي ، فلا يكون في البين متيقن ومشكوك ، بل يكونان متباينين ، ومنشأ الانتزاع إمّا العقد الغير مقيد بالعربي ، أو المقيد بالعربي ، فالسببية المنتزعة إمّا منتزعة عن الأول ، أو عن الثاني ، فلا تجري البراءة.

وأمّا إن قلنا بأنّ السببية والشرطية مجعولة فأيضا يكون الأمر كذلك ؛ لأنّ السببية إما أن يكون هذا ، أو هذا ، وكل منهما مختلفان ومتباينان ، ويكون العقد الفارسي والعقد العربي متباينين ، لا أن يكون القدر المتيقن هو نفس الإيجاب ، وأمّا تقيّده بالعربية فمشكوك ؛ لأن الأول مع الثاني ليسا من قبيل الأقل والأكثر ، بل يكونان متباينين ، فتدبّر جيّدا.

ثمّ إنّ الكلام في بعض الآثار الوضعية الأخر كالأسباب والمسبّبات ، فإن قلنا فيه بعض الكلام نقول مجدّدا بنحو منقّح ومرتب ، وهو أن يقال : تارة يقع الكلام في

١٩٣

الإكراه والاضطرار ، وتارة يقع الكلام في الجهل والنسيان.

أمّا الكلام فيما اذا تعلق الإكراه أو الاضطرار بالأسباب أو المسببات : فتارة يتعلّق بوجودها ، وتارة اخرى بعدمها ، وثالثة يتعلّق الإكراه أو الاضطرار بتمام السبب ، ورابعة ببعض السبب ، وخامسة يتعلّق الإكراه أو الاضطرار بالسببية ، وسادسة بالمسبب إن كان تعلّقهما بالأخيرين معقولا.

فاعلم : أنّه فيما لو تعلّق الإكراه أو الاضطرار بتمام السبب كأن يكون السبب للملكية هو الإيجاب والقبول بالعربية ففي تلك الصورة لا إشكال في أنّ الحديث يرفع أثره ، فلا تترتب الملكية. وأمّا فيما اذا تعلقا بجزء السبب أو شرط السبب كأن يتعلق الإكراه بالعربية التي هي شرط في العقد فلو كان كذلك فلا إشكال في شمول الحديث ويرفع الأثر ، فلا تحصل الملكية بالعقد الذي كان الاكراه بشرطه وهو العربية.

وإن تعلّق الإكراه أو الاضطرار بترك شرط السبب أو جزئه فالكلام فيه هو الكلام في جزء المأمور به ، وأنّ الصحة لم تكن من آثار ترك الشرط ، بل تكون من آثار وجود الشرط ، فعلى هذا لو كان الاضطرار أو الإكراه بترك جزء السبب أو شرطه فلا يمكن التمسّك بالحديث لصحة المعاملة التي كان ترك جزء سببها أو شرط سببها مكرها أو مضطرّا اليه.

وأمّا لو تعلّق الإكراه أو الاضطرار بالسببية فهو مع قطع النظر عن كونه غير معقول ؛ لأنه لا يتعلق الإكراه أو الاضطرار بالسببية فيشمل الحديث ويرفع أثره ، إلّا أنّ الإشكال في عدم معقوليّة ذلك.

وأمّا لو اضطرّ أو صار مكرها بالمسبّب فمع قطع النظر عن عدم معقولية ذلك أيضا ، كما في تقريرات النائيني رحمه‌الله هنا كلام لا نفهم ما قال ، حيث قال : إنّ في مورد التعلّق بالمسبّب يرفعه الحديث.

١٩٤

وهذا كلام باطل ، إذ إمّا أن يحصل المسبّب ، وإمّا أن لا يحصل ، فإن حصل المسبّب فكيف يمكن رفعه؟ وإن لم يحصل فلا يكون محتاجا الى الرفع؟

وإن قلت : إنّ المسبّب وهو الملكية ولو لم يرفع ولا يمكن رفعه بعد حصوله لكنّه يمكن رفع أثره وهو جواز التصرف.

قلنا : إنّ هذا غير ممكن ، وكيف يمكن التفكيك بين حصول الملكية وعدم جواز التصرف؟ كما ترى أنّهم قالوا بأنّ من الشرائط التي تكون خلاف مقتضى العقد ليس بجائز هو شرط عدم جواز التصرف ؛ لأنّه لا يمكن أن تحصل الملكية ، ومع هذا لا يجوز التصرفات ، فعلى هذا نقول : لا يمكن تعلّق الإكراه أو الاضطرار بالمسبّب أصلا. هذا كلّه في الإكراه والاضطرار.

وأمّا الكلام في الجهل والنسيان فنقول : إنّ هنا أيضا تارة يكون الجهل أو النسيان متعلّقا بتمام السبب ، واخرى بجزئه أو شرطه ، وثالثة بالسببية ، ورابعة بالمسبب على فرض معقوليته.

أمّا فيما اذا تعلّق الجهل أو النسيان بتمام السبب فلا إشكال بشمول الحديث ورفع أثره ، وأمّا فيما اذا تعلّقا بجزء السبب أو شرطه فتارة يتعلّقا بوجود الجزء أو شرط السبب ، واخرى بعدم الجزء أو الشرط ، فإن كان تعلّقهما بوجود الشرط أو جزء السبب فلا إشكال في شمول الحديث ، وعلى هذا لا تترتّب الملكية. وإن تعلّقا بترك الجزء أو شرط السبب فلا يمكن التمسّك بالحديث لصحة المعاملة وترتّب الملكية التي ترك شرطه جاهلا ؛ لما قلنا من أنّ الصحة ليست أثر ترك الجزء أو الشرط حتى يرفعها الحديث.

وأمّا لو تعلّقا بالمسبّب وفرضنا معقوليّته فيرفع بمقتضى الحديث ، كما لو صدر منه الريح وكان جاهلا به فلا إشكال في حصول المسبّب وهو الحدث ، لكنّه ما دام جاهلا فيرفع الحديث أثره ، واذا انكشف الخلاف فلا.

١٩٥

وأمّا لو تعلّقا بالسببية أو الشرطية فهل يمكن التمسك بالحديث لرفع الجزئية والشرطية والقول بصحة المعاملة ، كما قلنا في الجزئية في المأمور به ، أم لا؟

اعلم : أنّ في الجزئية في المأمور به حيث لا يكون إلّا أمر واحد يسري الى جميع أفراد المأمور به ويكون أمره أمرا انبساطيا ـ وقد يعبّر عنه بالأمر الضمني ـ فيمكن تصوير الأقلّ والأكثر ، ولا يكون الأقلّ مباينا للأكثر ، بل على تقدير كون الأكثر واجبا لا يكون وجوبه إلّا بالأمر الذي تعلّق بالأقلّ ، فعلى هذا نقول بإمكان شمول الحديث ورفع الجزئية.

وأمّا في المقام فلا يكون الأمر كذلك ، بل يكون العقد الفارسي مباينا للعقد العربي أو مثلا أنّ الإيجاب والقبول مباينان مع الإيجاب والقبول والقبض ، فعلى هذا لا يمكن التمسك بالحديث لرفع الجزئية أو الشرطية في الأسباب والمسبّبات.

والمحقّق الخراساني رحمه‌الله القائل بالاشتغال في الأقلّ والأكثر في المأمور به يكون جهة إشكاله ما قلنا من أنّه توهّم أنّ الأقلّ مباين مع الأكثر ، وتمام الكلام في الأقلّ والأكثر في المأمور به هو إثبات أنّ الأقلّ لا يكون مباينا مع الأكثر ، بل يكون أمر واحد منبسط الى الأقلّ والى الأكثر على تقدير تعلّق الأمر به.

فظهر لك الفرق بين الجزئية والشرطية في المأمور به ، وأنّه يمكن التمسك فيها بالحديث الشريف ، وبين الجزئية والشرطية في الأسباب ، والمسببات وأنّه لا يمكن التمسّك لرفعهما بالحديث الشريف.

هذا تمام الكلام في حديث الرفع.

ومن الأخبار التي تمسّكوا بها للبراءة : قوله عليه‌السلام «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

وجه الاستدلال بتلك الرواية هو عين ما قلنا في حديث الرفع.

وقال الشيخ رحمه‌الله : إنّ الظاهر من «ما حجب الله علمه» هو ما لم يبيّنه ، لا ما

١٩٦

بيّنه واختفى على العباد ، فلا يمكن التمسّك بها للمطلوب.

ولكن لا يخفى عليك أنّ هذه الرواية متعرّضة لجهة اخرى ، ويظهر بعد المراجعة للأخبار ، حيث إنّ في اصطلاح الأخبار يكون العلم على قسمين : علم محجوب ، وعلم مبذول ، وتارة يعبّر عن الأول بالغيب ، فعلى هذا كأنّ المراد من الرواية أنّ العلم الذي حجبه الله عن العباد هو نفسه موضوع عنهم ، وواضح أنّ في بعض الأشياء حجب الله علمه عن الخلق إمّا من جهة عدم قابلية الخلق ، وإمّا من جهة عدم قابلية المعلوم ، وعليه فهذه الرواية تدلّ على أنّ ما حجب الله علمه لا يلزم على الناس التفحّص والتكلم فيه ، كالعلم بكنه الباري ، أو العلم بالقضاء والقدر ، كما يظهر ذلك من خطبة الأمير عليه‌السلام في باب القضاء والقدر ، فعلى هذا لا تكون الرواية إلّا في مقام بيان ذلك.

ومن الأخبار التي تمسّكوا بها : قوله عليه‌السلام : «إنّ الله يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم».

وجه الاستدلال هو : أنّ ما لم يعرف لا يمكن الاحتجاج به.

قال الشيخ رحمه‌الله : إنّ هذا ممّا لا ينكره الأخباريون ، وكان نظره بأنّ الأخباريّين يدّعون التعريف ، وأنّه أوجب الاحتياط ، ولكنّ هذه الرواية لم تكن دالّة على المطلب ، ولم تكن مربوطة بالمقام أصلا ؛ لأنّ في الرواية ما يدلّ على عدم ارتباطه بالمقام ، حيث قال قريب من هذه المضامين : «إنّ الله يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرفهم ، ثمّ أرسل إليهم رسولا ، وأنزل اليهم الكتاب فيه أمر ونهي». فعلى هذا كانت الرواية متعرّضة لجهة اخرى وهي الاصول ، لا الفروع التي هي محلّ بحثنا ؛ لأنّ محلّ بحثنا يكون بعد إرسال الرسول وإنزال الكتاب والأمر والنهي ، ثمّ الشكّ فيهما ، فكيف يمكن التمسك لذلك بما كان مقدما عليه بمراتب؟ فافهم.

ومن الأخبار المتمسّك بها : قوله : «أيّما أمرى ركب أمرا بجهالة فلا شيء

١٩٧

عليه».

وجه الاستدلال واضح ، ولكن لا يخفى عليك أنّ هذه الرواية أيضا تقطيعها صار سببا لتوهّم أنّه يمكن التمسك بها للمطلب ، ولكن لو لوحظ تمام الرواية يظهر عدم ربطها بما نحن فيه.

فنقول : إنّ هذه الرواية واردة في باب الحجّ ، ونقلها صاحب الوسائل ، وهي هكذا : «أنّ سائلا عجميا أحرم في قميصه ، فسأل الامام عن تكليفه ، فأمر الإمام بخلعه من رأسه ، وأنّه لا يجب إعادة الحجّ ، ثمّ قال : أيّما امرى ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه». ومعلوم أن مورد الرواية في الجاهل القاصر ، فعلى هذا لا يمكن التعدّي عن مورده ، وفي مورده في خصوص الحجّ يمكن القول به ، وأمّا أمر الامام بخلع القميص من الرأس يكون لأجل كونه جاهلا ، وأنّه يكون الفرق بين الجاهل وغيره ، فغير الجاهل لا بدّ أن يخلع من رجله ، فعلى أيّ حال كانت الرواية في خصوص الحجّ والجاهل القاصر ، فلا يمكن التعدّي الى غير موردها ، فتدبّر.

ومن الأخبار المتمسّك بها : قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لم يعلموا».

وجه الاستدلال واضح ، وقال المرحوم شيخ : الشريعة : إنّ هذه الرواية لم تكن في كلمات العلماء قبل الوحيد البهبهاني ، ولكنّنا وجدناها في كلمات بعض العلماء قبل الوحيد ، منهم الشهيد رحمه‌الله ، ولكنّ هذه الرواية مرسلة وكانت في طرق العامة أيضا ، وعلى أيّ حال تكون شاهدا لما نحن فيه ، ولكن كما قال الشيخ رحمه‌الله : لا تتنافى مع إيجاب الاحتياط ، فلو دلّ دليل على الاحتياط فلا تكون هذه الرواية معارضة له.

فما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّ لازم الرواية عدم إيجاب الاحتياط ، وإلّا فيكونون في ضيق مع عدم علمهم بالتكليف فاسد ، إذ ليس المراد من «يعلموا» في الحديث خصوص العلم ، وإلّا لو كان كذلك فلو قام الطريق على وجوب شيء أو

١٩٨

حرمته لا بدّ وأن يكونوا في السعة ، والحال أنّه ليس كذلك ، فيكون المراد : أنّ الناس في سعة ما لم ينجّز عليهم الواقع بكل ما كان ، سواء كان العلم أو الطريق أو الاحتياط ، فافهم.

ومن الأخبار المتمسّك بها : قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي». وهذه الرواية كما ذكرها الشيخ رحمه‌الله ، ونقلها الصدوق رحمه‌الله كذلك ، ونقلها الشيخ الطوسي رحمه‌الله في أماليه بهذا النحو «الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك فيها أمر أو نهي ، وكلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه». وذكرها المجلسي رحمه‌الله في البحار نقلا عن غوالي اللآلي بهذا النحو «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نصّ».

واعلم : أنّ ما نقله الثالث لا وجه له ؛ لأنّ المجلسي رحمه‌الله نقلها عن غوالي اللآلي ، وهو كما بسّطنا الكلام فيه في درس الرجال لا إشكال في أنّه نقل عن كنز العرفان ، وكنز العرفان كان نقله عن من لا يحضره الفقيه ، وفي كنز العرفان كان نقل الرواية بلفظ «نهى» ، لا بلفظ «نصّ» ، والمجلسي أيضا لم يكن في نقله اشتباه ؛ لأنّا رأينا نسخة أصل غوالي اللآلي وكان فيها بلفظ «نصّ» ، فكان الاشتباه إمّا من الغوالي ، اللآلي وإمّا من نسخة كنز العرفان الذي كان عند صاحب الغوالي وكان غلطا ، وأما النقلان الأوّلان فيحتمل أن يكونا رواية واحدة.

وعلى كلّ حال تدلّ الرواية على أنّ كلّ شيء يكون مطلقا حتى يرد فيه نهي ، وما لم يرد فيه نهي فيكون مطلقا ، وهذه الرواية دالّة على أنّ ما لم يرد النهي بنفس الأشياء تكون مطلقة ، فعلى هذا تكون بين الرواية وبين الأخبار الدالة على الاحتياط المعارضة ، لأنّ مدلول هذه الرواية أنّ ما لم يرد النهي فيه بعنوان هذه الأشياء يكون مطلقا ، وأخبار الاحتياط لا يكون مدلولها النهي عن ارتكاب الأشياء بعناوينها ، بل يكون مدلولها هو الاحتياط في الأشياء ، لا أنّ الأشياء تكون

١٩٩

حراما بعنوانها ، فيقع التعارض بينهما ، لأنّ هذه الرواية دالة على إطلاق الأشياء قبل ورود النهي بها ، وأخبار الاحتياط دالة على الاحتياط ولو لم يرد النهي عن الأشياء بعناوينها ، ولا تكون هذه الرواية مثل الأخبار التي جعل الغاية فيها العلم ؛ لأنّه يمكن أن يقال فيها بأنّ أدلة الاحتياط دليل وطريق فلا يقع بينها التعارض ، بخلاف هذه الرواية.

واستشكل المحقّق الخراساني رحمه‌الله على هذه الرواية : بأنّ هذه الرواية تكون دالة على إطلاق الأشياء قبل ورود النهي ، فهذا مفيد لما كان الشك في الورود ، وأمّا في محلّ الكلام وهو فيما يمكن أن ينهى الشارع ولكن لم يبلغ الينا فليس التمسك بالرواية صحيحا.

وبعبارة اخرى : لو كان النزاع في أنّه ما لم يرد النهي عن الشيء هل يكون مباحا ارتكابه ، أم لا؟ كان التمسك بهذه الرواية في محلّه ، وفي المقام يكون النزاع في أنّ مورد الشك في الحرمة مع احتمال ورود النهي وعدم بلوغه الينا يكون محلّ الكلام ، فكيف يمكن الاستدلال بالرواية؟

ولا يخفى عليك أنّ للورود طرفين : طرف هو قائل الشيء ، وطرف آخر هو الذي ورد اليه ، فعلى هذا لو كان الخبر متعرّضا لجهة انتسابه الى القائل فلا يكون مربوطا بالمقام ؛ لأنّ المحتمل في محلّ النزاع أنّه ورد النهي ، وثمّ جهة انتسابه الى القائل ولكن لم يبلغ الينا.

ولو كان لم يعلم أنّ الرواية متعرّضة لطرف القائل ، أو الطرف الذي ورد عليه ، أو كليهما فيكون الخبر أيضا مجملا ، ولا يمكن التمسّك به للمقام أيضا ؛ لأنّ من المحتمل أن يكون في مدلول الخبر جهة انتساب الورود الى القائل.

اذا عرفت منشأ الإشكال فنقول : لو كانت الرواية المتقدمة هي ما نقلها الشيخ

٢٠٠