المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

أمّا أوّلا فلأنّ هذه الآية واردة في مقام ردّ اليهود الذين يقولون بحرمة بعض الأشياء بلا وجه ، فالله تعالى أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول : لا يكون ما تقولون بحرمته حراما ، وأنزل هذه الآية ، ولا إشكال في أنّ اليهود قائلون بالحرمة الواقعية لا بالحرمة الظاهرية ، فعلى هذا تكون الآية في مقام بيان عدم الحرمة الواقعية ، فعلى هذا لا يمكن التمسّك بها للحكم الظاهري وما هو محلّ كلامنا.

وأمّا ثانيا فلأنّه بعد ما عرفت في باب الظنّ من أنّ التشريع يصدق بصرف الحكم لشيء بلا دليل ولو لم يعلم كونه خلاف الواقع ، وأنّه يصدق التشريع بصرف عدم الإذن فانتساب الحكم الى الشرع لا يمكن إلّا مع إذنه ، ففي كلّ مورد لم يرد الإذن لو نسب حكم الى الشارع يكون تشريعا محرّما كما قال به الشيخ رحمه‌الله في الأصل الأولي في العمل بالظن ، وعليه فانتساب حكم من الأحكام الى الشارع بمجرّد عدم ورود الدليل عليه وعدم إذنه يكون تشريعا ولو كان في الواقع حكم الشيء ما نسب اليه ، كما يظهر من قوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) ، فهذه الآية أيضا من الآيات الدالة على حرمة التشريع ، واليهود حيث كانوا يشرّعون ، ويدخلون في الدين ما لا دليل به ويحرّمون بعض ما لم يرد دليل من الشرع على حرمته فذمّهم الله تعالى بهذه الآية ، فعلى هذا غاية ما يثبت من الآية هو القول بالحرمة تشريعا وأنّ الشيء الفلاني يكون حراما والحكم بحرمته تشريعا ، وأمّا لو كان الترك لا بعنوان كونه حراما ولا بعنوان التشريع بل يكون من باب الاحتياط ورجاء إدراك الواقع فلا تشمله الآية ، ومحلّ النزاع يكون كذلك ، فافهم.

وأمّا ثالثا فلأنّ اليهود يقولون بالحرمة التشريعية وأنها من الله لا من باب الاحتياط ، فكيف يكون مرتبطا بالمقام الذي قال به القائل بالاحتياط بترك المشتبه من باب الاحتياط ورجاء إدراك الواقع؟

وممّا قلنا يظهر لك ما في التمسّك بالآية الشريفة : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ

١٦١

اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ).

وجه الاستدلال هو : أنّه بعد ما لم يكن الشيء ممّا فصّل لا مانع من أكله والاستدلال بهذه الآية أشكل من سابقها ، لأنّه يستفاد من الآية أنّه ما لم يكن من المحرمات الواقعية لا مانع من أكله ، فلا بدّ في المشتبه من العلم بعدم كونه من المحرمات ، ومع قطع النظر عن ذلك يرد عليه ما قلنا في الآية السابقة.

فظهر لك أنّ بعض الآيات وهي الاولى وهاتين الأخيرتين لا تدلّ على المقصود ، والثلاثة الاخرى تدلّ على ما هو حكم العقل من قبح العقاب بلا بيان ، إلّا أنّه لو دلّ دليل على وجوب الاحتياط فيكفي بيانا ، فافهم واغتنم.

الثاني من أدلّتهم : الأخبار :

وقد ذكروا أخبارا كثيرة ، إلّا أنّ العمدة منها هو حديث الرفع ، وهو من الأحاديث المسلّمة ، لأنّه نقل بطرق عديدة ولا يبعد دعوى تواتره وإن كان الاختلاف في النقل ، ففي بعض الطرق ورد بلفظ «الرفع» ، وفي بعضها بلفظ «الوضع» ، وفي بعضها بلفظ «العفو» ، أو غير ذلك. وأيضا في بعض رواياته ذكر التسعة ، وفي بعضها المرفوع يكون ستّة ، وفي بعضها المرفوع يكون أربعة. وعلى كلّ حال لا إشكال لنا من حيث السند ، وإن أشكل في سنده بعض من لا خبرة له قياسا بسائر النبويات ، ولكنّ هذا النبوي غير النبويات الأخر ، لأنّ هذا نقل من طريق العامة والخاصّة ، فالمهمّ هو التكلّم في سائر جهات الحديث ، ويقع الكلام في مواقع :

الموقع الأوّل :

إنّ المرفوع في الحديث هل هو جميع الآثار ، أو آثاره الظاهرة ، أو خصوص المؤاخذة؟

قال الشيخ رحمه‌الله : إنّ رفع خصوص المؤاخذة يكون أقرب عرفا ، ولكنّ رفع جمع الآثار يكون أقرب اعتبارا ؛ لأنّه بعد ما استند الرفع في الخبر بنفس هذه

١٦٢

الأشياء ، فحيث إنّه لا يكون نفس هذه الأشياء مرفوعا حقيقة ؛ لعدم رفع نفس النسيان ـ مثلا ـ أو غيره فرفع جميع الآثار يكون أنسب ؛ لأنّه لو رفع جميع الآثار فكأنّه رفع نفس الشيء ، ومع قطع النظر عن ذلك فلا حاجة لنا عندئذ في أن يكون المرفوع جميع الآثار الى ذلك ، بل ورد في الخبر ما يدلّ على رفع جميع الآثار.

فعن المحاسن : عن أبيه ، عن صفوان بن يحيى والبزنطي جميعا ، عن أبي الحسن عليه‌السلام في الرجل يستحلف على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال عليه‌السلام : «لا ، قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن أمّتي ما اكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما أخطئوا ...» الخبر.

فهذه الرواية شاهد على أنّ المرفوع يكون جميع الآثار ، ولذا يستشهد الإمام عليه‌السلام لعدم تحقّق الحلف بالحديث ، وفي هذا الحديث وإن لم يكن جميع التسعة إلّا أنّه نعلم بأنّ الأمر في كلّهم على نحو واحد ، فعلى هذا يكون المرفوع هو جميع الآثار.

لكنّه يرد إشكال في هذه الرواية ، وهو : أنّ هذا الحديث ممّا يحصل الخلاف فيه بين الخاصة والعامة في عدم تحقق الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة والإكراه ، والعامة قائلون بذلك ، والخاصة لا يقولون به ، فعلى هذا يقع الإشكال في هذه الرواية من أنها صدرت تقية ، وبعد صدورها تقية لا يكون فيها مقتضى الحجية ، فلا يمكن التمسك بها لإثبات أنّ المرفوع في حديث الرفع هو جميع الآثار ، ولكن لا يخفى عليك أنّه لا إشكال في الخبر أصلا :

أمّا أوّلا فلأن الفرض في الرواية هو أنّ السائل سأل عن كبرى كلّية ، وهي «في الرجل يستحلف على اليمين» ففرّع بعد ذلك بقوله : «فحلف» فقال الإمام عليه‌السلام في جوابه : «لا» فإن كان الجواب عن هذه الكبرى الكلّية فلا يرد إشكال ؛ لأنّه سأل عن مطلق الإكراه بالحلف وأجاب المعصوم عليه‌السلام بقوله : «لا» ، وعلّل بقول النبي : «رفع ... الى آخره» ، فيكون التعليل شاملا له ، حيث إنّ مطلق الإكراه باليمين مرفوع

١٦٣

بمقتضى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعلى هذا جواب المعصوم يكون عن كلّي الإكراه باليمين ، فكلّي الإكراه باليمين مرفوع وعلّل بقول النبي ، والتعليل في محلّه ، والحلف بالطلاق وأخويه مكرها أيضا مرفوع بمقتضى النبوي ، غاية الأمر أنّ فيها جهة اخرى أيضا ، وهي عدم تحقّق اليمين بها ولو في غير الإكراه ، ولا يخفى عليك أنّه لا يبعد أن يكون الأمر كذلك ويكون الجواب عن الكبرى الكلّية ، فعلى هذا لا يرد إشكال على الرواية.

وثانيا : أنّه نقول : ولو التزمنا بأن يكون السؤال عن الإكراه بالحلف في الطلاق وأخواته ويكون الجواب عن ذلك أيضا ولكن كما قلنا في بعض المباحث يتّفق في بعض المقامات أنّ المعصوم عليه‌السلام يبيّن حكم الله الواقعي بلسان التقية وقد بيّن الحكم الواقعي ، ولكن لأجل رفع التقية نقل الحكم بنحو يكون موافقا مع التقية ، ففي المقام أيضا كذلك ؛ لأنّ المعصوم عليه‌السلام في جواب السائل قال : «لا» فهذا حكم واقعي ، أعني لا يتحقّق اليمين بالطلاق وأخويه ، ولكن حيث يمكن أن يكون مورد التقية ، مثلا يسأل رجل لم قلت : (لا) مع تحقق الحلف بها فقال عليه‌السلام : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : كذا ، فتبين الحكم الواقعي وهو عدم تحقق الحلف ، لكن قارنه مع حكم واقعيّ آخر لأجل التقية. هذا على ما نقله الصدوق في الخصال من أنّه قال بعد لفظ «لا» : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن امّتي ... الى آخره».

وأمّا على ما نقله في نوادر الراوندي ـ وهو نقل أضبط ـ قال بعد لفظ «لا» : ثمّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن امّتي ... الى آخره» يكون الأمر واضح ؛ لأنه عبّر بلفظ «ثم» ، وهذا شاهد على أنّ هذا حكم آخر ، وذكره يكون لأجل التقية ، فمن مطاوي ما قلنا ظهر لك أنّه لا إشكال في أنّ المرفوع في حديث الرفع يكون جميع الآثار ، لما ورد في الرواية ، وهذه الرواية التي ذكرناها كشاهد على أنّ المرفوع هو جميع الآثار تكون رواية صحيحة ، فلم يبق مجال في أنّ المرفوع هو جميع الآثار ، فتدبّر جيّدا.

١٦٤

هذا كلّه بالنسبة الى جميع الآثار ، وقد ظهر لك تحقيق أمره.

وأمّا أنّه لا يكون المراد في المقام هو رفع الآثار الظاهرة من هذه التسعة المرفوعة فتارة يقال : أثر الظاهر هو المؤاخذة فسيأتي الكلام فيه ، وتارة الأثر الظاهر الذي يراد به غير المؤاخذة ، ففي كلّ منها ما هو أثره الظاهر ، أو الأثر الظاهر في الكلّ.

فنقول : إنّه لا يمكن أن يقال هنا بأنّ المرفوع الأثر الظاهر من الأشياء كما يقال بذلك في باب الكناية والاستعارة والتشبيه ؛ لأنّ مورد ذلك يكون بحيث لو صدر اللفظ سيكون المنصرف اليه هو الأثر الظاهر ، وبصرف إطلاق اللفظ يحمل العرف اللفظ على ما هو ظاهر فيه.

كما يكون الأمر كذلك في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) ينصرف الى نكاحه ، أو في قوله تعالى : (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) ينصرف الذهن بمجرّد إطلاق اللفظ الى حرمة أكله ، أو في ما ورد في الخبر «عمد الصبي خطأ» يعرف أنّ المراد في القتل.

فعلى هذا ما هو الميزان في حمل اللفظ على أثره الظاهر هو ما يكون اللفظ منصرفا اليه بحيث يحمل العرف على هذا الأثر ، سواء كان إثبات شيء أو نفي شيء ، ففي المقام أيضا لو كان الأمر كذلك فبمجرّد قوله في الخبر : «رفع عن امتي تسعة : السهو ... الى آخره». ينصرف اللفظ الى الأثر الظاهر في هذه الأشياء ، فيمكن أن يقال بأن المرفوع في هذه التسعة هو الأثر الظاهر ، ولكن ليس في البين أثر ظاهر بحيث ينصرف بمجرد إطلاق اللفظ اليه ، فعلى هذا لا يمكن في المقام أن يكون المرفوع هو الأثر الظاهر من هذه الأشياء.

أمّا الكلام في المؤاخذة وأنّه هل يمكن أن يكون المرفوع هو المؤاخذة كي يؤيّد ذلك قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) حيث إنّه بعد طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله تعالى بقوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ...) استجاب ربه دعاءه فرفع عن امته التسعة

١٦٥

أشياء المرفوعة في طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو رفع مؤاخذة هذه الأشياء ، والمؤاخذة يمكن أن تكون الأثر الظاهر من التسعة.

ولكن مع ذلك بعد ما ورد في الخبر الصحيح الذي ذكرناه عن الخصال استشهاد المعصوم عليه‌السلام بحديث الرفع لرفع أثر الطلاق والعتاق والصدقة التي حلف به إكراها فيظهر أنّ المرفوع لا يكون خصوص المؤاخذة ، بل يكون جميع الآثار ، وفي الآية وإن وقع التصريح بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب رفع مؤاخذة هذه الأشياء إلّا أنّه يمكن أن تكون الآية بنحو الإشارة وبيان بعض ما طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتدبّر.

وقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله والسيد محمد الأصبهاني رحمه‌الله أخذا عن الميرزا الشيرازي رحمه‌الله : إنّه يكون المرفوع في حديث الرفع هو خصوص المؤاخذة ، ولكن لا تنافي مع ذلك مع جميع الآثار بأن يقال : إنّ المؤاخذة المرفوعة أعمّ من المؤاخذة بلا واسطة ومن المؤاخذة مع الواسطة ، فكل ما يكون أثره المؤاخذة مرفوع بمقتضى الحديث ، فعلى هذا لا مانع من أن يكون المرفوع هو المؤاخذة ، ولكن أعمّ من بلا واسطة ومع الواسطة.

إذا عرفت ذلك فلم يبق إشكال في الآية بقوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا ؛) لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب رفع المؤاخذة الأعم من بلا واسطة ومع الواسطة في هذه الأشياء ، وأيضا لا ينافي هذا استشهاد المعصوم عليه‌السلام لرفع أثر الطلاق وأخواته ؛ لأنّه بعد ما كانت المؤاخذة أعمّ من بلا واسطة ومع الواسطة فأثر الحلف بالطلاق لا يكون إلّا حرمة وطي زوجته بحيث لو وطئها يكون موجبا للمؤاخذة ، فبالأخرة يكون الأمر راجعا الى المؤاخذة ، وهي مرفوعة بمقتضى الحديث ، وكذلك في العتق والصدقة ؛ لأنه لو لم يعتق أو لم يتصدّق يكون مورد المؤاخذة ، وهنا لا توجد مؤاخذة ؛ لأنّها مرفوعة بفرض أنّها أعمّ من بلا واسطة ومع الواسطة.

وعلى هذا فالكلام يكون في النتيجة شريكا مع القول برفع جميع الآثار ، ولا

١٦٦

اشكال في هذا المقال ، إلّا أنّه خلاف الظاهر ، ولكن على كلّ تقدير يكون المرفوع جميع الآثار ، أمّا على هذا التقريب فلأجل أنّه بعد رفع المؤاخذة الأعمّ من بلا واسطة ومع الواسطة فكلّ أثر يكون موردا للمؤاخذة مرفوع بحكم حديث الرفع ، وأمّا على ما قلنا فأوضح ؛ لأنّ المرفوع هو جميع الآثار.

ولا يخفى عليك أنّه لا يرد على هذا الكلام ما استشكله بعض الأعاظم.

بيان الإشكال : أنّه لو كانت المؤاخذة أعمّ من بلا واسطة ومع الواسطة فلا بدّ من أن تقول برفع كلّ أثر ، سواء كان شرعيا أو عقليا أو عاديا ؛ لأنّك قلت : كل ما يترتّب عليه المؤاخذة مرفوع ولا يمكن القول بذلك ، كما لم نقل به في الاستصحاب.

وفيه : أنّه لا يكون المراد من أنّ المؤاخذة أعمّ من مع الواسطة وبلا واسطة هو أنّه كلّ ما يترتّب عليه المؤاخذة مرفوع ولو لم يكن من قبل الشرع ، بل المرفوع هو المؤاخذة على آثارها الشرعية ، نعم ، تنظّره بالاستصحاب ، فإنّه في الاستصحاب يثبت الأثر سواء كان بلا واسطة أو مع الواسطة ، ولكن مع ذلك ما يثبت هو الأثر الشرعيّ لا العقلي ، فتدبّر.

ومن هذا البيان ـ أعني كون المؤاخذة التي أعمّ من مع الواسطة وبلا واسطة تكون مرفوعة ـ يرد الإشكال الذي قالوه في تقدير المؤاخذة ، وهو : أنّه لو كان التقدير خصوص المؤاخذة فهو مرفوع في سائر الامم أيضا ، فلا يكون مختصّا بامّة نبينا صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.

وجه الردّ هو : أنّ ما يكون في الامم السالفة نفس المؤاخذة عند هذه التسعة ، وبعبارة اخرى : هو عدم المؤاخذة بلا واسطة ، وأمّا المؤاخذة مع الواسطة فلا تكون مرفوعة ، فهذا رفعه منّة ، وقد رفع عن أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ ما تترتّب عليه المؤاخذة شرعا ، فتدبّر.

١٦٧

الموقع الثاني :

بعد ما عرفت من أنّ المرفوع إمّا أن يكون جميع الآثار ، أو الآثار الظاهرة ، أو خصوص المؤاخذة وما هو الحق فيها فيقع الكلام في أنّ المرفوع بعد ما يكون استناده الى نفس هذه التسعة والمفروض أنّ نفس هذه التسعة لم ترتفع فالنسيان أو غيرها باق ، فلا بدّ أن يكون استناد الرفع الى هذه التسعة بلحاظ الأثر ، سواء كان جميع الآثار ، أو الآثار الظاهرة ، أو خصوص المؤاخذة هل يصحّ كون مورد الرفع محذوفا ، أو يكون مقدرا ، بمعنى أنّه حذف مثلا (المؤاخذة) ، أو لم يحذف ، بل يكون في التقدير كذلك ، أعني يكون تقدير المؤاخذة؟

اعلم : أنّ ميزان الحذف والتقدير هو : أنّه لو كان ما يكون غير مذكور في الكلام بحيث يكون الإسناد اليه حقيقة فقط لا ينطق به فهو محذوف ، وأمّا لو لم يكن كذلك هل يكون الإسناد به تنزيلا ولا يكون مضمرا حقيقة ، بل يكون في فرض الإضمار فهو التقدير؟ فعلى هذا في المقام بعد ما كان الإسناد الى نفس هذه التسعة غاية الأمر حيث لا يرفع نفس هذه التسعة فيسند الرفع الى أثرها ، فالإسناد الى الأثر لا يكون إلّا تنزيلا ، وبعد ما لم يكن الإسناد اليه حقيقة فيكون كالمقدر ، فعلى هذا كلّ ما نقول من رفع جميع الآثار أو الأثر الظاهر أو المؤاخذة لا يكون محذوفا ، بل يكون مقدّرا.

ثمّ إنّه لم يكن حديث الرفع كحديث لا ضرر ، ففي حديث لا ضرر حيث يكون الضرر في الخارج إمّا من ناحية الشارع ، وإمّا من ناحية المكلف ، وإمّا من ناحية الغير فالشارع نفى الضرر الذي يحصل من قبله ، فيمكن أن يقال : كما يكون الأمر كذلك بأنّه نفى الضرر حقيقة لأنه في الخارج يكون أحد أفراد الضرر هو الضرر الذي يجيء من قبل الشارع فنفاه الشارع حقيقة ، ولذا قال : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ، فالضرر الذي يكون من الإسلام نفاه الشارع.

١٦٨

وأمّا في المقام فليس كذلك ، بل لا يكون في الخارج إلّا خطأ أو سهو واحد مثلا ، فالشارع لو رفعهما لا يرفعهما إلّا بلحاظ آثارهما ؛ لأنّ حقيقتهما باقية وغير قابلة للرفع ، ففي حديث «لا ضرر» يكون النفي حقيقة ، وفي حديث «الرفع» يكون الرفع تنزيلا ، وباعتبار أنّ رفع أثر الشيء رفع الشيء تنزيلا فما قال بعض الأعاظم من أنّ المقام يكون كحديث لا ضرر لا وجه له ؛ لما عرفت ممّا بيّنّا لك.

ثمّ إنّه كما أنّ في العلم لو استند اليه شيء من الأشياء يكون باعتبار طريقيّته لا باعتبار نفسه ، كما ترى في الحديث المشهور الوارد في السؤال في يوم القيامة : «هلّا تعلّمت» لا تكون المؤاخذة على نفس عدم التعلّم ، بل تكون من باب الطريقية ويؤاخذه على ما يكون تعلّمه واجبا ، فالاستناد اليه يكون من باب الطريقية في طرف الخطأ أو السهو أو النسيان يكون الأمر كذلك ، فتكون الآثار المترتبة على هذه الأشياء باعتبار ما يخطأ فيه أو يسهو أو ينسى ، ويكون الاستناد الى نفس هذه الأشياء من باب الطريقية ، ولو كان الرفع مستندا الى نفس هذه الأشياء فلازمه رفع أثر نفس هذه التسعة ، وأما لو كان المرفوع هو أثر متعلّقاتها فلازمه رفع أثر متعلّقاتها ، مثلا : في السهو لو كان الرفع مستندا اليه فلازمه في سهو القراءة في الصلاة هو عدم شرطية القراءة وعدم وجوب الإعادة ، وأمّا لو كان الرفع مستندا الى ما يسهو فيكون لازمه عدم وجوب سجدة السهو ، ولكن يكون الرفع مستندا الى المتعلّق ، ولو استند الى نفس هذه الأشياء يكون من باب الطريقية ، فتدبّر.

فعلى هذا لا يصحّ ما قاله البعض من أنّه بعد ما كان إسناد الرفع في حديث الرفع الى نفس الخطأ والنسيان ، وأمّا فيما استكرهوا أو ما لا يعلمون أو ما لا يطيقون لا يكون الإسناد الى نفس هذه الأشياء ، بل الى ما لا يطيق به ، أو ما لا يعلم ، أو ما يستكره به ففي كلّ من هذه التسعة لو كان الإسناد الى نفسه يكون أثر نفسه مرفوعا ، ولو كان الإسناد الى موضوع يكون فيه أحد التسعة فيكون المرفوع هو أثر ما فيه أحد هذه التسعة ، ففي الخطأ والنسيان المرفوع أثر نفسهما لإسناد الرفع اليهما ، وأمّا

١٦٩

فيما لا يعلمون أو ما لا يطيقون أو ما استكرهوا عليه يكون المرفوع لا نفس الجهل أو الإكراه مثلا ، بل ما لا يعلم أو ما يستكره به بصحيح.

أما أولا : فلما قلنا من أنّ الإسناد الى هذه الأشياء لا يكون إلّا من باب الطريقية ، فإسناد الرفع الى النسيان ـ مثلا ـ يكون طريقا الى متعلّقه ، فالمرفوع هو ما ينسى أو يخطأ فيه.

وثانيا : بأنّه قد ورد في بعض طرق نقل الحديث الشريف في الخطأ والنسيان أيضا زيادة لفظ «ما» فقال : ما يخطئون مثلا ، أو ما ينسون مثلا ، فافهم.

ثمّ إنّه بعد ما ورد نقل الحديث الشريف في بعض الطرق بلفظ «الرفع» وفي بعضها بلفظ «الوضع» وفي بعضها بلفظ «العفو» وفي بعضها بلفظ «السقوط» فعلى هذا يستفاد من الحديث أنّه كلّ ما يكون من وظيفة الشارع وضعه لم يضعه في مورد الرواية ، سواء كان المقتضى في التكليف به أم لا فيشمل الحديث مورد الرفع والدفع كليهما.

والشاهد على ذلك : أنّه قلنا بأنّه ورد في بعض الطرق بلفظ العفو فهذا شاهد على أنّه يكون مقتضى في الشيء لكن عفا عنه ، وكذلك التعبير بالسقوط فلا إشكال في شمول الحديث لما كان له المقتضي فرفعه لأجل هذه التسعة أو لم يكن له المقتضي أصلا فالحدّ على من اكره على شرب الخمر لا مقتضى له أصلا ، وذلك مرفوع بلا إشكال ، فالميزان هو أنّ ما يكون للشارع وضعه لم يضعه لأجل هذه التسعة ، فتدبّر جيّدا.

الموقع الثالث :

قد يستشكل في الحديث الشريف على شموله لرفع التكليف في الشبهة الحكمية ، كما ذكر هذا الإشكال في كلمات الشيخ رحمه‌الله ، فقال : أمّا شمول ما لا يعلمون

١٧٠

الوارد في الحديث للشبهة الموضوعية فمسلّم ، لظاهر قوله : «وما لا يعلمون» ؛ لأنّ ظاهره هو الفعل الخارجي الذي لا يعلم حكمه ، مثلا اذا لم يعلم بأنّ هذا الشيء خمر حتى يكون شربه حراما ، أو خلّ حتى يكون شربه حلالا ، وأمّا شموله للشبهة الحكمية فمحلّ إشكال :

أمّا أولا فلأنّ ظهور الموصول يكون هو الفعل ، فما لا يعلمون أعني الفعل الذي لا يعلم ، فالمراد ب «ما لا يعلمون» ظاهره هو فعل المكلف الذي لا يعلم ، كفعل الذي لا يعلم أنّه شرب خمرا أو شرب خلّا.

وثانيا : أنّ وحدة السياق أيضا شاهد على ذلك ، لأنه بعد ما كان المراد في «ما اضطرّوا اليه ، أو ما استكرهوا عليه» أو غيرهما هو الفعل الذي استكره به مثلا ، ويكون المراد بها الفعل مسلّما ، فيكون في «ما لا يعلمون» المراد ذلك أيضا لوحدة السياق.

وثالثا : أنّه لو كان التقدير هو المؤاخذة ويكون المرفوع هو المؤاخذة فالمؤاخذة في الشبهة الموضوعية تكون على الفعل ، وأمّا في الشبهة الحكمية فلا يمكن شمول الحديث لها ؛ لأنّ ظهور الرواية هو إسناد الرفع الى نفس هذه التسعة ، فعلى هذا يكون التقدير هو رفع المؤاخذة عمّا لا يعلم ، وما يكون المؤاخذة عليه هو الفعل الخارجي ، فما يكون قابلا للرفع هو المؤاخذة على الفعل الخارجي ، وهو لا يكون إلّا في الشبهة الموضوعية ، ولا يشمل الحديث الشبهة الحكمية ؛ لعدم كون المؤاخذة على الحرام أو الوجوب حتى ترتفع ، فالمؤاخذة في الشبهة الحكمية غير مرفوعة بالحديث ؛ لأنّ ما لا يعلم في الشبهة الحكمية يكون هو الوجوب أو الحرمة ، وهما غير قابلين للمؤاخذة حتى ترتفع مؤاخذتهما ، فعلى هذا لا يمكن استفادة الرفع للشبهة الحكمية التي هي أهم مقصود.

وقد أجاب عن الإشكال وبيّن بعض بيانات لشمول الحديث للشبهة الحكمية ،

١٧١

والعمدة في التوجيهات هما :

الأول ؛ : ما قاله بعض تلاميذ الشيخ رحمه‌الله من أنّ المنشأ في الشبهة الحكمية والموضوعية وإن كان مختلفا ؛ لأن في الأول يكون منشأ الشكّ هو الشكّ في الحكم ، والثاني يكون الشكّ في الموضوع بعد تبيّن الحكم إلّا أنّ في كلّ منهما ما يكون مورد الشكّ هو الفعل ، وما يكون مورد المؤاخذة هو الفعل الخارجي ، ولو أنّ منشأ الشكّ يكون في الفعل الخارجي مختلفا ففي الشبهة الحكمية يكون منشأ الشك في الفعل هو الشكّ في حكمه ، وفي الشبهة الموضوعية يكون منشأ الشك هو عدم تبيّن الموضوع وتكون المؤاخذة أيضا على الفعل ، غاية الأمر أنّ منشأ المؤاخذة في الشبهة الحكمية هو الحكم وفي الموضوعية هو الموضوع ، فعلى أيّ حال ما يكون به المؤاخذة في كل منهما هو الفعل وما يرفع هو المؤاخذة على الفعل ، لكن يرفع المؤاخذة لأجل ثقله ، وما يكون فيه ثقل وإن كان في الشبهة الحكمية هو الحرمة أو الوجوب لكن هذا منشأ المؤاخذة وما يكون به المؤاخذة لا يكون إلّا الفعل الخارجي فهو مرتفع ، فعلى هذا ما ترتفع المؤاخذة عنه هو الفعل الخارجي ، لكنّ منشأ المؤاخذة المرفوعة في الفعل الخارجي يكون مختلفا ويكون الرفع لأجل الثقلية التي كانت في الفعل إلّا أنّه في الشبهة الحكمية منشأ الثّقل هو الحكم ، وفي الشبهة الموضوعية منشؤه الموضوع ، وحيث لا يعلم فرفع الشارع مؤاخذته.

وما أورده البعض على هذا التقرير من أنّ الظاهر هو رفع المؤاخذة عن الفعل بذاته لا لأجل كون شيء آخر وهو الحكم ففيه : أنّ هذا ممنوع ، وفي كلّ من الشبهة الحكمية والموضوعية يكون رفع المؤاخذة على الفعل ، إلّا أنّه ما قلت من أنّ المرفوع المؤاخذة على ذات الفعل فغير صحيح ؛ لأنّ المرفوع هو جهة الثقل التي كانت في الفعل ، ففي الشبهة الحكمية يكون الثقل من حيث الحكم فهو مرتفع ، وفي الشبهة الموضوعية يكون الثقل من حيث الموضوع وهو مرفوع ، وعلى كلّ تقدير ترفع

١٧٢

المؤاخذة عن الفعل.

وبهذا التقرير تندفع إشكالات الشيخ رحمه‌الله ؛ لأنّه سلّمنا أنّ ظاهر الموصول هو الفعل ، لكنّ منشأ رفع مؤاخذته مختلف ، ولا يكون على هذا خلاف في السياق ؛ لأنّ في كلّ من التسعة يكون المرفوع هو المؤاخذة على الفعل.

إن قلت : إنّ في ما استكرهوا عليه أو غيره يكون الاسناد الى ذات الفعل ، لا الى الفعل بما هو متعلق الحكم ، فمع ذلك لا يحفظ السياق.

قلنا : إنه لا يتنافى ذلك مع وحدة السياق ، إذ في كلّ من المذكورات في الحديث تكون المؤاخذة على الفعل الخارجي ، ولا مانع من أن تكون المؤاخذة على الفعل الخارجي في ما لا يعلمون لجهتين : إحداهما في ذات الفعل ، والاخرى باعتبار حكمه ، ولا يلزم في حفظ وحدة السياق أزيد من أن يكون في كلّ المذكورات رفع المؤاخذة على الفعل.

ولا يرد الإشكال الثالث أيضا ؛ لأنّ المؤاخذة على الفعل ، لكنّ منشأ المؤاخذة في الفعل تارة يكون الحكم ، وتارة يكون الموضوع ، فافهم.

التوجيه الثاني : هو أنّ ما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله هنا عكس ما قاله البعض في التوجيه الأول ، وهو أن يقال : يكون المراد بالموصول هو الحكم ، وما ترتفع المؤاخذة به هو الحكم ، ومع ذلك يشمل الشبهة الموضوعية بأن يقال : إنّ في الشبهة الموضوعية والحكمية يكون منشأ الشكّ هو الاشتباه في الحكم ، غاية الأمر أن الاشتباه في الشبهة الحكمية هو الاشتباه في الحكم الكلي ، وفي الشبهة الموضوعية يكون الاشتباه في الحكم الجزئي ، مثلا : تارة يقع الشكّ في أنّ كلّي الخمر حلال أو حرام؟ فيكون الشك في الحكم الكلّي ، وهذا يكون شبهة حكمية. وتارة يقع الشكّ في أنّ هذا المائع الخارجي ـ مثلا ـ هل هو خمر حتى يكون شربه حراما ، أو خلّ حتى يكون شربه حلالا؟ ففي هذا المثال ولو كان حكم شرب الخمر الكلي والخلّ الكلي

١٧٣

معلوما إلّا أنّه لم يكن حكم هذا المائع الخارجي معلوما ووقع الشكّ في حكمه ، فهذا هو الشبهة في الموضوع.

اذا عرفت ذلك فنقول : إنّ المراد بالموصول في «ما لا يعلمون» هو الحكم ، والحكم أعمّ من الكلّي والجزئي ، فالمؤاخذة على حكم لا يعلم مرفوع ، سواء كان المشتبه الحكم الكلّي كالشبهة الحكمية ، أو الحكم الجزئي كالشبهة الموضوعية.

وهذا التوجيه وإن يندفع به الإشكال الثالث بأن يقال : إنّ المراد بالموصول هو الحكم إلّا أنّه يكون خلاف الظاهر وخلاف سياق الرواية ، فافهم.

فظهر لك فساد توجيه المحقّق الخراساني ، ولكن التوجيه الأول الذي قال به بعض تلاميذ الشيخ رحمه‌الله ليس ببعيد ، فعلى أيّ حال لا مانع من شمول الحديث للشبهة الحكمية والموضوعية ، فافهم.

الموقع الرابع :

لا يخفى عليك أنّ إسناد الرفع ولو كان الى نفس هذه الأشياء إلّا أنّه يكون من باب الطريقية الى متعلّقاتها ، فالمرفوع ليس ـ مثلا ـ أثر نفس الجهل أو الخطأ أو النسيان أو غيرها ، بل المرفوع هو ما لا يعلمون أو ما يخطأ أو ما ينسى الى آخره ، فالمرفوع هو أثر متعلّقات هذه الأشياء ، سواء كان المرفوع تمام الآثار ، أو الآثار الظاهرة ، أو خصوص المؤاخذة ، فعلى هذا ما يكون مرتفعا هو أثر هذه المتعلقات مثلا أثر فعل الذي أخطأ أو استكره به ، لا نفس الخطأ والإكراه ، فبذلك يظهر لك أنّ الآثار المترتبة على نفس هذه التسعة لا يكون مرفوعا بحكم الحديث ، مثلا ما يكون مرفوعا هو القتل لو وقع خطأ ، أو بطلان الصلاة لو نسيت القراءة ؛ لأنّ هذا أثر ما يخطئون وأثر ما ينسون ، ولا يرتفع وجوب الكفّارة المترتّب على قتل الخطأ ، أو وجوب سجدتي السهو المترتّب على نسيان القراءة ؛ لأنّ هذا أثر نفس الخطأ ، أو أثر

١٧٤

نفس النسيان ، ولا يشملها الحديث ؛ لما قلنا من أنّ المرفوع هو أثر ما وقع فيه أحد التسعة ، أو لما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّ هذه الأحكام التي تترتب على أحد من التسعة كانت التسعة موضوعها ، ولا يمكن أن يكون الموضوع عادم حكمها ورافعه.

وأيضا لا إشكال في أنّ حديث الرفع لا يشمل الآثار المترتبة على الشيء بوصف عدم الخطأ ، مثل أن يكون من أول الأمر مخصوصا بالعامد ؛ لأنّ حديث الرفع يرفع ما يكون لو خلّي وطبعه مع قطع النظر عن شمول الحديث للموارد التسعة ولو بصرف كون المقتضى لشموله ، وأمّا ما لا يكون له شمول في حال أحد التسعة فلا يشمله الحديث ، ولا حاجة أيضا الى رفعه بالحديث ، لانه لا يكون في مورد أحد التسعة أولا وبالذات أصلا.

والحاصل : أنّ الحديث لا يشمل ما يكون موضوعه من الأول مقيّدا بعدم كونه في حال الجهل أو الخطأ أو النسيان أو غيرها من التسعة المذكورة في الحديث.

وأيضا لا إشكال في أنّ الحديث يشمل ما كان وضعه ورفعه هو الشارع ، يعني أنّ كل أثر يكون وضعه ورفعه من قبل الشارع يرفع بمقتضى الحديث ، وأما ما لا يكون أمره من الوضع أو الرفع بيد الشارع فلا يمكن له الرفع ، كالآثار العقلية والعادية ، فكلّ أثر يكون عقليا أو عاديا غير مرفوع بمقتضى الحديث ، كما يكون كذلك في باب الاستصحاب ، وأنّ الاستصحاب لا يثبت الأثر القطعي أو العادي ، والسّر في ذلك هو : أنّ كل ما لا يكون وضعه ورفعه بيد أحد كيف يمكن له الوضع أو الرفع؟ ولا يوضع بوضعه ولا يرتفع برفعه لأنّ أمره ليس بيده ، فما قلناه لا يكون محلّ إشكال.

إلّا أنّه يرد إشكال آخر ، وهو : أنّه بعد ما لا يمكن رفع الآثار العقلية والعادية بالحديث فالمقدر لو كان جميع الآثار فتكون المؤاخذة من الآثار ، ولو كان الآثار

١٧٥

الظاهرة فالمؤاخذة من الآثار الظاهرة ، وإن كان خصوص المؤاخذة فالأمر واضح.

وعلى كلّ تقدير تقولون برفع المؤاخذة ، والحال أنّ المؤاخذة لا تكون من الامور التي كان وضعها ورفعها بيد الشارع حتى يمكن له رفعها ، بل هي من الآثار العقلية ، والحاكم باستحقاق الثواب والعقاب هو العقل ، فأمرها من الوضع والرفع بيد العقل فكيف يمكن للشارع رفع المؤاخذة؟

فقالوا في جواب هذا الإشكال بجواب معروف ، وهو : أنّه بعد ما كان منشأ المؤاخذة هو إيجاب الاحتياط بيد الشارع فيكون رفعها ـ وهو رفع منشئها أعني عدم وجوب الاحتياط ـ بيد الشارع ، فعلى هذا ترتفع المؤاخذة برفع منشئها وهو عدم وجوب الاحتياط.

ولكن حيث كان ذلك الجواب من لطائف كلمات الشيخ رحمه‌الله فينبغي أن نبيّن وجه هذا الكلام ببيان أوفى.

فنقول بعون الله تعالى : إنّه لا إشكال في أنّ المقدور بالواسطة مقدور ، كما أنّ بواسطة ذلك قلتم في باب مقدمة الواجب بأنّ المسبّب مقدور للشخص لقدرته على سببه ؛ لأنّ المقدور بالواسطة مقدور ، فعلى هذا نقول فيما نحن فيه بأنّ الشارع قادر على وضع المؤاخذة ورفعها ، لأنّه بعد ما كان للشارع وضع الأحكام فيمكن له وضع الحكم في حال جهل المكلف وهو بأن يبلغ التكليف مرتبة الفعلية أو التنجّز على اختلاف في أنّ الأعمّ شرط الفعليّة أو التنجّز ، فحيث إنّه يمكن للشارع أن لا يبلغ التكليف مرتبة الفعليّة أو التنجّز فكذلك يمكن له بلوغ التكليف بتلك المرتبة ، ومع عدم العلم ولو كان بلوغ التكليف مرتبة الفعلية أو التنجيز غير ممكن لعدم علم المكلف إلّا أنّه يمكن له نصب الطريق على التكليف أو إيجاب الاحتياط ، ويمكن له عدم نصب الطريق أو عدم إيجاب الاحتياط ، فإذا لو نصب الطريق أو أوجب الاحتياط ففي صورة مخالفة المكلف تصحّ المؤاخذة بحكم العقل ، وأمّا لو لم يبلغ

١٧٦

الشارع التكليف الى مرتبة الفعلية أو التنجز إمّا بنصب طريق عليه وإمّا بإيجاب احتياط في مورده فلا تصحّ المؤاخذة على التكليف ، وعليه تكون المؤاخذة وضعا ورفعا بيد الشارع ولو بوضع منشئه وسببه أو رفع منشئه وسببه ، وهذا معنى ، أنّ المقدور بالواسطة مقدور ، فافهم.

وبعد الجواب عن هذا الإشكال يأتي إشكال آخر ، وهو : أنّه على ما قلتم لا يرفع الحديث الشريف آثار نفس هذه التسعة ، فلا يرتفع بالحديث آثار نفس الجهل أو الخطأ الى آخره ، فعلى هذا يكون إيجاب الاحتياط في مورد الجهل وعدم العلم بالواقع ، وإلّا ففي صورة العلم بالواقع فلا يكون احتياط ، بل يكون الواقع مكشوفا ، فالاحتياط يكون في صورة الجهل بالواقع خصوصا على ما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّ الاحتياط يكون وجوبه طريقيا ، وكأنّ وجوبه لحفظ واقع المجهول ، فيكون الاحتياط حكم ثبت في مورد الجهل وموضوعه يكون هو جهل المكلف ، فعلى هذا لا يمكن أن يرفع بحديث الرفع ، لأنّه حكم في موضوع الجهل فكيف يمكن أن يرتفع هذا الحكم بموضوعه وهو ما لا يعلمون ، أعني الجهل؟

ولا يخفى عليك أنه لو اجيب عن الإشكال الأول ويظهر مراد الشيخ رحمه‌الله يندفع الإشكال الثاني أيضا ، فنقول أيضا بأنّ مراد الشيخ رحمه‌الله في دفع الإشكال الأول ونظره الى أنّ العلم بعد ما كان شرطا للفعلية أو التنجّز كلّ على مبناه فما لم يبلغ البيان من الشارع لا يصير الحكم فعليا أو منجّزا ، ولا بدّ للشارع من البيان ، فاذا تبيّن يصير الحكم فعليا أو منجزا.

وعلى هذا فبيان الشارع تارة يكون نصب الطريق على الحكم المجهول ، فاذا نصب الطريق بيّن ما هو وظيفته ، وقهرا يصير الحكم بعد ذلك فعليا أو منجزا.

وتارة يكون بيانه بإيجاب الاحتياط في مورد واقع المجهول ، فبعد إيجاب الاحتياط أيضا يكون البيان من قبله تماما ، ولهذا فبعد بيان الشارع يحكم العقل

١٧٧

بالمؤاخذة في صورة المخالفة ، ولكن ما لم يصل البيان من الشارع لا يحكم العقل بذلك ، فعلى هذا نقول بأنّه حيث تكون المؤاخذة على الحكم بعد بيان الشارع ومن تبعاته فيكون منشأ المؤاخذة بيد الشارع ، لأنّه لو لم يبلغ الشارع الحكم لمرتبة التنجيز أو الفعلية لم تقبح المؤاخذة ، فللشارع أن يبلغ الحكم بتلك المرتبة حتى تتبعه المؤاخذة ، وللشارع أن لا يبلغه بتلك المرتبة حتى لا تتبعه المؤاخذة ، فالمؤاخذة بنفسها وإن لم يكن أمرها من الوضع والرفع بيد الشارع إلّا أنّ منشأها ـ وهو بلوغ الحكم مرتبة التنجز أو الفعلية وعدم بلوغه ـ يكون بيد الشارع ، فبعد إبلاغ الشارع الحكم لتلك المرتبة تتبعها المؤاخذة قهرا ، ولم تكن مؤاخذة لو لم يبلغ الحكم لتلك المرتبة.

فظهر لك أنّ منشأ المؤاخذة رفعا ووضعا بيد الشارع ببلوغ الحكم لتلك المرتبة وعدمه ، وظهور الحديث وإن كان رفع الحكم أصلا حتى في مرتبة اقتضائه إلّا أنّه بعد ما أثبتنا في محلّه أنّ اختصاص الحكم بالعالمين بالأحكام يكون مستلزما للتصويب ، وفي الموضوعات ولو لم يلزم التصويب لو كان مختصّا بالعالمين إلّا أنّه بعد ما نعلم بعدم التفكيك بين الجاهل والعالم وأنّ شرب الخمر الواقعي ـ مثلا ـ يكون حراما لا ما علم كونه خمرا فلا بدّ من أن يكون المراد من الحكم المرفوع في صورة الجهل وعدم العلم هو مرتبة التنجّز أو الفعلية كلّ على مبناه.

فعلى هذا ما هو المرتفع بمقتضى الحديث هو مرتبة التنجز أو فعلية الأحكام ، وظهر لك أنّ للشارع البيان ، ويمكن له بلوغ الحكم لتلك المرتبة وعدم بلوغه ، ولكن حيث قلنا بأنّ بلوغ الحكم لتلك المرتبة كما يكون تارة بجعل الطريق كذلك يكون تارة اخرى بإيجاب الاحتياط ، ولو شاء أن لا يبلغ التكليف بتلك المرتبة لم ينصب الطريق ولم يجب الاحتياط.

فظهر لك أنّ المرفوع هو مرتبة التنجز أو الفعلية للأحكام ، ولكن حيث يكون

١٧٨

منشأ عدم بلوغ الحكم لتلك المرتبة عدم إيجاب الاحتياط تارة فلذا قال الشيخ رحمه‌الله : إنّ رفع المؤاخذة يكون بعد إيجاب الاحتياط ، وإلّا فما يكون منشأ المؤاخذة وعدمها هو بلوغ الحكم لتلك المرتبة وعدم بلوغه ، وحيث يكون البلوغ لتلك المرتبة بإيجاب الاحتياط وعدم البلوغ بعدم إيجاب الاحتياط عبّر بذلك وقال : إنّ رفع المؤاخذة يكون برفع إيجاب الاحتياط ، وإلّا فلا اشكال في أن ما هو المرفوع هو تلك المرتبة من الحكم.

ولو تأمّلت في كلامه يظهر لك أنّ مراده هو ما قلنا ، فعلى هذا لا يرد الإشكال الأول ، وهو : أنّ المؤاخذة من الآثار العقلية فليس للشارع رفعها ، لأنّنا قلنا : إنّ رفع المؤاخذة برفع منشئها وهو عدم بلوغ الحكم مرتبة التنجز أو الفعلية وهو بيد الشارع ، فيكون معنى رفع المؤاخذة رفع منشئها ، وهذا معنى أنّ المقدور بالواسطة مقدور.

وما أورده بعض على الشيخ رحمه‌الله من أنّ ظهور الحديث هو رفع الحكم المجهول لا الاحتياط حتى يقال بأنّ رفع المؤاخذة برفع منشئها وهو رفع وجوب الاحتياط على ما قلنا في توجيه كلامه ليس بوارد.

لأنّه على ما قلنا ما هو المرفوع هو مرتبة تنجّز الحكم أو فعليته ، ولكن يكون رفع ذلك وعدم بلوغه لتلك المرتبة بعدم إيجاب الاحتياط ، فعلى هذا ما هو المرفوع هو الحكم المجهول ، ولكن لو كان الجمود على لفظ إيجاب الاحتياط ورفعه وأنّ المرفوع هو إيجاب الاحتياط فيرد هذا الاشكال ، ولكن ليس الأمر كذلك.

ومن هنا يظهر لك الجواب عن الإشكال الثاني ، وهو : أنّ إيجاب الاحتياط حكم في موضوع عدم العلم فكيف يمكن رفعه بالحديث؟ لأنّا نقول : إنّ ما هو المرفوع لا يكون إيجاب الاحتياط حتى يرد الإشكال ، بل المرفوع كما قلنا مرارا هو الحكم ، غاية الأمر في مرتبة تنجّزه أو فعليّته ، وعليه فالمرفوع هو الحكم المجهول ، لا

١٧٩

إيجاب الاحتياط حتى يرد الإشكال ، واذا كان المرفوع هو الحكم فيكون الموضوع هو الحكم المجهول ، ولا تنافي بأنّ يرفع الحديث أمرا آخر وهو إيجاب الاحتياط ، فما يكون مرفوعا هو الحكم مرتبة تنجّزه أو فعليته ، وهو ليس حكم ثابت في مورد الجهل وعدم العلم حتى لا يمكن رفعه بحديث الرفع ، فلا يرد الإشكال المتقدم.

ولو كان المرفوع هو إيجاب الاحتياط صدق ما قالوا من أنّه لا يمكن رفعه بالحديث ، ولكن هو ليس بمرفوع ، والمرفوع هو الحكم ولو كان منشأ رفعه بعدم إيجاب الاحتياط ، فتدبّر.

وقد يقال : إنّك تعلم بأنّ الأغراض تكون مختلفة شدّة وضعفا ، فتارة لا تهمّ بحفظ الغرض لضعفه ، وتارة تهمّ بحفظه لأهميّته ، فلو كان الغرض مهمّا تجد طالب حفظ الغرض يهتمّ في حفظ غرضه ، وكلّ ما كان لوجوده دخل في وجود غرضه يوجده ، وكلّ شيء يكون رفعه له دخلا في غرضه يدفعه.

فعلى هذا نقول في ما نحن فيه : إنّ غرض الشارع تارة يكون مهمّا بحيث يكون نظره بإتيانه ولو في حال الجهل ، ولذا يجعل الاحتياط في مورده. وتارة لا يكون كذلك ، بل يكون الغرض غير مهمّ في نظره ، فلذا لو علم المكلف ـ مثلا ـ بنفسه يطلب منه وفي حال الجهل لم يجب الاحتياط ، فعلى هذا يصبح معنى رفع ما لا يعلمون رفع المقتضي ؛ لما قلنا من أنّ المقتضي قاصر من أن يطلبه في حال الجهل ، وعليه يكون الرفع رفع المقتضي ، لا رفع مرتبة تنجّز الحكم أو فعليته.

ولكن ولو قلنا بهذا الكلام في بعض المقامات ، وأنّ الأغراض مختلفة من حيث الشدّة والضعف إلّا أنّه ليس في المقام مجال لهذا الكلام ؛ لأنّ ظاهر الحديث هو إسناد الرفع الى الحكم ، لا رفع مقتضيات الأحكام ، فافهم.

ثمّ إنّ هنا عبارة للمحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية وهي : أنّه مع ما يظهر من عبارته من أنّ المرفوع هو الحكم فقد صرّح قبل ذلك جوابا عن إشكال المؤاخذة

١٨٠