المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

الكلام

في القطع والظنّ والشّك

٥
٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين ، واللعن على أعدائهم من الآن الى قيام يوم الدين.

الكلام في القطع والظنّ والشكّ

وقبل التكلم في أصل المطلب نقول بأن الشيخ رحمه‌الله قال في الرسائل : (إنّ المكلّف إذا التفت الى حكم شرعيّ فإمّا أن يحصل له الشكّ فيه ، أو القطع ، أو الظنّ ، فإن حصل له الشكّ فالمرجع فيه هو القواعد الشرعية الثابتة للشاكّ في مقام العمل ... الى آخره).

واستشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله وبعض آخر بأن على هذا يلزم تداخل الأقسام ، إذ ربّ شكّ يكون حكمه حكم الظنّ ، وبالعكس ، فليس مطلقا الظنّ من حيث الحكم في مقابل الشكّ ، وكذلك ليس كلّ شكّ مطلقا في مقابل الظنّ من حيث الحكم ، بل ربّما يكون حكم الظنّ حكم الشكّ ، كما يكون كذلك في الظنّ الغير المعتبر ، ولكن بعد التأمّل في كلام الشيخ رحمه‌الله وفي مطلبه يظهر لك صحة كلامه رحمه‌الله وعدم ورود إشكال عليه ؛ لأنّه تارة يكون هذا التقسيم باعتبار الحكم ، يعني باعتبار ما هو التكليف المكلّف من حيث الحكم عند طروء هذه الصفات له ، فإن كان التقسيم بهذا

٧

الاعتبار فيرد الإشكال على الشيخ رحمه‌الله ؛ لأنّ الظنّ من حيث الحكم ليس مطلقا في مقابل الشكّ. وتارة يكون التقسيم لا باعتبار الحكم ، بل يكون النظر الى أنّ مجرّد التفات المكلّف الى الحكم مطلقا يحصل له هذه الصفات الثلاثة : إمّا القطع أو الظنّ أو الشكّ ، فلا يكون النظر على هذا الى أحكامها ، بل يكون الى نفس هذه الصفات.

فعلى هذا ولو كان بعض هذه الصفات من حيث الحكم متّحدا مع صفة اخرى إلّا أنّ في حدّ ذاته كلّا منها صفة في قبال الآخر فلا يلزم تداخل الأقسام على هذا ، وضرورة.

يكون الأمر كذلك ، إذ كلّ شخص بعد توجّهه لأمر إمّا أن يحصل له القطع ، أو الظنّ ، أو الشكّ ، ونظر الشيخ رحمه‌الله الى هذا.

إن قلت : لو كان المراد من التقسيم نفس هذه الصفات في حدّ ذاتها مع قطع النظر عن حكمها فلم لم يتعرّض للوهم؟ والحال أنّ الوهم أيضا صفة في قبال هذه الصفات ، وربّما يحصل للشخص الوهم ، فكان الحقّ على هذا أن يقول : إمّا أن يحصل له القطع ، أو الظنّ أو الشكّ ، أو الوهم.

نقول : بأنّ الوهم وإن كان هو احتمال المرجوح في مقابل الظنّ وهو كون الاحتمال في طرف أرجح من الآخر ، وفي قبال الشكّ وهو كون الاحتمال في الطرفين مساويا ، وفي قبال القطع وهو عدم احتمال الخلاف في الطرف الآخر ، إلّا أنّ مع ذلك لا يلزم جعله في هذا التقسيم قسما آخر في قبال القطع والظنّ والشكّ.

والسّرّ في ذلك : هو كون هذا التقسيم باعتبار ما يترتّب على هذه الصفات من الأحكام ، وبعد كون الوهم احتمال المرجوح في طرف وهو أضعف من الشكّ لكون الاحتمال في الطرفين مساويا يكون من حيث الحكم داخلا في الشكّ فلا يلزم ذكره مستقلا ، وهذا لا يتنافى مع ما قلنا في ردّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله من عدم كون التقسيم بلحاظ الأحكام مرادنا ؛ لأنّه فعلا لم يكن الشيخ رحمه‌الله في مقام بيان حكم هذه

٨

الصفات ، وهذا لا يتنافى مع كون التقسيم بلحاظ الأحكام المترتّبة عليها ولو أنّه يذكر بعد في محلّه ما يثبته. فظهر لك ممّا تلونا عليك : أنّ ما قاله الشيخ رحمه‌الله في هذا المقام في محلّه ولا يرد عليه إشكال من هذا الحيث.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله قال في مقام التقسيم بيانا آخر فرارا عن بعض الإشكالات المتوهّم ورودها على التقسيم الذي ذكره الشيخ رحمه‌الله ؛ فقال : (إنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت الى حكم فعليّ واقعيّ أو ظاهريّ متعلّق به أو مقلّديه : فإمّا أن يحصل له القطع به ، أو لا ، وعلى الثاني لا بدّ من انتهائه الى ما استقلّ به العقل من اتّباع الظنّ لو حصل له ، وقد تمّت مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة ، وإلّا فالرجوع الى الاصول العقلية ... الى آخره).

ولكن مع ذلك يرد عليه إشكالات :

الأول : أنّ ظاهر كلامه اختصاص التقسيم بالمكلف البالغ لقوله : (البالغ الذي وضع عليه القلم) ، والحال أنّ الأمر ليس كذلك :

أمّا أولا فلأنّ غير البالغ ـ أعني الصبي ـ أيضا يلتفت الى حكم فعلي ؛ لأنه على القول بمشروعية عبادة الصبي كما هو مذهبه واستحباب العبادات له فهو أيضا يلتفت تارة الى حكم فعلي ، فإمّا أن يحصل له القطع أو غيره ؛ لأن الصبي ولو لم يكن الواجب عليه واجبا والحرام عليه حراما ، إلّا أنّه مع ذلك يستحبّ له الإتيان بالواجبات فيحصل له حكم فعلي ، إلّا أن يلتزم بكون هذا التقسيم لخصوص الواجبات والمحرّمات ، وعلى هذا لا يدخل الصبيّ ؛ لعدم حكم فعليّ وجوبيّ أو تحريميّ له ، ولكنّ هذا الالتزام في غير محلّه ، ولا إشكال لتعميم التقسيم للمستحبات والمكروهات أيضا.

وأمّا ثانيا يكون تارة نفس الصبي موضوعا لإجراء حكم المولى ، مثلا لو علم الوليّ بأنّ الصبي صار جنبا ولكن شكّ في أنّه اغتسل أم لا فلا بدّ من إجراء الصبي

٩

الاستصحاب والحكم لأجله ببقاء جنابته ، ثمّ يتفرّع على ذلك حكم للولي وهو لزوم ردعه عن مسّ كتابة القرآن ، ففي مثل هذا المورد نفس الصبي يجري الاستصحاب ، فهذا شاهد على كون حكم الشكّ له فيدخل في هذا التقسيم.

الثاني : قال : (إذا التفت الى حكم فعليّ واقعي أو ظاهري ... الى آخره) ، وظاهر كلامه هو : أن البالغ تارة يلتفت الى حكم فعليّ واقعي ، وتارة الى حكم فعليّ ظاهري. وقبل ذكر الإشكال نقول : إنّ مراده من الفعلي في هذا المقام ليس هو الفعليّ الذي اذا علم به أيضا لم يتنجّز ؛ لأنّ الحكم عليه ولو قطع به الشخص لم يتنجّز ، لأنّ له شرائط أخر غير العلم ، فهو بالعلم لا يصير منجّزا ، بل مراده من الفعليّ هو الفعليّ الذي لو علم به لتنجّز ، فليس لتنجّزه شرط إلّا العلم ، فهذا القيد احتراز من الفعليّ بالمعنى الأوّل.

إذا عرفت ذلك نقول : بأنّ من يقول بكون مؤدّى الأمارات أحكاما ـ كما قال به القدماء ـ لا يرد عليه إشكال لو قال : يحصل له حكم ظاهري ، وأمّا من لم يقل بهذا وقال : معنى جعل الأمارة هو جعل الحجّية التي معناها هو التنجّز عند الإصابة والعذر عند المخالفة فكيف يقول بأنّه (إذا التفت الى حكم فعليّ واقعيّ أو ظاهري؟ وهذا المحقّق رحمه‌الله قال في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بجعل الحجّية فلم يكن على مبناه في الأمارات جعل حكم ، نعم قال بجعل الحكم في بعض الاصول ، فعلى أي حال يرد عليه في الأمارات : بأنّ على مبناك ليس مؤدّاها أحكاما أصلا فتخرج الأمارات عن هذا التقسيم.

الثالث : قال : (وعلى الثاني لا بدّ من انتهائه الى ما استقلّ به العقل) وحاصل كلامه هو : أنّ بعد عدم حصول القطع بحكم فعليّ ظاهريّ أو واقعيّ يكون المرجع هو الظنّ الانسدادي على تقرير الحكومة ، ثم بعد ذلك المرجع هو الاصول فجعل الاصول في طول الظنّ الانسدادي ، والحال أنّ الظنّ في حال الانسداد في طول

١٠

الاصول ؛ لأن إحدى مقدمات دليل الانسداد هي عدم إمكان جريان الأصل في كلّ واقعة ، فبعد عدم إمكان جريان الأصل تصل النوبة الى الظنّ الانسدادي ، فكلامه من هذا الحيث أيضا مورد إشكال ليس في محلّه ، فيرد عليه الإشكالات الثلاثة التي ذكرناها. (١)

اذا عرفت هذا كله نقول في مقام التقسيم بيانا خال عن الاشكال ، وهو أن نقول : إنّ الشخص إذا التفت الى حكم شرعي : فإمّا أن يحصل له العلم ، وإمّا أن يحصل له الظنّ ، وإما أن يحصل له الشكّ ، فلو قيل بهذا التعبير لا يرد إشكال.

ثمّ إنّه حيث يكون لنفس القطع والظنّ الحكم بمعنى أنّ نفسها حيث يكونان قابلين للحكم لأنّ فيهما جهة الإراءة والكشف ، وإن كان الكشف في الظنّ هو كشف ناقص يصحّ أن يقال : إنّ نفس القطع والظنّ قابلان للحكم ، وأمّا الشكّ فحيث لم يكن فيه جهة كشف أصلا لم يكن الشكّ بنفسه قابلا للحكم ، ولذا عبّر الشيخ رحمه‌الله ـ ولقد أجاد في كلامه ـ بأنّ المرجع في صورة الشكّ هو الاصول العملية.

فعلى هذا نقول بأنه في صورة الشك إن لوحظ في حكم الحاكم ـ وهو الشارع مثلا ـ حالة سابقة بمعنى أن الشارع لاحظ الحالة السابقة في حكمه والحالة السابقة دخل في حكمه فيكون المورد مجرى الاستصحاب ، لأنّ فيه لاحظ الحاكم الحالة السابقة ، لأنّه قال : «لا تنقض اليقين بالشك». وإن لم يلاحظ الحاكم في حكمه الحالة السابقة : فإن كان الشكّ في أصل التكليف فالمرجع هو البراءة ، وإن كان الشكّ في

__________________

١ ـ أقول : إنّ الإشكال الثالث الذي أورده سيدنا الاستاذ مدّ ظلّه على المحقّق الخراساني رحمه‌الله لا يرد عليه ؛ لأنّه ولو إحدى مقدمات دليل الانسداد هي عدم إمكان جريان الأصل في كلّ واقعة إلّا أنّ بعد تمامية المقدمات يكون الظنّ الانسدادي مقدما على الأصل ، ولذا لو ظنّ بحكم في موضوع لا مجال لجريان الأصل في هذا المورد ، فعلى هذا كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله في مقام التقسيم صحيح ؛ لأنّه قال بكون الأصل في طول الظنّ الانسدادي إذا تمّت مقدمات دليل الانسداد ، كما صرّح بذلك وقال : (وقد تمّت مقدمات الانسداد). (المؤلّف)

١١

المكلّف به بعد العلم بالتكليف فإن أمكن الاحتياط فالمرجع الاشتغال ، وإن لم يمكن الاحتياط فالمرجع التخيير.

إذا عرفت هذا كلّه نقول : بأنّه يقع الكلام في القطع والظنّ والشكّ في طيّ مقاصد بعون الله تعالى ونستعين منه.

١٢

المقصد الاوّل

في العلم

١٣
١٤

المقصد الأول

في العلم

ويقع الكلام في العلم في مقامات :

المقام الأول

هو أنّ العلم لا يكون موردا لحكم أصلا ، والتعبير في بعض الكلمات كما يظهر من ظاهر كلام الشيخ رحمه‌الله من أنّه يجب اتّباع القطع يكون على وجه المسامحة ، وليس وظيفة العلم إلّا إراءة الواقع وكشفه ورفع السترة ، ولا يكون قابلا لحكم أصلا لا لحكم عقليّ ولا شرعي ، وكشفه عن الواقع أيضا أثره التكويني ، غاية الأمر بعد حصول العلم وكشف الواقع يترتب على المقطوع كلّ ما هو أثره ، فالمقطوع أيضا غير محكوم بحكم عقلا ، يعني ليس مع قطع النظر عن ترتّب الأثر حكم آخر عقلا بوجوب الأخذ والعمل به ، بل بعد القطع والعلم يترتّب على المقطوع والمعلوم كلّ ما هو أثره ، فيترتّب عليه كبرى الواقع ، مثلا : إذا علمت بكون هذا خمرا لا يتولّد أمر بوجوب اتّباع هذا العلم ، وكذلك بوجوب الاتّباع عن المقطوع ، بل بعد العلم يترتب على هذه الصغرى ـ وهو هذا الخمر المعلوم ـ كبرى الواقع وهي حرمة شربه ، فليس للقطع حكم أصلا لا شرعا ولا عقلا ، غاية الأمر بعد العلم يترتب على المقطوع أثره ،

١٥

سواء كان هذا الأمر أثر العقلي أو الشرعي.

فظهر لك أنّ في صورة العلم ليس حكم بوجوب الاتّباع عقلا ، فالعلم غير قابل للحكم ، فلا مجال بعد ذلك للتكلّم في أنّه غير قابل للجعل التشريعي لا إثباتا ولا نفيا ، لما قلنا من عدم كونه قابلا لتعلّق الحكم به أصلا لا عقلا ولا شرعا ، هذا حال العلم من أنّه بعد حصوله لا إشكال في ترتّب أثر الواقع على المعلوم ، وأمّا الجهل المركّب فلا يترتّب عليه أثر الواقع ؛ لأنه ليس هداية بل جهالة وضلالة ، ولا يكون علما بل هو جهل أشدّ جهل فكيف يترتّب عليه أثر العلم؟ غاية الأمر لو لم يقصّر في مقدماته يكون معذورا لا لأجل اعتقاده الباطل واقعا حتى يقال : إنّ الواقع له أثر والواقع يترتّب عليه ، والجاهل المركّب لم يكشف له الواقع ، بل لأجل أنّ جهله عذر له ، فهو معذور لكون الجاهل معذورا لو لم يقصّر في المقدمات.

فظهر لك أنّ معذورية الجاهل المركّب ليس إلّا لأجل جهله في صورة عدم تقصيره في المقدمات ، وأمّا مع تقصيره فلا يكون معذورا.

وظهر لك عدم تعلّق حكم بالقطع ، وكون التعبير بوجوب اتّباعه مسامحة ، والشاهد على هذا هو أنّ في بعض الموارد لا معنى لوجوب الاتباع ، مثلا : لو قطع بكون هذا المائع ماء فبعد العلم ينطبق على هذه الصغرى كبرى الواقع وهي كون الماء مباحا ، فلو كان الواجب اتّباع العلم لكان عليه لازما شربه ، وهو كما ترى ، فهذا دليل على عدم ترتّب حكم متعلّق به من العقل أو الشرع ، بل ليس أثر العلم إلّا كشف الواقع ، ولازمه ترتيب ما هو أثره في الواقع ، فافهم.

ومما قلنا ظهر لك أنّ العلم هو الاعتقاد الموافق للواقع فإن كان كبرى الواقع هو الوجوب يترتّب عليه ، وكذلك الحرمة. وتارة يكون كبرى الوقع الإباحة أو الندب أو الكراهة ، فلا معنى لوجوب الاتّباع في هذه الصور ، فالعلم غير محكوم بحكم من العقل ، كما أنّ الذي هو جهل بل من أشدّ صور الجهل أيضا غير محكوم

١٦

بحكم من المعذورية مثلا ، بل الجهل عذر له ؛ لأنّ الجاهل مع عدم تقصيره معذور.

وممّا قلنا ظهر لك أنّ إطلاق الحجّة على العلم ليس بمعنى إطلاقها على غيره ؛ لأنه لم يصر وسطا لإثبات متعلّقه ، فلا تقل : إنّ هذا معلوم الخمرية ، وكلّ معلوم الخمرية كذا ، فهذا كذا ، بل بمجرد العلم ينكشف الواقع لك ، ولذا تنطبق كبرى الواقع على هذه الصغرى وتقول : هذا خمر ، وكلّ خمر حرام ، فهذا حرام. ومن الواضح أنّ الحجّة عبارة عن ما يوجب القطع بالمطلوب فكيف يطلق على نفس القطع؟ وهذا واضح ، فالمراد من إطلاق الحجّة على العلم هو : أنّ به يصحّ الاحتجاج ، فتارة يحتجّ العبد به على المولى اذا قطع ولم يصادف الواقع ولم يكن في تحصيله مقصّرا ، وتارة يحتجّ المولى به إذا صادف الواقع ولم يعمل العبد به. هذا كلّه في العلم.

وأمّا في الظنّ فحيث لم يكن كاشفا تاما بل فيه احتمال الخلاف ولأجل ذلك يكون حجّة تعبّدية فيصحّ إطلاق الحجّة الاصطلاحية عليه ؛ لصيرورته وسطا لإثبات المتعلّق ، فتقول : هذا مظنون الخمرية ، وكلّ مظنون الخمرية حرام ، فهذا حرام ، والسرّ في ذلك هو : أنّك لو لم تجعل الظنّ وسطا لا يمكن لك تطبيق الصغرى على الكبرى فلا بدّ فيه من الأمرين :

الأول : كبرى تعبّدية على حجّية الظنّ. الثاني : جعل الظنّ وسطا في الصغرى حتى ينطبق على هذا الكبرى التعبدية ، فلا يمكن لك مع حصول الظنّ بكون هذا خمرا أن تقول : هذا خمر ، لأنّه من المحتمل عدم كونه خمرا ، فلا بدّ من أن تقول في الصغرى بأنّ هذا مظنون الخمرية.

ثمّ بعد ذلك هذه الصغرى لا تنطبق على الكبرى الواقعية ، فلو كان لك كبرى واقعية بأنّ كلّ خمر حرام فلا تنطبق على هذه الصغرى أعني هذا مظنون الخمرية ؛ لأنّ مقتضى الكبرى هو حرمة الخمر الواقعي ، وهذه الصغرى لا تثبت إلّا الظنّ بكون هذا خمرا فيحتمل أن يكون ماء في الواقع ، لأن معنى الظنّ احتمال المرجوح في

١٧

طرفه فلا يمكن القول بحرمة هذا ؛ لأنّه ليس لهذه الصغرى كبرى واقعية فلا بدّ من كبرى تعبدية وهو كلّ مظنون الخمرية حرام ، فبعد ضمّ هذه الصغرى لهذه الكبرى ينتج لك أنّ هذا حرام ، فلأجل ذلك حيث إنّ الظنّ صار سببا لإثبات المتعلق يصير وسطا فتكون حجية الظنّ حجية تعبدية بخلاف العلم فهو حجّة بذاته ، فبعد كون حجّية الظنّ حجية تعبدية ولم تكن لصغراه كبرى واقعية ، ولا يمكن انطباق صغراه على الكبرى الواقعية فلا يقع هذا الخمر المظنون صغرى لكل خمر يجب الاجتناب عنه ؛ لأنّ وجوب الاجتناب عرض الخمر الواقعي ، وهذا المائع المظنون خمريته غير معلوم كونه خمرا واقعا حتى يعرضه وجوب الاجتناب.

فمن أجل ذلك التزمت العامة تارة بأنّ الحكم الواقعي ليس حكما واحدا لكلّ من العالم والجاهل ، بل لكلّ منهما في كلّ واقعة حكم على حدة ، فمن اعتقد بوجوب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ كان الواجب عليه واقعا هو الجمعة ، ومن اعتقد بحرمته كان واقعا صلاة الجمعة عليه حراما.

وتارة بأنّ الحكم المجهول واقعا هو حكم واحد يشترك فيه الجاهل والعالم ، غاية الأمر من صادف اجتهاده بما هو الواقع فما هو الواقع عليه واجبا ، وإن لم يصادف رأيه بما هو الواقع بل صادف غير الواقع فيبدّل الواقع بالنسبة اليه.

والفرقة المحقّة ـ الشيعة ـ لمّا رأوا بطلان هذا الكلام وفساده لم يعتقدوا بهذه المقالة ، بل قالوا بأنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما واحدا يشترك فيه العالم والجاهل ، وليس له حكمان في واقعة واحدة ، ولا يبدّل ما هو الواقع لو لم يصادف رأي المجتهد الواقع ، بل في هذه الصورة أيضا حكم من أخطأ الواقع هو ما هو الواقع ، غاية الأمر هو أخطأ ولم يصل الى الواقع ، ومن هنا نشأ النزاع بين المخطّئة والمصوّبة ، فالعامة قائلون بالتصويب ؛ لأنّ باعتقادهم كلّ مجتهد مصيب لأنّ لكلّ حكما على حدة ، والشيعة قائلون بالتخطئة لأنّهم كما قلنا معتقدون بأنّ لله في كلّ واقعة حكما واحدا

١٨

مشتركا فيه العالم والجاهل.

فالشيعة بعد التزامهم بذلك قد تصدّوا لتصوير وجه صحيح للالتزام واتّباع الأمارات غير الموجبة للعلم فذكروا لذلك وجوها :

الوجه الأوّل : ما يظهر من القدماء وهو الالتزام بحكم آخر في مقابل الحكم الواقعي عبّر عنه بالحكم الظاهري ، وقالوا بأنّ الحكم الواقعي حكم واحد ، ولكن لنا حكم آخر وهو الحكم الظاهري وهو مؤدّى الأمارة ، فما هو مؤدّى الأمارة يكون حكما ظاهريا ، وبهذا البيان فرّوا من إشكال التصويب لالتزامهم بأنّ الواقع ليس إلا حكم واحد ، وتصوروا كبرى شرعية ينطبق عليها الصغريات ، فاذا ظننت بكون هذا خمرا تقول : هذا مظنون الخمرية ، وكلّ مظنون الخمرية حرام لأداء الظنّ به وكون مؤدّى الظنّ حكما ظاهريا فتكون النتيجة : أنّ هذا حرام ظاهرا لكونه مصداقا لحكم ظاهري ، فعلى هذا تكون المصلحة في نفس مؤدّيات الطرق والأمارات وهي مصلحة في قبال مصلحة الواقع.

الوجه الثاني : وهو ما يظهر من كلام الشيخ رحمه‌الله وهو : أن تكون المصلحة في نفس السلوك ، فعلى هذا لا تكون المصلحة في المؤدى ، بل المصلحة في الأمارة تكون مصلحة طريقية نعبّر عنها بالمصلحة السلوكية ، فمن عمل بالطريق لو لم يصل الى الواقع يصل الى مصلحة مجعولة في نفس الطريق ، فعلى هذا الوجه ليس مؤدّى الطرق والأمارات حكما أصلا ، بل ليس في المؤدى مصلحة أصلا بل المصلحة في السلوك فقط ، فعلى هذا الوجه أيضا ينطبق الصغريات على كبرى شرعية وتكون الكبرى على كلّ من الوجهين كبرى شرعية ؛ لأنّ الشارع على الوجه الأول جعل حكما ظاهريّا في مؤدّى الظنّ مثلا ، وكذلك على الوجه الثاني الشارع جعل المصلحة في سلوك هذا الطريق مثلا ، فالكبرى تكون كبرى شرعية.

الوجه الثالث : أنّا لا نلتزم بالوجهين المتقدمين ، بل نقول بأنّه ليس للشارع

١٩

حكم أصلا بل الكبرى مأخوذة من العقل ، بمعنى أنّ الحاكم بالكبرى لهذه الصغريات هو العقل ، وهذا أيضا على أنحاء :

فتارة يكون للعقل حكم بأنّ الوصول الى الواقعيات لا يمكن إلّا بسلوك طرق كما ترى ، فإنّ العقلاء لهم طرق منصوبة للوصول الى مقاصدهم ، فبعد حكم الشارع أو العقل بأنّ خبر الواحد حجة ـ مثلا ـ يحكم العقل بسلوك هذا الطريق لكونه من مصاديق الكبرى العقلية ، وهو : أنّ كلّ طريق لا بدّ من سلوكه ـ مثلا ـ بحكم العقل ، ففي هذه الصورة تكون للصغريات كبرى لكن حكم الكبرى يكون من ناحية العقل ، فعلى هذا يكون الحكم حكما طريقيّا عقليا لا شرعيا ، كما أنّه يمكن أن يكون جعل الحجيّة من هذا القبيل.

وتارة لا يكون منشأ الكبرى العقلية ذلك ، بل يكون من باب لزوم دفع الضرر المحتمل ، لأنه من المسلّم أنّه مع عدم المؤمّن كقبح العقاب بلا بيان لو احتمل ضررا لا بدّ من دفعه ، فبعد جعل الصغرى ـ مثلا ـ بعد جعل الشارع الظنّ حجّة يحكم العقل باتّباعه لأجل دفع الضرر المحتمل لعدم مؤمّن في البين.

وتارة يكون منشأ الكبرى العقلية التي تنطبق عليها الصغريات التعبّدية هو حكم العقل باهتمام المولى بالواقع كما ترى ، مثلا المولى يكون حفظ الدين عنده مهم ، بحيث مع احتماله أيضا لا يجوز ترك الحفظ ، كما أنّه لعلّ من هذا القبيل الفروج والدماء ، ففي هذه الصورة بعد ما يرى العقل اهتمام المولى بالواقع يحكم بحفظ جميع احتمالات الواقع ، فيمكن أن يكون الحكم الكبروي على لزوم اتّباع الطرق والأمارات من هذا القبيل ، حيث إنّ من المحتمل كون مؤدّى الطريق هو الواقع والمولى الى أهميّة حفظ الواقع ، فالعقل يحكم بحفظ جميع احتمالاته ، فيحكم بلزوم العمل على طبق الأمارة حفظا للواقع ، فعلى أيّ حال بكلّ من هذه الوجوه يمكن تصوير الكبرى الصغريات التعبدية. غاية الأمر إثبات أنّ حجّية الأمارات

٢٠