المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

وجه الاستدلال هو : أنّه تعالى وصف نبيه ـ صلوات الله وسلامه عليه وآله بأنّه ـ يؤمن بالمؤمنين ، والإيمان هو التصديق ، فيصدّق قول المؤمنين.

وفيه : أنّ الآية وردت في رجل نمّام فأخبر الله تعالى نبيّه بنميمته ، فأنكر الرجل بأنّي لم أفعل ذلك ، فصدّقه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا الفعل من خصاله الشريفة بأنّه مع علمه بكونه نمّاما لم يظهر ولم يصرّ على ذلك ، بل قبل إنكاره ظاهرا ، كما ترى أنّ ذلك موقوف عليه نظام المعيشة ، فيرى الرجل من الناس مخالفات ولم يظهر على وجهه. وبعبارة فارسية (روى خودش نمى آورد) ، فالنبي مع علمه بكذب هذا صدّقه ظاهرا ، فعلى هذا لم يكن مفيدا لما نحن فيه ، إذ النبي لم يصدّق النمام واقعا ، ولم يرتّب على قوله أثر ، وكيف يصدّق النّمام والحال أنّ الله تعالى أخبره بنميمته؟

والعجب ممّن تمسّك بهذه الآية لحجية الخبر وغفل عن أنّه لو صدّق النبي النّمام لكان تصديقه له تكذيبا لله تعالى! وكيف يمكن ذلك؟

بل المراد هو ما قلنا ، أو أن يكون المراد ما ورد في بعض الروايات من أنّه لو شهد عندك خمسون قسامة فصدّقه وكذّبهم ، والحال أنّه لا يمكن ردّ خمسين قسامة ، فليكن المراد أنّه لا يترتّب عليه أثر ، فتصديق الشخص يكون فيما لا يكون مضرّا بالآخرين وكيف يمكن التمسّك بحجية الخبر بذلك مع أنّ في قول المخبر يتّفق كثيرا ما الإضرار بالغير؟

ويمكن أن يكون المراد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان سريع القطع ، وهذا أيضا لم يكن مفيدا لما نحن فيه ، إذ في مورد القطع لا كلام في حجية الخبر ، ولا يكون قبول قوله من باب حجية قوله ، بل يكون من باب القطع ، فلا يمكن الاستدلال بهذه الآية لحجية قول الثقة.

وأمّا الأخبار التي تمسّكوا بها على حجية قول الثقة فكثيرة لعلّها تبلغ حدّ التواتر ، وهذه الأخبار تصلح بكونها يكون إمضاء لسيرة العقلاء.

١٤١

ولا إشكال في أنّ سيرة العقلاء تكون على اتّباع خبر الواحد وحجّيته في تمام أفعالهم ، وهذه السيرة ممّا لا يبعد أن تكون من زمن آدم ـ على نبينا وآله وعليه‌السلام ـ الى زماننا هذا ، وإنّنا وإن لم نكن محتاجين في هذا المقام الى إمضاء الشارع ولكن يكفي عدم ردعه عن هذه السيرة.

وتمسّكوا لحجية خبر الواحد أيضا بالإجماع : تارة بإجماع العلماء على حجية الخبر ، فإن كان كاشفا عن قول المعصوم أو عن دليل معتبر فهو ، وإلّا لم يكن دليلا. وتارة يتمسّكون بإجماع علمي ، وأنّ العلماء بل كلّ المسلمين من الصدر الأول الى الحال يعملون بخبر الواحد ، وهذا أيضا ممّا لا إشكال فيه ، ولكن لو ثبت أنّ سيرة المسلمين على حجية خبر الواحد تكون من باب أنّهم متديّنين بذلك الدين فهو لا يحتاج الى إمضاء هذه السيرة ، لأنّه يكشف عن أنّ هذا يكون طريقة الشارع ، وإلّا كيف يمكن أن تكون سيرة المسلمين على ذلك؟

ولكنّ الإنصاف : أنّ هذا غير ثابت ، بل تكون سيرتهم على ذلك من باب عقلائيتهم ، فعلى هذا تكون هذه السيرة هي سيرة العقلاء ، ولا إشكال في أنّ العقلاء قد كانت سيرتهم على العمل بالخبر والشارع أيضا لم يردع عن هذه السيرة فتكون هذه السيرة حجة ، بل كما قلنا في ضمن بعض الآيات المتمسك بها على حجية الخبر قد أمضى الشارع هذه السيرة.

وللمحقّق الخراساني رحمه‌الله هنا كلام يقع مورد إشكال لما توهّمه من منافاته مع ما قاله في الاستصحاب.

أمّا كلامه هنا فقال : إنّه (إن قلت بأنه يكفي في الردع عن السيرة الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم. قلت : لا يمكن ذلك ؛ للزوم الدور.

وإن قلت : إنّ حجية خبر الثقة بالسيرة أيضا مستلزم للدور. قلت : إنّما يكفي في حجية خبر الثقة بالسيرة عدم ثبوت الردع عن السيرة ... الى آخره).

١٤٢

وقال في الاستصحاب : بأنّه لا يمكن التمسّك في حجية الاستصحاب بالسيرة ، لأنّه يكفي في ردعه بالآيات الناهية عن اتّباع غير العلم ، فأشكلوا عليه بأنه ما الفرق بين المقامين؟

ولكن لا يخفى عليك أنّه يمكن توجيه كلامه ، بل يكون الأمر كذلك بحيث لا يكون بين كلامه هنا وفي باب الاستصحاب منافاة.

فنقول مقدمة لذلك : إنّ تدخّل الشارع في الامور يكون مختلفا ، بمعنى أنّه في بعض الموارد لا بدّ من إمضاء الشارع ، وفي بعضها لا بدّ من كشف أنّ الشارع لم يردع عنه ، وفي بعضها يكفي عدم ثبوت الردع ، بمعنى أنّ ثبوت الردع يكون مانعا.

فظهر لك أنّه لا توجد قاعدة كلّية في البين بأنّه يلزم في كلّ الامور إمضاء الشارع ، بل تكون المواقف مختلفة ، ففي بعضها لا بدّ من الإمضاء ، وفي بعضها ولو أنّه لا يلزم الإمضاء إلّا أنّه لا بدّ من ثبوت عدم الردع ، وفي بعضها لا يلزم ذلك أيضا بل يكفي عدم ثبوت الردع.

اذا عرفت ذلك ففي بعض الموارد كاستعمال الألفاظ لا إشكال في أنّ الشارع يجاري طريقة العرف وعمله ، كما قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) فالشارع يتماشى مع العرف ولا تكون له طريقة خاصة ، ولو كان فلا بدّ من أن يقول ، وعليه فبمجرد صدور لفظ يحمل العرف على ما هو موضوع ومتعارف عندهم ، ففي المورد لا يلزم أن يمضي الشارع هذه الطريقة العرفية ، بل يكفي فيه عدم الردع عن هذه الطريقة ، وكذلك في باب الإطاعة والمعصية وأنحاء الإطاعة وكيفيتها حيث تكون بيد العقل فكلّ ما حكم العقل في هذا الباب لا بدّ من إطاعته ، وبناء العقلاء على ذلك ، فلو لم يكن هكذا طريق متّبعا عند الشارع لا بدّ من الردع.

إذا عرفت ذلك من أنّه في بعض الموارد لا يلزم الإمضاء بل لا يلزم ثبوت عدم الردع نقول : بأنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله كان غرضه في المقام كيفية الإطاعة

١٤٣

والمعصية ، وأنّ إمكان التعبّد بخبر الواحد وعدمه يكون راجعا الى العقل فيكفي فيه عدم الردع ، بل يكون مقتضى الحجية للسيرة موجودا ، غاية الأمر لو ثبت الردع يكون مانعا عن حجّيته فلا يكون شرطا في اقتضائه ، فعلى هذا يكفي في حجية السيرة عدم ثبوت الردع ، وعليه فبمجرّد عدم ثبوت ردع من الشارع تكون حجة ، ولكنّ الآيات الناهية لم تكن كذلك ، بل حجّيتها موقوفة بعدم تخصيصها بالسيرة ، بمعنى أنّه لا يكون في الآيات الناهية مقتضى الحجية أصلا إلّا اذا لم تكن مخصّصة بالسيرة ، وعلى هذا فحجّية السيرة تكون فعلية ، وحجّية الآيات تكون تعليقية ؛ لأنّ السيرة حجة فعلا وفيها مقتضى الحجية ، ولو فرضنا كون الآيات رادعة عن السيرة لم تكن مانعة من اقتضاء السيرة للحجية ، وذلك لعدم مقتض للحجية إلّا بعد عدم تخصيصها بالسيرة ، فافهم ، وبهذا فقد علمت أن في بعض الموارد يكفي عدم ثبوت الردع ، وفي بعض الموارد لا بدّ من الإمضاء.

ولا يخفى عليك أنّ المجعولات الشرعية كلّها من هذا القبيل ، سواء كانت تكليفية أو وضعية ، ففي كلّ منها حيث يكون راجعا الى الشارع ، إذ وظيفة الشارع هو وضع الأحكام ، ففي ذلك المورد لو كان عند العرف أمر فلا بدّ في العمل والتمسّك به من إمضاء الشارع ، فلو كان عند العرف كذا أمر مثلا موجبا للنقل لا يمكن لهم العمل إلّا بعد إمضاء الشارع ؛ لما قلنا من أنّه لا بدّ من أن تؤخذ الأحكام طرّا من الشارع ، ولا يلزمه بمقتضى شارعيّته الردع حتى يقال : يكفي عدم الردع ، بل يلزم على الناس الرجوع في الأحكام الى الشارع ، فما لم يمض الشارع لا يمكن لهم العمل.

نعم ، في المعاملات تارة نقول : بأنّ ما يكون مورد اعتبار الشارع هو ما يكون عند العرف ، والشارع يكون اعتباره منزّلا على ما يتعامل به العرف ، فعلى هذا يكون من الموضوعات العرفية ، والشارع حيث إنّه يتماشى مع العرف فلا بدّ من تنزيل ما يكون معاملة عنده بما يكون معاملة عند العرف ، لأنّه لو كان غير ذلك لا بدّ له من

١٤٤

الردع.

وتارة نقول بأنّه لا تكون المعاملة عند الشارع عبارة عما تكون معاملة عند العرف ، بل يكون للشارع اعتبار آخر ولكن حيث إنّه لم يبيّن موضوع اعتباره فلا بدّ من أخذ موضوع اعتبار الشارع من الحكم ، وهذا غير الأول ، ففي الأول لا يكون للشارع اعتبار خاصّ فينزّل كلامه على ما هو المعتبر عند العرف ، وفي الثاني له اعتبار خاصّ لكن حيث لم يبيّن موضوع حكمه ولا يكون حكمه مجملا ولا مهملا فلا بدّ من الرجوع في موضوعه الى العرف ، وهذا هو السرّ في أنّه نقول : إنّه ولو قلنا بأنّ الألفاظ موضوعة للصحيح ولكن يمكن التمسّك في المعاملات بالإطلاق بخلافه في العبادات ، حيث إنّه في المعاملات إمّا أن لا يكون للشارع اعتبار خاص ، وإمّا أن يكون له اعتبار خاصّ ، لكن لا بدّ في أخذ موضوعه من العرف فيصحّ التمسّك بالإطلاق ، وأمّا في العبادات فحيث إنّه يكون من وظائف الشارع لا بدّ من أخذها منه فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق ، فافهم.

والى هذا يشير كلام الشيخ رحمه‌الله في المكاسب في الصفحة (٨١) أول البيع قبل قوله : الكلام في المعاطاة بسطر قال : (وأمّا وجه تمسّك العلماء بإطلاق أدلة البيع ونحوه : فلأنّ الخطابات لمّا وردت على طبق العرف حمل لفظ «البيع» وشبهه في الخطابات الشرعية على ما هو الصحيح المؤثّر عند العرف ، أو على المصدر الذي يراد من لفظ «بعت» ... الى آخره). فعلى هذا في المعاملات يكون عدم الردع كاشفا عن الإمضاء لو كان المعتبر عنده هو المعتبر عند العرف ، أو لم يذكر موضوع اعتباره ، فلا بدّ من الرجوع الى العرف ، فلو لم يردع يكون كاشفا عن الإمضاء.

وأمّا في غير المعاملات من سائر الأحكام ـ تكليفية كانت أو وضعية ـ فيكون محتاجا الى الإمضاء من قبل الشارع ؛ لأن معنى المجعول هو كونه تابعا للنحو الذي يجعله جاعله ، وكيفية جعل الجاعلين مختلفة فلا بدّ على هذا من الإمضاء.

١٤٥

اذا عرفت ذلك كلّه يظهر لك وجه الفرق بين كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله في هذا المقام ـ أعني في خبر الواحد ـ وبين كلامه في الاستصحاب ، فقال : حيث إنّه يكون معنى حجّية الخبر هو الإعذار في صورة عدم اصابة مؤدّاه للواقع والتنجيز في صورة الإصابة فعلى هذا يكون الكلام في أنّه يمكن الإطاعة بالخبر ، أو لا وأنّه يمكن أن يقع في طريق الإطاعة والمعصية أم لا ، فحيث إنّ الحاكم في باب الإطاعة والمعصية هو العقل فيكون الشارع موافقا للعقل في هذا الباب ، فيكفي في حجية طريق العقل عدم ثبوت الردع من الشارع ، فما لم يثبت الردع منه يكون طريق العقل متبعا ، فعلى هذا يكون في السيرة مقتضى الحجية ، والآيات لا يمكن أن تكون رادعة عن السيرة ؛ للزوم الدور ، ولكنّ حجية الخبر بالسيرة غير مستلزم للدور ؛ لما قلنا من أنّ فيها مقتضى الحجية وما لم يثبت الردع تكون السيرة حجّة.

وأمّا في باب الاستصحاب فحيث إنّه يكون من مخترعات الشارع ومجعولاته لأنّه يكون حكما من الأحكام كما هو مبنى المحقق المذكور من أنه يكون جعل حكم مماثل ، فعلى هذا لا بدّ في المجعولات من الإمضاء ، حيث إنّ وظيفة الشارع هو بيان الأحكام ولا يكون وظيفة غيره ، فلا بدّ من أن تؤخذ الأحكام منه ، فعلى هذا لو كان حكم في مذهب سابق أو عند الناس ، لا يمكن العمل به بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل لا بد من أن يؤخذ منه ، فإن أمضى الشارع هذه الطريقة فهو ، وإلّا فلا بدّ من الرجوع اليه ، وعليه فما لم يمض الشارع لا يكون متّبعا ، والسر فيه : هو ما قلنا من أنّ وضع الأحكام وظيفة النبي ، ولا بدّ من الرجوع اليه ، لكن لو أمضى ما يكون عند الناس يكفي ، فعلى هذا في الاستصحاب أيضا ما لم يمض الشارع سيرة العقلاء لا يمكن الأخذ بالسيرة والقول بحجية الاستصحاب ، فلأجل ذلك قال المحقّق المذكور : بأنّه لا يمكن التمسّك بالسيرة لحجّية الاستصحاب لأجل الآيات الرادعة ، لأنّه لا يكون للسيرة مقتضى الحجية أصلا قبل إمضاء الشارع فلا يمكن التمسك بها لحجية الاستصحاب.

١٤٦

لكن لا يخفى أنّ ما قاله المحقّق المذكور في باب خبر الواحد من أنّه حيث يكون البحث عن حجية الخبر راجعا الى أنّه يمكن الإطاعة به ، أو تقع المعصية بمخالفته فيكون من كيفيات الإطاعة والمعصية ، وهي راجعة الى العقل خلاف ما قاله في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري : من أنّ الحجية التي تكون في الأمارة هي من الأحكام الوضعية ؛ ولو كانت كذلك فيرجع أمرها الى الشارع الى الشارع ، ولكن يمكن الجمع بين كلاميه بما قال ولو كان مخالفا لمبناه من أنّ الحجية من الأحكام الوضعية.

فقد ظهر لك ممّا قلنا في هذا المقام قاعدة كلّية وهو أنّه في كلّ مورد يكون أمره راجعا الى العرف أو العقلاء أو أهل اللسان حيث يكون الشارع تابعا لهم يكفي فيه عدم ثبوت الردع من الشارع في جواز الأخذ به ، كاستعمال الألفاظ الراجع أمرها الى أهل اللسان ، أو باب الإطاعة والمعصية الراجع أمرهما الى العقل ، فلو كان للشارع هنا حكم لا يكون إلّا من باب عقلائيته ، ولذا يكون حكمه إرشاديا ، وأمّا في الأحكام ـ أعني في كل المجعولات ـ فحيث أمرها راجع الى جاعله ففي مجعولات الشارع لا يكفي عدم الردع ، بل لا بدّ من ثبوت الإمضاء ، غاية الأمر في المعاملات قلنا : إنّه من الإطلاقات نكشف أنّه لو كان المعتبر عنده هو المعتبر عند العرف فهو امضاء لما عند العرف معاملة ، ولو قلنا بأنّه ولو لم يكن المعتبر عنده ما هو معتبر عند العرف إلّا أنّه بعد عدم تعيين موضوعه لا بدّ من الرجوع الى العرف لأجل أنه بعد عدم تعيين موضوع حكمه ، وحيث إنّه لا يعلم العرف من إطلاقاته إلّا ما هو المعتبر عندهم ولا يمكن إهمال إطلاقاته فلا بدّ من الرجوع في موضوع اعتباره الى العرف نظير الإطلاق المقامي.

فالمقام يكون بحيث لا بدّ من الالتزام بأنّ في موضوع اعتبار الشارع يلزم الرجوع الى العرف ، وهذا غير ما نقول بأنّه يكفي في المعاملات عدم الردع ، بل لا بدّ

١٤٧

من الإمضاء ، غاية الأمر نكشف الإمضاء كذلك ، فعلى هذا نعلم كلية في المجعولات الشرعية وما هو وظيفة الشارع لا بدّ من الإمضاء ، غاية الأمر في بعض الموارد يكشف عدم الردع عن الإمضاء.

إذا عرفت ذلك كلّه فاعلم : أنّ ما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الخبر الواحد من أنّه حيث يكون البحث عن حجية الخبر راجعا الى الإطاعة والمعصية ، وأنّه يحصل به الإطاعة أو المعصية ـ مثلا ـ فيكون من وظائف العقل فالشرع تابع له فيكفي فيه الردع ليس في محله ، إذ النزاع في الخبر لم يكن في ذلك ، بل يكون في طريق الحكم ، وأنّه هل يصلح خبر الواحد أن يصير طريقا الى الحكم الشرعي ، أو لا؟ فعلى هذا لا يكون ذلك من وظائف العقل ، بل يكون من وظائف الشرع ، لأنه كما أنّ نفس بيان الحكم على عهدة الشارع كذلك من وظائفه بيان طريقه ، فلو كان عند الناس طريق لا يمكن لهم الاكتفاء به بمجرّد عدم الردع ، بل يجب عليهم الرجوع الى الشارع حتى يبين لهم الأحكام وطرقها ، ولا تكون وظيفة الشارع ردعهم لأنّ على الناس أن يرجعوا الى الشارع فعلى هذا بعد كون المقام من وظائف الشارع لو كان طريق عند العرف أو العقلاء لا بدّ في جواز العمل به من ثبوت إمضائه ، وفي المقام بما قلنا في آية النبأ وآية النفر والأخبار والإجماع لو تمّ لكشف الإمضاء وثبت إمضاء الشارع لسيرة العقلاء ، وبعد ثبوت الإمضاء لا مانع من الأخذ بالسيرة ، فالسيرة القطعية مع إمضاء الشارع دليل على حجية خبر الثقة ، فافهم.

وممّا قلنا يظهر لك أنّه لا يمكن القول بحجية الاطمئنان أو ظنون أخر تمسكا بالسيرة ، لأنّه بعد ما كانت السيرة فيما هو وظيفة الشرع محتاجة الى الإمضاء ففي كلّ مورد ثبت الإمضاء يمكن التمسك بالسيرة ، وفيما لا يثبت الإمضاء لا يمكن التمسك بها ، ففي خبر الواحد حيث ثبت الإمضاء نقول بحجية السيرة ، وأمّا في الاطمئنان أو سائر الظنون فحيث لا دليل على إمضاء الشارع لم تكن السيرة حجة ، فافهم.

١٤٨

نعم ، في مرتبة من الاطمئنان وهي المرتبة النازلة من العلم التي يعمل العقلاء به لا لأجل ضعف احتماله ، بل لأجل عدم رؤية الاحتمال ، مثل أنّك ترى أنّه في الاطمئنان يكون احتمال الخلاف ، غاية الأمر في بعض مراتبه يكون عمل العقلاء به لضعف احتماله فيرون فيه الاحتمال ، ولكن لا يكون مورد اعتنائهم ، وتارة يكون الاحتمال بحيث لا يرونه فعملهم في تلك المرتبة من الاطمئنان يكون لعدم رؤيتهم الاحتمال أصلا ، ففي هذه المرتبة من الاطمئنان ـ أعني المرتبة التي لا يرى العقلاء فيها احتمال الخلاف ـ فحيث إنّ العقلاء لا يكون بنظرهم فرق بين العلم وهذه المرتبة من الاطمئنان ، بل يكون كالعلم بنظرهم فعلى هذا بعد قول الشارع مثلا : اتّبعوا العلم أو لا تتّبعوا الظنّ يفهم العقلاء دخول الاطمئنان تحت حكم اتّباع العلم وخروجه عن تحت حكم حرمة اتّباع الظنّ ، لما قلنا من كون تلك المرتبة من الاطمئنان بنظرهم كالعلم ، فلا بدّ للشارع من أن يردعهم عن العمل به لو لم يكن ممضى عنده ، وأنّه ولو قلنا بثبوت الإمضاء في طريق الأحكام إلّا أنه في تلك المرتبة من الاطمئنان حيث يحسبونه كالعلم وينزلونه منزلة العلم فلو كان عند الشارع غير متبع يجب الردع ، فمن عدم الردع في هذا المقام أيضا يكشف الامضاء نظير الإطلاق المقامي ، لأنّ المقام مقام لا بدّ من الردع فيه لو كان بنظر الشارع غير متّبع ، فمن عدم الردع نكشف الإمضاء ، فافهم.

ومن هنا يظهر لك ما في كلام النائيني رحمه‌الله على ما حكي في تقريراته من أنّه يكفي عدم الردع في خبر الواحد لكونه مفيدا للعلم ، فما لم يردع عنه الشارع يكون حجة ، لما قلنا في مرتبة من الاطمئنان.

وفيه : أنّه لا يكون قول المخبر الواحد مفيدا للعلم ، ولا يكون الكلام فيما يفيد العلم ، بل يكون خبر الواحد ظنّا بين الظنون ، فما قاله ليس في محلّه ، فتدبر.

ثمّ إنّه لو كشفنا الإمضاء عن الأدلة المتمسك بها على حجّية الخبر ، أو نكشف

١٤٩

منها إطلاق فيما لم يقم دليل على لزوم التعدّد في الموضوعات نقول بكفاية خبر الواحد وثبوت الموضوع به ، وإن لم نكشف الإطلاق أو الإمضاء نقول بأنّ القدر المتيقّن من الأدلّة هو حجية خبر الواحد في الأحكام ، وأما في الموضوعات فلا يكفي ، ولكن لا يخفى عليك أنّه ولو قلنا بإطلاق الادلّة أو الإمضاء حتى في الموضوعات ولكن بعد قيام الدليل على لزوم التعدّد في الموضوعات أو في بعضها فيكون ردعا ، ويكون هذا الدليل الدالّ على لزوم التقييد مقدّما على الإطلاق ، فافهم. هذا تمام الكلام في السيرة.

أمّا الكلام في الوجوه العقلية التي أقاموها على حجّية الخبر الاولى وتقريرها فهي على نحوين :

أحدهما : ما قرّره الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في الرسائل ، وهو : أنّه من راجع الأخبار وكيفية ضبطها يحصل له العلم الإجمالي بكون أكثرها صادرة من المعصومين عليهم‌السلام ، وبعد هذا العلم الإجمالي حيث لا نعلم تفصيلا ما هو معلوم الصدور من الأخبار فيجب العمل بمظنون الصدور منها ، فعلى هذا يجب العمل بخبر الواحد لكون مؤدّاها مظنون الصدور.

والنحو الآخر : هو ما قرره المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية ، وهو : أنّه قال : بعد ما نعلم بتكاليف إجمالا بين الروايات وسائر الامارات نعلم إجمالا بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار بحيث لو علم ذلك المقدار من الأخبار الصادرة تفصيلا لانحلّ علمنا الإجمالي بالتكاليف بين الأخبار وسائر الأمارات الى العلم التفصيلي بالتكاليف بين مضامين خصوص الأخبار ، وحيث لا نعلم تفصيلا ولكن نعلم إجمالا فلا بدّ من العمل بمظنون الصدور من الأخبار فيجب العمل بخبر الواحد.

ولقد ظهر لك الفرق بين التقريبين ، ففي التقريب الثاني يدّعي المحقّق المذكور انطباق العلم الإجمالي الكبير مع العلم الإجمالي الصغير ، وقال بأنّ العلم الإجمالي

١٥٠

بالتكاليف بين الروايات وسائر الأمارات منطبق على العلم الإجمالي الصغير ، وهو العلم الإجمالي بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار.

فعلى هذا بعد الانطباق تصير دائرة العلم الإجمالي الكبير أضيق ، لأنّه بعد الانطباق تكون أطرافه منحصرة بالأخبار وغيرها من سائر الأمارات ، كما يكون الأمر في كلّ منها مورد احتمال للتطبيق ، مثلا لو شهد زيد بوقوع الدم في واحد من عشرة أوان موجودة عندك وفي هذا الحال أخبر عمرو بوقوع الدم في واحد من خمسة أوان معينة من هذه العشرة فقهرا ينطبق علمك الإجمالي بوقوع الدم في واحد من عشرة أوان على العلم الإجمالي بوقوع الدم في واحد من خمسة منها ، ولا يكون العلم الإجمالي بالنسبة الى ما زاد عن الخمسة منجّزا ؛ لاحتمال كون الدم الذي أخبر به زيد هو الدم الذي أخبر به عمرو.

فعلى هذا في المقام أيضا يكون العلم الإجمالي الكبير على التقريب الثاني منطبقا مع العلم الإجمالي الصغير ، وأمّا على تقريب الشيخ رحمه‌الله فلا يكون الأمر كذلك ؛ لأنه لا يدّعي الانطباق ، ولذا يرد على تقريب الشيخ رحمه‌الله ما ذكره نفسه الزكية ، وقال أولا : إنّ غاية اثبات ذلك هو العمل بمطلق الأمارات كالشهرة وغيرها ، لا خصوص الاخبار ؛ لأن العلم الإجمالي لا تكون دائرته منحصرة بالأخبار ، بل كلّ ما نعلم هو كون التكاليف في الأخبار وسائر الأمارات. وثانيا : أنّ هذا الوجه لا يثبت إلّا العمل بما هو مظنون الواقع ، لا بما هو مظنون الصدور ؛ لأنّ ما نعلم به إجمالا هو صدور أحكام كثيرة ، فعلى هذا لا تكون هذه الأحكام الكثيرة في خصوص الأخبار ، بل فيها وفي غيرها ، وعليه تكون نتيجته هو العمل بما ظنّ بصدوره لبيان حكم الله الواقعي ، سواء كان مؤدّى الخبر أو غيره من الأمارات ، ولا يجب العمل بمطلق مظنون الصدور من الأخبار ؛ لأنّ صرف صدوره لا يكفي في كونه حكما واقعيا ، لأنه يمكن صدوره تقية ، فما هو المعلوم بالإجمال هو صدور أحكام

١٥١

كثيرة ، فلا بدّ لنا من الاحتياط ، وإن لم يمكن أو قام الدليل على عدم وجوبه فالرجوع الى ما أفاد الظنّ بصدور حكم شرعيّ من أيّ أمارة كانت.

ولكنّ هذين الإشكالين لا يردان على التقريب الذي ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله ؛ لانه بعد دعوى الانطباق يقول بأنّ الأحكام الصادرة تكون في الأخبار ومنحصرة بها ، لا فيها وفي غيرها من الأمارات ، ولذا قال في جوابه فقط : إنّ هذا لا يثبت حجية الخبر بحيث يمكن به تقييد الإطلاقات أو تخصيص العمومات.

اذا عرفت التقريبين فتأمّل حتى يظهر لك أنّه هل الأمر يكون كما ذكره الشيخ رحمه‌الله ، أو المحقّق الخراساني رحمه‌الله؟ وأنّ أيّ نحو من العلم الإجمالي يكون صادقا ، الذي كما قرره الشيخ رحمه‌الله ، أو الذي قرره المحقّق الخراساني رحمه‌الله؟

فجوابه أنّ الميزان الذي يمكن به تصديق أحد القولين وأن الأمر يكون بأيّ من النحوين هو ما ذكره الشيخ رحمه‌الله من أنّه لو كان العلم الإجمالي الكبير منطبقا على العلم الإجمالي الصغير لا بدّ من أنّه لو أخرجنا عدّة من الأخبار بمقدار المعلوم بالإجمال لا يبقى لنا علم إجمالي بين سائر الأخبار والامارات كما يكون الأمر في كلّ مقام ، ففي مثال الأواني العشرة السابق لو أخرجنا الأواني الخمسة التي كان فيا الدم مع بقاء العلم الإجمالي في الخمسة الباقية فلا يكون انطباق ، ولو لم يبق العلم الإجمالي صحّ الانطباق.

وعلى كلّ تقدير إن كان تقريب العلم الإجمالي على ما ذكره الشيخ رحمه‌الله فيرد عليه ما قاله نفسه الشريفة وما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّه لا يثبت حجية الخبر بحيث يمكن به التقييد أو التخصيص. ولو كان كما قرّره المحقّق لا يرد عليه إشكالا الشيخ رحمه‌الله ، ولكن يرد عليه ما قاله نفسه الشريفة في جوابه ، ومع قطع النظر عن كل ذلك يرد على كلّ من التقريبين إشكال آخر ، وهو : أنّ كلامنا في حجية الخبر يكون في إثبات كونه من ظنون خاصّة ، وبهذين التقريبين لا يثبت ذلك ، إذ تكون

١٥٢

نتيجته التبعيض في الاحتياط ، فافهم.

الوجه الثاني : هو ما ذكره في الوافية ، وهو : أنّه بعد القطع ببقاء التكليف الى يوم القيامة سيّما بالاصول الضرورية كالصلاة وغيرها فلو لم نعمل بالخبر نقطع بخروج حقائق هذه الاصول الضرورية عن حقيقتها ؛ لأنّ جلّ أجزائها وشرائطها يثبت بالخبر.

وفيه أولا : أنّ ذلك لا يثبت حجية الخبر فقط ، بل لا بدّ من العمل لكلّ أمارة حتى لا تخرج الاصول الضرورية عن حقيقتها.

وثانيا : أنّ ذلك لا يثبت حجية الخبر بحيث يقيد به الإطلاقات أو تخصّص به العمومات ، فافهم.

الوجه الثالث : هو ما ذكره شيخ المحقّقين الشيخ محمد تقي صاحب حاشية المعالم ، وهذا هو أحد الوجوه التي ذكرت لإثبات كون نتيجة دليل الانسداد هو الظنّ بالطريق ، في مقابل استدلال المحقّق القمّي رحمه‌الله المدّعي بأنّ نتيجة دليل الانسداد هو الظنّ بالواقع وقال : إنّه بعد ما نعلم إجمالا بالرجوع الى الكتاب والسنّة فإن تمكّنّا من الرجوع اليهما بنحو يحصل العلم فهو ، وإلّا فلا بدّ من الظنّ بالرجوع اليهما بحيث يحصل الظنّ بالخروج عن العهدة.

وفيه مع قطع النظر عما قاله الشيخ رحمه‌الله والمحقّق الخراساني رحمه‌الله : ما قلت من أنّه لا بدّ من الرجوع الى الكتاب والسنّة ، وأنّ وجوب الرجوع هل يكون من باب الموضوعية أو يكون من باب الطريقية؟ بمعنى أنّه هل العمل بالكتاب والسنّة بنفسه واجب ، أو لأجل كونهما متضمّنين للأحكام؟ لا إشكال في بطلان الأول ، وأنّ الرجوع اليهما لا يكون من باب الموضوعية ، فإذا لم يكن من باب الموضوعية بل كان من باب الطريقية بأنّ هذا معنى الانسداد وأنه بعد عدم التمكّن من العلم بالأحكام لا بدّ من التّنزل الى الظنّ فلا يكون اختصاص بالخبر ، فافهم وتأمّل

١٥٣

جيّدا.

هذا تمام الكلام في باب الظنّ ، ولم يتعرّض سيّدنا الاستاذ ـ أدام الله بقاءه ـ للبحث عن الظنّ المطلق ، وفي الواقع منّ علينا بترك تعرّضه لعدم الفائدة من البحث فيه.

١٥٤

الكلام

في اصالة البراءة

١٥٥
١٥٦

الكلام في أصالة البراءة

اعلم : أنّه لا حاجة الى ذكر الأقسام التي ذكرها الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ، بل نقول : كلّ ما شكّ في تكليف هل يكون مورد البراءة أو الاحتياط؟ المهم فيه هو ما يكون الأمر دائرا بين الحرمة وغير الوجوب ، ويكون منشأ الشك عدم النصّ فنرجع الكلام فيه :

فقال المجتهدون بالبراءة ، والأخباريون بالاحتياط ، واستدلّ القائلون بالبراءة بالأدلّة الأربعة :

الأوّل من أدلّتها : الكتاب ، وذكروا آيات منه :

منها : قوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها.)

وجه الاستدلال بالآية : أنّه يظهر من الآية أنّ الله تعالى لا يكلّف نفسا إلّا ما آتاها ، أي أعلمها ، فيستفاد من الآية الشريفة أنّه لا يكلّف الله الناس بشيء إلّا وأعلمهم به ، فالناس قبل الإعلام كانوا في سعة.

وفيه : أنّ التكليف مشتقّ من الكلفة ، وما يكون متعلّق التكليف هو الفعل ،

١٥٧

لأنّ الفعل يقبل أن يصير مورد الكلفة ، وذيل الآية ـ أعني (ما آتاها) ـ يظهر منه بقرينة المورد المال ، فبقرينة المورد يستفاد أنّ المراد بالموصول هو المال ، فعلى هذا لا بدّ من التصرف إمّا في الصدر ـ أعني متعلّق التكليف ـ أو في الذيل ، فإن تصرفنا في الذيل فيكون معنى الآية والله أعلم : أنّه لا يكلّف الله نفسا فعلا إلّا ما أقدرها ، فتكون الآية دالّة على نفي التكليف بغير المقدور ، ولا وجه لأن يقال من أنّ التكليف بما لا طريق اليه كي يكون تكليفا بغير المقدور لفساده ، وأنّه رغم ذلك إلّا أنه مقدور ، فافهم.

وإن تصرفنا في الصدر فيكون المعنى : أنّه لا يكلّف الله نفسا مالا إلّا ما آتاها ، فتدلّ الآية على أن الله لا يكلّف بإنفاق المال إلّا بالمال الذي قد آتاها ، وهذا الاحتمال أقوى لشهادة صدر الآية ، لأن الآية في مورد الإنفاق ، لأنه قال عزّ من قال في صدر الآية : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ.)

ويحتمل أن يكون المقدّر هو التكليف ، بمعنى أنّه كان المعنى هو : لا يكلّف الله نفسا تكليفا إلّا ما آتاها ، أعني أعلمها ، فعلى هذا يصحّ الاستشهاد به ، ويكون المحذوف هو «تكليفا» ، ويكون مفعولا مطلقا.

ولكنّ هذا خلاف الظاهر ، واحتمال الثاني ـ وهو التصرف في الصدر بقرينة المورد ـ أقوى ، فعلى هذا لا يمكن الاستشهاد للمطلوب بالآية ، فافهم.

ومنها : قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً.)

وجه الاستدلال هو : أنّ بعث الرسول كناية عن بيان التكليف.

وقد أشكل الشيخ رحمه‌الله في الرسائل على الاستدلال بهذه الآية : بأنّ ظاهر هذه الآية هو الإخبار عن ما مضى ؛ لأنه قال : «كان» بلفظ المعنى ، فعلى هذا يكون راجعا الى الامم السابقة ، والمراد من العذاب هو العذاب الدنيوي ، فيكون المعنى : إنّا لا نعذّب الامم السالفة في الدنيا إلّا بعد بعث الرسول.

١٥٨

ولكن لا يخفى عدم ورود الإشكال بأنّه كما تقولون في بعض الموارد من أنّ لفظ الماضي أو الحال منسلخ عن الزمان ، أو أنّه في بعض الموارد يكون للاستمرار ، كما يكون الأمر كذلك في حقّ الله تعالى ، كما أنّك ترى أنّ قوله تعالى ، (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) لا يكون دالا على الماضي ، بل مفيد للاستمرار. أو قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يدلّ الماضي فيه على الاستمرار ، كذلك في هذه الآية يكون الماضي دالا على الاستمرار ، ويكون معناه : أنّ الله تعالى لا يكون دأبه وديدنه العقاب بلا بعث الرسول ، فالمراد هو نفي هذه الرويّة عن الله تعالى.

فعلى هذا يستفاد من الآية المباركة أنّ الله تعالى لا يعذّب أحدا قبل البيان وإتمام الحجة ، غاية الأمر تارة يكون عدم العذاب لأجل عدم بعث الرسول ، وتارة يكون لأجل عدم بيان التكليف. وعلى أيّ حال لا يكون لله تعالى هذه الروية أصلا ، وعليه فالآية تدلّ على أنّ الله تعالى لا يعذّب إلّا مع البيان ، فيكون مدلول الآية هو ما حكم به العقل من قبح العقاب بلا بيان ، فهذه الآية دالّة على ذلك ، إلّا أنّه لو قام دليل على وجوب الاحتياط فيكون بيانا ولا بدّ من تقديمه على الآية ، فافهم.

ومنها : قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ.)

وجه الاستدلال : أنّه يظهر من الآية أنّ الله لا يخذلهم بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يجتنبونه ، فقبل البيان لا يخذلهم.

وأشكل الشيخ الأنصاري على الآية بما أشكل في الآية السابقة ، وأنّ هذا إخبار عن الماضي ، وفيه أيضا ما قلنا في جواب إشكاله في الآية السابقة ، وأنّ المضي يراد منه الاستمرار ، وأنّ من دأبه تعالى وعدله وحكمته المرضية أن لا يكون الخذلان إلّا بعد البيان ، فيكون هو عين حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

١٥٩

ومنها : قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ.)

وجه الاستدلال : أنّه لا يكون الهلاك إلّا مع البيان ، وهذه الآية وإن كانت واردة في الجهاد إلّا أنّه لا خصوصية للجهاد ، كما ترى أنّ العلماء كثيرا ما يتمسّكون بها خصوصا في اصول الدين. نعم ، يمكن الإشكال عليه فيها باختصاصها باصول الدين.

ولكنّ هذا أيضا فاسد ، ولا اختصاص له به. ولكن يرد على هذه الآيات الثلاثة الأخيرة : أنّ غاية ما يثبت بها هو عدم العقاب من غير بيان ، وأمّا لو دلّ دليل على وجوب الاحتياط يكون بيانا ولا تقاوم هذه الآيات معه ، فتدبّر.

ومنها : قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.)

اعلم : أنّه تارة يستدل بالآية ويتمسّك بها لإثبات الحكم الواقعي ، حيث إنّ هذه الآية من العمومات ، فكما أنّ سائر العمومات يستفاد منها الحكم الواقعي فكذلك هذه الآية يثبت بها الحكم الواقعي ، غاية الأمر لو ورد خاصّ مناف لعمومه يخصّص به عمومه ، فعلى هذا التّقدير لا يمكن التمسّك للمطلب بهذه الآية ؛ لانّه بعد كونها في مقام بيان الحكم الواقعي لا يمكن استفادة الحكم الظاهري.

وتارة لم نقل كذلك ، بل نقول : إنّ المستفاد من الآية هو عدم إمكان الحكم بالحرمة بصرف عدم الوجدان ؛ لأنّه قال : (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ...) الى آخر الآية.

وعدم الوجدان في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كان مساوقا مع عدم الوجود إلّا أنّ التعبير بعدم الوجدان شاهد على أنّه بصرف عدم الوجدان لا يكون محرما ، فعلى هذا تكون الآية شاهدا لما نحن فيه.

ولكن لا يخفى عليك عدم إمكان التمسّك بالآية لما نحن فيه :

١٦٠