المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

لسان الحكومة ، حيث إنّ هذه الآيات لسانها أنّ في العمل بالظنّ حيث يكون احتمال الخلاف لا يجوز العمل به ، ولسان الآيات الدالة على حجية الخبر هو عدم احتمال الخلاف فيه ، ولكن كما قال هذا القائل كان لسان الآيات الدالة على حجية الخبر إلغاء احتمال الخلاف أو عدم الاعتناء بالخلاف ، فلا يكون حاكما على الآيات الناهية ، إذ مع كون احتمال الخلاف فيها أمر بإلغائه فاحتمال الخلاف فيها مفروض ، فعلى هذا يكون بعد تماميتها تخصيص للآيات الناهية عن العمل بغير العلم.

ومن هنا يظهر حال السيرة أيضا ، إذ لو كان بناء العقلاء على عدم احتمال الخلاف في قول المخبر فصحّ ما قال ، لكن لم يكن كذلك ، بل بناء العقلاء لو سلّم يكون على عدم الاعتناء باحتمال الخلاف في قول المخبر ، فيكون بعد تمامية السيرة أيضا على حجية الخبر الواحد تخصيصا للآيات الناهية لا الورود ، فافهم.

الثالث : تمسك المنكرون لحجّية خبر الواحد بالأخبار الدالة على طرح مخالف الكتاب ، أو لزوم الأخذ بالموافق ، أو ما خالف الكتاب فلم نقله ، أو زخرف ، أو غير ذلك.

فنقول في جوابه : إنّ بعض الأخبار لسانها الأخذ بموافق الكتاب ، وبعضها وهو العمدة بل لعلّه يكون متواترا إجمالا هو عدم جواز العمل بخبر المخالف للكتاب ، مثل «ما خالف قول ربّنا لم نقله» أو غير ذلك.

أمّا الطائفة الاولى فلا تكون إلّا اثنين أو ثلاثة ، وهي عدّة معدودة ، فنقول في جوابها : إنّ هذه الطائفة من الأخبار تكون أخبار آحاد فكيف يمكن التمسّك بها على عدم حجّية خبر الواحد ، إذ حجّيتها موقوف على حجّية خبر الواحد.

وأمّا الطائفة الثانية فنقول مقدمة لوضوح المطلب : إنّ أئمّتنا ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ كانوا مبتلين بابتلاءات في أزمنتهم وقد اوذوا بشتّى أنواع الأذى ، فمنها : أنّ معانديهم من الوضّاعين والكذّابين كان دأبهم وضع وتحريف وجعل مخالفة بعض الروايات للكتاب الكريم والقرآن العظيم وينسبونها عليه‌السلام حتى صار الأئمة

١٢١

بسبب ذلك موردا للطعن ، فهذه الأخبار الواردة عن الأئمة في طرح المخالف واردة في ردّ هذه الروايات المجعولة ، فقالوا : «ما خالف القرآن لم نقله» ، أو «هو زخرف» ، والشاهد على ذلك : أنّ في هذه الروايات لا يكون تعرض من حيث المخبر ، بل كذّبوا النسبة ، فهذا شاهد على أنّ الأئمّة لا يقولون بخلاف القرآن ، ولم تكن هذه الروايات في مقام بيان عدم الاعتناء بالخبر ، بل تكون في مقام ردّ هذه النسبة ، ولهذا قال في بعضها مثلا : «لم نقله» أو «زخرف» ، فلو فرض أن الراوي كان عادلا ـ مثلا ـ أو كان الخبر متواترا ولا يمكن الاعتناء به لأنه مخالف للقرآن ولم يقل المعصوم شيئا مخالفا للقرآن ففي هذه الأخبار يكون المعصومون عليهم‌السلام في مقام التبرئة عما ينسب اليهم من أنّ المعصومين يقولون ما يكون مخالفا للقرآن ، فلذا قالوا : ما خالف الكتاب لم نقله ، فافهم.

فانقدح لك أن هذه الروايات لم تكن في مقام بيان ردّ الخبر ، وأنّها لم تكن بحجّة ، بل تكون في مقام بيان شيء آخر ، فتأمّل جيّدا. هذا أيضا حال الأخبار وكلّ ما تمسّك به المنكرون لحجية الخبر.

الأوّل :

واستدلّ القائل بحجّية الخبر بأدلة :

الأوّل : الآيات ، منها قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ،) ووجه الاستدلال بالآية من وجوه :

الوجه الأول : مفهوم الوصف ، بتقريب أنّ الله تعالى أمر بالتبيّن في النبأ إن كان الجائي به الفاسق ، فأوجب التبيّن في نبأ الفاسق ، ومفهومه عدم وجوب التبين في نبأ غير الفاسق وهو العادل ، واذا لم يجب التبين فلازمه إمّا قبول قوله فهو المطلوب ، أو ردّه ، فلازمه هو كون العادل أسوأ حالا من الفاسق ، وهو مسلّم البطلان.

والجواب عنه : أنّه بهذا الاستدلال وعلى القول المذكور يكون المفهوم للوصف ، وأمّا على ما هو التحقيق من عدم كون المفهوم للوصف فيبطل التمسّك

١٢٢

والاستدلال.

الوجه الثاني : وهو ما قاله الشيخ الأنصاري رحمه‌الله من مفهوم الشرط ، وأنّه بعد ما ثبت في محلّه من أنّ الجملة الشرطية تفيد المفهوم ، ففي الآية علق وجوب التبين في نبأ الفاسق حيث قال : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فمفهومه يكون عدم وجوب التبيّن في خبر غير الفاسق ، فمفهومه يكون له فردان : إمّا أن لا يكون خبر أصلا فلا مفهوم لعدم وجود موضوع في البين ، وإمّا أن يجيء العادل بالنبإ فلا يجب التبين.

وقد أجاب عن ذلك الشيخ رحمه‌الله أيضا وقال : بأنّ الجملة الشرطية لها مفهوم اذا لم تكن في مقام تحقيق الموضوع ، وأمّا اذا كانت في مقام تحقيق الموضوع فلا يكون لها مفهوم أصلا ، وهذا يكون كذلك اذا ما علق عليه الحكم ، أعني وجوب التبين هو نفس النبأ.

وما قلنا من كون الجملة الشرطية مفيدة للمفهوم هو فيما يكون الموضوع مفروض الوجود في المنطوق والمفهوم وعلق الحكم على حالة من حالاته ، وهذا لم يكن كذلك ، فهذا الوجه أيضا ليس بسديد.

الوجه الثالث : وهو الذي يظهر من كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، وهو أيضا من باب مفهوم الشرط ، لكن لا كما قال الشيخ رحمه‌الله ، بل بأنّه يقال : إنّ ما علّق عليه الحكم هو الفسق بعد فرض وجود النبأ ففرض النبأ مفروض الوجود ، وقال : النبأ المفروض وجوده لو كان الجائي به فاسقا فتبينوا ، فيكون مفهومه هو أنّ النبأ لو لم يكن الجائي به فاسقا لا يجب التبين ، ولا يكون الشرط على هذا في مقام بيان تحقيق الموضوع ، بل بعد فرض وجود الموضوع ـ وهو النبأ ـ علق الحكم على وصف من أوصافه وهو الفسق ، فيكون على هذا للقضية مفهوم.

وفيه : أنّه على هذا التقريب ولو أنّه يكون المفهوم للقضية ولكنّ هذا خلاف ظاهر الآية ، إذ ظاهر الآية هو كون نبأ الفاسق معلّق عليه الحكم لا الفاسق ، فافهم.

وقال بعض وهو ما يظهر من تقريرات النائيني رحمه‌الله أنه قال : حيث إنّ هذه

١٢٣

الآية تكون في مقام بيان إعطاء قاعدة كلّية ، وهي وجوب التبين في نبأ الفاسق ، وخصوصية المورد دالّة على ذلك ، إذ بعد قبولهم قول الوليد نزلت هذه الآية ، فالنبأ يكون مفروض الوجود ، وثم قال : إن كان الجائي به فاسقا فتبينوا فيستفاد منه المفهوم.

وفيه : أنّ ما قاله من أنّ الآية تكون في مقام بيان إعطاء قاعدة كلّية لو سلّم ذلك نقول باستفادة المفهوم من الآية ، إلّا أنّ هذا أول الكلام.

وما قاله من أنّ خصوصية المورد تشهد بأنّ النبأ يكون مفروض الوجود فالموضوع لا يكون معلّقا عليه الحكم ، بل المعلق عليه يكون الوصف وهو الفسق ليس في محلّه.

إذ نزاعنا هنا يكون في المفهوم ، والمورد يشهد بكون النبأ في فرض وجود الوصف ، وأمّا كون الموضوع باق ولو مع عدم الوصف فيكون محلّ منع ، ولا اشكال في أنّه يلزم وجود الموضوع في فرض وجود الوصف وعدمه ، وقرينة المورد لا تدلّ إلّا على كون وجود الموضوع في فرض وجود الفسق ، وأمّا في فرض عدمه فغير مسلّم.

وقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله توجيها للتقريب الذي قال به الشيخ رحمه‌الله ، وهو الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة ، وحاصله هو : بأنّه لا نقول بكون المعلّق عليه نفس النبأ حتى تقول بكون القضية في مقام تحقّق الموضوع فلا مفهوم له. ولا نقول بكون المعلق عليه الحكم هو نفس الفسق حتى تقول بأنّ ذلك خلاف الظاهر ، بل نقول : بأنّه بحسب ظاهر اللفظ ولو يكون المعلق عليه هو نبأ الفاسق ولكن لا إشكال في أنّه بعد ما ذكر الوصف في القضية وهو الفسق نعلم بأنّه لو كان التعليق راجعا الى الموضوع كان ذكر الوصف لغوا ، ففي الظاهر ولو كان التعليق على نبأ الفاسق إلّا أنّ التعليق يرجع لبّا الى القيد فقط ، لما قلنا من أنّه لو لم يكن كذلك كان لازمه هو لغوية القيد ، فعلى هذا يرجع التعليق لبّا الى القيد ، فهذه القضية ولو كان فيها التعليق على

١٢٤

الموضوع إلّا أنّه لا يكون مثل سائر القضايا الشرطية التي تكون في مقام بيان تحقّق الموضوع ، وهذا التوجيه لم يكن ببعيد ، فافهم.

وقد ذكر توجيهات أخر في الآية لاستفادة حجية الخبر ، اذا عرفت ذلك كلّه وأنّه يرد على هذه التوجيهات بعض الإيرادات ولكن نقول : بأنّه مع ذلك استفادة حكم حجية الخبر من الآية لا يكون محلّ إشكال.

فنقول بعون الله تعالى : إنّه وردت الآية الشريفة فيما أخبر الوليد وأخذ بعض الصحابة بقوله ، فنزلت هذه الآية ، وخصوصية المورد تشهد على كون خبر العادل حجّة ، لأنّه بعد ما كانت الجهالة في الآية حيث قال عزّ من قال : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) المراد منها هي السفاهة ، فيكون المعنى هو : أنّه إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بسفاهة ، ولا إشكال في أنّ المسلمين الذين أخبرهم الوليد كانوا هم من العقلاء ولا يصدر منهم العمل السّفهي ، فلا بد من أن نقول : إنّه حيث تكون السيرة عندهم بما هم عقلاء العمل بخبر الثقة فيكون عملهم بخبر الوليد أيضا من باب تخيّلهم بأنّ الوليد يكون ثقة ، فالله تعالى بيّن في هذه الآية أنّه (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) وهذا إمضاء من الله لما هو سيرتهم من العمل بخبر الثقة ، وخبر الوليد لا يجوز العمل به لكونه فاسقا وغير موثق فيكشف إمضاء الله تعالى ، وأنّ سيرتهم على العمل بخبر الثقة وإمضاء الله تعالى لهم والإخبار عن فسق الوليد وأنّه تبينوا لئلا تصيبوا القوم بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين لأجل وقوعكم في خلاف الواقع ، ولا إشكال في أنّ التعليل لا يكون تعبديا ، بل يكون أمرا عقلانيا ، حيث إنّ العمل بخبر الفاسق موجب للوقوع في الندم ، وهو مسلّم عند المسلمين ، لكن لا يعلمون بكون الوليد فاسقا ، وإلّا لا يعملون بخبره.

وإن قلت : إنّ في خبر العادل أيضا يكون الوقوع في الندم.

نقول : إنّ الله تعالى في هذه الآية بيّن أنّ الندم يكون في خبر الفاسق فقط ، ولا يكون في خبر العادل إصابة القوم بالسفاهة ، ولا وقوع الندم ، فعلى هذا بما بيّنا يظهر

١٢٥

لك أنّ الآية الشريفة ولو فرضنا أنّها لم تكن مستقلّة دليلا على حجية الخبر لكن يستفاد منها إمضاء سيرة العقلاء على العمل بالخبر. ومما قلنا يظهر لك جواب الإشكال الذي استشكل على الآية ، وهو : أنّه ولو فرضنا أن يكون ظاهر صدر الآية هو حجية خبر العادل لما يستفاد من مفهوم القضية الشرطية ، إلّا أنّ التعليل في ذيل الآية يتنافى مع ذلك ، حيث قال : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) لأن استفادة المفهوم تكون بعد استفادة العلّة المنحصرة ، وأنّ العلّة منحصرة بالشرط ، وأمّا لو لم يكن العلّة منحصرة فلا يمكن استفادة المفهوم ، ولا يكون للقضية مفهوم أصلا ، وعلى ما قلنا من تقريب الإشكال لا يمكن الجواب : بأنّه يقع التعارض بين الصدر والذيل فنقيّد عموم الذيل بالصدر ، حيث إنّه على ما قلنا لا يمكن استفادة المفهوم أصلا ، فلا يكون للقضية مفهوم حتى يقع التعارض.

ولكن الجواب عن الإشكال هو ما قلنا في طيّ كلماتنا ، وهو : أنّ المستفاد من المورد ومساق الآية هو كون التعليل منحصرا في خبر الفاسق ، والعمل بخبر الفاسق يوجب إصابة القوم بجهالة والوقوع في الندم ، وأنّه تعالى يكون في مقام بيان الفسق ، فتكون سيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة كما ترى أنّ المسلمين عملوا بخبر الوليد ، غاية الأمر لتخيّلهم أنّه ثقة ، والله تعالى أوضح لهم أنّه فاسق. وعندهم أيضا يكون مسلّم من باب عقلائيتهم عدم العمل بخبر غير الثقة والفاسق ، فلا يكون التعليل أعمّيا كي يرد هذا الإشكال ، فمفاد الآية ـ والله أعلم ـ هو بيان الصغرى ، كما ترى في الخبر أنّ السائل يسأل (يونس بن عبد الرحمن ثقة) ، فالراوي يعلم بحجية قول الثقة ، ولكن لا يعلم بكون يونس من الثقات ، فكذلك المسلمون سيرتهم على العمل بخبر الثقة وعدم العمل بخبر غير الثقة ولكن لا يعلمون عدم وثاقة الوليد فالله تعالى بين لهم ، فافهم.

إذا عرفت ذلك فقد استشكل على التمسّك بالآية الشريفة لحجية خبر الواحد بإشكالات قد تبلغ ثلاثين إشكالا ، ولكن لا يعتنى إلّا باثنين أو ثلاث منها ،

١٢٦

ونتعرّض لهذه الإشكالات.

فنقول : بعد ما ثبت بالآية حجية خبر العادل ، فاذا أخبر عادل بوجوب شيء ـ مثلا ـ نقبل قوله ، ولكن بعد ورود المرجّحات لحجية أخبار الآحاد المنقولة عن المعصومين ، وهذه الأخبار قد وصلتنا بوسائط كثيرة فلذا يقع الإشكال بعد التنبه بالمقدّمتين المسلّمتين :

الاولى : أنّه لا إشكال في أنّ كلّ خبر لا بدّ وأن يكون خبرا وجدانيا حتّى يشمله صدق العادل ، كما ترى أنّه لو أخبر رجل بقيام زيد ـ مثلا ـ فيكون الخبر وجدانيا فيشمله صدق العادل.

الثانية : أنّ التنزيل أو التعبد يكون في مورد ذا أثر شرعي ، وأمّا إذا لم يكن ذا أثر شرعيّ فلا يشمله التنزيل أو التعبد ، فكذلك في المقام صدق العادل يكون باعتبار الأثر ، وإلّا فإن لم يكن في المخبر به أثر شرعي فلا يشمله صدق العادل بلا إشكال.

ولا يخفى عليك أنّه بعد تلك المقدّمتين يرد الإشكال في هذه الأخبار الواصلة الينا بالوسائط ، فيرد إشكال في من نقل الخبر الينا ، وفي من نقل عن المعصوم إشكال آخر ، وفي الوسائط كلا الإشكالين ، مثلا اذا قال الشيخ : أخبرني المفيد ، وقال المفيد : أخبرني الصدوق ، والصدوق عن أبيه ، وأبوه عن الصفار ، والصفار عن العسكري عليه‌السلام : أنّ صلاة الجمعة واجبة ـ مثلا ـ فيرد إشكال في قول الشيخ بأنّه لا يكون في تصديق قوله أثر شرعي حتى يشمله صدق العادل ، ويرد بالنسبة الى قول الصفار وهو الذي يكون في المرتبة الأخيرة أنّ خبره لم يكن وجدانيا ولم يكن موضوع الخبر والنبأ حتى تشمله الآية ، ويرد على الوسائط ـ وهو المفيد والصدوق وأبوه ـ كلا الإشكالين ؛ لأنّه فيها لا يكون خبر فعلا ولا يكون أثر في قولهم فلا يشملهم صدق العادل.

١٢٧

واعلم : أنّه لو كان الإشكال ذلك فقط فيمكن جوابه بما قالوا. وهو : أنّه يكفي في الأثر أن يكون مع الواسطة ، وما هو اللازم هو كون المخبر به ذا أثر ، وأمّا لزوم كون أثره بلا واسطة فلا ، وهنا يكون في خبر الشيخ والوسائط أثر شرعي ، غاية الأمر مع الواسطة حيث إنّه بعد ثبوت خبر الوسائط الى الصفّار يثبت حكم شرعي ، وأمّا إشكال لزوم كون الخبر وجدانيا فهذا غير لازم ، بل يكفي ولو تقديرا.

ولكن لا يخفى عليك أنّ الإشكال لا يكون ذلك حتى يجاب عنه بما قلنا.

فنقول أوّلا : الإشكال هو : أنّه بعد ما كان يشمل صدق العادل قول الشيخ اذا كان له أثر ، ولا إشكال في أنّ أثر تصديق قول الشيخ لا يكون إلّا تصديق قول المفيد فشمول صدق العادل في خبر الشيخ محتاج وموقوف الى شمول صدق العادل في خبر المفيد ؛ لأنّ هذا أثر خبر الشيخ ، والحال أنّه لا يشمل صدق العادل قول المفيد إلّا بعد شموله لخبر الشيخ ، فيلزم الدور وتوقّف الشيء على نفسه وهذا محال.

وثانيا : أنّ موضوع خبر المفيد لا يكون إلّا صدق العادل ، وصدق العادل لا يشمل خبر المفيد إلّا بعد ثبوت الموضوع ؛ لأنّه من الواضحات أنّ الموضوع مقدّم رتبة على الحكم ، وتكون نسبة الحكم الى الموضوع نسبة العرض الى معروضه ، فكما لا يمكن عروض العرض إلّا بعد وجود موضوعه كذلك لا يمكن الحكم إلّا مع فرض وجود موضوعه ، ففي المقام ما يكون الموضوع في خبر المفيد هو صدق العادل ، وما يكون الحكم أيضا لا يكون إلّا صدق العادل ، ولازم ذلك هو كون الحكم قبل وجود الموضوع وتقدمه على نفسه بمرتبتين : المرتبة الاولى قبل الموضوع ، والثانية الموضوع وهذا محال ، ولا يمكن تقدم الحكم على موضوعه. فظهر لك أنّ في المقام إشكالان : الأول الدور ، والثاني تقدم الحكم على الموضوع ، وكلاهما محال. اذا عرفت الاشكالين فلا بد من الجواب عنهما.

فنقول بعون الله : إنّ الإشكال في المقام تارة يكون إشكالا عقليا وأنّه كيف

١٢٨

يمكن ذلك؟ وتارة يكون إشكالا لفظيا ، وأنّ لفظ القضية لا يمكن أن يكون متكفلا لذلك.

أمّا الجواب عن الإشكال العقلي فهو أن يقال : الإشكال كان راجعا الى أنّ صدق العادل كيف يمكن أن يشمل خبر الشيخ من أنّ شموله محتاج الى الأثر ، ولا أثر له إلّا صدق العادل في المفيد ، وصدق العادل في المفيد موقوف على شمول صدق لقول الشيخ؟ وأيضا أنّ الصدق في قول المفيد يكون موضوعا وحكما ، ولا يمكن أن يكون الحكم موضوعا.

ولكن هذا يتمّ ، ويرد الإشكال لو قلنا بأنّ شخص صدق العادل الواحد يشمل قول الشيخ والمفيد ، وأمّا لو كان الأمر غير ذلك ويكون صدق العادل له أفراد كثيرة عرضية وطولية كلّ واحد من أفراد الصدق كلّ واحد من المخبرين فلا يرد إشكال ، مثلا ما يشمل خبر الشيخ يكون فردا من صدق العادل ، وما يشمل خبر المفيد كان صدقا آخر فلا يأتي إلا يراد هنا ؛ لأنّ ما يكون أثرا لصدق العادل في قول الشيخ يكون فردا آخر غير صدق العادل في قول المفيد ، فلا يكون شمول صدق العادل لقول الشيخ موقوفا على صدق العادل في قول المفيد ؛ لأنّ صدق العادل في قول الشيخ موقوف على الأثر ، وأثره صدق العادل في قول المفيد ، وهو صدق آخر غير هذا الصدق الذي يشمل قوله ، فيكون طرفي الدور مختلفين ، إذ ما يتوقف عليه شمول صدق في قول الشيخ غير ما يتوقف عليه شمول صدق لقول المفيد ، وكذلك في قول المفيد ما يكون موضوع خبره صدق العادل الآخر غير صدق العادل الذي حكمه ، فلا يلزم تقدم الحكم على موضوعه ، وهذا واضح ؛ لأنّ صدق العادل ينحلّ الى صدق العادل المتكثّر فلا يرد إشكال عقلي.

وأمّا الإشكال اللفظي فنقول في جوابه : إنّه لو كان اللافظ في تلفّظه وإطلاقه ناظرا الى جميع أفراد الطبيعة فيرد الإشكال : بأنّه كيف يمكن أن يلاحظ القائل أفرادا

١٢٩

متولّدة طولية ، وما هو الممكن هو لحاظ الأفراد العرضية ، وأمّا أفرادها المتولدة الطولية فلا يمكن لحاظها حيث هذه الأفراد تتولّد بعد شمول الطبيعة للأفراد العرضية؟ ففي المقام لا يمكن أن يشمل صدق العادل الأفراد العدول الطولية التي تكون في الأخبار مع الواسطة ، إذ بعد التلفّظ بصدق العادل للأفراد العرضية تتولد هذه الأفراد الطولية فكيف يمكن أن يكون داخلا في القضية؟ فالقضية آبية عن ذلك لعدم إمكان التلفّظ بذلك.

ولكنّ هذا كلّه فيما لو كانت القضية بنحو تلاحظ فيها الافراد فلا يمكن لحاظ الأفراد المتولّدة طولا ، وأمّا لو كانت القضية قضية طبيعية لا تلاحظ معها إلّا الطبيعة فلا مانع من ذلك ، وتشمل أفرادها طولية كانت أو عرضية ، ومعنى الحكم الى الطبيعة هو : أنّ كل ما يكون فردا لها أو يصير فردا لها يشمله الحكم ، فعلى هذا في المقام أيضا لا يرد هذا الإشكال ، لأنه كما قال الشيخ والمحقّق الخراساني رحمهما‌الله تكون القضية بنحو القضية الطبيعية ، واذا كانت القضية طبيعية لا يرد إشكال كما ورد على هذين الإشكالين ، فافهم وتأمّل جيّدا.

ولكن يبقى إشكال الدور ، وهو : أنّه مع تسليم ما قلت في خبر الشيخ يكون شمول صدق العادل له بشمول صدق خبر المفيد ، والحال أنّ صدق شموله لخبر المفيد يكون موقوفا على شمول صدق خبر الشيخ. أمّا توقّف شمول صدق خبر المفيد على شمول صدق خبر الشيخ فواضح ، وأمّا شمول صدق خبر الشيخ فحيث لا يشمله إلّا اذا كان فيه الاثر وأثره لا يكون إلّا صدق قول المفيد فيكون التوقف من الطرفين ، وهذا دور فلا بدّ في الجواب على هذا الإيراد القول بأنّ الأثر لا يلزم أن يكون في زمان شمول الصدق ، بل لو كان الأثر عليه بعد شمول الصدق فخبر الشيخ يشمله الصدق ، لأن فيه الأثر ولو بعد شمول صدق خبر المفيد ، فافهم وتدبّر.

هذا كلّه على القول بكون مؤدّى الخبر حكما ظاهريا. وأمّا لو قلنا بتتميم

١٣٠

الكشف كما قلنا بذلك في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري فنقول كما قلنا به : يكون بيان تتميم الكشف على نحوين بعد فرض أنّه على ذلك لا يكون مؤدى الأمارات والاصول حكما أصلا.

الأول : أنّ العقلاء لم يعتنوا باحتمال الخلاف لضعفه ويعملون بالأمارة ، والشارع أيضا لم يردع عن تلك الطريقة ، بل كما قلنا في توجيه الآية الشريفة : إنّ الشارع أمضى بناء العقلاء.

الثاني : أنّ عمل العقلاء بعد قيام الأمارة ولو كان احتمال خلافه قويا ولا يكون ضعيفا إلّا أنّه لأجل بعض المصالح أو المفاسد يلقون الاحتمال ، ومع ذلك يعملون بالأمارة ، والشارع أيضا لم يردع عن هذه الطريقة ، وتوجد نظائر القسم الثاني في الشرع أيضا ، مثل قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز ، ففي مورد قاعدة الفراغ يتّفق في بعض الأوقات أنّ احتمال الخلاف لا يكون ضعيفا بمثابة يكون مورد عدم اعتناء العقلاء ، بل لأجل بعض المصالح أو دفع بعض المفاسد أمر الشارع باتّباع هذه القاعدة ، وعلى كلّ حال لو كانت الأمارة بالنحو الأول من تقريب تتميم الكشف فحيث لا يكون في موردها حكم أصلا لا يلزم أن يكون فيه أثر ، لأن لزوم الأثر يكون في التعبد والتنزيل ، وأمّا على هذا لا يكون تعبد ولا تنزيل ، بل يكون حال الأمارة على ذلك حال القطع ، فكما أنّ القطع بشيء لا يلزم أن يكون فيه أثر فكذلك على هذا المعنى في الأمارة ، بل لو أخبر بقيام زيد ولم يكن فيه أثر شرعي يكون حجّة ، فافهم.

وأمّا على النحو الثاني من تتميم الكشف فعلى هذا وإن كان لا بدّ فيه من الأثر لأنّ فيه تعبدا للعقلاء ولكن لا يلزم أن يكون في الخبر أثر شرعي بلا واسطة ، بل لو كان مع الواسطة تكون حجة ، فعلى هذا لا يلزم في النحو الأول أن يكون أثر أصلا ، وفي الثاني وإن كان يلزم إلّا أنّه يكفي الأثر ولو مع وسائط كثيرة ، فافهم.

١٣١

الثالث من الإشكالات هو : أنّه لا يمكن العمل بخبر الواحد في الأحكام الشرعية ، إذ لا بدّ من الفحص عن المعارض وهذا معنى التبيّن ، فقبل التبيّن من المعارض لا يجوز العمل بخبر الواحد ، فلا بدّ من تنزيل الآية على الأخبار في الموضوعات الخارجية.

وفيه أولا : أنّه تارة يكون الإشكال في شيء من باب عدم المقتضي ، وتارة يكون من باب وجود المانع ، وهما مختلفان ، ونحن في هذا المقام نكون بصدد إثبات المقتضي لخبر العادل ، ومن هذه الآية يظهر أنّ مقتضى الحجية يكون موجودا في خبر العادل ، بخلافه في خبر الفاسق فإنّه لم يكن فيه مقتضى الحجية ، اذا عرفت ذلك فالتبيّن الواجب في خبر الفاسق يكون من أجل الإشكال في مقتضيه ، بمعنى أنّه لم يكن فيه مقتضى الحجية ، وهذا بخلافه في خبر العادل فإنّه لم يجب فيه التبيّن ، لكون المقتضي فيه تاما ، غاية الأمر لا بدّ من عدم وجود المانع ، والفحص عن المعارض يكون لأجل العلم بعدم المانع ، فعلى هذا لا يجب التبيّن في خبر العادل في حين يكون واجبا في خبر الفاسق.

وثانيا : كما قال الشيخ الانصاري رحمه‌الله : إنّه لا إشكال في أنّ وجوب الفحص عن المعارض غير وجوب التبين في الخبر ، فإنّ الفحص عن المعارض يؤكّد حجية خبر العادل ، ولأنّ فيه يرجع الفحص عن المعارض الى الفحص عمّا أوجب الشارع العمل به ، كما لو أوجب العمل بهذا ، والتبين المنافي للحجية هو التوقف عن العمل رأسا والتماس دليل آخر ، فيكون الدليل الآخر متّبعا ولو كان أصلا من الاصول ، فالفرق فيهما واضح ؛ لأنّ في الأول اذا وجد المعارض يعمل بالأرجح منهما ، ولكن في الثاني اذا وجد الآخر يعمل بالآخر وإن لم يوجد لا يعمل به أصلا ، فافهم.

الرابع من الإشكالات هو : أنّ استفادة حجية خبر العادل من هذه الآية مستلزم لخروج مورد الآية وهو غير ممكن. وبيان الملازمة فيه : أنّ مورد الآية هو

١٣٢

خبر الوليد عن ارتداد القوم ، وهو من الموضوعات ، والحال أنّه يعتبر في الموضوعات أخبار العدلين لا عدل واحد.

وفيه : أمّا أولا فلأنّ ما يثبت من الآية هو أنّه لا يجوز العمل بخبر الفاسق ، ومفهومه هو العمل بخبر العادل ، وأنّه لا يكون العادل كالفاسق ، ولا ينافي ذلك أنّ بمقتضى دليل آخر اعتبر الشارع في الموضوعات أخبار العدلين فاذا أخبر العدلان يكون كلّ منهما منشأ لتصديق المخبر به ، لا واحدا منهما ، وأمّا في خبر الفاسق لو أخبر آخر أيضا لا يجوز الاستناد عليهما في الموضوعات ، ولو كان الثاني عادلا لعدم المقتضي في خبر الفاسق للحجّية فهذا شاهد على أنّ العادل لا يجوز ردّ قوله ولو كان تصديق قوله مشروطا بشرط آخر في بعض الموارد ، فعلى هذا لا يلزم خروج المورد.

وثانيا : أنّ هذا يكون في المفهوم ، بمعنى أنّ المورد يستفاد من المنطوق ، وأنّه يجب التبيّن في خبر الفاسق ، ولا يكون قوله حجة لا في الأحكام ولا في الموضوعات كما يكون في مورد الآية ، وأمّا من المفهوم لا يستفاد إلّا عدم وجوب التبين والقبول ولو كان مشروطا بشرط آخر ، فعلى هذا لا يلزم خروج المورد بدخوله في المنطوق ، فلا يكون هذا منافيا لكون المفهوم مقيدا بقيد آخر بدليل آخر ، فتدبّر.

ومن الآيات التي استدلّوا بها على حجّية خبر العادل قوله تعالى في سورة البراءة : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.)

اعلم : أنّ كلّ من كان بصدد الاستدلال بهذه الآية مع اختلافهم في وجه الاستدلال يكون غرضه إثبات وجوب التحذّر عند الإنذار ، ولا بدّ للمستدلّ من إثبات أمرين : الأول وجوب الإنذار ، والثاني وجوب الحذر مطلقا ولو مع عدم إفادة الإنذار للعلم كي يحذر عن علم. وما يقال في توجيه الاستدلال وجوه :

١٣٣

منها : أنّ التحذّر يكون غاية للنفر الواجب وغاية الواجب واجبة.

ومنها : أنّه بعد ما كان الترجّي في حقّ الله تعالى محالا إذ يلزم من ذلك الجهل في حقّه تعالى فالمراد من «لعلّ» المذكور في الآية هو المحبوبية ، فيكون المعنى محبوبية الحذر ، وهذا يساوق الوجوب ؛ لأنّ في التحذّر مصلحة فيكون واجبا ، وإن لم يكن فيه مصلحة فلا يكون محبوبا ، فلا معنى لندب الحذر ، فعلى هذا يكون الحذر واجبا.

ومنها : أنّه بعد ما وجب التحذّر الذي هو غاية للإنذار الواجب فلا بدّ أن يكون الحذر واجبا ، وإلّا لغي وجوب الإنذار.

ولكن لا يخفى عليك ما في هذه الوجوه :

أمّا في الوجه الأول والثالث فلأنّ الآية ليست في مقام بيان التحذّر حتى يمكن التمسك باطلاقها ، بل هي في مقام بيان وجوب النفر والإنذار ، فعلى هذا لا يستفاد وجوب الحذر مطلقا حتى في مورد عدم العلم ، بل يمكن أن يكون مقيّدا بالعلم.

وأمّا في الوجه الثاني فلأنّ التحذّر لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته من فوت الواقع حسن ، وليس بواجب ، فما قيل من أنّه لا معنى للندب الحذر ممنوع ، فافهم.

ولكن اعلم : أنّه لا إشكال في أنّ لفظ «لعلّ» يستعمل في المورد الذي يكون فيه ترتّب لاحقه على سابقه ، ولا إشكال أيضا في كون ترتّب لاحقه على سابقه مفروضا مع قطع النظر عن «لعلّ» ، وهذا بديهي ، فلا يمكن الترجّي بأمر لا يكون مترتبا على سابقه ، فلا بدّ من أن يكون الترتب مفروضا من الخارج مع قطع النظر عن «لعلّ». نعم ، تارة يكون الترتب عقليا ، وتارة يكون شرعيا ، ولكن على كلّ تقدير لا بدّ من مفروضية الترتب كما ترى في موارد استعماله ، مثلا تقول : عظه لعلّه يخشى ، فالخشية مترتّبة على الموعظة مع قطع النظر عن «لعلّ» كما في المثال ، وبعد ثبوت ذلك نقول : إنّه مع قطع النظر عن هذه الآية فإنّ التحذّر المذكور في الآية مترتّب

١٣٤

على الإنذار ، فاذا كان كذلك فنقول : إنّه من المعلوم أنّ الناس يتحذّرون بمجرّد الإنذار ، فالله تعالى أيضا أوجب التحذّر عند الإنذار ، وهذا معنى إمضاء السيرة ، ومن المعلوم أنّ العقلاء وسيرتهم على التحذّر عند الإنذار ، والشارع قد أمضى هذه السيرة ، ومن الواضح أنّ العقلاء يتحذّرون بمجرد قول المخبر الثقة ولو لم يفد العلم ، فالشارع أيضا أمضى هذه الطريقة ، إذ ما يكون في الخارج مترتبا على الإنذار فالشارع أوجبه أيضا.

وإن قلت : إنّ بناء العقلاء في الامور شرعية قائم على اتّباع قول الثقة مع إمضاء الشارع فمورد الآية لا يمكن أن يكون إمضاء ؛ لأنّ هذا بحاجة الى امضاء سابق كي يوجبه الشارع.

قلنا : بعد ما عرفت من أن في موارد إطلاق «لعلّ» لا بدّ وأن يكون الترتّب مفروضا من الخارج ، فمن هذا انكشف أن الشارع أمضى هذه السيرة ولو سابقا ، فالآية ولو لم تكن إمضاء للسيرة بنفسها ولكنّها تكون كاشفة عن إمضاء الشارع للسيرة ، فافهم.

واستشكلوا على التمسّك بالآية المباركة لحجية خبر العادل بإشكالين آخرين :

الأول : أنّ مورد الآية ـ أعني شأن نزولها على ما فسّره المفسرون أو الأخبار ـ يكون إمّا في باب الجهاد وأنّهم يجاهدون ، وإمّا أنّهم يحضرون في الجهاد حتى يرون معجزات النبي ويخبرون بها من لا يكون في الجهاد.

وإمّا أنّ الطائفة يحضرون عند النبيّ ويأخذون معالم الدين وينذرون سائر الناس.

وإمّا أن يكون في أمر الإمامة فيفقهون ويعرفون الإمام ثمّ يعرّفونه لسائر الناس ، ولا إشكال في أنّ تلك الموارد لا بد من العلم بها ، إذ لا تثبت المعجزة مثلا

١٣٥

بخبر شخص واحد ، فعلى هذا يستفاد من الآية التحذّر عند حصول العلم ، فلا تكون دالة على حجية قول الثقة.

إن قلت : إنّه كما قلت في ردّ الإشكال الذي أورده في آية النبأ من أنّه يلزم خروج المورد ؛ لأنّه وإن كان لا بدّ في الموضوعات من شهادة العدلين إلّا أنّه يكون في عدل واحد مقتضى للحجّية ، غاية الأمر حجّيته في الموضوعات مشروطة بقيام عدل آخر ، فهما منضمّان يكوّنان دالا على إثبات الموضوع ، ونقول في المقام أيضا بأنّه ولو لم تثبت المعجزة بخبر الواحد إلّا أنّه يكون فيه مقتضى الحجّية ويكون جزء المثبت ، فبخبر عدل واحد وأخبار عدول أخر يحصل العلم وتثبت المعجزة ، وفي بعض الموارد كالأحكام يثبت الحكم بخبر العادل الواحد بنفسه.

قلنا : فرق واضح بين المقام وبين ما قلنا سابقا في ردّ الإشكال في آية النبأ ، إذ في الإشكال في آية النبأ يكون خبر الواحد جزء الحجّة في الموضوعات ، ويستند ثبوت الموضوع بكلا الخبرين لا بالخبر الثاني ، بخلافه في المقام فيستند ثبوت المعجزة بالعلم لا بالخبر الواحد وغيره من مقدمات العلم ، فعلى هذا يكون هذا الإشكال واردا على هذه الآية على ما قالوه في وجه التمسّك بها لحجّية خبر الثقة.

ولكن لا يرد هذا الإشكال على التوجيه الذي قلناه في الآية من أنّ الآية إمضاء للسيرة أو كاشف عن إمضاء الشارع ، لأنّ ما كان سيرة العقلاء عليه أمضاه الشارع ، ولا إشكال في أنّ سيرة العقلاء على ثبوت النبوة مثلا أو المعجزة على حصول العلم ، فما لم يحصل العلم لا يصدّقونه ، وأمّا في الأحكام من غير اصول الدّين فسيرتهم على العمل بخبر الثقة ، فيكون الإمضاء من الشارع لسيرة العقلاء ، ففي مثل اصول الدين أمضى تصديق العقلاء الذي يكون بعد حصول العلم ، وفي غيرها أمضى الشارع سيرتهم على العمل بخبر الثقة.

الإشكال الثاني وهو الذي ذكره الشيخ الانصاري رحمه‌الله في الرسائل هو : أنّ

١٣٦

الآية لا تشمل الخبر الواحد ، حيث إنّ المأخوذ في الآية هو التحذّر عند الإنذار ، ولا إشكال في أنّ شأن الرواة لا يكون الإنذار ، بل يكون صرف نقل قول المعصوم. نعم ، يصدق ذلك في حقّ المفتين ، وأمّا الرواة فلا يكونون منذرين.

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه‌الله عن ذلك : بأنّ رواة الصدر الأول أيضا لم يكونوا منذرين ؛ لأنّه لا يكون بناؤهم على صرف نقل الخبر ، فبعدم القول بالفصل بينهم وبين سائر الناس يثبت المطلوب.

ولكن لا يخفى ما في هذا الإشكال من الفساد ، ولا نفهم كلام الشيخ رحمه‌الله في المقام ؛ لأنّه لو كان المراد بالإنذار في الآية هو عين ما يتفقّهون كما هو الظاهر ولا إشكال في أنّ المراد هذا فلم يقول بأنّ الرواة لم يكونوا منذرين؟ حيث إنّهم أيضا منذرون بعين ما يقولون ، ولا يخفى أنّه لا يوجب في الإنذار التخويف بقرينة المورد ، لأنّ في مورد الآية ـ وهو موضوع الإمامة أو بيان المعجزة ـ يكون إنذار ، أو الحال أنّه لا يكون فيه تخويف ، بل طائفة المنذرين يخبرون بصرف المعجزة أو الإمام المنصوب ، فمن هذا يكشف عن أنّ الإنذار لا يلزم فيه التخويف ، فعلى هذا شمول الآية للرواة مع قطع النظر عن الإشكالات السابقة ممّا لا ريب فيه ، ولو كان المراد بالإنذار عدم صرف ما يتفقّهون وعالمون به من المعجزة أو نصب الإمام بل لا بدّ من التخويف فيه كما ترى عند الخطباء وأصحاب المنابر فهذا مع بطلانه لا يكون المفتي منذرا بذاك المعنى أيضا ؛ لأنه لا يكون مخوّفا ، فما قاله من أنّ المفتي منذر فاسد ، فمنشأ الخلط هو تخيّل أنّه لا بدّ في الإنذار من التّخويف ، فوقع في هذه الإشكالات ، فبعد ما عرفت من فساد ذلك لا يرد إشكال ، فافهم.

ومن الآيات التي استدلّوا بها على حجية خبر الواحد قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ.)

١٣٧

وجه الاستدلال هو : أنّه بعد ما يكون الكتمان موجبا لجواز اللعن فيكون حراما فيكون الإظهار واجبا ، واذا كان الإظهار واجبا لا بدّ من أن يكون القبول واجبا ، وإلّا يكون وجوب الاظهار لغوا ، فيدلّ على حجّية خبر الثقة ، وأنّه إذا أظهر وبيّن شيئا وجب قبول قوله.

وفيه : أمّا أولا فلأنّه من الواضح أنّ إظهار الأشياء يكون مختلفا ، فتارة يكون الأمر من الامور القلبية فإظهاره هو باللسان ، كما أنّ كتمانه عدم بيانه. وتارة يكون شيء لا من الامور القلبية بل يكون من الامور الخارجية فإظهاره لا يكون بصرف اللسان ، مثلا إذا كان الداعي على كتمان زيد يكون كتمانه تستّره وخفاءه عن نظر الناس ، لا صرف عدم ذكره باللسان ، ولو كان الداعي إظهاره فهو بأن يعرّفه ويشير اليه مثلا لا بصرف ذكره بلسانه ، ولو ذكره بلسانه يكون أيضا من باب المقدمة لإظهاره ، لا أن يكون إظهاره بصرف اللسان ، ففي الامور الخارجية لا يكون إظهارها صرف جريها على اللسان.

اذا عرفت ذلك فهذه الآية هي إعلام وإشارة الى علماء اليهود الذين كانوا يكتمون دلائل نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المذكورة في التوراة ، ويحرفونها أو يحذفونها عن التوراة فلسان الآية أنّه لا تكتموا ذلك بأن تخرجوا من التوراة ما هو شاهد على صدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل يجب عليكم بيان وإظهار ما في القوارة ممّا أنزله تعالى فيه للناس حتى يعلموا صدق دعوته ، فعلى هذا لا تكون الآية دالة على حجية الخبر أصلا ، لأنّ المخبر لا تكون وظيفته إلا ذكر الخبر ، وليس هذا مستفاد من الآية ، بل الآية دالة على أمر آخر وهو ما قلنا ، ويشهد على ذلك قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) فهذا دليل على أنّه لا بد من إظهار ما بيّنه الله في الكتاب حتى يظهر صدق دعوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاء به ، فافهم.

وثانيا : أنّنا لو تنزّلنا عن ذلك ولم نقل بأنّ المراد بالإظهار لا يكون صرف

١٣٨

القول بل قلنا بأن المراد صرف القول إلّا أنّه مع ذلك لا يكون مفيدا لحجية الخبر مطلقا ، حيث إنّه لا إشكال في أنّ قول علماء اليهود يكون محفوفا بقرائن تفيد العلم ، فلو أخبروا بصدق دعوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون خبرهم مطابقا مع ما في التوراة ، ولا يمكن لهم إظهار أنّ في التوراة كذا ، والحال أنّه لم يكن كذلك ، فخبرهم يكون مفيدا للعلم لاحتفافه بالقرينة ، فعلى هذا لا تدلّ الآية الشريفة إلّا على حجية الخبر المفيد للعلم ، لا مطلق الخبر ، ومع قطع النظر عن ذلك فقد أجاب الشيخ رحمه‌الله عن الاستدلال بهذه الآية فراجع الرسائل.

ومن الآيات التي استدلّوا بها على حجية خبر الواحد قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.) وجه الاستدلال هو : أنّه بعد ما وجب السؤال يكون مقدمة للقبول فيكون القبول واجبا.

وفيه أولا : أنّ هذه الآية وردت في الردّ على مزاعم بعض علماء اليهود الذين كانوا يقولون بأن النبي هو من جنس الملائكة ، فقال الله : إنّه لا يكون النبي إلّا من جنس البشر ، كما ترى في صدر الآية من سورة النمل (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ،) وفي سورة الأنبياء (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ،) فالمراد بأهل الذكر هم علماء اليهود بمقتضى سياق الآية ، وعلى هذا فلا تكون الآية دليلا لما نحن فيه ، ولا إشكال في أنّ الرجوع إليهم لم يكن من باب حجية الخبر ، بل لعلّه من جهة أنّ أهل الكتاب يقبلون قول علمائهم.

وثانيا : أنّه بمقتضى الأخبار الواردة في تفسير الآية فإنّ المراد من أهل الذكر أهل البيت عليهم‌السلام كما نقل في البحار والكافي أخبارها وهي متواترة ، والشيخ الانصاري رحمه‌الله حيث وقف على الأخبار التي تعرض لها اصول الكافي قال : بأنّه قد يشكل فيها لضعف السند ، ولكن في البحار أخبار كثيرة ذكرت أنّ المراد من أهل

١٣٩

الذكر هم الأئمة عليهم‌السلام ، فعلى هذا أيضا لا يمكن التمسّك بالاستدلال لحجية الخبر بهذه الآية.

وثالثا : أنّ ما يظهر من سياق الآية هو : أن تسألوا من أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون حتى تعلموا بعد السؤال ، لا أنّه بمجرّد الاستماع تقبلونه تعبدا ، بل يتبدّل جهلكم الى علم ، ويؤيد ذلك : أنّ الآية وردت في اصول الدين وعلامات النبي ، وفيها لا يكون خبر الواحد حجة ، فعلى هذا أيضا لا يكون المورد مرتبطا بما نحن فيه.

ورابعا : أنّه لو تنزّلنا عن ذلك وقلنا بأنّه ليس المراد من الآية هو السؤال حتى تعلموا ، بل تشمل قبول السؤال ولو لم يكن موجبا للعلم ، ولكن مع ذلك لا إشكال في أن المراد هو السؤال عن العالم عمّا يعلم ، ولا يطلق على الراوي ذلك ، فتكون الآية على هذا دليلا على التقليد كما قال الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ، ولكن لم تصل النّوبة الى ذلك ، بل يكفي في الجواب ما قلنا أولا وثانيا ، فتدبر.

وقد يقال كما يظهر من كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّ بعض الرواة يكون كذلك ، أعني من كان مجتهدا وعالما كزرارة ، فبعد شمول الآية لزرارة وأمثاله فنقول في غيره بعدم القول بالفصل.

وفيه : أنّه يمكن أن يقال بشمول الآية لكلّ من كان فيه ملاك كونه من أهل الذكر ، من كان كذلك يجب السؤال عنه لا غيره ، وأنّ حجّية قول زرارة هي من باب كونه من أهل الذكر ، لا من باب كونه مخبرا ، فكيف يمكن التعدّي الى من لم يكن من أهل الذكر؟!

ومن الآيات التي استدلّوا بها على حجية خبر الواحد قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ.)

١٤٠