المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-51-5
الصفحات: ٥٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

الإجمالي ، بأنّه بعد ما نعلم إجمالا بورود مقيدات ومخصّصات وناسخ ومنسوخ في الكتاب ، وبعد هذا العلم لا يجوز العمل بظواهر الكتاب.

وفيه أمّا نقضا كما قاله الشيخ رحمه‌الله : بأنّه يكون هذا العلم في الأخبار أيضا ، غاية الأمر في غير الأحاديث النبوية لا يكون ناسخا ومنسوخا ، وأما في النبويات فيكون ذلك أيضا ، ولذا قال بعض الأخباريين بعدم جواز العمل بظواهر النبويات ، ولكن مع ذلك يبقى الإشكال في ما عداها من الأخبار.

وأمّا حلّا فنقول كما قلنا في باب العامّ والخاصّ : أنّ حصول العلم الإجمالي يكون على نحوين : فتارة يحصل العلم الإجمالي للفحص مع قطع النظر الى بعض الأسباب ، كما يحصل العلم الإجمالي بالواجبات والمحرّمات في الشريعة بمجرد العلم بالشريعة ولو قبل مراجعة الأخبار والآيات.

وتارة يحصل علم بالإجمال بعد الرجوع الى الأخبار ، مثلا اذا راجعت الأخبار علمت إجمالا بوجود واجبات ومحرمات ، فعلى الأول يكون دائرة العلم الإجمالي موسّعة ولا ينحلّ بمجرد الرجوع الى الأخبار والآثار ولو علمت بوجود واجبات وتفحّصت في الأخبار ؛ لأن حصول العلم لا يكون من مراجعة الأخبار فقط. وعلى الثاني ينحلّ العلم الإجمالي بعد التفحص في الأخبار ، لأنه يكون دائرة العلم الاجمالي مضيقة ولا يحصل إلّا من الأخبار ، فاذا كان حصول العلم الاجمالي يحصل بعد مراجعة ما بأيدينا من الأخبار فهذا العلم ينحلّ أيضا بعد المراجعة لتلك الأخبار.

وإن قلت : إنّه يمكن أن تكون التقييدات والتخصيصات فيما لم يبلغ بأيدينا من الأخبار ، فعلى هذا لا يكون صرف الفحص الى ما بأيدينا من الأخبار كاف لانحلال العلم الاجمالي

فنقول : إنّه لا إشكال في فساد هذه الدعوى ولم يتحصّل هذا العلم الإجمالي ،

١٠١

وإلّا إن كنت ملتزما بذلك فلا بدّ لك من الاحتياط مطلقا ، حيث إنّه يمكن أن يكون من الواجبات والمحرمات في الأخبار التي لم تصلنا ، فافهم.

وإن قلت : إنّ حصول العلم الإجمالي بالتقييد والتخصيص والنسخ لا يكون بعد مراجعة الأخبار حتى تقول بانحلاله بعد الفحص فيها ، بل يكون حصول العلم الإجمالي من بعض الأخبار الواردة في عدم جواز العمل بالكتاب لوجود التخصيص والتقييد والنسخ فيه ، فعلى هذا تكون دائرة العلم موسّعة ، ولا ينحلّ بالفحص في الأخبار التي تكون بأيدينا.

أقول : إنّه ولو سلّمنا ذلك ولكن نقول : إنّه بعد الفحص في الأخبار وتحصيلنا على تقييدات وتخصيصات ونواسخ ومنسوخات فقهرا ينطبق علمنا بها ، فأيضا ينحلّ العلم الإجمالي ، فظهر لك أنّه لا يرد إشكال العلم الإجمالي ، وليس هذا من قبيل العلم بالواجبات والمحرّمات في الشريعة.

ولأجل هذا قال الشيخ رحمه‌الله هنا بانحلال العلم ، ولكن لم يقل بالخلاف فيما علمنا إجمالا بوجود الواجبات والمحرمات ، والسرّ ما قلنا من أنّ حصول علم إجماليّ في المقام يكون بعد مراجعة الأخبار ، ولكن فيما يحصل العلم الإجمالي بالواجبات والمحرمات لا يكون بعد المراجعة للأخبار ، بل بمجرّد العلم بالشريعة يحصل العلم ، فانقدح بذلك كلّه حجّية ظواهر الكتاب بلا إشكال وترديد ، فافهم.

وينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأول : لا إشكال في أنّه يجوز القراءة بما قرأ القرّاء ، كما قالوا : إنّه تقرأ كما يقرأ الناس ، فالقراءة بما يقرأ الناس تكون صحيحة ، والدليل عليه هو بعض الأخبار ، وليس هنا مجال لذكرها.

ولا إشكال أيضا في لزوم التمسّك بهذا الكتاب الذي عندنا ؛ لأنّا مأمورون بالعمل بذلك ، إنّما الإشكال في أنه إذا كانت قراءة القرّاء مختلفة فهل يجوز العمل وفقا

١٠٢

لكلّ من القراءات ، أو لا؟ مثلا في كلمة «يطهرن» التي قرأها بعض بالتشديد وبعض بالتخفيف ويكون هذا الاختلاف منشأ لاختلاف الحكم ، ففي مثل ذلك هل يمكن التعويل على قراءة كلّ من القرّاء ، أم لا؟

فنقول : قد يقال بتواتر القراءات ، بمعنى أنّ القراءات السبع تكون كلّها قرآنا ونزلت كلّ القراءات من الله تعالى ، مثلا كان النازل من الله تعالى (يَطْهُرْنَ) بالتخفيف و (يَطْهُرْنَ) بالتشديد ، فإن ثبت ذلك فيمكن التمسّك بكلّ من القراءات.

ولكن لا يخفى عليك فساد ذلك وعدم صحة تواتر القراءات ؛ لأنّ ما قالوا في وجهه ليس بصحيح. فنذكر أولا ما قالوا في إثبات تواتر القراءات ، ثم ما فيه.

فنقول : قد يقال بصحة تواتر القراءات بالإجماع ، وأنّ الإجماع منعقد على ذلك. ولا يخفى ما فيه من الفساد :

أمّا أوّلا فلعدم ثبوت الإجماع على ذلك.

وأمّا ثانيا فلأنّ معنى التواتر هو ما يحصل بسببه علم عادي ، بمعنى أنّ المخبرين يكونون بحيث لا يمكن تواطؤهم على الكذب فيحصل العلم بمجرد إخبارهم ، فعلى هذا لا يكون الخبر ـ مثلا ـ متواترا إلّا اذا كان في تمام طبقات رواته عدّة كثيرة بحيث يحصل العلم لنا ، وأما لو لم يكن كذلك فلا يكون متواترا.

فنقول في المقام : إنّ الإجماع بعد فرض تسليمه لا يثبت التواتر ؛ لأنّ معنى كون شيء متواترا هو ما يحصل بنفسه بسبب القطع بمدلوله ، والإجماع لا يثبت ذلك فكيف يثبت التواتر بالإجماع؟ وأنّا نرى أنه لو حصل لنا العلم لكثرة الأخبار بتواتر القراءات فنقول به ، وإلّا فلا يكفي الإجماع ، ولا بدّ من أن يكون متواترا من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى زماننا وفي كلّ طبقة متواترا ، وإلّا فلا يكفي ، فافهم.

وقد يقال لتوجيه ذلك بتوفّر الدواعي وإن كان توفر الدواعي على ضبط

١٠٣

القرآن وحفظه ، فاذا كان الأمر كذلك فما يقرؤه القرّاء يكون ممّا ضبطه وحفظه ، فلا بد أن تكون القراءة على طبق القراءات السبع فتكون القراءات السبع متواترة.

وفيه : أنّ توفّر الدواعي على ضبط القرآن لا يكفي لإثبات ذلك ، إذ ما يكون مسلّما توفّر الدواعي على ضبط القرآن ، وأمّا على خصوصياته فغير مسلّم ، ولو سلّم ذلك فمطلقا أيضا ممنوع ، ولا يكون توفّر الدواعي على ضبط جميع الخصوصيات حتى الإعراب مثلا.

وقد يقال لتوجيه إثبات تواتر القراءات بالتمسّك بالخبر المجعول ، وهو : أنّه انزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف وكاف ، وقالوا بأنّ المراد من السبعة أحرف قراءات السبع.

وفيه أوّلا : أنّ الخبر مجعول.

وثانيا : أنّه من أين يكون المراد من السبعة أحرف هو القراءات السبع ، وقد قالوا فيه خمسة وعشرين معنى؟ ومن أين يمكن أن يقال بأنّ معنى الخبر يكون ذلك؟

وثالثا : أنّه ورد في بعض الروايات : أنّ المراد من السبعة أحرف أنّ القرآن على سبعة أقسام : أمر ونهي الى آخره وعدّ سبعة أشياء ، فلا يستفاد من هذا الخبر أيضا ، مع أنّ من راجع حالات القراءات السبع يظهر له بطلان القول بتواتر القراءات ، حيث إنّ القرّاء السبعة كانوا في زمن بني العباس وما بعده ، وكان قد مضى من الهجرة ما يقارب خمسين ومائة سنة والناس قبل ذلك يتّبعون قراءة غيرهم ، فاذا ظهرت هذه القراءات السبع رجعوا اليهم.

ولا يخفى أنّ التواتر كيف حصل في زمانهم؟ ولا يكون هذا التواتر قبل زمانهم الى زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا شاهد على عدم تواتر القراءات ، وإلّا فلا بدّ فيه أن يكون متواترا من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأيضا هناك شاهد آخر على بطلان تواتر القراءات ، وهو : أنّ من يروي هذه

١٠٤

السبع عنهم كما يظهر للمراجع يكون بين واحد الى أربع ولم يزد على ذلك ، فهم يروون عن أشخاص قليلة ، وكيف يحصل العلم بقول اثنين أو ثلاث أو أربع؟ وكيف يكون هذا تواترا أيضا والراوي عنهم أيضا يكون عددا قليلا لم يبلغ العشرة؟ فكيف ثبت التواتر بهذه الأفراد القليلة؟

وأيضا الشاهد الآخر على ذلك هو : أنّ القرّاء بعد كلّ قراءة يتمسّكون في صحة قراءتهم بشعر الشاعر ، أو غير ذلك من الاستنباطات ، وهذا شاهد على عدم تواتر القراءات ، وإلّا فلو تواترت القراءات فلا يحتاج الى التمسك في القراءة بشعر الشاعر ، بل يتمسك في قراءته بأن تكون القراءات متواترة وهذه القراءة منها ، كما يظهر ذلك لمن راجع مجمع البيان وغيره من كتب التفسير حيث يقول في باب (الحجّة) وفي مقام الاحتجاج : ويتمسّكون بالشعر وغيره. فهذا حال تواتر القراءات فظهر لك بطلان تواتر القراءات.

وقال الشهيد الثاني رحمه‌الله : «إنّ القراءات ولو لم تكن كلّها متواترة إلّا أنّ المتواتر فيها».

ولكن يظهر لك من مطاوي كلامنا بطلان ذلك أيضا ، حيث إنّه لم يكن من المسلّم أنّ القرآن الواقعي في ضمن هذه القراءات ، لأن ما يتمسّكون به في قراءتهم يكون استنباطا ، فكيف يمكن القول بأنّ المتواتر فيها؟ مع أنّا نرى في بعض التفاسير أنّهم يقولون : قرأ القرّاء السبعة كذا ، وقرأ عليّ عليه‌السلام كذا ، وهذا شاهد على عدم كون المتواتر في القرّاء السبعة ، فافهم.

فانقدح لك عدم صحة تواتر القراءات ، فاذا بعد اختلاف القراء في آية لا يمكن استفادة الحكم منها ، لعدم العلم بكون أيّ منها قرآنا فيكون مجملا ، ولا يجوز التمسّك بإحدى القراءات إلّا ان يكون شاهد في الأخبار على إحدى القراءات ، ففي مثل «يطهرن» لا يمكن التمسّك به لإثبات الحكم إلّا أن يكون شاهد على التخفيف ،

١٠٥

أو تشديده في الأخبار ، ولا يمكن القول بأنّ حالها حال الخبرين المتعارضين ؛ لأنّ الخبرين المتعارضين يخبران عن الواقع ، وفي المقام يمكن أن يكون منشأ قراءتهم بعض الاستنباطات ، فلا يمكن أن يقال بأنّه لو أمكن الجمع بينهما فهو ، وإلّا فيقع بينهما التعارض ، ولا يكفي في ذلك أنّ الإجماع انعقد على القراءة بكل قراءة ، إذ ولو يجوز القراءة بكلّ قراءة إلّا انّه لا يجوز التمسّك بها لإثبات الحكم حتى في مورد الاختلاف ، فظهر لك أنّ في مورد الاختلاف يكون كالكلام المجمل ، ولا يمكن التعويل عليه ، فافهم وتأمّل جيّدا.

واعلم أنّه كما قلنا : يجوز القراءة بكلّ القراءات السبع ، يعني بحيث يلزم ذلك بمقتضى ما ورد من أنّه : اقرأ كما يقرأ الناس ، ولو وردت قراءة عن الأئمّة المعصومين ـ سلام الله عليهم ـ وتكون مخالفة مع هذه القراءات فلا يجوز القراءة بها ولو ثبت أنّ المعصوم قرأ كذا وتواتر ذلك مثلا ؛ لأنه بمقتضى ما ورد في الخبر مع فرض السائل بأنّه يحكي عنكم قراءة فهل يجوز أن يقرأ به فأمر الإمام عليه‌السلام بأنّه تقرءون كما يقرأ الناس؟ وهذا صريح في عدم جواز القراءة التي قرئت عن الأئمّة عليهم‌السلام إذا كانت مخالفة مع قراءة القراء السبعة ، ولا يكون هذا الحكم مختصّا بزمن السؤال ؛ لأنّه في الخبر عين هذا الحكم ، وغايته بأنّ غاية الحكم يكون موقع ظهور حجّة العصر عجّل الله تعالى فرجه ، فما لم يجئ وليّ العصر لا بد من أن تقرأ كما يقرأ الناس ، ولو وردت قراءة عن الأئمّة مطابقة لقراءة أحد من القرّاء وتكون قراءة غيره من القرّاء مخالفة مع قراءة الأئمّة فهل تلزم القراءة بما يكون مطابقا مع قراءة المعصوم ، أو يتخيّر أيضا بين القراءات؟ فأيضا بمقتضى الرواية أمر بالقراءة كما يقرأ الناس ، فالتخيير باق ولو في هذا الفرض فمخير بين القراءات ولو كان أحدها موافقا مع قراءة الأئمة ، لكنّ ترجيحه يكون بلا إشكال ، بمعنى أنّ القراءة على طبق قراءة من كان قراءته موافقة مع قراءة الأئمة يكون أرجح ، فافهم ، ولهذا كان شيخ الشريعة الاصفهاني رحمه‌الله يقرأ «ملك» في موضع «مالك» لأجل هذا ، وقال بأنّ الخبر وارد بأنّ المعصوم قرأ «ملك»

١٠٦

مائة مرة ، فلهذا يكون قراءة «ملك» أولى ، ولكن بعد ما تصفّحنا في الأخبار نجد أنّ في خمسة وعشرين موضعا في الدعاء والصلاة أنّ الأئمّة يقرءون «مالك» ، وخصوصا نجد في الخبر أنّ المعصوم قرأ «مالك» مائة مرة ، فافهم.

التنبيه الثاني : ما يظهر من كلمات المتقدمين هو عدم التحريف في الكتاب المجيد والفرقان الحميد ، كما قال الصدوق رحمه‌الله : (اعتقادنا أنّ القرآن المنزل هو ما يكون بين الدّفتين). وادّعى السيد المرتضى رحمه‌الله الإجماع على ذلك ، ولا يكون دعوى التحريف إلّا في كلمات بعض المتأخرين ، وإلّا فالسيد المرتضى رحمه‌الله قال بأن الأخبار الدالة على التحريف ضعاف ، فالكلام في التحريف يظهر من كلمات بعض المتأخرين من الأخباريين.

والحقّ عدم وقوع التحريف في القرآن الكريم ، فنقول : إنّ الأخبار التي يتمسّكون بها على التحريف تكون على طوائف :

فطائفة منها تدلّ على الاختلاف في القراءات مثل ، أنّه ورد في (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) كان (يسألونك الأنفال) بإسقاط لفظ «عن» ، أو (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) كان (كنتم خير أئمّة) الى غير ذلك ، فهذه الأخبار دالة على اختلاف القراءة ولا تكون مربوطة بالتحريف ؛ لأنّ الاختلاف في القراءة لا يكون محلّ إشكال.

وطائفة من الأخبار تدلّ على أنّه نزل كذا ، مثلا نزل : (بلّغ في عليّ) الى غير ذلك ، فهذه الطائفة أيضا لا تدلّ على التحريف ؛ لأن من الاصطلاحات السابقة بين المفسّرين هو علم التنزيل والتأويل ، والمراد بالتنزيل ما وردت الآية فيه وكان شأن نزوله ، لا أنّ هذا يكون جزء القرآن ، مثلا نزل : (هَلْ أَتى) في حقّ عليّ عليه‌السلام ، لا أنّ كلمة (عليّ) جزء منه وحرّف واسقط منه. نعم ، يكون نزول الآيات في حقّ بعض ، فكما نزل بعض الآيات في عليّ عليه‌السلام وهو دالّ على شرافته فكذلك نزل في حقّ

١٠٧

أبي بكر ، مثلا كما ورد من أنه نزل (يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) في أبي بكر ، فهذه الطائفة أيضا غير دالّة على التحريف ، وطائفة من الأخبار كانت دالّة على أنّ عثمان جمع كلّ نسخ القرآن ، وإذا شهد واحد أو اثنان بكون آية من القرآن أدخل عثمان في القرآن هذه الآية ، ولكنّ هذه الطائفة من الأخبار تكون جميعها عامّية ولا ينقل عن الشيعة أحد إلّا من طرق العامة ، فمع كون طريق هذه الأخبار عامية فكيف يمكن التعويل عليها؟ ، فلا يبقى من الأخبار المتمسّك بها للتّحريف إلا بعض الأخبار الدالّة على أنّ في القرآن يكون بعض سور فأسقطوها أو على أنّ بعض السور يكون كالبقرة فأسقطوا منها ولم يبق منها إلّا قليلا.

ونقول : إنّ هذه الأخبار لا يمكن القول بها ، لأنّه بعد ما كان من المقطوع أنّ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أربعة عشر يكتبون القرآن المسمّون بكتّاب الوحي وسائر المسلمين يحفظون القرآن فكيف يمكن أن يقال : إنّ بمقدار سورة البقرة سقط من القرآن ولم يلتفت أحد من المسلمين ، ولم يقل أحد : إنّهم أسقطوا من القرآن؟ نعم ، لو سقطت كلمة أو آية يمكن أن يقال : وقع الاشتباه ولم يلتفتوا ، وأمّا بمقدار سورة البقرة كيف يمكن أن نلتزم بسقوطها من القرآن؟

وأمّا القرآن الذي كان عند أمير المؤمنين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فهو قرآن جامع للتنزيل والتأويل ، وبهذا الاعتبار ورد في الخبر القريب من هذه المضامين : أنّ الناس لو يعملون بهذا القرآن الذي في يد الأمير لم يختلف اثنان ، وهذا لما قلنا من أنّه حاو للتنزيل والتأويل فبعد العمل به يرفع الاختلاف ، وهذا لا يدلّ على أنّ هذا القرآن كان محرّفا ، لما قلنا من أنّ هذا القرآن هو المنزل من السماء ، غاية الأمر لم يكن منضمّا اليه التنزيل والتأويل ، فافهم.

ثمّ إنّه قد يطلق التحريف ويراد به تغيير الحكم ، كما يطلق في بعض الآيات والأخبار ، مثل قوله تعالى : (ويُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) فلا إشكال في أنّه أراد

١٠٨

من التحريف تغيير الحكم ، كما ورد التفسير من أهل البيت على ذلك ، والمراد تغيير حكم الزنا فكان حكمه الرجم فتغير ، فكذلك في قوله تعالى : (يَسْمَعُونَ كَلامَ ـ اللهِ ـ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) يكون المراد من التحريف تغيير الحكم ، وكذلك ورد في الأخبار إطلاق التحريف على تغيير الحكم ، فعلى هذا يمكن أن يكون بعض الأخبار الدالة على تحريف الكتاب هو ذلك ، يعني تغيير أحكام الكتاب.

فظهر لك : أنّ الأخبار المتمسّك بها للتحريف على كثرتها لا تكون دالّة على التحريف ؛ لأنّ بعضها يكون ناظرا الى الاختلاف في القراءات ، وبعضها الى شأن النزول ، وبعضها الى تغيير أحكام القرآن ، وما ورد من أنّه سقط ما بين الكلمتين ثلث القرآن ، أو سقط عن القرآن بقدر سورة البراءة فقلنا : بأنّه لا يمكننا الالتزام بذلك ، بل كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك والحال أنّ المسلمين حافظين له ولم يقل أحد : إنّ القرآن حرّف أو اسقط منه؟ والشاهد على كذب ذلك أنّ ابن مسعود اذا طلب عثمان منه قرآنه أبى ولم يأت بقرآنه حتى ضربه ومع ذلك لم يأت بقرآنه الى عثمان ، وقرآن ابن مسعود كان مدّة في أيدي الناس ، حتى أنّ ابن النديم نقل في فهرسته بعض آياته ، فيكشف أنّ قرآن ابن مسعود كان في زمانه ، وفعلا لم يكن قرآنه بأيدينا ، إلّا أنّه نقل في كتب التفسير قراءته كما ترى في مجمع البيان ، واذا راجعت قراءته ترى أنّ اختلاف قرآنه مع هذا القرآن الذي بأيدينا لم يكن إلّا من قبيل الاختلاف في القراءة ، وفي بعض المواقع في ذكر شأن نزول الآية ، فعلى هذا أنّ ما ذكرناه يكون شاهدا على عدم التحريف ، مضافا الى ما عدّوه من مطاعن بأنه كان يطبخ القرآن لأنّه حرّف القرآن ، وأيضا أنّ ابن مسعود قال في المعوّذتين : إنّهما ليستا جزءا من القرآن بل كانتا تعويذا للحسنين ومع ذلك ذكر في قرآنه ، لكن لا بعنوان أنّهما جزء من القرآن ، ومع ذلك حسّنه السنّي والشيعي ، مع أنّه لم يسقط المعوّذتين فكيف يمكن أن يسقط نصف القرآن ولم يقل أحد : إنّ القرآن قد حرّف؟ كما أنّك ترى أنّ كتاب مكارم الأخلاق الذي لم يطّلع عليه حتى بعض العلماء فحينما

١٠٩

طبع في مصر وأسقطوا منه بعض الموارد واحتجّ عليهم المسلمون فكيف يمكن أن يسقط شيء من القرآن ولم يحتجّ عليه المسلمون في ذلك الزمان؟!

فظهر لك : أنّ القول بتحريف القرآن بهذا المعنى يكون باطلا. نعم ، التحريف بمعنى الاختلاف في القراءة أو في شأن النزول أو تغيير حكمه فيمكن القول به ، وهذا ليس تحريفا حسب الاصطلاح.

فظهر لك : أنّ الإشكال في التمسّك بالقرآن لوقوع التحريف ليس له وجه ، ولو تنزّلنا عن ذلك والتزم أحد بوقوع التحريف ولكن مع ذلك لا يكون مانعا عن التمسك بالظهور لا لما قاله الشيخ رحمه‌الله ، بل لما قلنا في ردّ إشكال العلم الإجمالي بأن نقول : تكون دائرة العلم الإجمالي مضيقة ؛ لأن بعد المراجعة للأخبار الدالة على التحريف يحصل العلم الاجمالي بوقوع التحريف ، فلو تتفحّص في هذه الأخبار وترى موارد التحريف فسوف ينحلّ علمك الإجمالي ، وبهذا فيمكن العمل بالظواهر ، ولو تقول بأن العلم الإجمالي حاصل قبل المراجعة بالأخبار فنقول : إنّه على هذا بعد الفحص في هذه الأخبار ينطبق علمك الإجمالي بما يكون في الأخبار ، وما ورد من أنّه سقط من القرآن ثلثه ما بين كلمتين فهذا أيضا مانع عن العمل بهذه الآية لا بغيره ، ولو احتملت أنّ التقييدات والتخصيصات تكون في ما سقط فيكون أيضا الشكّ في التقييد والتخصيص فيرفع بالأصل ، مضافا الى ذلك أنّه يمكن الجواب بما قاله الشيخ رحمه‌الله من أنّه : أولا تكون الشبهة غير محصورة ، وثانيا أنّه يكون خارجا عن محلّ الابتلاء ، وثالثا من أنّه يمكن أن يكون ما سقط غير الأحكام ، كما أنه على القول بالتحريف يحتمل قويا أن يكون كذلك ، لأنّ دواعيهم تكون على تحريف مناقب أهل البيت عليهم‌السلام مثلا ، فعلى هذا لا يبقى إشكال ، مضافا الى أنّنا مأمورون بالعمل بهذا القرآن ، فافهم ، هذا تمام الكلام في التحريف.

وأمّا النّزاع الآخر وهو قلناه إجمالا لك سابقا وما قاله المحقّق القمّي رحمه‌الله من

١١٠

أنّ حجّية الظهور مختصّة بالمقصودين بالإفهام فأيضا أنّه لا بدّ من التفصيل من أنّه اذا قال المتكلم لفظا وشك في أنّه هل يكون مقصوده إفهام الغير ، أم لا؟ فيكون بناء العقلاء على الأخذ بالظهور ، ولو لم يشكّ في كونه مقصودا بالإفهام في موارد الإقرار والوصية والكتابة اذا كان كذلك نأخذ به ، وإن لم يكن كذلك بأن يكون غرضه منه إفهام شخص معيّن مثلا ونعلم بذلك ، سواء كان غرضه الكتمان من الآخر أو لا فلا يمكن الأخذ بالظهور لغير المقصود بالإفهام ، لعدم بناء العقلاء بالتمسّك بالظهور في هذا المورد ، وفي موارد الكتابة والوصية والإقرار لو كان بهذا النحو لا يمكن الأخذ بالظهور لغير المقصود بالإفهام ، فظهر لك أنّ الحقّ التفصيل ، فافهم هذا كلّه في الأخذ بالظهور ، واذا كان للكلام ظهور نأخذ به.

وأمّا النّزاع الثاني فهو : أنّه بما ذا يحصل الظهور؟ أمّا في مورد القطع بأنّ ظاهر اللفظ الفلاني يكون المعنى الفلاني فلا اشكال ، وأمّا في غير مورد القطع فهل يمكن أن يقال بالظنّ الحاصل من الشهرة ، أو قول اللغوي ، أو غير ذلك يمكن منه أن يستفاد أنّ هذا اللفظ ظاهر في هذا المعنى ، أم لا بمعنى أنّ الظنّ الحاصل من أن هذا اللفظ ظاهر في هذا المعنى هل يكون حجة ، أم لا؟

أمّا الظنّ الحاصل من الشهرة فغير حجة ، نعم ، ما يقع الاختلاف فيه وينبغي التكلم فيه هو حجّية الظنّ الحاصل من قول اللغوي في كون اللفظ ظاهر في المعنى الفلاني أم لا؟

قد يقال بحجية الظنّ الحاصل من قول اللغوي من باب الانسداد ، حيث إنّ فهم معاني اللغات يكون طريقه منسدّا ولا يمكن فهمه إلّا بالرجوع الى اللغوي.

وفيه : أنّه يأتي ـ إن شاء الله ـ في باب الانسداد أنّ الانسداد في كلّ الأحكام لو كان يلزم بحيث يوجب من عدم العمل بالظنّ الخروج من الدين فيمكن التعويل على كلّ ظنّ ، وأمّا لو لم يكن عدم العمل بالظنّ موجبا للخروج من الدين فلا يجوز

١١١

العمل بالظنّ ، فعلى هذا ولو فرضنا انسداد باب العلم بخصوص اللغة إلّا أنّه مع ذلك لا يجوز العمل بقول اللغوي ، لأنّه لا يوجب من عدم العمل بالظنّ الحاصل من قول اللغوي الخروج من الدين ، لعدم الانسداد الكبير ، أعني في كلّ الأحكام أو معظمها ، فافهم. ولو قال أحد بحجية الظنّ الحاصل من قول اللغوي من باب دليل الانسداد فأيضا لا يكون حجيّته من باب الظنّ الخاصّ ، ففي هذا الوجه لا يمكن القول بحجية الظنّ الحاصل من قول اللغوي.

وقد يقال بحجية الظنّ الحاصل من قول اللغوي من باب حجية الخبر ، أو من باب رجوع الجاهل الى العالم ، ولكنّ هذا أيضا لا ينفع لحجيته.

فنقول مقدّمة لإثبات ذلك : إنّه مع فرض أنّ الرجوع الى المخبر أو الرجوع الى أهل الخبرة أو رجوع الجاهل الى العالم يكون في كلّها من باب رجوع الجاهل الى العالم ، لأنّه لو كان عالما لم يرجع ، ولكن مع قطع النظر عن ذلك ما جرى عليه الاصطلاح من أنّه قد يقال : إنّ هذه الصغرى تكون من كبرى رجوع الجاهل الى العالم ، أو تكون من كبرى الخبر ما يكون مقصودهم ، وهل فيهما فرق ، أم لا؟

فنقول بعون الله تعالى : إنّ كبرى رجوع الجاهل الى العالم تكون غير كبرى الخبر ؛ لأنه في كبرى رجوع الجاهل الى العالم يكون قول العالم حجة ويعمل به العقلاء ولو كان حاصلا من مقدمات نظريّة أو حدسية ، فكل ما يعلم به العالم حاصل له بالمقدمات النظرية والحدسية ، نعم ، يعتبر أنّ لا تكون المقدمات خارجة عن المتعارف كالرمل والجفر ، ولكن مع ذلك علم العالم حاصل من مقدمات حدسية لا حسية ، فكل صغرى تكون كذلك ـ أعني تكون مقدماتها حدسية ـ تكون من صغريات هذه الكبرى ، وإلّا فلا.

وأمّا في الخبر فلا يكون كذلك ، بل يكون حاصلا من مقدمات حسية ، وإلّا لم يكن قول المخبر بحجة أصلا ، ففي الخبر لا بدّ وأن يكون مقدمات خبره حسيا ، غاية

١١٢

الأمر تارة تكون النتيجة أيضا حسية ، وتارة تكون النتيجة حدسية ، ولكن لا بدّ وأن تكون مقدمات خبره حسية ، وإلّا ليس خبره حجة ، فهذا فرق واضح بين كبرى الخبر وكبرى رجوع الجاهل الى العالم ، ولا إشكال في أن في الخبر لو حصل مقدمات الخبر لكلّ شخص يكون في النتيجة مثل المخبر ، ولا يمكن الاختلاف ، فكلّ من تحصل له المقدمات تحصل له النتيجة الحاصلة للمخبر ، غاية الأمر لو وقع اختلاف في النتيجة يكون من أجل الاختلاف في المقدمات ، وإلّا فلم يقع اختلاف أصلا ، وهذا بخلاف رجوع الجاهل الى العالم حيث إنّه في هذه الكبرى يمكن أن يكون شخص آخر في المقدمات شريكا مع العالم ، ولكن مع ذلك يكون في النتيجة مخالفا ، كما ترى في استنباطات العلماء حيث إنه في مسألة واحدة يكون مع عالم آخر موافقا في المقدمات ، ولكن يكون في النتيجة مخالفا معه.

اذا عرفت الفرق بين الكبريين فنقول : إنّه في الآثار تفاوت أيضا ، فأثر رجوع الجاهل الى العالم هو أنّه يصحّ الرجوع اذا كان جاهلا ، وأما لو كان عالما فلا يمكن الرجوع ، لأنّه لا يكون رجوع الجاهل الى العالم ، بل يكون رجوع العالم الى العالم ، وهذا بخلاف الخبر فإنه يجوز الرجوع الى المخبر مع كونه قادرا على العلم ، كما ترى أنك قادر على أن تذهب الى الباب وترى زيدا ولكن مع ذلك لا تذهب وتكتفي بقول المخبر ، وهذا واضح ، وأيضا يعتبر في كبرى الخبر في الموضوعات التعدّد والعدالة في الموضوعات والأحكام ، بخلاف رجوع الجاهل الى العالم إلّا في باب التقليد الذي دلّ الدليل على وجوب العدالة ، وإلّا فمع عدم الدليل لا يجب العدالة ، فافهم.

فانقدح لك الفرق بين كبرى الخبر وكبرى رجوع الجاهل الى العالم ، اذا عرفت ذلك فلا إشكال في أنّ الرجوع الى أهل الخبرة يكون من باب كبرى الخبر ، حيث إنّ المقدمات التي يخبر أهل الخبرة بواسطتها نتيجتها تكون حسية ، ولا تكون نظرية بحيث لو كنت أنت أيضا عارفا بالمقدمات تحصل لك النتيجة التي حصلت

١١٣

لأهل الخبرة ، وأيضا من الجائز أن يرجع الخبرة الى الخبرة مع قدرته على المقدمات وتحصيل النتيجة ، وأيضا في الموضوعات يعتبر في جواز التمسّك بقول أهل الخبرة أن يكون عدلين ، وهذا كلّه يكون من أمارات كونها من صغريات كبرى الخبر ، فيكون الرجوع الى أهل الخبرة من صغريات كبرى الرجوع الى الخبرة ، وفي المقام ـ أعني الرجوع الى قول اللغوي ـ لا إشكال بكونه من باب الرجوع الى الخبرة ، لأنّه يعتبر فيه التعدّد ، واعتبار العدالة ، وجواز الرجوع اليهم مع العلم ، وهذه الشواهد تدلّ على عدم كون الرجوع الى قول اللغوي من صغريات رجوع الجاهل الى العالم.

إذا عرفت ذلك فلا إشكال في عدم حجّية الظنّ الحاصل من قول اللغوي بعد كون حجيته من باب الخبر ، حيث إنّ الخبر الذي يكون حجة هو ما يكون من المقدمات الحسية ، وقول اللغوي لا يكون كذلك ؛ لما ترى أنّ أقوالهم في كون شيء حقيقة أو مجازا لا يكون إلّا ببعض المقدمات الحدسية فكيف تكون حجة؟ كما أنّك ترى أنّ السيد المرتضى والسيد الرضي رحمهما‌الله كانا من أشهر اللغويين ورأيهما على الاستنباطات في الحقيقة والمجاز ، كما أنّك ترى أنّ السيد المرتضى رحمه‌الله يقول بأنّ الأصل في الاستعمال هو الحقيقة ، وكذلك سائر اللغويين يقولون ببعض الاستنباطات والاجتهادات ، فعلى هذا ظهر لك أنّ قول اللغوي ـ أعني الظنّ الحاصل من قوله ـ ليس بحجة.

وإن قلت : إنّ الرجوع الى قول اللغوي يكون من صغريات رجوع الجاهل الى العالم فأيضا لا يكفي ولا يكون حجّة ، مع أنّه لم يكن من صغرياته ، لأنّه لا إشكال في أنّ موضوع رجوع الجاهل الى العالم يكون فيما يكون جاهلا ، وأمّا لو كان عالما فلا يجوز الرجوع ، فالعالم الذي يدعي المقامات العلمية كيف يمكن أن يرجع اليه؟

وإن قلت : إنّ مع كونه عالما لا يكون في هذه المسألة عالما.

١١٤

فنقول : إنّه قد ثبت في محلّه أنّه يجب تحصيل مقدمات الاجتهاد ، فلا يكفي التقليد في النحو والصرف والتفسير والكلام وغيرها من مقدمات الاجتهاد ، ولا بدّ فيها من الاجتهاد ، فافهم.

اذا عرفت ذلك كلّه فهذا كلّه على القول بأنّ وظيفة اللغوي بيان الحقائق والمجازات ، وأمّا لو لم يكن كذلك بل على ما هو التحقيق لا يكون وظيفة أهل اللغة إلّا بيان موارد الاستعمالات فكيف يمكن الرجوع اليهم؟ وهذا ممّا لا إشكال فيه ، ولا شك في عدم كون وظيفة أهل اللغة إلّا بيان موارد الاستعمال ، لا بيان الحقيقة والمجاز.

فانقدح بذلك كلّه عدم اعتبار الظنّ الحاصل من قول أهل اللغة في تعيين الحقيقة والمجاز ، لكنّ بيان موارد الاستعمال وظيفة اللغوي ، ويمكن الاعتماد على قولهم مع اجتماع شرائط الخبر. نعم ، في بعض الألفاظ اتّفق أهل اللغة على كونه مستعملا في معنى واحد يمكن كشف كونه حقيقة فيه لأجل حصول الاطمئنان ، لا لأجل حجية الظنّ الحاصل من قولهم.

فظهر لك : أنّ تعيين الحقائق والمجازات لا يصحّ بقول اللغوي ، ولا بد فيه كسائر مقدمات الاجتهاد من الاجتهاد ، وما يعتبر من قول اللغوي مع اجتماع شرائط الخبر فيه هو بيان موارد الاستعمال ، فاذا عرفت موارد الاستعمال لا بدّ من فهم كون اللفظ حقيقة في أيّ من المعاني في الرجوع الى علائم الحقيقة والمجاز ، فافهم وتأمّل جيّدا.

أصل في الشهرة الفتوائية

وممّا قيل بخروجه عن تحت أصالة عدم حجّية الظنّ هو الشهرة في الفتوى ، فما قالوا في توجيه حجية الظنّ الحاصل منه وجوه :

قد يقال بحجيته من باب دليل الانسداد.

وفيه : أنّ الكلام في حجّيته بالخصوص ، وأمّا لو ثبتت تمامية أدلّة مطلق الظنّ

١١٥

فلا اختصاص به.

وقد يقال بحجّيته من باب كون بناء العقلاء على حجّيتها كلّ ما يحصل منه الوثوق والاطمئنان فالشهرة الفتوائية يحصل منها الوثوق والاطمئنان.

وفيه : أنّه مع ممنوعية الصغرى أنّ ذلك أيضا لم يكن دليلا على حجية الشهرة بالخصوص ، بل هو أيضا نظير حجّيّتها من باب حجية مطلق الظنّ غاية الأمر في الثاني يكون الظنّ الاطمئناني حجّة ، وفي الأول يكون مطلق الظنّ حجة.

وقد يقال : بأنّه بعد ما كان الظنّ الحاصل من خبر الواحد حجة مع كونه واحدا فلا بدّ أن يكون الظنّ الحاصل من الشهرة حجة بالأولوية.

وفيه أوّلا : انّه لعلّه يكون في الخبر خصوصية ، ولأجل تلك الخصوصية صار حجة ، كما أنّه يمكن أن يكون لأجل العدالة أو غير ذلك فلا يمكن التعدّي عن مورده.

وثانيا : أنّ الأولوية القطعية ممنوعة في المقام ، وأمّا الأولوية الظنّية فالكلام في حجية الظنّ الحاصل منها.

وقد يقال بحجيتها من التعليل الوارد في ذيل آية النّبأ (أَنْ تُصِيبُوا) بأنّ كلّ ما كان سببا لإصابة القوم بجهالة لم يكن حجة فمفهومه هو : أنّ كلّ ما لم يصب القوم بجهالة يكون حجة فالشهرة ظنّها لا يصيب القوم بجهالة.

وفيه : أنّ الآية الشريفة في مقام بيان التعليل ، لا انحصاره به ، فمن علّل عدم حجيّة خبر الفاسق ذلك لا أن يكون منحصرا به فعلى هذا لا يكون لازمه حجية كل ما لم يصب القوم بجهالة حتى تكون الشهرة الفتوائية منها.

وقد يقال بحجّية الشهرة الفتوائية من جهة ما يستفاد من المرفوعة والمقبولة الواردتين في ترجيح الخبرين المتعارضين ، حيث إنّ في إحداهما صرّح بأنه : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» وفي الاخرى منهما وإن لم يكن كذلك ، حيث قال : «المجمع عليه لا ريب فيه» ولكن يستفاد من ذيلها أنّ المراد هو الشهرة ؛ لأنّه قال بعد ذلك : «هما معا مشهوران».

١١٦

وفيه : أنّ هذين الخبرين قد وردا في مقام الترجيح ، وأنّهما اذا كانا متعارضين فالمشهور أو الأعدل أو غيرهما يكون أرجحا ، وهذا لا يوجب كون الشهرة حجة ، بل يكون سببا لترجيح حجة على حجة اخرى ، وإلّا لا بدّ من أن نلتزم بحجية الأعدل أو غيره. كما أنّه في قوله : (المجمع عليه لا ريب فيه) لا يمكن أن يقال بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه أصلا ، إذ لو كان كذلك يحصل منه العلم ويكون هو علما ولا يكون ظنا فلا بدّ أن تقول بعدم الريب فيه بالاضافة الى الآخر ، فاذا كان كذلك فلا بدّ أن يكون الآخر مفروضا حتى يكون هو لا ريب فيه بالنسبة اليه ، مضافا الى أنّ الخبرين وردا في مقام الترجيح وهو في الشهرة الروائية ، لا في الشهرة الفتوائية ، فافهم وتأمّل جيّدا ، والحمد لله أوّلا وآخرا.

أصل

وممّا قيل باعتباره بالخصوص الإجماع المنقول بخبر الواحد.

أصل

وممّا قيل بخروجه عن الأصل المذكور هو خبر الواحد ، ولا يخفى عليك أنّه من مهمّات مباحث الاصول ومسائله. واعلم أنه لو كان موضوع علم الاصول هو الأدلة الأربعة يرد الإشكال المعروف ، وهو : أنّه بعد ما بيّن في محلّه أنّ ما يبحث في العلم من المسائل لا بدّ وأن يكون من عوارض الموضوع ؛ لأنّ الموضوع ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، وعليه فمسألة خبر الواحد لا تكون بحثا عن عوارض الموضوع ؛ لعدم كونه من عوارض السنة.

قد يقال كما قال صاحب الفصول رحمه‌الله : بأنّ الموضوع في علم الاصول هو ذوات الأدلّة بوصف الدليلية بتوهّم أنّ البحث عن دليلية الدليل يكون من عوارض الدليل.

١١٧

وفيه : أنّه على هذا يلزم أن يكون خبر الواحد أيضا من الأدلة ، وهذا يكون خلاف الفرض.

وقال الشيخ الأنصاري رحمه‌الله : إنّ البحث في خبر الواحد حيث يكون في السنّة هل يثبت بخبر الواحد أم لا فيكون من عوارض السنة؟

وأشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله وقال : إنّه لو كان المراد من الثبوت الثبوت الواقعي فلا يكون من العوارض ، وإن كان من الثبوت التعبدي فإنّه أيضا لا يكون من عوارض السنة ، بل يكون من عوارض خبر الحاكي عنها.

ولا يخفى عدم ورود هذا الإشكال ، حيث إنّه ولو كان البحث عن عوارض خبر الحاكي إلّا أنه اذا كان البحث عن ثبوت السنة بالخبر فحيث إنّ الثبوت من الامور الإضافية فيكون له طرفان الى المثبت ـ بالكسر ـ والى المثبت بالفتح ، فهو من عوارض المثبت ، أعني الخبر ، ومن عوارض المثبت هو السنة.

وقد يقال وهو ما يظهر من كلمات بعض الأساطين : إنّ النزاع في خبر الواحد يكون في التطبيق ، بمعنى تطبيق مؤدّى الخبر مع السنة ، فعلى هذا يكون البحث في مسألة خبر الواحد من عوارض السنة.

وفيه : أنّه لو كان النزاع في التطبيق فيرجع البحث الى أنّ هذا ـ أعني مؤدّى خبر الواحد ـ هل يكون من مصاديق السنّة ، أم لا؟ ولا ريب في أنّ النزاع على هذا يكون في أنّه هل يكون مؤدّى الخبر جزئيا من جزئيات السنّة ومصداقا من مصاديق ذلك الكلّي ، أم لا؟ فعلى هذا لا إشكال في كونه من المبادئ ، حيث إنّه قد بيّن في محلّه أنّ البحث عن الموضوع وأجزائه وجزئياته يكون من مبادئ العلم لا من مسائله ، فلا وجه لهذا التوجيه أيضا.

اذا عرفت كلام الشيخ رحمه‌الله وعدم ورود إشكال المحقّق الخراساني رحمه‌الله عليه فإنّه مع ذلك لا يمكن الالتزام بما قاله الشيخ رحمه‌الله ، لأنّه ولو قلنا بكون البحث في هذا من عوارض السنة أيضا ولكن من الواضح أنّه يختلف الأمر بحسب جهة البحث

١١٨

والغرض من البحث ، ولا إشكال في أنّ جهة البحث في هذا البحث لا تكون عن السنة بل عن الخبر ، ولا بدّ أن تكون المسألة بحسب الغرض من المبحث من عوارض الموضوع ، وهنا تكون جهة البحث عن الخبر فلا يكون من عوارض السنة ، وهذا واضح.

فعلى هذا لو التزمنا بكون موضوع علم الاصول هو الأدلة الأربعة يلزم عدم كون هذه المسألة من مسائل الاصول ، ولكن كما قلنا في محلّه ليس موضوع علم الاصول خصوص الأدلة الأربعة ، بل كلّ ما يمكن أن يتوصّل به الى كشف حكم شرعيّ فرعيّ يكون موضوعا له ولو كان فرضا خارجا عن الأدلة الأربعة ، وعلى أيّ حال لا حاجة الى إطالة الكلام أزيد من ذلك في هذا ، ومن الواضح أنّ هذه المسألة من جملة المباحث المهمّة من مسائل الاصول ، وما هو المهمّ البحث عن أصل المطلب.

فنقول بعون الله تعالى : إنّه بعد ما قلنا من عدم ورود ما قاله ابن قبة من الاستحالة في التعبد بخبر الواحد يقع الكلام في أنّه هل وقع التعبّد به ، أم لا؟ ولا إشكال في النافين لحجية خبر الواحد بأن لم يكونوا محتاجين الى إقامة الدليل ، بل يكفيهم الأصل وهو عدم حجية الظن ، فلا بدّ للمثبت أن يأتي بالدليل على الخروج من هذا الأصل ، ولكن مع ذلك استدلّ المنكرون على حجّية خبر الواحد بالأدلة الأربعة :

الأوّل : الإجماع الذي ادّعاه السيد رحمه‌الله ، ولكن يأتي ـ إن شاء الله ـ أنّ المراد من كلام السيد ليس الإجماع المصطلح ، ولا مجال لدعوى الإجماع مع هذا الاختلاف.

الثاني : الآيات الناهية عن العمل بغير العلم والذمّ بالعمل بالظنّ.

وأجابوا عن ذلك : بأنّ الآيات واردة في اصول الدين ؛ لعدم جواز التعويل فيها على غير العلم ، فلم تكن هذه الآيات ناظرة الى الفروع.

١١٩

ولا يخفى ما في هذا الجواب من الفساد ، إذ اختصاصه بالاصول ممّا لا وجه له ، والحال أنّه يستفاد منها عدم اتّباع الظن ، أو الدليل غير العلمي مطلقا ، كما ترى من الآية الشريفة في قوله عزّ من قال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ،) وذمّهم على العمل بالظنّ وقال : إنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئا ، فحيث إنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا لا يجوز الاعتماد عليه ، ولا يكون هذا كلاما تعبديا ، بل بيّن الأمر التكويني للظن ، وأنّ الظنّ تكوينا يكون حاله أنّه لا يغني من الحقّ شيئا ، ولا يمكن التعليل بأمر تعبّدي ؛ لأنّ المنكر كيف يقنع بأمر تعبدي؟ فمن المعلوم أنّ الظنّ يكون أمره كذلك ، فاختصاصه بالاصول ممّا لا وجه له ولو كان نزوله في الاصول ، حيث إنّ هذه هي العلة ، أي عدم كون الظنّ مغنيا عن الحق في الفروع أيضا ، ولا يمكن حصول الحق بالظن فكيف يمكن التعويل عليه في الاصول كان أو في الفروع؟ فعلى هذا لو تمّت دلالة الآيات التي استدلّوا بها على حجية خبر الواحد فتكون تخصيصا لهذه الآيات الدالّة على عدم جواز العمل بغير العلم ، وإلّا فلا.

وقال بعض الأساطين : إنّ أدلة حجية خبر الواحد إمّا الآيات منها فحاكم على هذه الآيات ، لأن لسان هذه الآيات هو عدم الجواز بغير العلم ، حيث إنّ لسان الآيات الدالة على حجية خبر الواحد كان إلغاء احتمال الخلاف ، فاذا كان ذلك فيكون حاكما على الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم. وإمّا السيرة فيكون أمرها أعلى وتكون نسبتها مع الآيات الناهية الورود ، حيث إنّ بناء العقلاء على العمل بخبر الواحد يكون معناه عدم احتمال الخلاف وعندهم لم يكن كأنه احتمال الخلاف ، بل يكون كالعلم.

ولكن فيه : أنّ لسان الدليل تارة يكون إلغاء احتمال الخلاف ، وتارة يكون عدم احتمال الخلاف فيه ، فتارة يقول بأنه لا يعتني باحتمال خلافه ، وتارة يقول : لا يكون فيه احتمال الخلاف ، فإن كان لسان الآيات الدالة على حجية الخبر الثاني ـ أعني أنه لا يكون فيه احتمال الخلاف ـ فيكون لسانها بالنسبة الى الآيات الناهية

١٢٠