المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-31-0
الصفحات: ٤٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

هو مثلها خارج عن مسائل الاصول ويكون من المبادئ ، وكذلك بعض المقدمات الاخرى التي يتعرض لها في صدر بعض المباحث كالفرض لمعنى الأمر في أوّل بحث الأوامر ، أو معنى العام في صدر مبحث العام والخاص ، فهذا القسم أيضا من المبادئ.

وأمّا الأوامر والعام والخاص والمطلق والمقيد فقد يقال بأنّها خارجة عن مسائل الاصول ؛ لأنّ البحث عنها يكون أعمّ ، بمعنى أنّ البحث مثلا عن الأمر في أنّه هل للوجوب أو لا؟ لا يكون عن العوارض الذاتية لموضوع علم الاصول ، لأنّه يبحث في الأوامر عن وجوب الأمر وعدمه ، والأمر أعمّ من الأمر الوارد في الكتاب والسنّة ، فالعارض يعني الوجوب لا يعرض للأمر بما هو أمر الكتاب أو السنّة ، بل بما هو أمر عرض الوجوب للأمر. فعلى هذا عرض بأمر أعمّ من الموضوع وهو مطلق الأمر لا خصوص الأمر الوارد في الكتاب أو السنّة.

فعلى هذا لا يعرض الوجوب لنفس الموضوع ولا لجزئه المساوي أو الأخص ، بل يعرض للموضوع بواسطة الأمر الأعم ، فعلى هذا يكون من العوارض الغريبة للموضوع يعني الوجوب العارض للأمر المحمول في مسألة هل الأمر للوجوب أو لا؟ فيكون خارجا عن الاصول ؛ لأنّ البحث في المسألة الاصولية لا بدّ وأن يكون عمّا هو عرض ذاتي للموضوع ، أو بواسطة الأمر المساوي ، أو الأخص إذا كان العارض الأخص ، مع الموضوع موجودين فيه بوجود واحد.

ولكن التحقيق هو كون هذه المباحث من مسائل الاصول ولا يرد ما بيّنا من الإشكال ؛ لأنّ في هذه المباحث يكون جهة البحث يعني الحيث الذي يبحث عنه هو حيث كون محمولاتها عارضة لنفس موضوع الاصول ، مثلا في الأمر يكون البحث فيه في أنه هل يدلّ على الوجوب شرعا أو لا يدل شرعا على الوجوب؟ ونقول توضيحا للمطلب بأنّ الأمر في اللغة يدلّ على الثبوت ، وفي الشرع يكون النزاع في

٤١

انّه هل يدلّ على طلب الفعل مع عدم الرضا بالترك بحيث يستحق بمخالفته للعقاب أو لا؟

فان كان النزاع في حيث معناه اللغوي يعني هل يدلّ الأمر على الثبوت أو لا؟ فيكون البحث عن عوارض الأمر أعمّ من أن يكون أمر الكتاب والسنّة أو غيرها فيرد الإشكال ؛ لأنّه على هذا يعرض المحمول يعني الوجوب لما هو الأعمّ ، وبواسطته يعرض لما هو الأخص يعني موضوع الاصول.

وأمّا إن كان النزاع في أنّ الأمر الوارد في لسان الشرع هل للوجوب أو لا؟ فيكون من عوارض نفس الموضوع ؛ لأنّ الموضوع هو ما يمكن أن يكون دليلا فيعرض الوجوب لما يمكن أن يكون دليلا وهو عين الأمر ؛ لأنّ الموضوع متّحد مع موضوعات المسائل. والشاهد على أنّ النزاع في الأوامر هو الوجوب الشرعي هو بعض ما ترى من استدلالاتهم وإن لم يكن تماما مثل الاستدلال بقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المنقول : «لو لا أن أشقّ على امتي لأمرتهم بالسواك» وكذلك ما نقل عن السيد المرتضى رحمه‌الله من أنّ الأمر في الشرع للوجوب. فكلّ ذلك شاهد على أنّ البحث في حيث أخص يعني خصوص الأوامر الواردة في الكتاب والسنّة.

ومنشأ توهّم كون النزاع في الأوامر أعمّ من الأمر الشرعي وغيره هو أنّهم حيث كانوا فارغين عن حيث أنّ الأمر لو كان دالّا على عدم الرضا بتركه يستحق تاركه العقاب ، ولم يتعرضوا لهذا البحث ، بل كان تعرضهم فقط في حيث آخر للأمر ، وهو أنّه هل يدلّ على الوجوب بمعنى عدم الرضا بتركه أو لا؟

فتوهّم انّ النزاع يكون في الحيث المشترك مع معناه اللغوي يعني الثبوت بتوهّم أنّ النزاع يكون في حيث أنّ الأمر يدلّ على الثبوت وبعبارة اخرى على اللزوم وعدم الرضا بالترك أو لا.

٤٢

والحال أنّ النزاع في هذا البحث أيضا لا يكون إلّا كشف ما يدلّ عليه الأمر الوارد في لسان الشرع ، حتى أنّ الاستدلال بالتبادر بل إثبات دلالته في اللغة ثم التمسّك بكونه للوجوب عند الشرع بأصالة عدم النقل عند من تمسّك بها ليس إلّا من باب أنّ بذلك ينكشف أنّ الأمر الوارد في الكتاب والسنّة يدلّ على الوجوب أو لا.

وكذلك حال النهي فإنّ النزاع فيه في خصوص النهي الوارد في الكتاب والسنّة ، وكذلك العام والخاص ، وكذلك مقدمة الواجب فإن النزاع في أنّ المقدمة واجب شرعا أو لا ، حتى أنّه لو قيل بحكم العقل بالوجوب يكون معناه أن العقل يحكم بذلك وأنّ العقل واسطة في كشف وجوب الشرع له أو لا. فظهر لك أنّ النزاع في كلّ هذه المسائل من عوارض الموضوع ، وليس من عوارضه الغريبة ، فلا مجال للإشكال ، فافهم.

وأما القطع فالبحث عنه في الاصول يكون استطراديا لأنّ القطع المصادف للواقع وهو العلم فليس شيئا إلّا نفس الواقع ، فبه يكشف الواقع ويترتّب عليه كبرى الواقع فليس إلّا الواقع لا أمر آخر حتى يكون مقدمة ودليلا الى الفقه ، وإن لم يصادف الواقع فهو الجهل المركب فليس شيئا أصلا.

وأمّا الظن وسائر الأبحاث الاصولية فالبحث عنها بحث عن عوارض الموضوع ؛ لأنّه يبحث فيها ، من أنّه هل يمكن أن تكون وتصير طريقا ودليلا للفقه أو لا؟

٤٣

الجهة السادسة

في بيان تعريف علم الاصول

اعلم أنّه لا حاجة إلى طول الكلام والنقض والإبرام في تعريف علم الاصول ؛ لأنّه بعد ما ثبت لك أنّ موضوع هذا العلم هو ما يمكن أن يكون دليلا للفقه فيظهر لك تعريف هذا العلم أيضا فيصحّ أن يقال في مقام تعريف علم الاصول بأنّ علم الاصول علم يبحث فيه عمّا يمكن أن يكون دليلا للفقه ، وإن شئت فقل في المقام : إنّه علم أو فن يبحث فيه عمّا يمكن أن يكون دليلا للفقه ، وقد عرفت تعريفه ، ففي هذا العلم يبحث عمّا يمكن أن يكون دليلا له.

٤٤

الجهة السابعة

في الوضع

والكلام فيه في امور :

الأمر الأوّل في معنى الوضع وحقيقته :

اعلم أنّك ترى أنّهم عرّفوا الوضع بتعريفات فتارة عرّفوه بأنّ الوضع هو تعيين اللفظ للمعنى ، وتارة تخصيص اللفظ بالمعنى ، وتارة تنزيل اللفظ بمنزلة المعنى ، وتارة الوضع هو نحو اختصاص للفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما ، كما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله. ولكن ما هو المهم هو فهم حقيقة الوضع فنقول بعونه تعالى مقدمة :

إنّ أهل المعقول قالوا بأنّ الوجودات أربعة : وجود في الأعيان ، ووجود في الأذهان ، ووجود في العبارة ، ووجود في الكتابة. أمّا الوجود العيني ـ يعني الخارجي ـ وكذا الوجود الذهني فهما وجودان حقيقة ، ولا إشكال فيهما وأمّا القسمان الأخيران فإطلاق الوجود عليهما يكون مجازا فالوجود الكتبي لزيد أو وجوده اللفظي ليس زيدا حقيقة ، بل يطلق زيد على زيد المكتوب أو زيد الملفوظ بالعناية والمجاز ، فإنّ حقيقة زيد الذي كتب في الكتاب ليس إلّا المركّب والقرطاس ، فهذا الوجود الحقيقي للقرطاس والمركّب لا لزيد ، فإطلاق زيد الحقيقي يكون عليه مجازا ، وكذلك حال

٤٥

الوجود اللفظي فإنّ وجود لفظ زيد حقيقة ليس إلّا الصوت ، وهو كيف مخصوص ، فهو من الأعراض ، ويطلق على ما هو حقيقة زيد مجازا فالوجود اللفظي والكتبي يعني القسمين الأخيرين ليسا وجودا حقيقيا ، بل هما وجودان مجازيان.

ونزيد على هذه الأقسام الأربعة المتقدمة نحن قسما آخر وإن لم يكن في اصطلاح أهل المعقول وهو : أنّ للشيء وجودا آخر ، وهو أنّ وجوده المرآتي مثل وجود تمثالك في المرآة إذا نظرت بها ، فهو يعني الصورة الحاصلة في المرآة أيضا وجود منك وليس من الأقسام الأربعة المتقدمة ، والفرق بين الوجود المرآتي الذي قلنا مع الوجود اللفظي والكتبي هو أنّ الموجود بالوجود الحقيقي أو الذهني لا يمكن ايجاده بالوجود اللفظي أو الكتبي إلّا بالجعل والمواضعة ، فإنّه لا يصحّ كون الزاء والياء والدال وجود لفظي لزيد الموجود بالوجود الخارجي العيني إلّا بعد الجعل والمواضعة ، يعني بعد جعل جاعل والمواضعة عليه يكون تنزيلا لهذه الحروف تنزيل الوجود اللفظي لزيد ، وكذلك في الوجود الكتبي فإنّ هذا الشكل المخصوص المكتوب بعد الجعل يصير وجودا تنزيليا لزيد الحقيقي.

وأمّا في القسم الذي قلنا فهو وجود لزيد ولو لم يكن جعل ، فبصرف مقابلة زيد للمرآة يقال : إنّ هذا زيد ، ولا يحتاج في ذلك الى جعل وإن كان هذا التنزيل يعني إطلاق زيد على ما يرى في المرآة مجازا إلّا أنّ ذلك مجاز لا يحتاج الى جعل والوجود اللفظي والكتبي مجازان للوجود الحقيقي مع الجعل والمواضعة.

فظهر لك ممّا مرّ أنّ صيرورة لفظ الوجود التنزيلي للوجود الحقيقي أعني الذهني والخارجي محتاج الى جعل ، وكذلك صيرورة نقش مخصوص في القرطاس وجودا كتبيا للوجود الحقيقي تنزيلا ومجازا محتاج الى الجعل والمواضعة ، ولا يصحّ كونهما وجودان مجازيان للوجود الحقيقي قبل الجعل والمواضعة ، فيصير صوت ولفظ مخصوص أم نقش مخصوص وجودا تنزيليّا للشيء بعد الجعل والمواضعة ، وإلّا فمع

٤٦

قطع النظر عن الجعل والمواضعة ما كانت مناسبة بين اللفظ أو النقش المكتوب وبين معانيهما ، فما كان بين حقيقة زيد وبين اللفظ الدالّ عليه ، وكذا بينه وبين وجوده الكتبي ـ يعني الزاء والياء والدال ـ المكتوب بكيفية خاصة مناسبة أصلا ، بل ربّما يكون بينهما المباينة ، لاختلاف مقولتهما ، ولا تحصل المناسبة بينهما ، ولا يصير اللفظ الخاص او النّقش المكتوب المخصوص وجودا تنزيليا لحقيقة زيد إلّا بالجعل والمواضعة.

فظهر لك أنّ صيرورة الوجود اللفظي أو الوجود الكتبي وجودا تنزيليا للوجود الحقيقي سواء كان ذهنيا أو خارجيا كان بسبب الجعل والمواضعة ، وهذا هو معنى أنّ ألفاظا وضعت لمعان ، يعني هذا هو الوضع ، فظهر لك في الأمر الاوّل ما هو حقيقة الوضع ، وهو الجعل والمواضعة على كون اللفظ وجودا تنزيلا للمعنى وإن كان يمكن له بعض تعبيرات أخر كما يأتي إن شاء الله.

الأمر الثاني : بعد ما فهمت أنّ الوجود اللفظي والوجود الكتبي وجودان تنزيليان للوجودين الحقيقيين وأنّ ذلك يكون بالوضع ، يعني يكون سبب ذلك الوضع والجعل.

يقع الكلام في أنّ هذه المناسبة والعلقة التي تقع بين اللفظ والمعنى بسبب وضع الواضع يعني هذا المعنى الإسم المصدري ، وما حصل من الوضع هل يكون هذه العلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى والمناسبة الموجودة بينهما ، لها حقيقة خارجية إمّا بنحو وجود الجواهر أو الأعراض ، وإمّا بنحو الوجودات الانتزاعية ، أو ليست من قبيلهما بل من الوجودات الاعتبارية؟

فنقول بعونه تعالى وإن بيّنا في أوّل كتاب البيع مستوفى : أنّ الموجودات على ثلاثة أقسام : وجود حقيقي ، ووجود انتزاعي ، ووجود اعتباري ، (١) ونقول هنا

__________________

(١) ـ فمن يريد كشف المطلب مفصلا فليطلب مما كتبنا من درس سيدنا الاستاذ دام ظلّه في

٤٧

مختصرا : إنّ الأقسام ثلاثة :

الأول : الوجودات الحقيقيّة : وهي ما لها وجود في الخارج ولها ما بحذاء في الخارج ، مثل وجود زيد الخارجي فإنّ له وجودا خارجيا ، وله ما بحذاء في الخارج.

الثاني : الوجودات الانتزاعية : وهذه الوجودات ليس لها وجود خارجي ولا ما بحذاء لها خارجا وليس لها حيثية خارجية ، بل الحادث والموجود أمر آخر ، وينتزع العقل منه هذا الشيء ، مثلا في الخارج ما هو الموجود ليس إلّا الفوق والتحت ولكن العقل ينتزع منه الفوقية والتحتية ، وكذلك الموجود في الخارج ليس الأب والابن ولكن العقل ينتزع منهما الابوة والبنوّة ، وهذا القسم أيضا له وجود ، ولكن لا وجود حقيقي بل وجود انتزاعي ، وكما أنّ العقل ينتزع شيئا من الوجود الحقيقي ويقال له وجود انتزاعي كذلك تارة ينتزع العقل من الموجود بالوجود الاعتباري أيضا شيئا.

الثالث : الوجود الاعتباري : وهو ليس إلّا الاعتبار ، ولا وجود له حقيقة ولا انتزاعا ، بل له وجود اعتبارا ، وليس له إلّا منشأ الاعتبار ، وهذا القسم من الوجود كثير كما ترى في الاعتبارات المالية ، فالورق الذي يعتبرونه مكان ألف ريال مثلا يصير وجودا اعتباريا للألف ريال ، والحال أنّه ليس إلّا الاعتبار ، ولا يزيد بسبب الاعتبار له حيثية في الخارج ، يعني لا وجود له بوجود حقيقي كالموجودات الحقيقية ، ومن هذا القبيل تكون الملكية وكذا الزوجية.

إذا عرفت هذه الأقسام الثلاثة مختصرا فنقول : إنّه ليس منشأ مناسبة المعنى مع اللفظ والعلقة الحاصلة بينهما من القسمين الأوّلين فإنها لا وجود لها في الخارج كالوجودات الحقيقيّة ، ولا ينتزع هذه المناسبة من شيء لأنّه لو كانت العلقة منتزعة عن هذا الجعل لكان اللازم أن يحمل العلاقة باللفظ أو المعنى ، والحال أنّه لا يقال

__________________

البيع.

٤٨

اللفظ أو المعنى علاقة ، لأنّ الأمر الانتزاعي يحمل على منشأ انتزاعه فيقال لزيد الأب الذي انتزع عنه الابوّة : إنّ زيدا أب فليس منشأ ذلك إلّا الاعتبار ، فاعتبار الواضع أوجد المناسبة بين اللفظ والمعنى مع عدم مناسبة بينهما مع قطع النظر عن اعتبار الواضع ، فباعتبار الواضع حصلت العلقة وصار اللفظ الكذائي وجودا تنزيليا للمعنى الكذائي ، كما أنّك ترى بأنّ من يجعل علامة لشيء مثلا لكشف الفرسخ فينصب على رأس كلّ فرسخ علامة فبذلك الاعتبار يصير ذلك علامة ، كذلك بعد الوضع والاعتبار يصير اللفظ الكذائي وجودا تنزيليا للمعنى الكذائي ، غاية الأمر فالعلامة المنصوبة على رأس الفرسخ لم تكن وجودا تنزيليا للفرسخ ، بل هو علامة له ، وأمّا في الوضع فبعد وضع الواضع يصير اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى.

إذا عرفت ذلك وأنّ هذه العلقة تكون أمرا اعتباريا ناشئة من اعتبار الواضع فنقول : إنّ بعد وضع الواضع اللفظ الكذائي للمعنى الكذائي واعتبار ذلك ، فذلك الوضع منتسب الى الواضع باعتبار كون ذلك فعله فبالمعنى المصدري والتسبيبي فعل الواضع ومرتبط بالواضع وله ربط باللفظ والمعنى لحصول الارتباط بينهما وفيه حيث المعنى المصدري يعني حصول العلقة ، فبكلّ تلك الجهات يمكن أن يقال في بيان الوضع.

فباعتبار المعنى المصدري يمكن أن يقال : الوضع تعيين اللفظ للمعنى ، أو تنزيل اللفظ للمعنى ، أو تخصيص اللفظ بالمعنى. وباعتبار الارتباط بينهما يصحّ أن يقال : الوضع هو ارتباط خاص بين اللفظ والمعنى ، وباعتبار اسم المعنى المصدري يعني حصول العلقة يصحّ أن يقال : الوضع هو تخصص اللفظ بالمعنى ، ولكن عليك أن لا تخلط الجهات الثلاثة كلّ منها بالآخر فلا تقل بمعنى مصدري الوضع انّه ارتباط خاص بين اللفظ والمعنى ، أو بالمعنى المصدري إنّه تخصيص اللفظ بالمعنى ، بل تقول بكلّ اعتبار ما يناسبه.

٤٩

ثمّ إنّ ما ذكرنا من تنظير الوضع بالعلامة كان من باب التقريب للذهن وإلّا بينهما بون بعيد ، ولا يكون الوضع كالعلامة ، بل هما أمران مختلفان ولكلّ منهما بعض الجهات المخصوصة.

ونقول لتوضيح الفرق بينهما مقدمة : إنّ في بعض الامور التي تكون دلالتها ذاتية كالمرآة الدّال على المرئي يكون النظر حال النظر الى المرآة الى نفس المرئي ولا نظر بالمرآة أصلا ، فمن ينظر في المرآة لا يرى إلّا نفس صورته ، ولا يكون توجهه إلّا الى صورته ، ولا نظر ولا توجه له بالمرآة أصلا ، ولذا يكون النظر استقلالا بالمرئي ، وليس المرآة إلّا آلة لملاحظة المرئي ، فالشخص المقابل للمرآة ، مثلا زيد المقابل له لا يرى إلّا نفسه ، ولا توجه له إلّا نحوه.

فعرفت أنّ النظر ليس إلّا بالمرئي أوّلا وبالذات لا أن يكون النظر والتوجه أوّلا وبالذات بالمرآة ، ثم ينتهي النظر الى المرئي ثانيا وبالعرض ، بل النظر ليس إلّا بالمرئي استقلالا ولا نظر بالمرآة إلّا مرآة ، بل ربّما لا يتوجه الشخص للمرآة أصلا حين النظر اليها.

وأمّا في باب العلامة فليس الأمر كذلك ، بل الشخص ينظر أوّلا بالعلامة وينتقل من ذلك الى ما هو العلامة له بالملازمة ، فالنظر اليها أوّلا وبالذات وبما هو العلامة علامة له ثانيا ، وبالعرض مثلا إذا رأى الشخص العلامة المنصوبة للفرسخ ينتقل أوّلا بها ثم بواسطتها ينتقل الى الفرسخ لا أن يتوجّه الشخص بالفرسخ أوّلا بمجرّد النظر بالعلامة بحيث كان نظره الاستقلالي به ونظره الآلي بالعلامة. كما ترى أنّ الأمر كذلك في مطلق الدلالات الالتزامية غير ما يكون دلالته ذاتية فإنّ الشخص بعد الانتقال بالملزوم ينتقل باللازم.

إذا عرفت ذلك يكشف أنّ باب الوضع غير باب العلامة فإنّ الوضع يكون من قبيل الأوّل يعني أنّ اللفظ يكون وجودا تنزيليا للمعنى ، فإذا ألقى المتكلم اللفظ فهو

٥٠

وجود المعنى فانّه بعد الوضع ، وهذا الاعتبار الخاص وجعل اللفظ وجودا تنزيليّا للمعنى مجازا لكن بنحو المجاز الادّعائي ، فهو يعني اللفظ هو المعنى ، فبعد الادّعاء يعني الوضع كأنّه هو لا غيره ، ولذا يحمل على المعنى وتقول : «زيد قائم» فإنّ القائم يحمل على حقيقة زيد حقيقة لا بلفظ زيد ؛ لأنّه حقيقة يكون قائما ، فالقائم يعني لفظ «القائم» وجود تنزيلي لمن يكون قائما.

وهذا بخلاف العلامة فإنّ العلامة ليست كذلك ، بل العلامة أوّلا وبالذات وبالدلالة المطابقية تدلّ على نفس العلامة ، ثم بتبع ذلك ينتقل الشخص الى ذي العلامة فيكون ذلك مدلول بالدلالة الالتزامية لا المطابقية ، وأمّا الوضع فليس كذلك ، بل اللفظ هو عين المعنى ، ومنه ينتقل الشخص الى نفس المعنى ، ولا نظر باللفظ أصلا ، بل ربّما يتوجّه المتكلم باللفظ وكأنّه يلقي المعنى ، فلأجل ذلك نقول : إنّ اللفظ وجود تنزيلي للمعنى بخلاف العلامة ، لأنّ اللفظ وجود من وجودات المعنى. ومن هذه الجهة يعني من حيث كون اللفظ بعد الوضع وجود المعنى قالت الحكماء بأنّ الوجود أربعة : وجود في الأذهان ، ووجود في الأعيان ، ووجود في العبارة ، ووجود في الكتابة ، ويصحّ ما قالوا من عدّ الوجود اللفظي أعني الوجود في العبارة قسم من أقسام الوجودات ، وأمّا العلامة فليست كذلك.

وممّا قلنا ظهر لك أنّ تعبير الوضع بكونه علامة ليس في محلّه ؛ لأن بينهما بون بعيد وأنّ الأولى التعريف ـ يعني تعريف الوضع ـ بأنّه تنزيل اللفظ بمنزلة المعنى ، لما بيّنا من كون اللفظ بعد الجعل والمواضعة وجود تنزيلي للمعنى. فظهر لك في ما مرّ أنّ العلقة الحاصلة في الوضع من الامور الاعتبارية ، وليس باب الوضع باب الوجودات الحقيقية ، بل هو وجود اعتباري ، ولما قلنا يكون اللفظ قالبا للمعنى لا صرف علامة.

ومن الفرق بين الوضع والعلامة يظهر لك ثمرات :

٥١

منها : انّه على هذا لا يمكن استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ؛ لأنّه بعد كون اللفظ وجودا تنزيليّا للمعنى وكونه قالبا للمعنى فلا يمكن صيرورته في استعمال واحد قالبا لمعنيين أو أكثر ، وأمّا لو كان علامة للمعنى فيصحّ ذلك لقابلية كون شيء واحد بلحاظ واحد علامة لشيئين أو أكثر ، ويأتي إن شاء الله بعض ثمرات أخر بعد ذلك في مقام يناسبه.

وقد يتوهّم (وكان المتوهم الآخوند ملا علي النهاوندي رحمه‌الله) أنّ العلقة الحاصلة والمناسبة التي بين اللفظ والمعنى الحاصلة من فعل الواضع ليس أمرا اعتباريا كما يكون في الخارج ليس الّا أمرا حقيقيا خارجيا وهو التعهد ، وهو يكون من قبيل الوجودات الحقيقية. ومنشأ ذلك التوهّم كان من أجل عدم تصوره حقائقا اعتبارية ـ أعني وجودات اعتبارية ـ أصلا فقال بأنّ ذلك من الامور الحقيقية ، وحيث رأى أنّه إن كان الأمر كذلك لا بدّ من وجود حيث تكويني في البين ؛ لأنّه لو لم يكن أمر وحيث تكويني فكيف يعقل أن يكون له وجود خارجي لأنّ الوجود الخارجي ليس إلّا لما هو حيث تكوين؟!

وحيث رأى أنّ هذا الحيث التكويني لا يكون لا في اللفظ ولا في المعنى ، لأنّ بعد الوضع لا يحصل لا في اللفظ ولا في المعنى جهة تكوينية ، بل هما باقيان بحالهما كما كانا قبل الوضع وجعل المناسبة بينهما ، فلا يزيد في اللفظ ولا المعنى حيث بالوضع ، ولا ينقص منهما شيء بسبب ذلك ، بل حالهما هو حال قبل الوضع ، فصار في مقام تصوير حيث تكويني من جهة اخرى وقال بأنّ الواضع الذي يضع اللفظ بإزاء المعنى ويريد ذلك حيث إنّه يتعهد بأنّه يريد المعنى يتلفظ بهذا اللفظ ، مثلا من يضع لفظ «زيد» لابنه يتعهد بأنّه متى يريد ابنه يتلفظ بلفظة «زيد» وهذا التعهد ولو كان موطنه النفس لأنّ ذلك من الفعل وانفعال النفس ، ولكن يكون لها حقيقة خارجية كالشجاعة فإنّ الشجاعة وإن كانت من الفعل وانفعاله إلّا أنّ لها حقيقة خارجية ؛

٥٢

لأنّ الشجاعة أمر خارجي وليس صرفا ذهنية فقط ، فمن يكون شجاعا ليس المراد أنّ هذه الصفة تكون له في النفس وفي الذهن فقط ، بل هي أمر خارجي ؛ لأنّ الحكماء يقولون بأن بعض الامور وان كان من الفعل وانفعال النفس الّا أن وجوده يكون في الخارج.

والتعهد يكون من هذا القبيل فإنّ محلّه الذهن أمّا له وجود في الخارج وحيث رأى أن صرف تعهد الواضع لا يكفي في الوضع ؛ لأنّه تعهد فرضا بذلك وأنّه إذا اريد المعنى الكذائي يتكلم باللفظ الكذائي ، ولكن غير الواضع كيف يضع؟ وكيف يكون صرف تعهد الواضع كاف لايجاد علقة حقيقية بين اللفظ والمعنى للسائرين؟ مع أن الواضع وضع طبيعة اللفظ لطبيعة المعنى ، مثلا وضع طبيعة لفظ «زيد» لطبيعة معنى «زيد» لا أن يكون وضعه لصرف المورد الذي استعمله بنفسه ، بل يريد بذلك أنّ كلّ من يريد زيدا يتكلم بهذا اللفظ.

فعلى هذا نفس تعهد الواضع غير كاف لصيرورة ذلك اللفظ علامة للمعنى مطلقا حتى بالنسبة الى غير الواضع ، ولهذا قال بأنّ غير الواضع أيضا يتعهد بعد بنائه على متابعة الواضع بما تعهد عليه نفس الواضع قال بأنّ غير الواضع بعد البناء على تبعية الواضع في ذلك الوضع فهو أيضا يتعهد مثل الواضع بأن يكون اللفظ الكذائي وجودا تنزيليا للمعنى الكذائي فله أيضا هذا التعهد موجود ، وكما قلنا هذا التعهد يكون أمرا موجودا خارجيا فحصول أمر تكويني كان محتاج اليه في الباب ، وهو التعهد.

فهذا المتوهّم يقول بأنّ الوضع ليس الّا التعهد وليس أمرا آخر غير التعهد ، وبعد عدم كون الوضع هو التعهد والبناء والالتزام وعدم تأثير ذلك التعهد المعبّر عنه بالوضع في اللفظ والمعنى ، بل كلاهما باق بعد الوضع على ما كانا قبل الوضع. فعلى هذا لا أثر للوضع الّا صيرورة اللفظ علامة للمعنى ولا يكون ـ على هذا ـ اللفظ

٥٣

قالبا للمعنى ؛ لعدم وقوع تأثير بسبب التعهد أعني الوضع في اللفظ.

بخلاف ما قلنا من كون العلقة أمرا اعتباريا ، وأنّ بسبب ذلك يصير اللفظ قالبا للمعنى ؛ لأنّ ذلك تابع للاعتبار ، فإذا اعتبر الواضع ذلك يصير قالبا للمعنى ، ولذا يمكن الالتزام بما التزم به المحقّق الخراساني من أنّ حسن وقبح المعنى يؤثّر في اللفظ ، لكون اللفظ قالبا لها ووجودها التنزيلي. وأمّا على قول هذا المتوهّم فلا يمكن ذلك ، لأنّ حيث الوجودي ليس إلّا التعهد ، وهو لا يوجب إلّا صيرورة اللفظ بعد تعهد الواضع علامة للمعنى.

فظهر لك أنّ لازم قول هذا المتوهّم هو كون اللفظ علامة للمعنى وعدم قابليّته لكونه قالبا لها ، وأيضا لازم قوله هو كون اللفظ علامة إذا أراد المستعمل ؛ لأنّه مع تعهده والبناء عليه لا يصير علامة إلّا بإرادته لعدم تأثير هذا التعهد في اللفظ حتى يصير بنفسه مع قطع النظر عن الإرادة علامة للمعنى.

وأمّا على ما قلنا من كون الوضع اسم المعنى المصدري يعني العلقة الحاصلة من فعل الواضع اعتباريا فلا يحتاج في صيرورة اللفظ قالبا للمعنى إرادة اخرى غير الوضع في حال الاستعمال ، بل اللفظ قالبا بنفسه ولو لم يرد ، فلذا لو كان شخص نائم يتكلم بلفظ فهو قالب له ، ووجود تنزيلي لمعناه وإن لم يترتّب على هذا اللفظ أثر لكونه نائما ، وهذا بخلاف قول هذا القائل ، فإنّ النائم المتفوّه بلفظ لا يكون لفظه علامة للمعنى أصلا ، لعدم إرادة للنائم.

اذا عرفت ما بيّناه من مراده يظهر لك أمران :

الأمر الأوّل : انّه لا يمكن الالتزام بكون اللفظ قالبا للمعنى مع الالتزام بما التزم به هذا المتوهّم ، لما بيّنا لك. فعلى هذا ما يظهر من كلام شيخنا الحائري رحمه‌الله في الدرر من الالتزام يكون حقيقة الوضع هو التعهد ، ومع ذلك الالتزام بايجاد العلقة بين اللفظ والمعنى بذلك لا معنى له ؛ لما قلنا من أنّ لازم القول بكون الوضع هو التعهد ، وأنّه

٥٤

نفس التعهد لا العلقة الحاصلة من فعل الواضع ، فلا يصحّ الالتزام بالتعهد ، ومع ذلك الالتزام بإيجاد العلقة.

الأمر الثاني : انّ ما قاله الشيخ العلّامة الآغا ضياء الدين العراقي رحمه‌الله إشكالا على القائل بكون الوضع هو نفس التعهد بأنّه ان كان مرادك أنّ بالتعهد تحصل القابلية ويصير اللفظ قالبا للمعنى فنعم الوفاق وان لم يوجب التعهد ذلك ، ولا يحصل بسببه القالبية ، فلا يكفي هذا التعهد ، بل نحتاج في جعل اللفظ قالبا للمعنى من تعهد آخر ، فإن كان بتعهد الثاني تحصل القالبية فهو ، وإلّا فيحتاج أيضا الى تعهد آخر الى أن يتسلسل ، فلا بدّ من التزامك من حصول القالبية بالتعهد ، وهو عين مرادنا. ليس في محلّه ؛ لأنّ هذا الشخص المتوهّم لا يلتزم بكون اللفظ قالبا للمعنى ، ولا يحتاج الى ذلك حتى يرد عليه ما أورده ، بل كما قلنا كان لازم كلامه هو صرف كون اللفظ علامة للمعنى لا قالبا للمعنى فهذا الإيراد غير وارد عليه ، فافهم.

نعم ايراده رحمه‌الله وارد على شيخنا الحائري رحمه‌الله الملتزم بالتعهد ، ومع ذلك قوله بكون اللفظ قالبا فإنّه يقال : إنّ التعهد إن كان يوجد هذه القالبية والعلقة فصرت ملتزما بما التزمنا ، وإن كان لا يوجب ذلك فقولك من حصول العلقة محتاج الى تعهد آخر ، وهو الى آخر حتى يتسلسل.

اذا عرفت مراد هذا المتوهّم يعني مراد الآخوند ملّا علي النهاوندي رحمه‌الله وما هو لازم كلامه ظهر لك أنّه رحمه‌الله حيث لا يتصوّر حقائق اعتبارية أصلا في كلّ موضع فصار بصدد توجيه حقيقة الوضع ، ولا يخفى عليك أنّه لو لم يتصوّر حقائق اعتبارية في حيال الوجودات الحقيقية والوجودات الانتزاعية فلا مناص إلّا من الالتزام بما التزمه رحمه‌الله ولقد أحسن وأجاد في توجيه حيث تكويني ، فكلامه تام لو لم تكن حقائق اعتبارية لكن بعد تصوير حقائق اعتبارية كما بيّنا غير مرّة والشاهد وقوعه كثيرا من الاعتبارات الواقعة من العقلاء ، فلا حاجة الى اتعاب النفس وتوجيه

٥٥

الوضع بالنحو الذي قال هذا المتوهّم ، وهل هذا إلّا الأكل من القفاء؟ فإنّه بعد تصوير علقة بين اللفظ والمعنى بنفس الوضع والجعل والاعتبار فلا نحتاج الى التمسّك بأمر آخر يعني الحيث التكويني وهو التعهد ، وأيضا الارتكاز شاهد على أن حقيقة الوضع ليس إلّا العلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى بوضع الواضع بحيث يصير بذلك الفعل اللفظ قالبا للمعنى ووجودا تنزيليا للمعنى بلا حاجة الى التعهد.

هذا تمام الكلام في حقيقة الوضع وأنه من الامور الاعتبارية التي حقيقتها ليس إلّا نفس الاعتبار ، وليس حقيقتها من الامور الحقيقية أو الانتزاعية كما بيّنا لك على النحو المطلوب والطريق الحسن ، فالعلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى من الامور الاعتبارية ، فافهم.

الأمر الثالث : بعد ما ظهر لك ممّا قلنا في حقيقة الوضع أنّه لا بدّ فيه من حيث خارجي غير نفس التصوّر الذهني واللحاظ ، بمعنى أنّه لا يكفي في الوضع نفس تصوّر الواضع ولحاظ كون اللفظ الفلاني موضوعا للمعنى الفلاني ، بل لا بدع مع ذلك من ايجاد خارجي ، لأنّ الوضع والجعل لازمه ذلك ، ولا يكفي صرف لحاظه وتصوّر اللفظ والمعنى ، بل لا بدّ من ايجاد في ذلك بأن يوجد في الخارج أمرا مثل أن يقول : وضعت لفظ «زيد» بازاء حقيقة «زيد» وهذا ممّا لا إشكال فيه.

يقع الكلام في أنّ هذا الايجاد اللازم في الوضع من أي قسم من أقسام الإيجاد ، فلا بدّ أوّلا من بيان أقسام الايجاد والوجوه التي بها يوجد المعنى في الخارج ، فنقول بعونه تعالى :

إنّه تارة يكون الايجاد بالمطابقة مثل أن يوجد البيع بلفظ «بعت» فلفظ «بعت» إيجاد بالمطابقة للبيع ؛ لأنّ هذا اللفظ دالّ بالمطابقة على البيع ، وتارة يوجد الشيء بايجاد مصداقه يعني يوجد وجود مصداقي المعنى كما قلنا في المعاطاة في البيع فإنّ هذا الأخذ والإعطاء الخارجي مصداق للبيع ، ففي المعاطاة أوجد البائع بإعطائه وأخذ

٥٦

العوض عن المشتري مصداق البيع خارجا فهذا إيجاد ، وبايجاد المصداق ولا بدّ في هذا القسم أن يكون هذا الشيء الخارجي مصداقا للمعنى مثل أنّ الأخذ والإعطاء الخارجي يكون مصداقا للبيع ، ولذا قلنا بصحّة المعاطاة في كلّ معاملة يكون التعاطي الخارجي مصداقا لحقيقته ، فلو لم يكن الفعل الخارجي مصداقا للحقيقة فلا يكون هذا الفعل مصداقا لها ، فلا يمكن أن يكون ايجادا لها لعدم كونه مصداقا حقيقيا لها.

وتارة يكون الايجاد بالكناية وهو بأن يذكر اللازم ويريد به الملزوم ، فلا يريد في إلقاء اللازم إلّا الملزوم ، وهذا القسم أيضا ايجاد للمعنى كما يلتزمون بكفايته في بعض الاعتباريات من أبواب المعاملات ، مثل بعض الألفاظ التي لا تدلّ على البيع بالمطابقة ، بل تدلّ عليه بالكناية.

وتارة يكون الايجاد ايجادا بالتبع وهو أن يلقي اللفظ ولا يريد منه الملزوم مثل ما قلنا في الكناية ، بل يلقي اللفظ ويريد منه نفس مدلوله المطابقي ، ولكن ينتقل من هذا المدلول المطابقي الى اللازم بالتبع ويكون ذلك ايجادا لهذا اللازم بالتبع ، كما ترى أنّ الأمر كذلك في وجوب مقدمة الواجب على القول بها ، لأنّ الآمر لا يوجد إلّا وجوب ذي المقدمة ، ولكن هذا الايجاد ايجاد للمقدمة بالتبع ، فالآمر ألقى اللفظ لإفادة وجود نفس ذي المقدمة وإنشاء وجوبه ، بل ربّما لا يكون الآمر منتقلا حتى بالمقدمة أصلا ، ولكن هذا الإنشاء والايجاد يكون انشاء وايجادا لوجوب المقدمة أيضا بالتبع.

وهذا معنى كون وجوب المقدمة تبعيا ، وكذلك يكون من هذا القبيل ربّما في المعاملات أيضا فإنّهم يقولون بأنّ في بيع الدار مثلا يكون المفتاح تبعا له ، وليس معناه إلّا أنّ إنشاء بيع الدار انشاء لبيع المفتاح تبعا.

وهذا ليس من باب الكناية ، لأنّ في الكناية كما قلنا يريد من اللازم حين إنشاء

٥٧

اللازم الملزوم ، وهذا بخلاف الإيجاد التبعي ؛ لأنّ في الإيجاد التبعي لا نظر للمنشي والموجد إلّا ايجاد اللازم أو الملزوم ، ولكن هذا إنشاء للملزوم أو اللازم تبعا ، بل كما قلنا تارة لا يكون متوجها باللازم مثل ما قلنا في المقدمة بأنّ المولى ربّما لا يكون متوجها الى المقدمة أصلا ، وكذلك في البيع والمفتاح فإنّه ربّما لا يكون البائع والمشتري متوجها بالمفتاح حين إنشاء بيع الدار ، ولكن نفس إنشاء البيع انشاء للبيع تبعا عند العرف.

والسرّ في ذلك هو عدم تفكيك بينهما في الوجود إمّا حقيقة كما ترى أنّ بين وجود المقدمة وذي المقدمة ليس انفكاك حقيقة ، وغير منفكّ وجود ذي المقدمة عن وجود المقدمة ، فكيف يمكن وجوده بلا وجود المقدمة؟ وإمّا اعتبارا كما يكون في المثال الثاني ، فإنّ المفتاح بحسب اعتبار العرف وبنظرهم غير منفكّ عن الدار.

إذا عرفت هذه الأقسام الأربعة فنقول : إنّ الوضع لا يمكن أن يكون من قبيل القسم الثاني فليس قابلا لأن يكون ايجاده بايجاد المصداق فيلقي الواضع في مقام الوضع نفس اللفظ ، ويجعل نفس القاء اللفظ مصداقا للوضع ، مثلا في مقام وضع لفظ «زيد» لزيد يوجد لفظ «زيد» بعنوان المصداقية بلا تصريح بأنّي وضعت هذا اللفظ بإزاء هذا المعنى.

لأنّه أولا : كما قلنا لا بدّ وأن يكون المصداق مصداقا حقيقيا له حتى يكون إيجاد المصداق إيجادا للمعنى ، كما كان كذلك التعاطي في البيع ، فإنّه مصداق حقيقي للبيع والمبادلة ، وليس المقام كذلك فإنّ صرف ايجاد اللفظ بلا ضميمة أمر آخر ليس مصداقا للوضع يعني للعلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى.

وثانيا : انّه لو فرض كون اللفظ مصداقا للوضع ولكن لا بدّ في المصداق أن يكون مصداقا لأمر متشخص لا الأمر الكلّي ، لعدم قابلية كون شيء جزئي خارجي مصداقا للكلّي ، مثلا كان أخذ الثمن وإعطاء البقل مصداقا للبيع الشخصي لا أن

٥٨

يكون هذا الأخذ والإعطاء الشخصي مصداقا للكلّي ، ولذا قلنا بعدم جريان المعاطاة في الكلّي فلا يصحّ أن يكون مثقال من البقل اعطاء لخروار منه.

فعلى هذا بعد ما قلنا بأنّ طبيعة اللفظ يوضع لطبيعة المعنى لا أنّ شخص اللفظ وضع لشخص المعنى فزيد موضوع لطبيعة زيد ، ولذا يكون قالبا لزيد في كلّ استعمال فنقول : إنّ هذا اللفظ الخارجي مثلا ، جئني بزيد إذا القي بعنوان المصداقية للوضع كيف يمكن أن يكون مصداقا لكلّي الوضع يعني لطبيعة زيد ، فالإيجاد المصداقي لا يمكن في الوضع؟!

وأمّا القسم الرابع يعني الإيجاد التبعي فأيضا لا يمكن في الوضع ، لأنّه كما قلنا لا بدّ في الإيجاد التبعي أن يكون مع المتبوع غير منفكّ في الوجود ، ولا يمكن انفكاكه منه في الوجود كوجود ذي المقدمة الغير المنفكّ في الوجود من المقدمة وأمّا العلقة والوضع فيمكن انفكاكها من اللفظ الذي يستعمل ، ويكون الكلام في أنّ القاءه إيجاد للوضع تبعا أو لا ، لأنه يمكن أن يوجد اللفظ ولا يوجد الوضع ، فانفكاكهما ممكن.

ولكن يمكن أن يكون ايجاد الوضع بالنحو الأوّل وهو إيجاد المطابقي مثل أن يقول وضعت اللفظ الكذائي للمعنى الكذائي ، وكذلك بالنحو الثالث وهو ايجاد الكذائي وأمّا بالقسمين الأخيرين فغير قابل كما قلنا.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يظهر من كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية عند الكلام في الحقيقة الشرعية أنّ الوضع التعييني يحصل باستعمال اللفظ في المعنى ، فمراده أنّ في مقام الوضع يكفي ذلك كما يكفي تصريحه بأنّي وضعت اللفظ الكذائي للمعنى الكذائي ، وغرضه من ذلك هو الجواب عمّا قاله الشيخ هادي الطهراني في مقام إنكار الحقيقة الشرعية بأنّه كيف كان حقيقة شرعية؟ والحال أنّ شأن الشارع ليس وضع الألفاظ ، وليس وظيفته ذلك بأنّه لا يلزم على القول بالحقيقة الشرعية ما قلت من أنّ لازم ذلك ان يجلس الشارع مدة ويضع ألفاظا لمعاني مختلفة ثمّ بعد الوضع يستعملها

٥٩

في موارد الحاجة في معانيها ، والحال أنّ ذلك خارج عن وظيفته ، بل يمكن أن يكون وضع الشارع بنفس الاستعمال ، وأنّه استعمل الألفاظ في معانيها المخترعة ؛ وبنفس ذلك حصل الوضع ، فحصل الوضع باستعمال اللفظ في غير معانيها اللغوية ، وذلك أيضا قسم من الوضع التعييني.

ولكن لا نتعقل مراده رحمه‌الله فإنّه إن أراد أنّ بنفس الاستعمال يحصل الوضع وأنّ استعمال اللفظ في المعنى في عين كونه استعمالا يكون وضعا وايجاد العلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى التي نعبّر عنها بالوضع وأنّه اذا قال : «جئني بزيد» استعمال ووضع ، فاستعمل لفظ «زيد» في معناه وفي هذا الحال وضع لفظ «زيد» لمعناه فيرد عليه إشكالين :

الأوّل : يلزم الاجتماع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في لحاظ واحد ، وهو غير معقول. بيانه : أنّه في مقام الوضع يكون اللفظ والمعنى ملحوظا باللحاظ الاستقلالي ، لأنّه لو لم يكونا ملحوظين باللحاظ الاستقلالي لا يمكن أن يضع اللفظ للمعنى ؛ لأنّ الوضع موقوف على النظر والتوجه باللفظ والمعنى حتى يضع اللفظ بازاء المعنى ، وهذا واضح. وأيضا من الواضح أنّ في مقام الاستعمال كما قلنا يجعل اللفظ فانيا في المعنى ، وليس النظر والتوجه إلّا بإلقاء المعنى ، ففي هذا الحال يعني حين الاستعمال لا يكون اللفظ ملحوظا استقلالا ، بل يكون آلة لالقاء المعنى ، بل ربّما لا يتوجّه المتكلم حين الاستعمال للّفظ أصلا.

فإذا عرفت أنّ في الوضع اللفظ ملحوظ استقلالا ، وفي الاستعمال ملحوظ آليا ، فلو كان الوضع حاصلا بنفس الاستعمال فيلزم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، وهو محال.

الثاني : أنّ في مقام الاستعمال يستعمل المستعمل اللفظ الخاص في المعنى الخاص ، فإذا قال : «جئني بزيد» فاستعمل هذا زيد الخاص في معنى خاص ، وفي مقام الوضع

٦٠