المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-31-0
الصفحات: ٤٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

هذا غاية ما فهمت من تقريب كلامه ولا فرق على ما قاله بين المخصّص المتصل والمنفصل ، لأنّه لا إشكال في أنّه إذا كان المخصّص متصلا ينعقد الظهور في غير مورد التخصيص ، فعلى هذا يكون العام معنونا بعنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص ، فبمقتضى الاستصحاب ولو كان المخصّص متصلا نحكم للفرد المشتبه بحكم العموم.

ولا يرد على المحقّق الخراساني رحمه‌الله ما توهّمه بعض من أنّه لا يجري هذا الكلام حتّى في ما كان التخصيص بلسان الاستثناء ، لأنّه يكون موجبا لإجمال العام لأنّه قلنا بأنّ المفروض أنّ المراد من العام معلوم وأنّ المراد من الخاص أيضا معلوم ، فالعام يكون معنونا بعنوان لا يكون ذاك بعنوان الخاص ، غاية الامر وقع الشك في الفرد المشتبه فبالاستصحاب نحكم عليه بعدم كونه معنونا بالعنوان الخاص فيشمله العموم ، والاستثناء وغير الاستثناء لا يكون له فرق من هذه الجهة ففي كلّ مورد يكون لسان التخصيص التقييد فلا يجوز التمسّك بالعام ولا يكفي الاستصحاب لإدخاله في موضوع حكم العام ، وأمّا إذا كان بلسان الاخراج فحيث إنّ العام يكون معنونا بعنوان لم يكن ذاك بالعنوان الخاص ، فببركة الاستصحاب يدخل في موضوع حكم العام ، فافهم.

إذا عرفت تقريب كلام هذا المحقّق نقول : (إنّ هذا الكلام غير صحيح ولم يكن في محلّه لوجهين :

الوجه الأوّل : أنّه لا إشكال في أنّ عموم العام يشمل الصفات التي تكون للفرد ، مثلا إذا شمل فردا يشمل الصفة التي تكون له ، فإذا قال : (أكرم العلماء) فيشمل العموم تمام أفراد العلماء مع صفاتهم فيشمل زيد العالم فاسقا كان أو عادلا ، وأمّا كلّ شيء لم يكن صفة للأفراد فلا يشمله العموم ، مثلا ما كان مقارنا للفرد أو ملازما له فلا إشكال في عدم شمول العموم لهما ولو أنّه إذا كان مع الفرد شيء آخر غير الصفة لا يكون مضرّا لشمول العام لهذا الفرد ، إلّا أنّه لم يكن العام شاملا لهذا الشيء إلّا إذا

٤٢١

كان صفة للفرد.

فعلى هذا كلّ شيء يكون بمفاد كان التامة أو ليس التامة مع الفرد لا يشمله العموم مثلا يشمل العموم صفة الفسق أو العدالة ، وأمّا الفسق الذي لم يكن وصفا للفرد فلا يشمله العموم والإطلاق الذي يكون في العام وإن كان يمكن أن يشمل كلّما كان مع الفرد ولو كان غير الصفة لأنّ هذا حالة للفرد إلّا أنّه كما قلنا لك سابقا في جواب كلام الآخوند ملّا علي النهاوندي رحمه‌الله يكون الإطلاق تابعا للعموم ، ففي كلّ فرد يكون حكم العام يكون فيه الإطلاق ويشمل الإطلاق حالات هذا الفرد. فعلى هذا نقول بأنّه لا يمكن أن يشمل العموم غير الصفات التي تكون للفرد ، وأمّا ما لم يكن صفة له فلا يشمله العموم ، فإذا لم يشمله العموم لا يشمله الإطلاق أيضا لأنّه يشمل حالات كلّ فرد يشمله العموم.

والمفروض في المقام أنّ الفاسق خارج عن تحت العام فما يشمله العام هو العالم غير الفاسق ، فالعموم يشمل الأفراد مع أوصافهم وما هو وصف لهم هو العدالة والفسق مثلا يشمل زيد العادل أو زيد الفاسق فخرج بمقتضى التخصيص زيد الفاسق وبقي تحت العموم الفرد غير المتصف بالفسق وهو الفرد المتصف بالعدالة ، والاستصحاب وإن كان يثبت أنّ هذا الفرد لم يكن فاسقا إلّا أنّ هذا لا يكفي لشمول العموم. بل ما يشمله العموم يكون غير الفاسق الوصفي ، وأمّا من لم يكن بينه وبين الفسق نسبة فلا يشمله العموم ، فعلى هذا ما قاله ليس بصحيح.

الوجه الثاني : أنّه لو سلّمنا شمول العام والإطلاق لتمام الحالات حتى حالة الفسق بمفاد كان التامّة ولكن كما نقول في العام كذلك نقول في الخاص أيضا ، فكما أنّ العام يشمل إطلاقه تمام الحالات كذلك الخاص يكون كذلك.

وأنّه لو قلت : إنّ الخاص يكون بمفاد كان الناقصة فمن كان متصفا بالفسق خرج عن تحت عموم العام وبقي الباقي.

٤٢٢

نقول : بأنّه إذا خرج عن العام كان متصفا بالفسق لا بدّ وأن يخرج بالملازمة من لم يكن بينه وبين العدالة انتساب ، لأنّه من لم يكن بينه وبين العدالة انتساب يكون فاسقا.

فعلى هذا إذا خرج عن عموم العام من كان متصفا بالفسق ومن لم يكن بينه وبين العدالة انتساب فيبقى تحت عموم العام من كان متصفا بالعدالة ولا يمكن أن يكون داخلا تحت العام من لم يكن بينه وبين الفسق انتساب ، والحال أنّه قائل بأنّ عموم العام يشمل بإطلاقه الفرد الذي وجد ولم يكن بينه وبين العدالة انتساب ، حيث إنّه يقول بأنّ ما خرج هو الفرد الذي كان متصفا بالفسق لمفاد كان الناقصة. فظهر لك أنّ شمول العام لهذا الحال يكون موجبا للتناقض فلا يمكن أن يشمله العام ، وهذا واضح لا سترة فيه.

لأنّه كما نقول بشمول العامّ كذلك لا إشكال في أنّ المخصّص يشمل المتّصف بالفسق ومن لم يكن بينه وبين العدالة نسبة فإذا عنوان العامّ يكون كلّ عالم لم يكن فاسقا ولم يكن بينه وبين العدالة نسبة ، ففي هذا الفرد كما يمكن استصحاب عدم كون بينه وبين الفسق نسبة كذلك يمكن استصحاب أنّه لم يكن بينه وبين العدالة نسبة فيقع التناقض ، فشمول العام لهذا الفرد يكون موجبا للتناقض ، فافهم.

إذا عرفت ذلك كلّه نقول : إنّه في الأحكام التي تكون بعناوينها الأوليّة إذا ورد حكم بعنوان ثانوي يكون تقييدا للحكم الأوّل ، مثلا إذا قال المولى : (أطع أمر والديك) ثمّ قال : (يشترط في إطاعة أمر الوالدين أن يكون أمرهما يتعلّق بالشيء المباح) فلا إشكال في التقييد فيكون وجوب إطاعة أمر الوالدين واجبا إذا كان مباحا موضوعه ، لانه قلنا بأنّه إذا كان التخصيص بل إنّ التقييد يكون سببا لتقييد العام ولا يكون مثل ما كان لسان التخصيص بلسان الإخراج والأحكام الثانوية للأحكام الأولية يكون تقييدا.

٤٢٣

إذا فهمت ذلك فنقول : إنّه لا يمكن أن يكشف بواسطة دليل التقييد موضوع العام مثلا في المثال المتقدم لو شككنا في فرد أنّه مباح حتى يجب إطاعتهما أو لا يكون مباحا حتى لا يجب إطاعتهما فلا يمكن التمسّك بعموم أطع الوالدين مثلا لإثبات إباحة هذا الفرد من أمرهما ، أو في باب النذر يكون عموم في البين مثلا (أوفوا بالنذور) وثبت من دليل آخر بعنوان ثانوي أنّه يشترط في متعلّق النذر أن يكون راجحا.

فعلى هذا بمقتضى التخصيص يكون الوفاء بالنذر واجبا إذا كان متعلّقه راجحا ، فإذا شككنا فى مورد أنّ متعلّق هذا النذر يكون راجحا حتى يشمله أدلّة وجوب الوفاء بالنذر أو لا يكون راجحا فلا يمكن التمسّك بعموم (أوفوا بالنذور) لإثبات رجحان ذلك الفرد ، والسرّ في ذلك هو أنّ الموضوع يكون مقدّما على الحكم فلا بدّ أوّلا من إحراز الموضوع حتى يشمله الحكم فكيف يمكن أن يصير موضوع النذر راجحا بواسطة الحكم؟ بل يلزم أن يكون في رتبة متقدمة هذا الفرد راجحا حتى يشمله حكم الوفاء بالنذر ، ولا يمكن كشف رجحانه من الحكم ، وهذا واضح.

ولا فرق في عدم جواز التمسّك بعموم العام لإثبات الفرد كالمثال المتقدّم بين أن نقول بجواز التمسّك بالشبهات المصداقية وعدم الجواز ، أمّا على القول بعدم الجواز فواضح ، وأمّا على القول بجواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية فأيضا لا يجوز حيث إنّه قلنا في كلّ مورد يكون التخصيص بلسان التقييد لا يكون التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية جائزا لأنّه يكون حقيقة كالمخصص المتّصل سببا لتقييد العام ولا يكون العام حجّة إلّا في المقيّد. فعلى هذا كل فرد لم يكن معنونا بعنوان المقيّد لم يشمله العام ، وهذا ممّا لا ريب فيه.

ثم إنّه بعد ما عرفت ما قلنا نقول بأنّه إذا ورد الدليل على ثبوت الحكم للفرد ولو لم يكن معنونا بعنوان العام المقيّد ولا يمكن توجيهه بنحو من الأنحاء لا بدّ من الالتزام

٤٢٤

بأنّه تخصيص للعموم ، مثلا إذا ورد أنّه إذا نذرت أن تصوم في السفر يجب عليك أن تصوم ، حيث إنّ هذا مخالف للعمومات الدالّة على حرمة الصوم في السفر فلا بدّ من أن تقول بأنّ هذا تخصيص ومعناه عدم جواز الصوم في السفر إلّا إذا نذر الصوم ولا يكون في الشرع إلّا موردان :

الأوّل : وجوب الصوم في السفر مع النذر.

الثاني : في الاحرام قبل الميقات ، ففيهما مع أنّه لا يجوز الصوم في السفر ورد الدليل بوجوبه لو نذر الصوم مع أنّ الشرط في النذر هو الرجحان ، فمع أنّه على حسب الدليل الصوم في السفر لا يكون راجحا مع ذلك دلّ الدليل بانعقاد النذر ، وكذلك الإحرام واجب في الميقات ومع ذلك دلّ الدليل بأنّه لو نذر الإحرام قبل الميقات ينعقد نذره ، فإن كان يمكن لنا تصحيح الصورتين بحيث لا يلزم تخصيص في عمومات الوفاء بالنذر فبها ، وإلّا فلا بدّ من القول بالتخصيص ، ولكن مع هذا يمكن أن يقال في الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات إذا تعلّق بهما النذر بأنّه لا يكون تخصيص ؛ لأنّ الإشكال في هذين الموردين إمّا أن يكون من جهة عدم تأتي قصد القربة في النذر ، وإمّا أن يكون من جهة عدم الرجحان في موضوع النذر.

أمّا إشكال قصد القربة فلا يتأتى على ما قلنا ، لأنّا قلنا لك في الواجب التعبدي والتوصلي أنّه ما كان معتبرا في العبادة إلّا قصد التعبّد وقلنا من أنّ العبادات المحرّمة تكون عبادة محرمة فعلى هذا هذا النذر أيضا يكون عبادة فلا يكون وقع لهذا الإشكال.

وأمّا إشكال الرجحان وأنّه شرط في النذر أن يكون متعلّقه راجحا فنقول : إنّ موردهما يكون راجحا ، أمّا في الصوم فلأنّ الصوم مطلقا يكون راجحا بلا إشكال ، غاية الأمر في السفر بمقتضى ما يستفاد من الأدلّة يكون عدم تشريعه لأجل أنّ الله تعالى منّ على العباد كما يستفاد من بعض الروايات حيث إنّ في بعضها عبارة دالّة

٤٢٥

على أنّه هل لا يسوؤك أن تعطي صدقة لأحد فيردّها ، فمعلوم بأنّ رفعه يكون من باب الامتنان فإذا كان كذلك ففي مورد النذر لا يكون كذلك بمقتضى الدليل ، فعلى هذا لا يكون إشكال في الصوم في السفر ، لأنّ المانع من رجحان الصوم يرتفع بالدليل ، فالرجحان الذاتي يكون للصوم ولكن السفر مانع عن صحّة الصوم وبالدليل الوارد في صحّة الصوم في السفر إذا نذر نكشف به رفع المانع من الصحّة.

وكذا في الاحرام قبل الميقات فإنّه يكون راجحا مطلقا ولو قبل الميقات ولكنّه حرّم قبل الميقات لأجل رفع المشقة حيث إنّه مشقة ، فإذا كان المانع من صحته هو المشقة فإذا ورد الدليل بأنّه لو نذر الإحرام قبل الميقات يجب الإحرام فنكشف منه رفع المانع من الصحّة في مورد النذر ، فعلى هذا يكون الرجحان مطلقا في الصوم والإحرام ، والحرمة تكون لأجل المانع من الصحّة ، فإذا ارتفع المانع ينعقد النذر.

فعلى هذا ظهر لك أنّ في الموردين يكون متعلق النذر راجحا فلا يبقى اشكال في البين.

تتمّة بعد ما قلنا من أنّ التمسّك بالعام لإثبات حكم الفرد يكون في الشبهات المصداقية جائزا أو غير جائز ، وعرفت الكلام فيه يقع الكلام في أنّه هل يجوز التمسّك بالعام في إحراز عدم كون الشك في أنّه من مصاديق العام مع العلم بعدم كونه محكوما بحكمه مصداقا له ، أم لا؟ ولا يخفى أنّ لذلك يكون صورتان :

الصورة الاولى : فيما كان حكم الفرد تفصيلا معيّنا ولكن لا نعلم بأنّه هل يكون داخلا تحت العام حتى يكون خروجه تخصيصا في العام أو لا يكون داخلا تحت العام حتى لا يكون تخصيصا في العموم؟ مثلا نعلم بأن زيد القمّي مثلا يحرم إكرامه ويكون هنا عموم مثلا (أكرم العلماء) ولم نعلم بأنّ زيدا يكون عالما حتى يكون خروجه تخصيص لعموم (أكرم العلماء) أو لا يكون عالما حتى لا يكون تخصيص في عموم (أكرم العلماء) فهل يمكن في هذه الصورة التمسّك بالعموم وبأصالة عدم

٤٢٦

تخصيصه ويحكم بأنّ الفرد لم يكن معنونا بعنوان العام فيترتّب عليه ما كان مترتّبا على غير عنوان العام ، أو لا يمكن كما في المثال المتقدّم يتمسّك بأكرم العلماء وشموله لكلّ فرد ، فبمقتضى عكس النقيض نقول بأنّه كلّ من لا يجب إكرامه فليس بعالم فهذا أيضا ليس بعالم ، وإذا كان حكم في البين على غير العالم مثلا جواز الهتك يجري فيه أيضا فيقال : إنّه يكون هتكه مثلا جائزا ، أم لا؟

لا يخفى عليك أنّ الإشكال في التمسّك بالعام في المقام ليس لأجل كونه مثبتا وبعد ما لم يكن المثبت من الاصول بحجّة فلا يمكن التمسّك حقيقة وحجّة فيما بقي من الأفراد ، لأنّه بعد ما كان منشأ الظهور وحجّية العام في أفراده هو تطابق الإرادة الجدّية مع الإرادة الاستعمالية بمعنى أنّ الإرادة الاستعمالية عن الواقع ولسانها يكون لسان بيان الواقع فتكون مثبتاتها حجّة أيضا ، والاصول العملية حيث لا يكون لسانها إلّا جعل الحكم الظاهري لا تكون مثبتاتها حجّة ، وقلنا من أنّ التعبير بأنّ مثبت الاصول يكون حجّة أم لا مسامحة.

بل يكون النزاع في أنّ الاصول العملية هل يكون لها مثبت أم لا؟ وإلّا لو فرض أنّ يكون لها مثبت يكون حجّة بلا إشكال بل الاشكال هنا في أنّه بعد ما كانت حجّية ظواهر الألفاظ ومنها العام من باب بناء العقلاء وأنّ العقلاء يكون بناؤهم لكشف الواقعيات الى العموم ، فإذا كان كذلك فيمكن الدعوى في أنّه هل يكون بناء العقلاء في هذا الفرض بالرجوع الى العام بعد ما كان حكم الفرد ثابتا تفصيلا ، أو لم يكن بناء للعقلاء؟ والشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه وبعض آخر يلتزمون بأنّه يجوز التمسّك بالعام في الفرض ، ولكن لا يخفى عليك أنّه لم يكن بناء العقلاء على التمسّك بالعام في الفرض ولو لم يكن عدم بنائهم مسلّما فلا أقلّ من الشكّ ، فلا يمكن القول بالتمسّك بالعام في هذه الصورة ، فافهم.

الصورة الثانية : ما إذا لم يكن حكم الفرد معلوما تفصيلا مثلا قال المولى : (لا

٤٢٧

تكرم زيدا) ويكون لزيد في الخارج فردان أحدهما يكون عالما والآخر يكون جاهلا ولم نعلم من أنّ المراد من زيد المخصّص يكون أيّهما؟ فإن كان زيد بن عمرو مثلا يكون عالما ويكون حرمة إكرامه مع فرض أن يكون هنا عامّ مثل (أكرم العلماء) تخصيص في عموم (أكرم العلماء) لأنّه يكون عالما مسلما وإن كان زيد هو زيد بن بكر مثلا لا يكون حرمة إكرامه تخصيص في عموم (أكرم العلماء) لأنّه لم يكن عالما مسلما ، فهل يجوز في هذه الصورة التمسّك بالعام لإثبات كون الفرد المحرّم الإكرام هو غير العالم أم لا؟

لا إشكال في الفرق بين هذه الصورة والصورة الاولى حيث إنّه في الصورة الاولى يكون حكم الفرد تفصيلا معلوم والتمسّك بالعام يكون لإثبات أمر آخر ، وأمّا في الصورة الثانية فلا يكون كذلك ، بل يكون حكم الفرد غير معلوم ، ولهذا نقول بأنّه في الفرض يجوز التمسّك بالعام لإثبات أنّ الفرد لم يكن عالما فيحرم إكرام الفرد غير العالم.

فنقول مقدمة لإثبات المطلب : إنّه في هذا الفرض حيث إنّه نعلم إجمالا بحرمة إكرام زيد ولكن لم نعلم بأنّ متعلّق الحرمة هو زيد بن عمرو أو زيد بن بكر ، فإن كان هنا أصل مثبت أو نافي فينحلّ العلم الإجمالي ، مثلا تكون الحالة السابقة في أحدهما هي وجوب الإكرام ، وفي الآخر لا تكون له حالة سابقة من وجوب أو غيره ، ويكون الأصل فيه هو البراءة فبمقتضى الاستصحاب يكون ما كان فيه حالة سابقة واجب الإكرام وينحلّ العلم الإجمالي بأنّ الآخر يكون محرّم الإكرام كما ثبت في محلّه من أنّه إذا كان في أحد طرفي العلم الاجمالي أصل مثبت أو نافي ينحلّ العلم الإجمالي.

فعلى هذا في المقام أيضا لو كان أصل عمليّ كذلك يصير سببا لانحلال العلم الإجمالي ، فكذلك إذا حكم بمقتضى العموم وشموله لزيد العالم فينحلّ العلم الإجمالي

٤٢٨

في زيدين ، فقهرا يكون زيد الواجب الإكرام هو زيد العالم فبالأصل العمليّ ينحلّ العلم الإجمالي ويحكم بدخول زيد العالم في عموم (أكرم العلماء) وحيث إنّ لازمه يكون حجّة فيكون لازمه أنّ زيد الذي يحرم إكرامه يكون هو زيد الجاهل فيثبت بالعموم أنّ الحكم يكون شاملا لزيد العالم وينطبق التخصيص قهرا بزيد الجاهل.

إذا عرفت ذلك فلا يخفى عليك أنّه غاية ما يثبت بعموم العام هو كون زيد العالم محكوما بحكم العام ، وأمّا التخصيص فمع ذلك باق باجماله لأنّه مع ذلك لا يكون إجمال التخصيص مرتفعا ، حيث إنّ العام غاية ما يثبت به هو كون الفرد محكوما بالحكم العام ، ولكن مع ذلك لا يرفع الإجمال عن العام بحيث صار مبيّنا للخاص ويترتّب عليه أثره إن كان له أثر ، بل التخصيص باق بإجماله.

غاية الأمر إذا دخل زيد العالم تحت عموم (أكرم العلماء) نكشف بالملازمة حيث إنّ مثبتات الاصول تكون حجّة أنّ زيد الذي يكون إكرامه حراما بمقتضى دليل المخصص يكون هو زيد الجاهل ، ولكن مع ذلك يكون دليل التخصيص وهو (لا تكرم زيدا) باق بحاله من الإجمال ولا يصير مبيّنا لسبب التمسّك بالعام حتى يترتّب على مبيّنيته أثر لو كان هنا أثر لكونه مبيّنا ؛ لأنّ العام لا يثبت هذا ، لأنّ بناء العقلاء بالتمسّك بالعام لا يكون في هذا المقام ، وغاية بناء العقلاء هو ما قلنا من دخول الفرد حكما تحت العموم وإثبات لازمه وهو كون زيد المحرّم الإكرام هو زيد الجاهل ، وأمّا أزيد من هذا فلم يكن بناء العقلاء عليه. ولكن على ما قاله الشيخ رحمه‌الله فيرفع إجمال الدليل المخصّص أيضا ، لأنّه يكون بناء العقلاء بالتمسّك بالعموم لإثبات المراد ، فإذا كان كذلك فيرتفع إجمال المخصص قهرا ، حيث إنّه اذا دخل زيد العالم تحت العموم بالملازمة يكون المراد من زيد المحرّم الإكرام هو زيد الجاهل ، فافهم واغتنم وتأمّل فيه.

٤٢٩

فصل

هل يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص أم لا؟

هل يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص أم لا؟ ولا يخفى عليك أنّه في العمومات المتداولة بين العرف لا إشكال في أنّ بناء العقلاء يكون على التمسك بها قبل الفحص عن المخصّص ولكن يكون الكلام في أنّه هل يجوز ذلك في العمومات الواردة في الكتاب والسنّة أم لا ، ولا إشكال في أنّه لا يجوز التمسّك بالعام الوارد في الكتاب والسنّة قبل الفحص عن المخصّص ولكن يكون الكلام في أنّه لأي جهة لا يجوز التمسّك؟ وما وجه عدم جواز التمسّك بالعمومات الواردة في الكتاب والسنّة قبل الفحص عن المخصص؟

اعلم أنّه ذكر لعدم الجواز وجوه ولا يهمّنا التعرّض لكلّها ، بل نذكر هنا أربعة وجوه منها :

الوجه الأوّل : انّ حجّية العام يكون لأجل كونه موجبا للظنّ الشخصي بالمراد ومع عدم الفحص لا يحصل الظن الشخصي من العام ولكن هذا الوجه فاسد ، حيث إنّ العام يكون حجّة ولو لم يكن موجبا لحصول الظنّ الشخصي ، فهذا الوجه يتمّ لو قلنا بأنّ حجّية العام تكون لأجل إفادته للظنّ الشخصي ، فافهم.

الوجه الثاني : ما قالوا من أنّ الخطابات تكون متوجّهة للمشافهين ، فإذا كانت

٤٣٠

العمومات متوجهة للمشافهين فحجّيتها وتعلّقها بغيرهم تكون فيما تفحّص عن التقييد والتخصيص ، وأمّا قبل الفحص فلا يكون بحجّة. وهذا الوجه أيضا ليس في محلّه حيث إنّه ثبت في محلّه أنّ الخطابات لا يكون مخصوصا بالمشافهين.

الوجه الثالث : وهو الذي يظهر من كلمات الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه وهو : أنّه بعد العلم الإجمالي بالتقييدات والتخصيصات للعمومات فيجب الفحص عن التقييدات والتحقيقات ثم العمل بالعمومات ، فبمقتضى العلم الإجمالي يجب التفحّص ولا يجوز التمسّك بالعمومات قبل الفحص ، ولكن الشيخ رحمه‌الله ولو قال هذا الكلام هنا ولكن قال في أوّل الرسائل أيضا في ردّ قول الأخباريين ، فإنّ الأخباريين حيث قالوا بعدم جواز العمل بعمومات الكتاب لأجل التخصيصات والتقييدات.

قال بأنّه بعد الفحص ينحلّ العلم الاجمالي ولكن قال في مبحث البراءة في ردّ من قال بأنّ جريان البراءة موقوف بالفحص ، ولا يمكن جريان البراءة قبل الفحص بأنه لا يفيد الفحص لو كان علم إجمالي في البين ، حيث إنّ المدار في العلم الإجمالي هو أن ينحلّ ، فإن انحلّ العلم الإجمالي فهو ، وإلّا فلا يمكن جريان البراءة فعلى هذا لو انحلّ العلم الإجمالي قبل الفحص يجوز جريان البراءة ولا مدخلية للفحص ولو تفحّص ، فلو انحلّ العلم الإجمالي بعد الفحص أيضا يجوز جريان البراءة ولو لم ينحلّ العلم الإجمالي بعد الفحص ، فلا يمكن جريان البراءة ومن المعلوم أنّ الفحص لا يكون سببا لانحلال العلم الإجمالي ، وكلامه هنا مع كلامه في البراءة يكون على حسب الظاهر وقبل الدقة تناقض حيث إنّ في المقام يقول بالفحص لرفع العلم الإجمالي وفي البراءة يقول بعدم الأثر للفحص.

ولكن على ما هو التحقيق هو الفرق بين المقامين لأنّه في البراءة كل من كان متدينا ولو كان عامّيا محضا إذا اعتقد بالله والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم إجمالا بواجبات ومحرّمات وأحكام في الدين ولو لم يرى الكتاب والسنّة قط يعلم اجمالا بأحكام في

٤٣١

الشرع ، فعلى هذا مع هذا العلم الإجمالي ولو ثبت بعدا له من الكتاب والسنّة العلم التفصيلي بواجبات ومحرّمات ولكن مع ذلك لم يعلم بكون هذه الواجبات والمحرّمات بمقدار معلومه الإجمالي فلا يمكن جريان البراءة له إلّا بعد انحلال علمه الإجمالي ولا ينحلّ العلم الإجمالي بالفحص ، حيث إنّه لم تكن أطراف علمه الإجمالي منحصرة بالكتاب والسنّة ، بل على ما قلنا قبل فهم الكتاب والسنة أيضا يكون له هذا العلم الإجمالي ، فالفحص لا يرفع علمه الاجمالي ولا يصير منحلّا.

وأمّا في المقام حيث إنّ العلم الإجمالي بالتقييدات والتخصيصات يكون بعد ما علم أنّه في الكتاب والسنّة تكون عمومات ووردت المخصّصات والمقيّدات للعمومات في الكتاب والسنّة ، فمنشأ علمه الإجمالي يكون هو ما يرى في الكتاب والسنّة من التقييدات والتخصيصات ، فمع قطع النظر عن الكتاب والسنّة لا يكون له هذا العلم الإجمالي ، فعلمه الإجمالي ، تكون أطرافه في الكتاب والسنّة فعلى هذا بعد الفحص عن التقييدات والتخصيصات في الكتاب والسنّة ينحلّ العلم الإجمالي ، حيث إنّه بعد الفحص توجد بعض التقييدات والتخصيصات ، ففي كلّ عام إذا تفحّص عن تخصيصه ولم يجده يعلم بعدم التخصيص بهذا العام فينحلّ العلم الإجمالي قهرا حيث لا تكون دائرة العلم الإجمالي إلّا في الكتاب والسنّة وإن راجعهما ينحلّ العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي ، فالفحص يكفي.

فظهر لك الفرق بين المقامين وأنّ ما قاله في المقامين صحيح وأنّ هذا الوجه الذي ذكره لوجوب الفحص وجه وجيه ، فافهم.

ولا يرد على هذا التوجيه ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية فإنّه قال : من أنّ كلامنا في المقام أي أنّ الفحص عن المخصّص يلزم في العمل على العموم ـ هو في أنّ أصالة عدم التخصيص هل يكون مشروطا جريانها بالفحص أو لا يكون مشروطا؟ مع قطع النظر عن الجهات الخارجية مثل ما لو كان معارضا مع العلم الاجمالي فعلى هذا ، هذا الوجه ليس مربوطا بمحلّ النزاع.

٤٣٢

وأمّا وجه عدم ورود هذا الايراد فهو أنّا نكون هنا في مقام بيان أنّ العمل بالعام هل يجوّز فعل الفحص عن المخصّص أم لا؟ ولو كان منشأ عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص هو العلم الإجمالي فالإشكال لا يكون واردا ، فافهم.

الوجه الرابع : وهو ما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية وهو أنّه بعد ما كان العام في معرضية التخصيص والتقييد لا يكون بناء العقلاء على العمل به ، فعلى هذا لأجل معرّضية العام للتخصيص والتقييد لا يجوز العمل بالعام إلّا بعد الفحص عن المخصّص.

ولكن لا يخفى ما في هذا الوجه من الفساد فنقول مقدمة لإثبات الفساد : إنّه نقول لك أوّلا منشأ هذا الكلام ثم نتعرّض لوجه فساده.

اعلم أنّه من الواضحات هو أنّ المتكلم الذي يكون في مقام البيان لا بدّ أن يتكلم بالنحو المتعارف عند الناس وبنحو جريهم يفهم مراداته ، فالشارع أيضا حيث إنّه بمقتضى الآية الشريفة : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) لا بدّ أن يتكلّم بالنحو المتعارف عند الناس لإفهام مراداته وأحكامه حتى يفهم الناس ، وحيث إنّ المتكلّم إذا كان في مقام بيان مراداته يتكلّم على النحو المتعارف فإذا تكلّم بكلام يأخذون بما هو ظاهر كلامه ، وهذا البناء ممّا لا إشكال فيه ، وهذا هو منشأ حجّية الظهور ويكون البناء عند العرف هو الأخذ بظاهر كلامه ، فلو كان له مراد غير ما هو ظاهر كلامه لا بدّ له أن يبيّنه ويكون البناء هو أن يبيّن مراده لو كان على خلاف الظاهر عند كلامه ولأجل ذلك يأخذون بظاهر كلامه.

وهذا هو البناء عند العقلاء والعرف فلو كان متكلم يريد من كلامه غير ما هو الظاهر منه فلا بدّ أن يبيّن ، وحيث إنّ بناء العرف على الأخذ بظاهر الكلام فورا ولا ينتظرون باحتمال أنّه لعلّ يكون لكلامه غير ما هو ظاهره أو لعموم كلامه تقييد أو تخصيص ، فلا بد أن يبيّن القيد وما هو خلاف ظاهر كلامه عند كلامه ، وبناء العرف كما ترى يكون كذلك وإن كان مرادهم غير ظاهر كلامهم يبيّنونه عند كلامهم ولا

٤٣٣

ينتظر المخاطب باحتمال أنّه لعلّ يكون مراده غير ظاهر كلامه ويقول بعدا فإذا كان البناء في المحاورات كذلك وأنّهم يأخذون بظاهر الكلام بدون انتظار للتخصيص والتقييد فلو كان متكلم مشيه على خلاف المشي المتعارف ويكون بناؤه بذكر خلاف ظاهر كلامه أو تخصيص عموماته منفصلا فلا بدّ أن نذكّر المخاطبين حتى لا يأخذون فورا بظاهر كلماته ، بل ينتظرون ، فكلّ متكلّم يكون كذلك بناؤه وصرّح بذلك تكون عموماته في معرض التخصيص والتقييد ، فلا يجوز العمل بها إلّا بعد الفحص.

إذا عرفت أنّ ما هو المنشأ في الأخذ بالظهور وما هو المنشأ في لزوم الفحص ، وحيث إنّ العرف لا يكون بناؤهم بذكر التخصيص والتقييد منفصلا فلا تكون عموماتهم في معرض التخصيص وأمّا الشارع فحيث كان بناؤه ذلك فتكون عموماته في معرض التخصيص فيجب الفحص على ما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله ولكن لا يخفى عليك أنّه يشترط في لزوم الفحص على ما قلنا لك أمران :

الأمر الأول : أن يكون بناء المتكلم على ذكر المخصّصات والمقيّدات مفصّلا.

الأمر الثاني : هو لزوم تصريحه بذلك حيث إنّه لو لم يصرّح لأخذ العرف بعموماته والحال أنّها لم يكن بظاهرها مرادا له ، فالكبرى مسلّمة وأنّه إذا وجد الأمران يجب الفحص لأجل معرّضية التخصيص. ولكنّه لا يخفى عليك أنّ الصغرى ممنوعة وأنّه لم تكن عمومات الشارع في معرض التخصيص حتى يجب الفحص.

أمّا أوّلا : فلأنّه أدلّ الدليل على أنّ الشارع لا يكون بناؤه على ذكر المخصّصات منفصلا هو السيرة وأنّ أصحاب الأئمة بمجرّد صدور عموم عن الأئمة يأخذون به ولا ينتظرون لورود المخصّص ولا يتفحّصون عن المخصّص ، والحال أنّه لو كان بناؤه بذكر المقيّدات والمخصّصات منفصلا فكيف يعملون بتلك العمومات ، ولا إشكال في عملهم بالعمومات قبل الفحص كما يظهر من الأخبار؟

إن قلت : على هذا فلا يكفي العلم الاجمالي أيضا لوجوب الفحص حيث إنّهم

٤٣٤

يعلمون إجمالا بوجود المخصّصات فكيف يعملون بالعمومات قبل الفحص؟

نقول : إنّه بعد ما كان مناط وجوب الفحص هو العلم الإجمالي فيمكن أن يقال : بأنّه لعلّ لا يكون لهم هذا العلم ، فمن كان له العلم الإجمالي يجب عليه الفحص وأمّا من لم يكن له العلم الإجمالي فلا يجب عليه الفحص.

وثانيا : أنّه بعد ما قلنا من أنّ كلّ متكلم يكون بناؤه بذكر المخصّصات والمقيّدات منفصلا ، فحيث إنّه خارج عن المتعارف يجب عليه اعلام المخاطبين بهذا البناء ، فعلى هذا لو كان بناء الشارع كذلك فلم ، لم يقول أبدا بذلك البناء ، مع أنّه في مقام بيان مراداته فلو كان مراده غير ظاهر الألفاظ يجب عليه البيان ، وقبيح عليه أن لا يبيّن بناءه للناس ولا يكون في الأخبار عين ولا أثر عن ذلك اي ولم يكن في الأخبار ذكر من بناء الشارع على ذكر التخصيصات والتقييدات منفصلة ، فعلى هذا الوجه الذي ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله لا يمكن التعويل عليه فافهم.

ثم إنّه لا يخفى عليك أنّه كلّما كان هذا العلم الإجمالي بخلاف الظهور يجب الفحص ، ولا فرق في ذلك بين العموم وغيره ، فلو كانت الألفاظ موضوعة لمعان وحقيقة فيها ونعلم إجمالا باستعمالات بعضها في المعنى المجازي أو يكون العلم الإجمالي بخلاف ظاهر الهيئات أو المواد في استعمالات الشارع فلا بدّ له من الفحص لأجل العلم الإجمالي. فعلى هذا ولو كان ظهور الأمر في الوجوب ولكن نعلم إجمالا باستعماله في الندب كثيرا ما فلا بدّ من الفحص في العمل بالأوامر وكذا في مادة الأمر ، غاية الأمر في مادة الأمر يكون استعماله في خلاف الموضوع له نادرا ، ولكن المناط هو العلم الإجمالي ، فكلّما يكون العلم الاجمالي لا يجوز العمل إلّا بعد الفحص ، فافهم.

ثم اعلم أنّه على ما قلنا في وجه وجوب الفحص في العلم الإجمالي يكون الفرق بين العامّ والاصول العملية واضحا ، حيث إنّه في العام مع العلم الإجمالي بالتخصيص يكون العام حجّة ويكون بناء العقلاء أيضا على العمل به ويكون فيه تمام جهات الحجّية إلّا أنّ من أجل مزاحمته مع العلم الاجمالي بالتخصيص لا يمكن العمل به ،

٤٣٥

فالمقتضي في حجّية العموم يكون موجودا ولكن العلم الإجمالي يكون مانعا من العمل ، فيكون كالخبرين المتعارضين فإنّ الخبرين المتعارضين مع قطع النظر عن تعارضهما يكون مقتضى الحجية في كلّ منهما تامّا ، والمانع من العمل بهما هو التعارض.

وأمّا في الاصول العملية فليس الأمر كذلك أمّا في الاصول العقلية فحيث إنّ موضوعها هو القبح بلا بيان فمع العلم الإجمالي بالأحكام يكون هذا العلم هو البيان ، فلم يبق للأصل مع العلم الإجمالي موضوع أصلا ، فموضوع الأصل العقلي لم يكن مع العلم الإجمالي ، فعلى هذا مع العلم الإجمالي لا يكون له موضوع أصلا ولا يكون حجّة أصلا ولا يكون له مقتضي الحجّية بخلاف العموم فإنّه مع العلم الإجمالي يكون له مقتضى الحجّية.

أمّا في الاصول الشرعية كالبراءة الشرعية فأيضا لا يكون لها موضوع مع العلم الإجمالي ، لأنّه بعد الإجماع على وجوب الفحص في البراءة فيكون جريان البراءة مقيدا بالفحص. فعلى هذا لا يكون له المقتضي أصلا فإنّه قلنا سابقا لك من أنّ التخصيص إذا كان بلسان التقييد يصير سببا لعنوان العام ويصير العام معنونا ويكون العام حجّيته مقيدة. فعلى هذا عمومات البراءة الشرعية مقيّدة لأجل الإجماع بصورة الفحص ، فيكون على هذا مع العموم فرقه واضحا لما قلنا من أنّ حجّية العموم تكون تامّة ولكن حجة الأقوى وهو العلم الاجمالي مانع عن العمل به بخلاف الاصول الشرعية فإنّ الاصول الشرعية لم يكن مقتضى الحجّية فيها أصلا مع العلم الإجمالي.

فظهر لك أنّه على الوجه الذي قلنا من وجوب الفحص في العام يكون الفرق بين العام والاصول العملية واضحا ، فإنّ الفحص هنا يكون عمّا يزاحم الحجّة ، وأمّا في الاصول العملية فلا تكون حجّة مع عدم الفحص أصلا.

٤٣٦

وأمّا على التوجيه الذي قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في وجوب الفحص من أنّ وجوب الفحص يكون لأجل معرضية العموم للتخصيص ، فعلى هذا المبنى إمّا لا يكون مع عدم الفحص ظهور للعموم وإمّا لو كان للعموم ظهور لا يكون حجّة مع معرّضيته للتخصيص كما يظهر ممّا قلنا في توجيه كلام للمحقّق المذكور. فعلى هذا الفحص في العموم وكذا في الاصول العملية يكون عن الحجّة لا عمّا يزاحم الحجيّة ، فما قاله هذا المحقّق من أنّ في العموم يكون الفحص عمّا يزاحم الحجّة ، وأمّا في الاصول العملية فيكون الفحص عن الحجّية يصحّ على التوجيه الذي قلناه وقاله الشيخ رحمه‌الله وأمّا على ما قاله هذا المحقّق فلا يكون كلامه صحيحا.

إذا عرفت ذلك يقع الكلام في مقدار الفحص فنقول على ما قلنا من أنّ منشأ لزوم الفحص يكون هو العلم الاجمالي فيلزم الفحص بمقدار ينحل العلم الإجمالي ، فإذا انحلّ العلم الإجمالي يكفي الفحص وربّما يكون انحلاله مختلفا بالنسبة الى الأشخاص من جهة تضييق دائرة علمه وسعته ، مثلا يعلم إجمالا أحد مخصصات عمومات الطهارة الّتي تكون في باب الطهارة مثلا ، فإذا تفحّص ينحلّ علمه الإجمالي ويكفيه ذلك الفحص إن لم يكن مخطئا في مقدمات علمه الإجمالي وتارة يكون أحد يعلم إجمالا بأنّ مخصّصات عمومات الطهارة مثلا يكون في باب الطهارة وغيرها ، فيجب عليه الفحص في تمامها حتى ينحلّ علمه الإجمالي فالمناط هو انحلال علمه الاجمالي ، وأمّا على توجيه المحقّق الخراساني رحمه‌الله فى وجوب الفحص فيجب بمقدار يخرج العام عن معرضيته للتخصيص ، فما دام لم يخرج العام عن معرضيته للتخصيص يجب الفحص.

٤٣٧

فصل هل الخطابات الشفاهية مثل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

يشمل الغائبين بل المعدومين ، أو يكون

مختصّا بالمشافهين فقط؟

هل الخطابات الشفاهية مثل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يشمل الغائبين بل المعدومين ، أو يكون مختصّا بالمشافهين فقط؟ اعلم أنّه لا ينبغي النزاع في أنّه لا يمكن التكليف الحقيقي بالمعدومين حيث إنّ التكليف الحقيقي أثره هو انبعاث المكلّف نحو العمل ، والمعدوم لا يمكن له ذلك ، وهذا ممّا لا شبهة فيه ، ولا يكون عدم قابلية تكليف المعدومين لأجل أنّ التكليف يكون هو إرادة الفعل والإرادة تكون قائمة بالمريد والمراد فتحتاج الإرادة الى المراد كما تكون محتاجة الى المريد حتى يقال في جوابه بأنّ الإرادة لا تكون كذلك ، بل هي قائمة بالمريد وصفة قائمة بالمريد ولا تكون صفة قائمة بالمريد والمراد كي لا يمكن الارادة بدون المراد.

بل العلّة هو ما قلنا من أنّ التكليف الحقيقي حيث يكون لازمه هو حصول الكلفة للمكلّف حين التكليف به ، فلا يمكن ذلك في المعدوم ، وكذلك لا إشكال في عدم إمكان الخطاب الحقيقي للمعدوم أيضا ؛ لأنّ الخطاب ليس هو مجرّد توجيه الكلام نحو

٤٣٨

الغير ، بل حقيقة الخطاب هو توجيه الكلام نحو الغير للتفهيم ، ولا إشكال في عدم إمكان ذلك للمعدوم ولا يمكن التفهيم به ، فإذا لا يمكن الخطاب الحقيقي به.

إذا عرفت ذلك من عدم إمكان توجيه الخطاب الحقيقي والتكليف الحقيقي للمعدوم فيمكن أن يقال : إنّه ولو لم يمكن ذلك للمعدوم ، لكنّه يمكن تصوير تعلّق الحكم بالمعدوم بنحو آخر ، وهو أن يقال : إنّه كما يكون فى طرف المكلّف به تارة الحكم به بنحو القضية الخارجية ، كذلك يمكن أن يكون الحكم تارة بنحو القضية الحقيقية ، مثلا تارة يتعلّق الحكم بطبيعة الصلاة بما هي في الخارج يعني تعلّق الحكم بأفرادها الخارجية وتعلّق الحكم بالأفراد وفي هذا القسم تعلّق الحكم يكون بالأفراد أوّلا وبالذات ، ولو تعلّق الحكم بالطبيعة يكون من باب أنّه مرآة للأفراد ، فالحكم أوّلا وبالذات يكون متعلّقا بالفرد.

وتارة يتعلّق الحكم بالصلاة لا بلحاظ كون أفرادها في الخارج ولا يتعلّق الحكم بالأفراد ، بل يتعلّق بصرف الطبيعة ، غاية الأمر كلّما وجد فرد للطبيعة يسري إليه الحكم كذلك يمكن أن يكون تعلّق الحكم بالمكلّف أيضا كذلك ، فتارة يتعلّق الحكم بالأفراد الخارجية وبما هو فرد في الخارج ، ويكون بنحو القضية الخارجية ، وقلنا بأنّ في هذا القسم يكون تعلّق الحكم أوّلا وبالذات بالفرد ، ولو تعلّق بالطبيعة يكون من باب أنّها مرآة للأفراد ، فافهم.

وتارة يتعلّق الحكم بالمؤمن مثلا لا بلحاظ كونه موجودا في الخارج ، بل تعلّق بنفس الطبيعة ، غاية الأمر بلحاظ الأفراد ، فكلّما وجد في الخارج فرد للمؤمن يصير التكليف بالنسبة اليه فعليّا ويسري اليه الحكم فيمكن الحكم بهذين النحوين في المكلف به وكذلك في المكلف ، غاية الأمر فيما تعلّق الحكم بنفس الطبيعة وتكون الطبيعة مركب الأمر والنهي بلحاظ كونها موجودة في الخارج ، حيث إنّ الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي فلا تكون قابلة للأمر والنهي فيكون الحكم بالنسبة الى

٤٣٩

الطبيعة بلحاظ وجود الفرد فكلّما وجد فرد للطبيعة يسري اليه الحكم ، ولا يكون محتاجا الى أمر آخر ، ولكن هذا الحكم بالنسبة الى الفرد لا يكون حكما حقيقيا كي يجب الانبعاث اليه حتى يقال : إنّ المعدوم لا يمكن فيه ذلك ، بل يصير الحكم حقيقيا إذا وجد الفرد ، فبوجود الفرد يصير الحكم بالنسبة الى هذا الفرد حقيقيا ولو لم يكن حقيقيا بالنسبة الى فرد آخر ، وهذا لا إشكال فيه.

فعلى هذا يمكن تعلق الحكم بالمعدوم بهذا النحو ولا يكون ذلك بحكم حقيقي ، بل يكون نظير الحكم الإنشائي ، فإذا وجد الفرد يصير حقيقيّا ولا يكون الحكم الإنشائي الاصطلاحي ، حيث إنّ الحكم الإنشائي يكون في مرتبة الإنشاء فقط ، ولكن هنا يكون الحكم من جميع الجهات بالنسبة الى الطبيعة تامّا ، غاية الأمر إذا وجد الفرد يكون الحكم بالنسبة اليه حقيقيا.

فعلى هذا لا يكون قصور من ناحية الحكم ، فإذا وجد الفرد يصير بالنسبة اليه فعليا ، بل يكون القصور من ناحية المكلّف به أو المكلّف. ولا إشكال في إمكان الحكم كذلك ، ولا فرق بين المكلّف والمكلّف به من هذه الجهة ، فكما يمكن الحكم بهذا النحو في المكلّف به فيأمر بطبيعة إكرام الانسان مع عدم وجود أفراد الإنسان ، فكلّما وجد فرد للانسان يجب إكرامه فكذلك كان في ناحية المكلّف أيضا ، فيحكم بحكم بطبيعة المؤمن ، غاية الأمر كلّما وجد فرد له يصير الحكم بالنسبة اليه فعليا.

إذا عرفت ذلك أنّه يمكن أن يحكم المولى بهذين النحوين فنقول : إنّه لو حكم المولى بنحو القضية الطبيعية لم يكن مرتكبا لمجاز ، وكذلك لو حكم بنحو القضية الخارجية أيضا لم يكن مجازا ، لأنّه قلنا من أنّه يمكن الحكم بكلا النحوين.

فنقول في المقام : إنّه ولو كان الحكم بكلا النحوين ممكنا ولا إشكال في أنّه كما يمكن تعلّق الخطاب بالموجودين كذلك يمكن تعلّق الخطاب بالمعدومين أيضا كما وقع

٤٤٠