المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-31-0
الصفحات: ٤٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

فالطبيعة المحررة وبلا قيد تكون منفيّة باعتبار الصفة.

فظهر لك أنّ النكرة في سياق النفي تكون مفيدة للعموم وتكون مثل ذلك النكرة في سياق النهي وبابهما واحد. فعلى ما قلنا من استفادة العموم من النكرة في سياق النفي نقول في النكرة في سياق النهي.

وممّا قالوا بإفادته للعموم هو الجمع المحلّى بالألف واللام فنقول : أمّا المفرد المعرف بالألف واللام فلا يفيد العموم ؛ لأنّ مدخوله لا يكون دالّا الا على الطبيعة مهملة فلفظ (الرجل) مع قطع النظر عن الألف واللام يكون نكرة ولا يدلّ إلّا على الفرد غير المعيّن ، فإذا دخل عليه الألف واللام يصير معيّنا ، فالألف واللام لا يدل إلّا على التعيين ، فإن كان في البين عهد فالمراد يكون المعهود ، وإن لم يكن عهد في البين فبمقتضى مقدمات الحكمة نقول : إنّ المراد يكون تمام أفراد الطبيعة ، وهذا معنى الإطلاق لا العموم كما قلنا ، حيث إنّ الحكم يكون على الطبيعة على ما قلنا لك ، فظهر لك أنّ المفرد المحلّى بالألف واللام لا يفيد العموم.

إذا عرفت ذلك فنقول في الجمع المحلّى بالألف واللام : إنّ الجمع يكون دالّا على الأفراد بمعنى أنّه يفيد أنّ الأفراد مرادة فإذا قال : (علماء) مثلا يستفاد منه أفراد من العلماء ، غاية الأمر لا يدلّ على أنّ المراد من (علماء) يكون أقلّ الجمع أو أكثر. فعلى هذا لا يكون المراد من الجمع إلّا الأفراد من الطبيعة ، فبعد ثبوت ذلك نقول : إنّه إذا دخل عليه الألف واللام فيكون دخول الألف واللام سببا للتعيين فإن كان عهد ذكري أو ذهني أو خارجي في البين فنعلم أنّ المراد يكون هو المعهود ، وأمّا إن لم يكن عهد في البين فبمقتضى مقدمات الحكمة نحكم بالعموم ، لأنّه لو كان مراده أقلّ أفراد الجمع أو مرتبة خاصة يجب بمقتضى الحكمة بيانه بعد ما كان في صدد بيان مراده ، وحيث لم يبيّن نفهم أنّ مراده يكون تمام الأفراد التي يكون الجمع قابلا للصدق عليها لأجل مقدمات الحكمة.

٤٠١

فقد ظهر لك أنّ الجمع المعرّف بالألف واللام يكون مفيدا للعموم ، والسرّ في ذلك هو ما قلنا من أنّ الحكم فيه يكون على الأفراد لا على الطبيعة بخلاف المفرد المعرّف بالألف واللام ولكن ما قلنا من عدم إفادة المفرد المعرّف بالألف واللام للعموم يكون فيما لا يكون قرينة في البين ، وأمّا إذا كان قرينة في البين كما في مورد الاستثناء فيفيد العموم. والسرّ في ذلك هو أنّ الاستثناء شاهد على أنّ الحكم يكون على الأفراد ، فإذا كان الحكم على الطبيعة باعتبار الأفراد فيفيد العموم ، فافهم واغتنم.

٤٠٢

فصل

إذا خصص العام بتخصيص

إذا خصص العام بتخصيص فلا إشكال في عدم حجّيته بالنسبة الى مورد التخصيص ، وأمّا كونه حجّة فيما بقي لا في مورد التخصيص ، بل فيما بقي من العام فيكون مورد خلاف.

لا إشكال في أنّ سيرة العقلاء تكون على العمل بالعام الذي خصّص بالنسبة الى بعض أفراده فيما بقي منه ، فلو ورد عام وخصّص بالنسبة الى بعض أفراده يكون العامّ فيما بقي من أفراده حجّة بلا ريب ولا خلاف وتكون سيرتهم على ذلك ، لكنّه حيث اشكل في المقام وقع مورد الخلاف.

وجه الإشكال أنّه بعد ما لا يكون للعام إلّا ظهور واحد ويكون حجّة في تمام الأفراد بمقتضى انعقاد الظهور فإذا ورد التخصيص فيرتفع الظهور فيصير مجملا ، حيث إنّا لا نعلم بأنّه يكون ظاهرا وحجّة في أي مرتبة ، وهذا معنى الإجمال فلأجل هذا الإشكال توهّموا بأنّه لم يكن العامّ حجّة فيما بقي من أفراده غير مورد التخصيص. وقد تصدّى بعض لدفع هذا الإشكال وكون العامّ حجّة في الباقي بأجوبة والمهمّ منها جوابان :

الأوّل : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّ استعمال العام فيما بقي من أفراده لا

٤٠٣

يكون مجازا ، بل يكون حقيقة وحجّة فيما بقي من الأفراد لأنّه بعد ما كان منشأ الظهور وحجّية العام في أفراده هو تطابق الإرادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية بمعنى أنّ الإرادة الاستعمالية حيث كانت مطابقة مع الارادة الجدية فإذا استعمل العام نكشف العموم ونقول بكونه حجّة في جميع الأفراد ، فإذا فهمنا تطابق الارادة الجدية مع الارادة الاستعمالية نكشف مراد المتكلم وإلّا بصرف الارادة الاستعمالية مع قطع النظر عن الإرادة الجدية لا يكون كشف المراد ممكنا.

فعلى هذا نقول بأنّ العامّ بعد ورود التخصيص عليه نعلم أنّه بالنسبة الى مورد التخصيص لم يكن حجّة لعدم تطابق الارادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية وأمّا فيما عداه فيكون التطابق محفوظا ولكن مع ذلك لا يكون استعمال العام مجازا حيث إنّه استعمل العام في معناه الحقيقي وهو تمام الأفراد ولكن لا يكون حجّة في تمام الأفراد لأجل التخصيص ، فظهور العام باق بحاله فإذا كان ظهور العام باق بحاله فيكون العام فيما بقي حجّة ، وهذا لا ينافي التخصيص حيث إنّ استعمال العام في تمام الأفراد حتى في مورد التخصيص يكون ضربا للقانون ، فاستعمال العام في تمام الأفراد يكون من باب جعل القانون والقاعدة في طرف الشكّ فيكون حقيقة حيث إنّ الحقيقة والمجاز يكونان من تبعات الارادة الاستعمالية ولكن حجيّة العام مقصورة بما بقي من أفراده أي غير مورد التخصيص ، لأنّه في مورد التخصيص لا تكون الارادة الجدّية على طبق الإرادة الاستعمالية فلا يكون العام حجّة في مورد التخصيص ، لأنّ الحجية موقوفة على تطابق الارادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية ، فأصالة التطابق بالنسبة الى غير مورد التخصيص محفوظة وأما في مورد التخصيص لم تكن أصالة التطابق محفوظة لأجل الحجّة على الخلاف.

ولكن لا يخفى عليك عدم تمامية هذا الكلام حيث إنّ ما قاله من أنّ الحقيقة والمجاز تكونان من تبعات الارادة الاستعمالية ، فإذا استعمل اللفظ في معناه الحقيقي يكون

٤٠٤

حقيقة ولو لم يكن بمراده الجدي ، ويكون من هذا القبيل باب الكنايات فلا تكون الكناية مجاز حيث إنّه قد استعمل اللفظ في معناه الحقيقي فإذا قلت : (زيد كثير الرماد) قد استعملت الكثير في معناه الحقيقي والرماد أيضا في معناه الحقيقي ولهذا لم يكن مجازا ، لكن مع هذا لا يكون هذا مرادك الجدّي ، بل يكون مرادك الجدي هو بيان سخاوة زيد ، فالحقيقة والمجاز يكونان من تبعات الإرادة الاستعمالية ، ولكن الصدق والكذب يكونان من تبعات الارادة الجدية فإذا كانت الارادة الجدية مطابقة مع الارادة الاستعمالية تكون القضية صادقة وإلّا كاذبة.

فعلى هذا لا يكفي في المقام صرف كون استعمال العام في تمام الأفراد يكون حقيقة ، حيث إنّه يمكن أن يكون حقيقة ومع ذلك لم يكن مرادا بالإرادة الجدية فعلى هذا نقول بعد ما لم يكن في البين إلّا ظهور واحد في العموم ، وبمقتضى أصالة تطابق الارادة الجدية مع الارادة الاستعمالية قلنا بأنّ هذا الظهور يكون حجّة ، ولكنّه بعد التخصيص من المفروض أنّ التطابق لم يكن في تمام الأفراد فيرتفع الظهور وحجّيته لأجل عدم التطابق فبما ذا تقول بكون العام حجّة في الباقي مع أنّه لم يكن في البين إلّا ظهور واحد ناش عن تطابق الارادة الجدية مع الارادة الاستعمالية ، فاذا ارتفع هذا الأصل فبما ذا يكون الظهور محفوظا حتى تقول بحجيته؟ فيبقى الاشكال.

وإن قلت : إنّه وإن كان خروج بعض الأفراد عن عموم العامّ فى الواقع مسلّما إلّا أنّ ضربا للقانون يحكم المولى بحكم عام في الظاهر حتى يكون هو المرجع عند الشكّ بمعنى أنّه يكون العام في مقام بيان الحكم في الظاهر ، والحاصل أن تكون العمومات أحكاما ظاهرية.

فأقول : وإن كان يمكن هذا ويمكن أن يكون ورود العام في بعض الموارد لبيان حكم الشكّ وضربا للقانون ولو كان الواقع بخلافه كما يكون الأمر كذلك في مثل قاعدة الطهارة والاستصحاب ونحوهما ، إلّا أنّه لا يمكن الالتزام بذلك في تمام

٤٠٥

العمومات ، حيث إنّ العمومات تكون في مقام بيان الواقع ، وعمل العرف بها في مورد الشكّ لا يكشف عن كونها واردة في مقام ضرب القانون والقاعدة ، إذ العمل بها في موارد الشكّ يكون متفرّعا على كشف العمومات عن المرادات الواقعية ، وكون المتكلّم الذي ألقى العمومات يكون في مقام بيان الحكم الواقعي فكيف يمكن أن تكون العمومات واردة قاعدة لموارد الشكّ؟!

فظهر لك أنّ توجيه المحقّق الخراساني لم يكن في محله.

الجواب الثاني : وهو الذي يظهر من تقريرات الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه هو أنّه لا إشكال في أنّ دخول أداة العموم كالعلماء مثلا يصدق على تمام الأفراد ويكون قابلا للصدق على الأفراد وأداة العموم تكون لبيان الشمول وأنّ المراد هنا يكون تمام الأفراد فأداة العموم تكون كالسور للقضية وتكون لبيان الحدّ ولا إشكال في أنّه كما قلنا سابقا من أنّ الحكم بإكرام العلماء مثلا ينحلّ الى أحكام عديدة ولا يكون حجّية العام في فرد موقوفا على حجّية فرد آخر ، وهذا معنى ما قاله من أنّ شمول العام لفرد غير مرتبط بشموله لفرد آخر.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه بعد ما ورد التخصيص فتارة يكون على نحو ينهدم السور لأجل التخصيص فيصير سببا لإجمال العام ، مثلا إذا قال : (أكرم العلماء) ثم ورد التخصيص بأنّه (لا تكرم بعض العلماء) فحيث إنّ التخصيص يصير سببا لانهدام سور القضية وأنّ الشمول لا يكون للمدخول فيصير العام مجملا ، لأنّه لا نعلم بالمراد من البعض وأمّا لو كان بحيث لا ينهدم السور ويكون باقيا بحاله مثل ما خرج فرد أو أفراد.

غاية الأمر لأجل التخصيص لا يمكن أن نأخذ في مورد التخصيص فيكون العام حجّة في الباقي ؛ لأنّ الظهور الذي جاء من قبل سور القضية باق بحاله غاية الأمر في مورد التخصيص لأجل الحجّة الأقوى لم يكن الظهور حجّة ، وأمّا في ما بقي فيكون

٤٠٦

الظهور محفوظا وحجّة والسرّ في ذلك هو أنّ في مورد التخصيص يكون الحدّ محفوظا بمعنى أنّ العام يكون في حال التخصيص مستعملا أيضا في تمام أفراده ويخرج فرد لأجل التخصيص من الحدّ ، مثلا إذا قلت : (أكرم العلماء) ثم قلت : (لا تكرم زيدا) فالعلماء يكون مستعملا في تمام العلماء والسور وهو الألف واللام أيضا يكون شاملا لجميع أفراد العلماء ، غاية الأمر خرّجت من العلماء زيدا ، فخروج زيد يكون من الحدّ كما تقول العشرة إلّا الواحد فلا إشكال في أنّ العشرة استعملت في معناها ولكن خرّجت منها الواحد وإن لم يكن الواحد داخلا في الحدّ لم يكن الإخراج صحيحا ؛ لأنّ الإخراج يكون فرع الدخول.

فظهر لك أنّ العام مستعمل في معناه ولو في حال التخصيص ، غاية الأمر خرج مورد التخصيص من الحدّ ، وحيث إنّ الخروج يكون من الحدّ ومن سور القضية يكون العام في الباقي مجازا ؛ لأنّ الحقيقة هو ما يكون تمام الأفراد موضوعا وحكما داخلا في الحدّ فمع حفظ الحدّ خروج الفرد يكون سببا لكون العامّ في الباقي مجازا ، ولكن مع هذا يكون حجّة ؛ لأنّ الحجّية لا تدور مع كون العام في الباقي حقيقة ، بل ولو كان العام في الباقي مجازا يمكن أن يكون حجّة في الباقي ؛ لأنّ الظهور محفوظ.

فظهر لك أنّ العام المخصّص يكون حجّة في الباقي سواء كان المخصّص متصلا أو منفصلا ، حيث إنّ في كلّ منهما لم يكن المخصّص سببا لانهدام الظهور والظهور باق وفي مورد التخصيص لم يكن حجّة لأجل التخصيص ، وأمّا في غير مورد التخصيص فيكون العام حجّة وأحسن بيان البيان الذي قال : إنّ المقتضي يكون موجودا والمانع مفقودا ، فظهر لك أنّ العام المخصّص حجّة في الباقي ولو كان مجازا ، وما قاله الشيخ رحمه‌الله أحسن الوجوه في الباب ، فتأمّل جيدا.

٤٠٧

فصل

إذا كان الخاص مجملا فهل يسري إجماله بالعام حتى

يصير العام مجملا أيضا أم لا؟

إذا كان الخاص مجملا فهل يسري إجماله بالعام حتى يصير العام مجملا أيضا أم لا؟

اعلم أنّ إجمال الخاص إمّا يكون من أجل دورانه بين المتباينين وإمّا يكون من أجل دورانه بين الأقلّ والأكثر ، وفي كلّ منهما إمّا تكون الشبهة في المفهوم أو في المصداق ، وفي كلّ من الفروض الأربعة إمّا يكون في المخصّص المتصل ، وإمّا يكون في المخصّص المنفصل ، فالصور في المسألة تكون ثمانية.

إذا عرفت ذلك فنقول : إذا كان إجمال الخاص من جهة دورانه بين المتباينين أو بين الأقلّ والأكثر ، سواء كانت الشبهة في المفهوم أو في المصداق يكون المخصّص متصلا لا يجوز التمسّك بالعام عند من يقول بأنّ الظهور لا ينعقد إلّا بعد تمامية كلام المتكلم فعلى هذا قبل تمامية كلام المتكلم لا ينعقد الظهور ويعدّ تمامية كلامه فالقدر المسلّم من انعقاد الظهور يكون في غير مورد التخصيص ، وهذا واضح على مبنى من يقول بأنّ الظهور لا ينعقد إلّا بتمامية كلام المتكلم. نعم ينبغي البحث في أصل المبنى ويأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

٤٠٨

وأمّا إذا كان الخاص مردّدا بين المتباينين سواء كانت الشبهة في المفهوم أو في المصداق وكان التخصيص منفصلا يسري إجماله الى العام ؛ لأنّ العام حجّة لأنّه كاشف عن المراد الواقعي ، فإذا قال : (أكرم العلماء) ينعقد الظهور ويكون الظهور حجّة ، فإذا ورد التخصيص مثلا قال : (لا تكرم الفسّاق) فحيث إنّ هذا أيضا كاشف عن المراد الواقعي فيكون التخصيص كاشفا عن أنّ المراد الواقعي للمولى يكون في غير مورد التخصيص ، فيجب إكرام العلماء الغير الفسّاق ، وحينئذ فلو كان الخاص مجملا من جهة دوران أمره بين المتباينين فحيث إنّ التخصيص دال على تقييد مراد المولى بشىء غير معيّن فيكون موجبا لإجمال العام كالمخصص المتصل ، لأنّه نعلم إجمالا بخروج فرد من العام. فعلى هذا لا يمكن التمسك بالعام ويصير مجملا.

وأمّا اذا كان إجمال الخاص من جهة دوران أمره بين الأقلّ والأكثر فإن كانت الشبهة في المفهوم وكان المخصّص منفصلا يجوز التمسك بالعام ، ولا يصير إجمال الخاص سببا لإجمال العام ؛ لأنّ العام ينعقد ظهوره ويكون ظهوره حجّة ، فإذا ورد التخصيص فيخصّص العام لأجل الحجّة الأقوى ، وما يكون الخاص حجّة فيه متيقنا يكون في الأقلّ وأمّا في الأكثر فيكون مشكوكا فيكون العام حجّيته بالنسبة الى الأكثر باقية ، فيكون حجّة فيه فلا يكون مجملا.

وأما إذا كان إجمال الخاص من جهة دوران أمره بين الأقلّ والأكثر وتكون الشبهة في المصداق ويكون المخصص منفصلا فهل يوجب إجمال الخاص إجمال العام ويسري إجماله اليه بمعنى أنّه يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية أم لا؟ فما عليه نوع المتأخرين هو عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، ولكن يظهر من بعض جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية فنقول ما قاله في وجه الجواز ، فإذا ظهر جوابه يظهر الحقّ وهو عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقية فنقول : عمدة ما استدلّ لجواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية يكون ثلاثة وجوه :

٤٠٩

الوجه الأوّل : أنّه بعد ما كان المخصّص منفصلا فالمفروض أنّ ظهور العام ينعقد ويكون حجّة في تمام الأفراد ، والقدر المسلّم من عدم حجّيته يكون بالنسبة الى الفرد المعلوم خروجه لأجل التخصيص ويكون العام حجّة في الفرد المشكوك ، حيث إنّ ما لم يقم حجّة على الخلاف يكون العام حجّة ، والمفروض أنّ الحجّة على الخلاف غير معلومة فيكون العامّ في المشكوك حجّة ، ولو كان الشكّ في الشبهة المصداقية كما تقول في الشبهة من حيث المفهوم كيف؟ والحال أنّك تقول في الاصول العملية بحجّية عموماتها حتى في الشبهات المصداقية مثلا بمقتضى (كلّ شيء لك حلال) تقول في فرد شكّ في خمريته مع ثبوت حرمة الخمر بأنّ شرب هذا الفرد المشكوك يكون حلالا ، والحال أنّ الشبهة تكون مصداقية ففي الاصول العملية التي تكون أضعف من الاصول اللفظية التي تقول بحجّيتها في الشبهات المصداقية وأمّا إن لم تقل بهذا في الاصول اللفظية والحال أنّ الاصول اللفظية تكون أقوى من الاصول العملية.

وأمّا الجواب عن هذا الوجه أنّه ما قلت من أنّ العام ثبتت حجّيته في الفرد والتخصيص مشكوك نقول بأنّ الرجوع الى العام يكون لأجل كشف مراد المتكلم في صورة الشك ، فإذا رجعنا الى العام نكشف مراد المتكلم ويمكن كشف مراد المتكلم ، وأمّا كلّ مورد يكون مراد المتكلم معلوما فلا يكون للرجوع الى العام وجه ، حيث إنّ العام حيث كان كاشفا عن مراد المولى يكون حجّة ويلزم العمل بمقتضاه.

فنقول فيما خصّص العام ونشكّ في فرد أنّه يكون فرد العام حتى يكون محكوما بحكم العام أو يكون فرد الخاص حتى يكون محكوما بحكم الخاص ، فلا إشكال في أنّ مراد المولى يكون معلوما ، فعلى هذا لا يزيدنا الرجوع الى العام شيئا ، مثلا إذا قال : (أكرم العلماء) و (لا تكرم الفسّاق) فنعلم أنّ مراد المولى يكون إكرام العلماء الذين يكونون غير فاسقين ولكن نشك في زيد بأنّه هل يكون فاسقا حتى لا يجوز

٤١٠

إكرامه ، أو يكون غير فاسق حتى يكون إكرامه واجبا؟ فعلى هذا في المورد لا يمكن الرجوع الى العام حيث إنّ المراد من الفاسقين معلوم والشكّ يكون في أمر آخر ، والعام لا يكون متكفلا لبيان هذه الجهة. فعلى هذا لا يجوز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية.

وأمّا في الاصول العملية ولو أنّه تكون شبهاتها المصداقية حجّة لكن تكون لأجل خصوصية فيها وهو أنّ في الاصول العملية يؤخذ العلم غاية لارتفاع حكمها فقال : كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام فحيث إنّ العلم يكون غاية لها فما دام لم يعلم بالحرمة يكون له حلالا ، ففي الفرد المشتبه حيث لم يعلم حرمته حلال له ، وهذا يكون بخلاف الاصول اللفظية فلم يؤخذ فيها العلم غاية حتى يمكن القول بجواز التمسّك فيها في الشبهات المصداقية ، فافهم.

الوجه الثاني : ما قاله الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه بأنّ العام يكون في مقام بيان المقتضي مثلا إذا قال : (أكرم العلماء) يكون في مقام بيان أنّ العلم يكون مقتضيا للإكرام ، والتخصيص يكون في مقام بيان المانع فإذا قال (لا تكرم الفسّاق) يكون في مقام بيان أنّ الفسق يكون مانعا عن الإكرام ، فبعد ما كان العام في مقام بيان المقتضي والخاص يكون في مقام بيان المانع فكلّما شكّ في وجود المانع يكون الأصل عدم المانع فيكون العمل بالمقتضي لازما.

والجواب عن هذا الوجه هو أن يقال : إنّه أوّلا : الصغرى ممنوعة ، فما قاله من أنّ العام يكون دائما في مقام بيان المقتضي ليس صحيحا ، حيث إنّ العام تارة يمكن أن لا يكون في مقام بيان المقتضي أصلا ، بل يكون في مقام بيان الشرط او الجزء مثل ، «لا صلاة إلّا بطهور» ، بل تارة يمكن أن يكون في مقام بيان المانع.

وثانيا : أنّه لا دليل على أنّه كلّ مورد يكون المقتضي معلوما ويكون الشكّ في المانع يكون مقتضي القاعدة هو عدم المانع والشيخ رحمه‌الله أيضا لا يعترف بذلك مطلقا ،

٤١١

فعلى هذا الكبرى ممنوعة.

وثالثا : لو سلّمنا هذه القاعدة ولكن يكون هنا في مقام أنّ ما حكم الأصل اللفظي وأنّه يمكن أن يكون العام شاملا للمورد أم لا ، وما قاله على فرض تسليمه لا يستفاد من العام ، بل يكون بمقتضى الأصل العملي هو قاعدة المقتضي والمانع ، وهذا لم يكن مرتبطا بالمقام ، لأنّا نكون في مقام بيان شمول الأصل اللفظي للمورد ، وهذا البيان لم يثبت ذلك ، فظهر ان هذا الوجه أيضا غير صحيح.

الوجه الثالث : وهو الذي يظهر من كلمات الآخوند ملّا علي النهاوندي رحمه‌الله وهو أنّه يكون في كلّ عام إطلاق أيضا ، بمعنى أنّه يستفاد من العام شيئان الأوّل العموم لتمام الأفراد ، الثاني : الإطلاق لتمام حالات الأفراد ، مثلا إذا قال : (أكرم العلماء) فيستفاد منه عموم بالنسبة الى تمام افراد العلماء فيجب بمقتضى هذا العموم وجوب إكرام تمام أفراد العلماء ، ويستفاد منه أيضا الإطلاق وهو أنّ حكم العام في الفرد يكون في جميع حالاته ، فزيد الذي يكون مثلا من أفراد العلماء يجب إكرامه بمقتضى العموم ويجب إكرامه في جميع حالاته بمقتضى الإطلاق فيجب إكرام زيد في كلّ حال أسودا كان أو أبيضا ، صحيحا كان أو مريضا ، عادلا كان أو فاسقا ، فيستفاد من العام حكمان حكم في الفرد بمقتضى عمومه وحكم لحالات الفرد بمقتضى الإطلاق.

إذا عرفت ذلك فنقول : إذا ورد الخاص وقال مثلا : (لا تكرم الفسّاق) فيخرج من العموم الفاسق ، فخرج من العام كلّ فرد يكون فاسقا ، فالحكم الذي يستفاد من العموم وهو أنّ كلّ فرد يجب إكرامه يخصّص فلا يجب إكرام من كان فاسقا واقعا ، فكلّ مورد نعلم بفسق أحد نحكم بعدم جواز إكرامه بمقتضى التخصيص ، وأمّا كلّ مورد لم نعلم بفسقه سواء علمنا عدالته أو كنّا شاكّين في عدالته وفسقه فنحكم بوجوب إكرامه أمّا في الفرد المعلوم عدالته فلأجل العموم الذي استفدنا من العام ،

٤١٢

وأمّا في الفرد المشكوك فلأجل الإطلاق فمن المفروض أنّ ما خرج من العام هو حال فسقه وأمّا حالة شكّه فباقية تحت العام. هذا التوجيه الذي قاله لجواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية.

وقد أورد عليه بعض ويكون منشأ ايراده هو تخيّل أنّه كان في مقام بيان أنّ الحكم في حال الشكّ والعلم يستفاد من العموم ولكن على ما قلنا ظهر لك أنّه يكون في مقام بيان أنّ الحالات الطارئة لا تستفاد من العموم بل تستفاد من الإطلاق قد أورد بعض عليه أيضا بأنّه لا يمكن أن يستفاد من عموم العام أحكام ثلاثة حكم في الفاسق الواقعي وحكم في العادل الواقعي وحكم في المشتبه العدالة والفسق ؛ لأنّ العام يكون في مقام بيان الحكم الواقعي لا في مقام بيان الحكم الظاهري.

ولكن ظهر لك ممّا قلنا عدم ورود هذا الايراد حيث إنّه لم يقل بأنّه يستفاد من عموم العام أحكاما ثلاثة حتى يرد عليه ما قالوا بل يقول : إنّه ما يستفاد من عموم العام هو الحكم بالنسبة الى تمام الأفراد فيثبت بأكرم العلماء وجوب إكرام كلّ فرد منهم العادل الواقعي ومنهم الفاسق الواقعي فلا يثبت بالعام إلّا حكم الأفراد ، وأمّا حكم الحالات فقال بأنّه يستفاد من الإطلاق ، فحالة الشكّ في العدالة والفسق تكون مستفادة من الإطلاق فلم يكن هذا الايراد واردا عليه.

وأيضا أورد عليه بعض بأنّه كيف يمكن استفادة الحكم الواقعي والظاهري من العام في عرض واحد مع أنّهما يكونان طوليّين مع أنّه يلزم اجتماع اللحاظين؟

ولكن ظهر أنّ هذا الايراد أيضا يرد لو كان المستدلّ في مقام بيان استفادة الحكم الواقعي والظاهري من العموم وأمّا على ما بيّنا كلامه فيظهر لك أنّ مدّعاه هو أنّ الحكم الواقعي مستفاد من العموم والحكم الظاهري مستفاد من الإطلاق ، فلا يكونان عرضيّين ، ولا يلزم أيضا اجتماع اللحاظين ، لأنّه كما قلنا في باب «كل شيء طاهر» الذي قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّه يستفاد منه الحكم الواقعي والظاهري

٤١٣

أنّه لا يكون غرضه أنّ الطاهر استعمل في المعنيين ، بل الطاهر لا يكون له إلّا معنى واحد ولكن في مورد العلم بجعل الطهارة الواقعية ، وفي مورد الشكّ يجعل الطهارة الظاهرية.

فعلى هذا هنا نقول بأنّ اجتماع اللحاظين يلزم إذا استعمل (العلماء) في العالم الواقعي والظاهري ولكن لا يكون كذلك بل (العلماء) لم يستعمل إلّا في معناه ، غاية الأمر الحكم الظاهري يستفاد من الإطلاق والحكم الواقعي من العموم ، ولا إشكال فيه.

فظهر لك أن بهذه البيانات لم يدفع الإيراد ، بل إن كان في البين دليل آخر على فساد هذا الوجه فهو ، وإلّا هذه الأجوبة لم تكن جوابا.

فنقول بعون الله تعالى : إنّ ما قاله من أنّه يستفاد من العام عموم وإطلاق يكون في محلّه إلّا أنّ الإطلاق لا يكون مستقلّا في مقابل العموم ، بل الإطلاق يكون بتبع العموم ، مثلا إذا قال : (أكرم العلماء) فيشمل عمومه تمام أفراد العلماء فيشمل الفاسق والعادل فإذا شمل العموم الفرد الذي كان فاسقا فيكون الفرد الفاسق واجب الإكرام ، فبتبع هذا الحكم يكون الإطلاق ، ومعنى الإطلاق لا يكون إلّا تسرية الحكم الذي كان في الفرد في جميع حالاته ، فببركة الإطلاق يسري حكم الفرد الى جميع حالاته ، فيجب إكرام الفاسق مثلا في حال قيامه وقعوده ، وكذلك جميع حالاته فيجب مثلا إكرام زيد العالم في تمام حالاته فاسقا كان أو عادلا أو مشكوك العدالة والفسق.

فظهر لك ممّا قلنا أنّ الإطلاق لا يكون مقتضيا لحكم آخر في مقابل العموم ، بل معنى الإطلاق هو تسرية حكم العموم الذي يكون في الأفراد الى جميع حالاتهم. إذا عرفت ذلك فنقول بعد ورود التخصيص خرج من العموم مورد التخصيص قطعا ، فإذا خرج مورد التخصيص فالاطلاق الذي يكون في الفرد المخرج أيضا يرتفع ،

٤١٤

حيث إنّ الإطلاق تابع لحكم العموم على الفرد المخرج ، فإذا ارتفع حكم العموم يرتفع حكم الإطلاق أيضا ، فلا يكون إطلاق حتى يتمسّك به في مورد الشك.

فعرفت أن الخلط ينشأ من جهة أنّه تخيّل أنّ الإطلاق يكون في مقابل العموم وأنّ حكمه حكم غير العموم فقال بالتمسّك في الشبهات المصداقية بالعام ، ولكن عرفت أنّ للإطلاق لم يكن حكم آخر وراء حكم العموم ، فانقدح لك أنّ التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية غير جائز.

ثم إنّه لا يخفى عليك أنّه يظهر من كلمات الشيخ رحمه‌الله والمتأخّرين عنه أنّه لا يجوز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية إذا كان المخصّص لفظيا ، وأمّا إذا كان المخصّص لبّيا فجائز التمسّك بالعام في شبهاته المصداقية.

وعمدة ما قالوا في وجه جواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية يكون وجهين :

الوجه الأوّل : هو الذي يظهر من كلمات الشيخ الأنصاري رحمه‌الله وهو قال : إنّ ما قلنا من عدم جواز التمسّك بالعام في شبهاته المصداقية إذا كان لفظيا يكون لأجل أنّه في المخصّصات اللفظية يكون لسان المخصّص خروج العنوان ، بمعنى أنّه يخرج المخصّص عن تحت العام أفرادا بلسان العام مثلا يقول : (لا تكرم الفسّاق) فإذا كان كذلك وخرج من العموم عنوان لا يمكن التمسّك بالعام ؛ لأنّ المراد معلوم ولم نعلم أنّ الفرد يكون تحت أي العنوانين ، فبعد معلومية المراد لا وجه للرجوع الى العام ؛ لأنّ العام يكون مرجعا عند الشكّ في المراد ، ولكن في المخصّصات اللبية حيث كان لسان المخصّص خروج الفرد فإذا شكّ في فرد أنّه باق تحت العام أو يكون داخلا تحت الخاص فيكون الشكّ في الحقيقة في التخصيص الزائد ، وإذا كان الشكّ في التخصيص الزائد يكون المرجع هو العام ، ولكن لا يمكن القول بهذا في المخصّص اللفظي بحيث إنّ بعد ما كان التخصيص بلسان العنوان لا الفرد فلا يكون الشكّ في التخصيص الزائد ؛

٤١٥

لأنّ الخارج معلوم إنّما الشكّ في انطباق هذا الفرد على العام أو على الخاص فلا يمكن التمسّك بالعام وأمّا في المخصّص اللبي فلا يكون كذلك ، بل يكون الشكّ في التخصيص الزائد.

إن قلت : لا نسلّم أنّ التخصيص في المخصّصات اللبية يكون بلسان خروج الفرد بل يمكن أن يكون بلسان العنوان.

قلت : ولو كان بلسان العنوان ولكن يكون العنوان من قبيل الواسطة في العروض وأمّا في المخصّصات اللفظية يكون من قبيل الواسطة في الثبوت.

والجواب عن هذا الوجه هو أن يقال : إنّ الشيخ رحمه‌الله لم يكن معترفا بهذا الكلام ولم يكن ملتزما بأنّ التخصيص في المخصّصات اللبية يكون بلسان إخراج الفرد ، بل على ما التزمه الشيخ في باب الاستصحاب يكون حكم العقل بالعنوان الكلّي ولا يكون له حكم في الموارد الجزئية ، وبهذا قال بعدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية ، حيث إنّه لا ترديد للعقل فيكون أمره دائرا بين الوجود والعدم ، فباعترافه يكون العقل حكمه بالعنوان الكلّي فيكون التخصيص على هذا بلسان العنوان ، فما قاله من الفرق ليس بجيد ، ومع قطع النظر عن التزامه يكون الأمر أصلا كذلك ، ويكون حكم العقل بالكليات مثلا يحكم بقبح الكذب ولا يحكم بقبح أفراد الكذب ، غاية الأمر لو كان فردا للكذب يكون قبيحا ، فظهر لك فساد هذا الوجه.

الوجه الثاني : ما قاله المحقّق الخراساني وهو أن يقال : إنّه في الشبهات المصداقية إذا كان المخصّص لفظيا حيث إنّ الحجّتين تكون من ناحية المولى فيلزم تقطيع الحجّتين والقول بأنّ الحكم يكون في غير مورد التخصيص ، مثلا إذا قال : (أكرم العلماء) فيكون لازمه إكرام جميع العلماء وبعد ما ورد أنّه (لا تكرم الفسّاق) وهو أيضا يكون من ناحية المولى فبعد الجمع بين الحجّتين نحكم بأنّ حجّة المولى تكون في غير مورد التخصيص ويلزم العمل بمقدار الحجّة ، ولا يكون في الفرد المشتبه حجّة

٤١٦

فلا يجوز التمسّك بالعام فيه.

وأمّا في المخصّصات اللبّية فحيث إنّ الحجّة من قبل المولى تامة ولم يجئ من قبل المولى حجّة على خلافها فيكون العام حجّة ويلزم العمل به ، فبعد حكم العقل بعدم حكم العام في مورد التخصيص نحكم في الفرد المتيقن خروجه بعدم حكم العام ، وأمّا في الفرد المشتبه فحجّة المولى في الفرض فيه تامّة والتخصيص يكون القدر المتيقن من غير هذا المورد ، وما يمكن رفع اليد عن حجّة المولى يكون في المورد الذي كان خروجه متيقنا ، وأمّا في الفرد المشكوك فجائز التمسّك بالعام فيه.

وهذا الوجه أيضا ليس في محلّه ، لأنّه ما الفرق بين ما كان التخصيص لفظيا أو لبّيا؟ لأنّ الوجه في عدم الرجوع الى العام لا يكون إلّا لأجل عدم العلم بأنّ الفرد المشتبه يكون من أيّ الحجتين ، فكلّ ما تقول في المخصّص اللفظي نقول في المخصّص اللبّي أيضا ، فعلى هذا لا يجوز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية ، سواء كان المخصّص لفظيا أو لبّيا ، لا مطلقا ، فافهم.

ثم إنّه كما قلنا من عدم جواز الرجوع إلى العام في الشبهة المصداقية هو ما لا يكون في المورد أصل ، وأمّا إذا كان أصل يجب العمل به مثلا ، إذا كانت الحالة السابقة في الفرد هى العدالة فبمقتضى الاستصحاب نقول بعدالته فيجب بمقتضى العموم إكرامه ، أو كانت الحالة السابقة في الفرد هي الفسق فبمقتضى الاستصحاب نقول ببقاء فسقه فلا يجوز اكرامه.

ثم اعلم أنّه كلّما قلنا في الشبهات المصداقية من أنّه جائز التمسّك بالعام أم لا يكون جائزا يكون هذا النزاع فيما كان التخصيص بلسان الإخراج ، وأمّا إذا كان التخصيص بلسان التقييد فلا إشكال في عدم جواز التمسّك بالعام حتى عند من يجوّز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية مثلا إذا قال : (أكرم العلماء) ثم قال : لا (تكرم الفسّاق) ينبغي النزاع في أنّه هل يجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية أم لا؟ وأمّا

٤١٧

إذا قال : (أكرم العلماء) ثم قال في دليل منفصل : إنّه يشترط في جواز الإكرام العدالة فلا إشكال في عدم جواز التمسّك بالعام حتى عند من جوّز التمسّك بالعام في شبهاتها المصداقية ؛ لأنّ الاخراج بلسان التقييد يكون سببا لتضييق دائرة الموضوع ويكون مثل المخصّص المتصل الذي يكون الأمر في المخصص دائرا بين الأقلّ والأكثر ، وهذا أمر واضح.

ثم إنّه لا يخفى عليك أنّه قال بعض بالتفصيل في المخصّصات اللبّية بأنّه لو كان الإخراج بلسان الفرد يجوز التمسّك بالعام في الشبهة في المصداق ، وإذا كان التخصيص بلسان العنوان لا يجوز التمسّك.

بيانه : أنّ العام حيث يكون في مقام بيان الملاك يشمل كل الأفراد ويكون في كلّ الأفراد الملاك ، فإذا ورد التخصيص نكشف بأنّه في أفراد المتيقّن لم يكن الملاك إذا كان التخصيص بلسان إخراج الفرد ، وأمّا في الفرد المشكوك فلم يثبت عدم الملاك ، والمفروض أنّ العام يشمله فيجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية إذا كان لبّيا.

ولكن لا يخفى عليك أنّ هذا التفصيل لم يكن منحصرا بمخصصات لبّية بل يجري في كلّ مخصّص يكون لسانه خروج الفرد ، ففي كلّ مخصّص يكون لسانه خروج الفرد يجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية فظهر لك ممّا قلنا أنّه لا يجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية لفظيا كان أو لبّيا إذا كان التخصيص بلسان إخراج العنوان.

وأمّا إذا كان التخصيص بلسان إخراج الفرد فيجوز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية لبّيا كان أو لفظيا ، والسرّ في ذلك هو أنّ التخصيص إذا كان بلسان إخراج الفرد يكون الشكّ حقيقة في تخصيص الزائد ، لأنّه تخصيص فرد يكون معلوما ، وأمّا تخصيص الفرد المشتبه لا يكون معلوما فالشكّ يكون في التخصيص الزائد فيلزم التمسّك بالعام ، فافهم واغتنم.

إذا عرفت ذلك كلّه قلنا لك : إنّ التمسّك بالعام لا يجوز في الشبهة المصداقية إذا لم

٤١٨

يكن هنا أصل ، وأمّا إذا كان أصل في البين كالاستصحاب نحكم بمقتضى الاستصحاب ببقاء الحالة السابقة للفرد ، فإن كانت حالته السابقة موضوع العام نحكم به بحكم العام وإن كانت حالته السابقة أنّه تكون موضوع الخاص قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله إنّه لمّا كان العام غير معنون بعنوان خاص بل يكون العام معنونا بعنوان لم يكن ذاك العنوان الخاص ، مثلا إذا قال : (أكرم العلماء) ثم قال (لا تكرم الفسّاق) فيكون (أكرم العلماء) معنونا بعنوان لم يكن عنوان الخاص فيكون حينئذ المراد من (أكرم العلماء) إكرام العلماء غير الفسّاق لا أن يكون المراد العام إكرام العلماء العدول ، فاذا كان إحراز الفرد المشتبه من العام بالأصل الموضوعي في غالب الموارد ممكنا.

فببركة الأصل الموضوعي نحكم للفرد المشتبه بحكم العام في غالب الموارد ، مثلا إذا شكّ أنّ امرأة تكون قرشية فهي وإن كانت إذا وجدت امّا قرشية أو غير قرشية فلا أصل في البين كي يحرز أنّها قرشية أو غير قرشية إلّا أنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بينها وبين قريش يجدي في تنقيح أنّها ممّن لا تحيض إلّا الى خمسين ، هذا تقريبا كلامه في الكفاية وكان مراده هو أنّ العام بعد ما كان معنونا بالعنوان الذي لم يكن عنوانا للخاص ، فعلى هذا نقول بأنّه إذا قال مثلا (أكرم العلماء) فيشمل العام تمام أفراد العلماء ويشمل الإطلاق الذي يكون في العموم تمام حالات الأفراد ويشمل العموم تمام أفراد العلماء زيدا كان أو عمرا أو غير ذلك ، ويشمل الإطلاق حالات الأفراد فزيد يجب إكرامه بمقتضى الإطلاق سواء كان عادلا أو فاسقا ، سواء كان متصفا بالفسق بمفاد كان الناقصة ، وسواء كان موجودا ويوجد بوجوده الفسق بمفاد كان التامّة ، وسواء لم يكن فاسقا أيضا وكان عدم فسقه بمفاد ليس الناقصة أي حال عدم كونه متصفا بالفسق ، أو كان حال عدم فسقه بمفاد ليس التامة يعني يوجد ولم يوجد بوجوده الفسق فيشمل الإطلاق تمام هذه الحالات بلا إشكال.

٤١٩

فإذا ورد التخصيص وقال : (لا تكرم الفسّاق) فيكون العام على ما قلنا بواسطة التخصيص معنونا بعنوان لم يكن ذاك العنوان في الخاص ، فيكون المراد من إكرام العلماء هو إكرام العلماء غير الفسّاق ، فما يخرج عن عموم العام هو الفرد الذي كان متصفا بوصف الفسق ، وأمّا من لم يكن متصفا بوصف الفسق فيبقى تحت العام. فعلى هذا لو شككنا في فرد أنّه يكون متصفا بالفسق حتى لا يجب إكرامه أو لم يكن متصفا بالفسق حتى يكون إكرامه واجبا مثلا لو كان هذا فاسقا لا يجب إكرامه ، وأمّا لو لم يكن فاسقا فيجب إكرامه فالقدر المتيقّن ممّن خرج عن العموم يكون الفاسق المتصف بالفسق كان بمفاد كان الناقصة ، ولكن في هذا الفرد المشتبه الذي لم يعلم بكونه معنونا بعنوان العام أو الخاص يمكن أن يقال ببركة الاستصحاب أنّه داخل تحت العام.

فبمقتضى الاستصحاب نحكم بأنّه لم يكن فاسقا ولو بالعدم الأزلي ؛ لأنّ هذا الفرد يكون من المسلّم أنّه كان زمان لم يوجد هذا الوصف له ولو من باب عدم موضوعه أي بمفاد كان التامة أي عدم الفسق ولو في حال لم يكن هذا الفرد موجودا ونشكّ في أنّه إذا وجد وجد معه الفسق أم لا ، فبمقتضى الاستصحاب نحكم بعدم وجود الفسق معه ، فإذا ثبت بحكم الاستصحاب عدم الفسق فبمقتضى العموم نقول بوجوب إكرامه ؛ لأنّ العام لا يكون معنونا إلّا بعنوان غير العنوان الخاص فعنوان العام يكون إكرام العالم غير الفاسق ، وهذا الفرد أيضا بحكم الاستصحاب يكون غير فاسق.

فكذلك نقول في استصحاب عدم القرشية فنقول بأنّ هذه المرأة لم يكن لها انتساب لقريش ولو قبل وجودها ففي الحال نعلم بوجود المرآة ولكن نشكّ في أنّه هل وجد بوجودها الانتساب لقريش أم لا؟ فنحكم بمقتضى الاستصحاب بعدم الانتساب بينها وبين قريش فنحكم بعد الاستصحاب بمقتضى العموم أنّها إنّما ترى الحمرة الى الخمسين.

٤٢٠