المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-31-0
الصفحات: ٤٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

يجب القصر.

فظهر لك الفرق بينهما وما قاله (ره) أنّ الوجه الثاني لم يكن احتمال على حدة ويكون راجعا الى تقييد الإطلاق للعطف بأو أي الوجه الأوّل فأيضا ليس في محلّه ، حيث إنّ الفرق بينهما واضح ؛ لأنّ في الاحتمال الأوّل ينفي الثالث بمعنى أنّه في صورة عدم الشرطين نحكم بانتفاء وجوب القصر ، وأمّا على الاحتمال الثاني ليس كذلك ، بمعنى أنّه في صورة انتفاء الشرطين يكون عدم وجوب القصر ووجوب التمام يحتاج الى دليل آخر مثل البراءة. والسرّ فيه هو أنّه على هذا الاحتمال لا يكون للشرطين مفهوم.

إذا عرفت أنّ في المسألة تكون احتمالات أربع ففي مقام الاستظهار يلزم ترجيح أي احتمال من الاحتمالات ، فنقول : أمّا الاحتمال الرابع فلا يمكن الأخذ به ، لأنّه يكون خلاف ظاهر لفظ القضية ، حيث إنّ مقتضى ظهور الجملة الشرطية يكون هو أنّ الشرط علّة للجزاء ، ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّ كون الجامع سببا وشرطا وعلّة للجزاء يكون بالإطلاق وجريان مقدمات الحكمة فيها ، وأمّا كون كلّ منهما شرطا مستقلّا يستفاد من الظهور اللفظي ، ولا إشكال في تقديم الظهور اللفظي على الإطلاق.

وأمّا على ما قلنا من استفادة المفهوم بالنحو الذي قلنا أيضا لا يمكن الأخذ بهذا الاحتمال ، حيث إنّا بمقتضى إطلاق الحكم نقول بالمفهوم ، فلو قلنا بأنّ الحكم المطلق مقيّد بالجامع أيضا هذا مستفاد من الإطلاق ، فأيضا الظهور اللفظي في كون كلّ من الشرطين مستقلّا مقدّم على الإطلاق. والحاصل أنّ الأخذ بظاهر الاحتمال مخالف لظاهر اللفظ ، فافهم وتأمّل فيه جدّا.

وأمّا ما قاله المحقّق الخراساني من أنّ بعد ما ثبت من أنّ الامور المختلفة بما هي مختلفة لا يمكن أن تؤثر في شيء واحد ، ولذا قالوا بأنّ الواحد لا يصدر منه إلّا

٣٨١

الواحد فكذلك الواحد لا يؤثّر إلّا في الواحد. فعلى هذا لو قلنا بأنّ الجامع يكون شرطا وعلّة لا يلزم هذا المحذور فليس في محلّه ، لأنّه قلنا من أنّ هذا الكلام لو ثبت يكون في التأثير والتأثرات الحقيقية لا في الامور الاعتبارية ، وهذا واضح.

وأمّا الاحتمال الثاني أيضا لا يمكن القول به حيث إنّه لم يكن البناء بأنّه إذا قيّد شيء بشيء لا يعمل به أصلا والعمل يكون على خلافه حيث إنّه لو قال : (اعتق رقبة) ثم قال (اعتق رقبة مؤمنة) وإن كان يقيّد الأوّل بالثاني إلّا أنّه لا يرفع اليد عنه بالمرّة ، ولذا لو كان له أثر مع قطع النظر عن تقييده تأخذ به. فعلى هذا في المورد أيضا نقول بأنّه ولو قيّد كل من الشرطين بالآخر إلّا أنّه لأجل تقييد شيء بشىء لا نرفع اليد عن مفهومهما بالمرّة ، غاية الأمر أنّه نقول : يكون الحكم في كلّ منهما مقيّدا بالآخر ، مثلا إذا لم يخف الأذان لا يجب القصر إلّا إذا خفيت الجدران وأمّا في نفي الثالث فنتمسّك به فنقول بعدم وجوب القصر ووجوب التمام عند عدم الشرطين.

فظهر لك أنّ حفظ القضيتين يلزم ما دام ممكنا ، فإن أمكن رفع التعارض بنحو آخر فلا داعي لأخذ هذا الاحتمال.

إذا ظهر لك أنّه لا موجب للأخذ بالاحتمال الثاني والرابع فيدور الأمر بين الاحتمال الأوّل والثالث وهو عبارة عن التقييد إمّا بأو وإمّا بالواو ، ولا إشكال في أنّه يلزم الأخذ بالاحتمال الأوّل والتقييد بأو حيث إنّه في التقييد بأو يكون في الحقيقة تقييد المفهوم ولا يكون تقييد المنطوق ، وما دام يمكن حفظ المنطوق يلزم حفظه ولا يقع التعارض بين القضيتين إلّا لأجل المفهوم فتقييد المفهوم والمنطوق وإن كان يقيّد إلّا أنّه لو قيّد بأو حفظ بمقدار حيث إنّه بمجرّد حصوله يثبت الحكم بخلاف ما لو قيّد بالواو فإنّه بمجرّد حصول أحد الشرطين لا يثبت الحكم ، بل يحتاج الى حصول الشرط الآخر ، وواضح أنّ التقييد بأو مقدّم على التقييد بالواو كما نقول في المقام يقولون كذلك في الواجب التخييري ، فإذا وجب شيء حيث كان ظاهرا في التعيينية

٣٨٢

مثلا قال : (وجب عند الإفطار في شهر رمضان عتق عبد) فهو ظاهر في تعيّن وجوب عتق العبد بمجرّد الاخطار ، فلو ورد أنّه وجب على من أفطر صومه إطعام ستين مسكينا فلا يلتزمون بتقييد كلّ منهما بالآخر حتّى كان لازمه وجوب العتق مقيّد بالإطعام ، بل يقولون برفع اليد عن تعيينية كلّ من الأمرين ويقولون بالتخيير فكذلك لا بدّ أن يقولون هنا لعدم الفرق بينهما ، فافهم واغتنم وتأمّل.

التنبيه الثالث : اذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء فبعد كون ظهور كلّ سبب لإتيان مسبّبه يلزم بتعدّد الشرط تعدّد الجزاء ، وبعد ما كان الجزاء طبيعة لا بشرط عاريا من جميع الخصوصيات فلا يكون قابلا إلّا لحكم واحد ، وإلّا يلزم اجتماع المثلين ، فلا يمكن الجمع بين ظهور الشرط وظهور الجزاء فلا بدّ من رفع اليد عن أحد الظهورين. أمّا التصرّف في ظهور الشرط فنقول في أنّه إذا حصل شرط ويجب طبيعة الجزاء لأجل حصول الشرط فلا يؤثّر شرط آخر ونقول بأنّ كلّ شرط يؤثّر إذا لم يؤثّر شرط آخر أو التصرّف في الجزاء ونقول بتقييدها بالمرّة ، فكلّ شرط إذا حصل يلزم الإتيان بالطبيعة مرّة ، وهذا هو النزاع المعروف بتداخل الأسباب.

ولا يخفى عليك أنّ هذا النزع لا يجري على كلّ الاحتمالات التي قلناها في التنبيه الثاني ، بل في كلّ مورد قيّد المنطوق لا يجري هذا النزاع مثلا لو قلنا بأنّ الشرط يكون أحد الشرطين مقيّدا بالآخر فلا مجال لهذا النزاع ، لأنّه لا يكون الشرط على هذا الاحتمال متعدّدا وأيضا هذا النزاع يجري في كلّ مورد يكون الجزاء قابلا للتعدّد ، وأمّا لو لم يكن قابلا فلا مجال لهذا النزاع مثلا في مورد القتل فقال : (إذا سبّ شخص معصوما عليه‌السلام فاقتله) و (إذا قتل مؤمنا عمدا فاقتله) فلا إشكال في أنّه ولو حصل كلّ من الشرطين ولكن مع هذا لا يمكن إلّا قتل واحد ، حيث إنّ القتل لا يقبل التعدّد.

وأيضا لا يخفى عليك أنّ النزاع في التنبيه الثاني يكون على القول بكون المفهوم

٣٨٣

للقضية ولكن في المقام ولو لم يكن للقضية مفهوم يكون للنزاع مجال حيث إنّ ظهور الشرط في الثبوت عند الثبوت يكون ممّا لا إشكال فيه ، فيكون ظاهر الشرط أنّه عند ثبوت كلّ شرط يثبت الجزاء فيقع النزاع بنحو ما قلنا.

وأيضا لا يخفى عليك الفرق بين هذا النزاع أي النزاع في تداخل الأسباب وبين النزاع في تداخل المسبّبات ، حيث إنّ النزاع في تداخل الأسباب يكون في مقام الثبوت وأنّه بعد ثبوت الحكم للجزاء بثبوت لشرط فهل يثبت شرط آخر ويكون الجزاء قابلا لثبوت حكم آخر عليه أم لا؟ ولذا لو وقعنا في الشكّ فيكون المورد مورد البراءة ، حيث إنّ ثبوت حكم للجزاء ثابت ، وأمّا ثبوت حكم آخر فيكون غير معلوم ، فالشكّ يكون في التكليف زائد وهو مورد البراءة.

وأمّا النزاع في تداخل المسبّبات فيكون في مقام الامتثال وأنّه بعد ثبوت الحكم في كلّ سبب يكون الإشكال في أنّ في مقام الامتثال يمكن التداخل ويحصل امتثال كلّ من الأسباب بفعل واحد أم لا ، ولذا يكون في مورد الشكّ مورد قاعدة الاشتغال ، حيث إنّ التكليف ثابت ، وإنّما الإشكال يكون في مقام الامتثال ، ومن الواضح أنّ المورد يكون مورد الاشتغال ، وأيضا لا يكون النزاع في تداخل الأسباب منحصرا بما كان بلفظ أداة الشرط ، بل في كلّ مورد يكون حكم عند شيء يكون داخلا في حريم النزاع ، مثلا إذا قال : (يجب عند البول الوضوء) و (يجب عند النوم الوضوء) فيكون داخلا في حريم النزاع.

إذا عرفت ما قلنا فلا يخفى عليك أنّ الإشكال لا يكون إلّا ما قلنا وهو أنّه كيف يمكن حفظ ظهور الشرط والجزاء معا؟ فلا بدّ من التصرّف إمّا في الشرط وإمّا في الجزاء ، ولا إشكال في أنّه يلزم حفظ ظهور الشرط ورفع اليد عن إطلاق الجزاء ، حيث إنّه إذا دار الأمر بين الظهور اللفظي والإطلاق يلزم تقديم الظهور اللفظي على المطلق ، كما يكون هذا البناء في كلّ مورد يعارض الظهور مع الإطلاق ، ولهذا يقدّم

٣٨٤

العام على المطلق ، وهذا واضح.

وأيضا يمكن أن يقال : إنّه إذا عرض هذا الكلام على العرف يأخذ بالصدر ويرفع اليد عن الذيل ، فإذا عرض على العرف إذا خفي الأذان فقصّر ، وإذا خفيت الجدران فقصّر يرفع اليد عن إطلاق الجزاء ويأخذ بظهور كلّ من الشرطين.

فظهر لك أنّ مقتضى القاعدة يكون عدم تداخل الأسباب وأنّ عند كلّ سبب يلزم إتيان مسبّب إلّا إذا دلّ دليل في مورد على خلافه ، فإذا دلّ دليل على خلافه فلا يكون داخلا في الكلام ، وواضح أنّه على القاعدة أيضا لا يمكن القول بتداخل المسبّبات وفي تداخل المسبّبات يكون الأمر أوضح ، حيث إن كلّ سبب يؤثّر في ماهية غير ماهية يؤثّر فيه سبب آخر ، فالجنابة تكون سبب لغسل والحيض يكون سبب لماهية غسل آخر ، فيكون بمقتضى القاعدة عدم جواز التداخل في المسبّبات إلّا إذا ورد دليل في مورد على جواز تداخل المسبّبات فنأخذ به ، فافهم واغتنم.

هذا كلّه لو كان المحلّ قابلا لتعدّد السبب أو لتعدّد الجزاء ، وأمّا لو لم يكن المحلّ قابلا لتعدّد السبب أو لتعدّد الجزاء فلا إشكال في التداخل ، فإذا كان السبب غير قابل للتعدّد فيلزم تداخل الأسباب ، لأنّه لا يمكن أن يؤثّر كلّ من الأسباب مستقلّا ، مثلا لو قلنا بأنّ وجوب الكفارة في صوم شهر رمضان يكون لأجل الافطار ، بمعنى أنّ الافطار في شهر رمضان يكون سببا لوجوب الكفارة ، فإذا أكل شيء وجبت الكفارة ، فلو ارتكب بعد ذلك أحد المفطرات لا تجب كفارة أخرى ، حيث إنّ سبب وجوب الكفارة يكون هو الافطار وهو حصل بمجرّد الأكل ، فلو شرب بعد ذلك أو غمس في الماء رأسه مثلا لا يلزم كفارة اخرى. وأمّا لو قلنا بأنّ الكفارة مسبّب عن أحد المفطرات فيجب عند كلّ مفطر كفارة. فعلى هذا كلّ مورد لم يكن الشرط قابلا للتعدّد يلزم القول بالتداخل لما قلنا ، وكذلك لو كان الجزاء غير قابل للتعدّد أيضا لا يمكن القول بعدم التداخل ويلزم التداخل ، غاية الأمر في طرف الجزاء يصير سببا

٣٨٥

للتأكّد ، مثلا لو قال المولى : (لو سبّ شخص عليّا عليه‌السلام فاقتله) وأيضا قال : (لو قتل أحد مؤمنا متعمدا فاقتله) فلو أحد سبّ عليا عليه‌السلام وقتل مؤمنا متعمّدا فحيث إنّه لم يكن القتل قابلا للتعدّد فقهرا يصير سببا لتأكّد الوجوب.

والسرّ في ذلك هو أنّ بعد كون كلّ من الشرطين والسببين يكون سببا مستقلا للجزاء ، فحيث إنّ الجزاء لم يكن قابلا للتعدّد فيكون ملاك كلّ من السببين سببا لآكدية الوجوب ، لأنّ في كلّ من السببين ملاك الوجوب ، فملاك السبب الأوّل حيث أثّر أثره ، ولا يمكن للسبب الثاني تأثير فيه فيوجب ملاك السبب الثاني تأكيدا للوجوب الأوّل ويصير أقوى ملاكا كما يقولون كذلك في المقدمة ، فإذا تعلّق بالمقدمة الوجوب النفسي والحال أنّها واجبة بالوجوب الغيري يقولون بآكدية وجوبها.

وكذلك نقول في جواب الإشكال الذي أورده مجوزي اجتماع الأمر والنهي بأنّه كيف لا يجوز اجتماع الأمر والنهي؟! والحال أنّه وقع في العبادات المكروهة ، بل في مورد ورود وجوبان على شيء واحد قلنا بأنّه إذا ورد وجوبان بشيء واحد لا يوجب إلّا تأكد الوجوب ، وهذا واضح.

فانقدح بما قلنا أنّ من استشكل بأنّه إذا تعلقت الإرادة بايجاد الشيء فلا يمكن تعلّق إرادة اخرى به أصلا ، فإذا وجب إتيان الجزاء بمقتضى السبب الأوّل وتعلّق الإرادة بايجاده فلا يمكن إرادة ثانية على ايجاد الجزاء ثانيا بمقتضى سبب آخر حتى يصير سببا لتأكّد الوجوب الأوّل ليس بوارد ، حيث إنّا لم نقل بتعلّق الوجوب ثانيا به ، بل لا يتعلّق بالجزاء وجوب ثانيا بسبب شرط الثاني بل تأكّد الوجوب يكون بسبب الملاك الذي يكون فيه ، فافهم هذا الكلام في تداخل الأسباب.

وأمّا الكلام في تداخل المسبّبات فأيضا يكون بمقتضى القاعدة هو عدم التداخل ، ويكون في مورد الشكّ مورد قاعدة الاشتغال كما قلنا. والسرّ في ذلك هو ما قلنا بأنّ مورد كلّ سبب غير مورد السبب الآخر مثلا إذا تعلّق الأمر بإكرام الهاشمي وتعلّق

٣٨٦

أمر آخر بإكرام العالم فيكون مقتضى القاعدة عدم التداخل لكنّه يمكن أن يقال في موردين بالتداخل :

الأول : فيما يكون بينهما عموم من وجه مثل (أكرم عالما) و (أكرم هاشميا) ويكون في مورد اجتمعا مثل أنّه رجل كان هاشميا وعالما فالعقل يحكم في هذا المورد بسقوط الأمرين بإكرام واحد ، حيث إنّ كلّا من الأمرين يكون باعثا الى طلب صرف الطبيعة ولا يكون أحدهما مقيّدا بعدم الآخر ، فإذا كان كذلك فيوجب سقوط الأمرين بإتيان واحد بحكم العقل.

المورد الثاني : ما إذا ورد دليل من قبل الشارع بالتداخل فإذا ورد دليل يلزم القول بالتداخل كما وقع ذلك مثلا في باب الوضوء والغسل للجنابة مع كون كلّ من أسبابهما موجب لمسبّب غير الآخر ، فالحدث الأصغر موجب لتعلّق الوضوء ، والحدث الأكبر موجب لتعلّق الغسل ، ولكن مع ذلك ورد من الشارع بالتداخل كما هو مضمون ما ورد في الفقه الرضوي ويكون قريبا من هذه العبارة : (غسل الجنابة والوضوء فريضة يجزيك عنهما غسل واحد) وكذلك في الأغسال مع كونها متباينات ـ ولو كان تباينها من حيث الأثر فأثر غسل الجنابة هو الإجزاء عن الوضوء بخلاف سائر الأغسال مثلا فمع كون الأغسال متباينات ـ مع ذلك دلّ الدليل على الإجزاء عن كلّها بغسل واحد كما يكون قريب ذلك مضمون رواية غسل الجنابة والجمعة والحيض حقوق يجزيك عنها حقّ واحد ، فظهر لك أنّه في الموردين يمكن القول بتداخل المسبّبات الأوّل في مورد حكم العقل ، الثاني في مورد حكم الشرع ، فافهم واغتنم.

التنبيه الرابع : اعلم أنّه على ما قلنا من استفادة المفهوم من الجملة الشرطية ظهر لك أنّ كلّما يكون القيد راجعا الى الموضوع لا يمكن استفادة المفهوم ، لأنّه يمكن أن يكون موضوع المقيّد موردا للحكم ، فإذا كان كذلك لا يكون الحكم مطلقا ، لأنّه

٣٨٧

يكون سعة وضيقا تابعا للموضوع ، وإذا لم يكن الحكم مطلقا لا يمكن استفادة المفهوم ، وأمّا إذا كان الموضوع مطلقا والقيد يكون راجعا الى الحكم فيستفاد المفهوم من القضية بالبيان المتقدّم ذكره سابقا.

فإذا عرفت ذلك فنقول في الجملة الشرطية والغاية اذا كانت غاية للحكم يستفاد المفهوم ، مثلا لو قال : (إن جاءك زيد فأكرمه) أو قال (صم الى الليل) وأمّا إذا كانت الغاية غاية للموضوع فلا يكون مفهوم لها ، وكذلك في مفهوم اللقب والعدد والوصف فلا يكون لها مفهوم ، لأنّ في كلّ منها يكون الموضوع مقيّدا فلا يكون لها مفهوم ومفهوم الوصف ولو أنّه إذا فهمنا أنّ الموضوع بما هو متصف بالصفة يكون موردا للحكم مثلا إذا قال : (أكرم زيدا العالم) نفهم أنّ العلم سبب لوجوب الإكرام يمكن التعدّي إلى غير هذا الموضوع فيمكن الحكم بوجوب إكرام كلّ من كان عالما إلّا أنّه في مورد لا يكون عالما لا يمكن الحكم بعدم وجوب الإكرام لأجل مفهوم الوصف ، لأنّ استفادة المفهوم لم يكف فيه صرف التقييد في مورد الحكم للموضوع الذي يكون له الوصف ، لاستفادة عدم الحكم في مورد لم يكن الوصف موجودا ، وهذا لا يستفاد من الوصف وإن استفيد عدم الحكم في غير مورد الوصف بدليل آخر كالبراءة إلّا أنّ ذلك ليس من باب كون المفهوم ثابتا للوصف يكون اختلاف آخر في مفهوم الغاية في أنّ الغاية هل تكون داخلة في المغيّى أم لا؟ وهذا النزاع نحوي لم يكن مربوطا بالاصول ، ولا إشكال في أنّ في بعض الألفاظ الدالّة على الغاية يمكن القول بعدم كون الغاية داخلة في المغيّى كلفظ (الى) وأمّا في لفظ (حتى) فيكون مورد الاشكال.

وممّا قلنا ظهر حال مفهوم الحصر كإنّما ، وبل الإضرابية ، وتعريف المسند اليه باللام ، ومفهوم الاستثناء ففي كلّ هذه الموارد لو ثبت الحصر فلا إشكال في المفهوم ففي كلّ لفظ يكون دالّا على الحصر لا مجال للإشكال في عدم كون مفهوم له ، ولا

٣٨٨

إشكال في أنّ إنّما مفيد للحصر ، وكذا بل الاضرابيّة فيما إذا كان المتكلم في مقام الردع وإبطال ما اثبت أوّلا ، وكذلك تعريف المسند اليه باللام إذا كان الجنس معرفا كما قال : (الانسان زيد) ويكون مراده طبيعة الانسان عاريا من جميع الخصوصيات ، فلا إشكال في استفادة الحصر وكذلك مفهوم الاستثناء ففي مثل هذه الموارد لا إشكال فى كون مفهوم لها ، وهذا واضح لأنّ في كلّ منها يكون في مقام الحصر ولا إشكال في أنّه في ذلك المقام يستفاد المفهوم.

فظهر لك أنّ الاستثناء في مورد النفي إثبات وفي مورد الإثبات نفي.

وما قال أبو حنيفة من أنّ الاستثناء ليس في مقام النفي إثبات وفي مقام الإثبات نفي ، واستدلّ على ذلك بأنّه لو كان كذلك يلزم أن يكون في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا صلاة إلّا بطهور» أو «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» أن يحصل بمجرّد حصول الطهارة الصلاة أو بمجرد حصول الفاتحة الصلاة ولا يمكن الالتزام بذلك فاسد جدا ، ويكون هذا أيضا غلط من أغلاطه.

لأنّه من قال بأنّ الاستثناء يكون عن الاثبات نفي وعن النفي إثبات يكون معناه أنّ كلّ ما يكون في المستثنى لا يكون في المستثنى منه بمعنى أنّه في مثل «لا صلاة إلّا بطهور» تكون الصلاة صلاة من جميع الجهات إلّا من جهة الطهور ، فإذا كان فيها الطهور حيث كان جامعا لجميع الجهات فتكون صلاة ، فما هي صلاة إلّا من جهة الطهارة أو الفاتحة لا تكون صلاة إلّا بفاتحة الكتاب والطهارة ، هذا أولا.

وأما ثانيا فبأنّه قد ثبت في محلّه أنّ نقيض السالبة الكلية يكون موجبة جزئية ، فمعنى (لا صلاة إلّا بطهور) أو (بفاتحة الكتاب) هو أنّ الصلاة مع الطهارة وفاتحة الكتاب تكون صلاة في الجملة ، وهذا ليس محلّ إنكار فظهر لك فساد الإشكال.

فانقدح لك أنّه كل ما كان القيد راجعا الى الموضوع لم يكن له مفهوم ، وأمّا في كلّ مورد يكون القيد راجعا الى الحكم فيكون له المفهوم ، وهذا واضح ، وسرّه كما قلنا

٣٨٩

هو أنّ الحكم لو كان مقيّدا بموضوعه فتقييد الحكم بشيء آخر يكون لغوا ، ويكفي تقييده بموضوعه ، فمعلوم أنّ تقييد الحكم بالقيد الآخر كان لمدخلية له في الحكم ، فإذا كان كذلك فالموضوع مطلق لأنّه بلا قيد ، والحكم أيضا حيث يكون سعة وضيقا تابعا لموضوعه أيضا مطلقا فالحكم المطلق يكون مقيّدا بهذا القيد فقط ، وهذا معنى المفهوم وفي كلّ الموارد التي قلنا بالمفهوم كان لأجل هذه الجهة.

ثم إنّه لا يخفى أنّه في بعض الموارد لو استكشفنا وحدة السبب فإن لم يكن الحكم في غير مورده إلّا أنّه ليس هذا من باب المفهوم إلّا أن يكون بنحو ما قلنا من استفادة إطلاق الحكم وكون القيد راجعا الى الحكم المطلق فيستفاد المفهوم ، فافهم.

ثم اعلم أنّ أدوات الحصر تكون من الحروف ولا يستفاد منها إلّا الربط والخصوصية ولكن يعبّر عنها في مقام التعبير بمعنى اسمي. فعلى هذا لا يبقى اشكال في أنّ الحصر يستفاد من المفهوم لا من منطوق القضية حيث إنّه لا يستفاد من (إنّما) أو (إلّا) أو غير ذلك إلّا الخصوصية والربط ولكن هذه الخصوصية يعبّر عنها بمعنى اسمي ، وهذا هو المفهوم فلا يستفاد الحصر من منطوق (إنّما) مثلا ، بل يستفاد من معنى اسمي آخر ، وهذا معنى المفهوم ، ولا معنى من المفهوم إلّا ذلك ، حيث إنّه قلنا من أنّ المنطوق حكم في محلّ النطق والمفهوم حكم في غير محلّ النطق ، ويستفاد الحصر من معنى اسمي وهو في غير محلّ النطق. هذا تمام الكلام في المفاهيم ، والحمد لله أوّلا وآخرا والصلاة على نبيّه محمّد وآله أجمعين ، واللعن على أعدائهم.

٣٩٠

المقصد الرابع

في العام والخاص

٣٩١
٣٩٢

في العام والخاص

الكلام في العام والخاص اعلم أنّ العام يكون لغة بمعنى الشمول ، وبهذا المعنى أطلق مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في الرواية في باب القرآن حيث قال في ضمن الرواية : «ومنه العام والخاص والمرسل والمقيّد» ولا إشكال في أنّ مراد المولى من العام هو معناه اللغوي ، حيث إنّه لم يكن اصطلاح الاصولين متعارفا في زمانه عليه‌السلام فلا مجال لأن يتوهّم بأنّ نظره الشريف الى مصطلح الاصوليين.

وفي اصطلاح الاصوليين يقيّد العام بقيد زائد ويقولون بأنّ العام هو الشمول بشرط أن يكون قابلا للشمول ، فالعام في الاصطلاح يكون هو اللفظ الدالّ على الشمول بشرط كون اللفظ للشمول والسريان. فعلى هذا يخرج ما لم يكن كذلك كالعشرة فالعشرة وإن كان شمولها من الواحد الى التسعة بلا إشكال إلّا أنّ العشرة لم تكن قابلة للشمول من الواحد الى التسعة ، فلا يطلق على الواحد العشرة وكذا على الاثنين ، بخلاف الإنسان فالإنسان يطلق على كلّ فرد من أفراد الإنسان وكذلك العشرة على كلّ عشرة ، فيكون إطلاقه على كلّ عشرة مثل الإنسان على كلّ فرد من الإنسان. فظهر لك أنّ العشرة عام لغة ، لأنّه يشمل أفراده ولكن لا يكون العشرة عاما اصطلاحا.

وأعلم أنه أنّا لم نك في مقام تعريف العام ، بل يكون غرضنا بيان الفرق بين العام

٣٩٣

والمطلق ، فقد فرّق بعض بينهما بأنّ العام هو ما كان مستفادا من اللفظ ، والمطلق ما يستفاد من مقدمات الحكمة ، ولكن فساد هذا المقال يكون واضحا حيث إنّ كثيرا ما يستفاد الاطلاق من اللفظ ويكون مذهب المتقدمين الى زمان سلطان العلماء هو أنّ العموم والاطلاق مستفاد من اللفظ ، وأيضا قد يستفاد العموم من مقدمات الحكمة كما قال به صاحب المعالم رحمه‌الله في عموم (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ولذا عبّر عنه بالعموم الحكمي ، وهذا الفرق ليس بجيد.

وكذلك لا يمكن الفرق بين العام والخاص بأنّ العام يكون بالوضع والاطلاق يستفاد من مقدمات ، الحكمة لما قلنا من أنّ العام أيضا في بعض الموارد يكون مستفادا من مقدمات الحكمة. فعلى هذا نقول : كلّ مورد يكون تعلّق الحكم بالأفراد ولو بواسطة الطبيعة يكون عاما ، وكل ما يكون الحكم على الطبيعة لا بلحاظ سريانها الى الأفراد فيكون مطلقا.

والحاصل أنّه إذا كان الأفراد متعلّقا للحكم ولا يكون الطبيعة متعلّقا للحكم يكون عامّا ، فمورد العام يكون فيما كان أفراد الطبيعة موردا للحكم ، وإذا كانت الطبيعة متعلّقة للحكم يكون مطلقا ، فمورد المطلق ما يكون الحكم على نفس الطبيعة وأحسن تعريف للمطلق بأنّ المطلق ما دلّ على شايع في جنسه فالمطلق يدل على المعنى الذي يكون شايعا في جنسه وهي الطبيعة ، بخلاف العام فإنّه هو الشمول والسريان فهو بنفسه دالّ على الشمول والسريان الى الأفراد ولا يكون محتاجا الى شيء آخر ، بخلاف المطلق فإنّه يدلّ على الطبيعة والطبيعة دالّة على الشيوع في الأفراد ، فالحكم في المطلق على الطبيعة وفي العام يكون على الأفراد. وهذا هو الفرق بين العام والخاص بلا إشكال. وممّا قلنا يظهر لك أمران :

الأوّل : أنّ الفرق بين العام والخاص لا يكون ما قالوا من أنّ العام يكون بالوضع والمطلق بمقدّمات الحكمة ، لما قلنا من أنّ العام أيضا قد يستفاد من مقدمات الحكمة.

٣٩٤

فعلى هذا ما قاله النائيني رحمه‌الله على ما قال بعض مقرّري درسه ليس في محلّه ، فإنّه قال بأنّه إذا تعارض العام والمطلق يكون العام مقدّما لأجل أنّ عمومه يكون بالوضع بخلاف المطلق فإنّ إطلاقه قد يستفاد بسبب مقدمات الحكمة.

الثاني : أنّه على ما قلنا يكون العام دائما في القضايا الخارجية التي يكون الحكم فيها على الأفراد. فعلى هذا ما قاله النائيني رحمه‌الله على ما يظهر من كلمات بعض مقرّري درسه من أنّ العام يكون في القضايا الحقيقية والخارجية ، وبهذا قال : يرتفع إشكال الدور في الشكل الأوّل ، لأنّه أشكل بأنّ الانتاج في الشكل الأوّل يكون دوريا ، حيث إنّ الحكم بكلية الكبرى موقوف على الفحص في صغرياته ، والمفروض أنّ الحكم بالصغرى أيضا موقوف على الكلية في الكبرى ، وهذا دور.

وهذا المحقّق قد تصدّى لدفع الدور بأن يقال : إنّ كلية الكبرى تكون من القضايا الحقيقية التي يكون الحكم فيها على الطبيعة السارية ، وأمّا الصغرى فتكون من قبيل القضايا الخارجية التي يكون الحكم فيها على الأفراد ابتداء ، وإذا كان كذلك يكون الموقوف عليه غير الموقوف عليه ليس في محله.

لما قلنا من أنّ العام لا يكون إلّا في القضايا الخارجية ولا يكون في القضايا الطبيعية والحقيقية ، فعلى هذا لا يكفي بيانه لرفع إشكال الدور في الشكل الأوّل ، بل لا بدّ من جوابه بنحو آخر.

ثم اعلم أنّه قد قسّموا العام بتقسيمات ثلاثة : الأفرادي والمجموعي والبدلي ، وقد يعبّر عن الأفرادي بالاستغراقي أيضا ، فالأمر تارة يلاحظ أفراد العام على حدة ويحكم بحكم لكلّ منها على حدة فهذا هو العام الأفرادي ، ففي العام الافرادي ولو كان الحكم ظاهرا واحدا إلّا أنّه ينحلّ لبّا الى أحكام عديدة بعدد كلّ فرد ، ولا يكون الحكم لكلّ الأفراد بحكم واحد ، لأنّه لا يمكن الحكم بالموضوعات المتعدّدة بحكم واحد ، كما أنّه لا يمكن انشاءات عديدة على موضوع واحد ، فعلى هذا ينحلّ

٣٩٥

الى انشاءات وأحكام عديدة بعدد الأفراد ، وفي كلّ واحد منها إطاعة ومعصية بمعنى أنّه لو أتى بأحد الأفراد أطاع أمر هذا الفرد ولو عصى أمر فرد آخر.

وتارة يلاحظ الآمر مجموعا من حيث مجموع الأفراد ويبعث اليها ويحكم بها بحكم ، فهذا معنى العام المجموعي ، ففي هذا القسم لم يكن إلّا أمر واحد ، لأنّ الآمر لاحظ مجموع الأفراد ويبعث لها ويحكم بها بحكم واحد ، ولازمه أنّه لو امتثل أمر المولى أو نهيه في تمام الأفراد يكون ممتثلا ولو خالف أمر المولى ولو في فرد خالف أمر المولى ولم يطع أمره أو نهيه ولو أطاع في سائر الأفراد حيث إنّه لم يكن إلّا إطاعة واحدة أو معصية واحدة.

وتارة يأمر أو ينهى المولى عن أفراد العام ولكن يكون أمره على تمام الأفراد بحيث إذا أتى بأحد الأفراد يسقط أمره بسائر الأفراد نظير أحد التصويرات في الواجب التخييري ، فهذا معنى العام البدلي ، ففي هذا القسم يكون أيضا أمر المولى أو نهيه بتمام الأفراد إلّا أنّ الفرق بينه وبين القسمين الأوّلين يكون بما قلنا من أنّ في هذا القسم الأخير إذا أطاع في أحد الأفراد يسقط الحكم عن سائر أفراد العام.

ومن هذا يظهر لك الفرق بين هذا القسم من العام والنكرة ، حيث إنّ في النكرة لا يكون الحكم إلّا على فرد واحد لا على التعيين بخلاف العام البدلي فإنّ الحكم فيه يكون في كلّ الأفراد لا على فرد واحد غير معين كما يكون في النكرة ، غاية الأمر حكمه على كلّ الأفراد يكون بنحو إذا أتى بفرد واحد يسقط التكليف من سائر الأفراد ، وهذا واضح.

ثم إنّه ما يكون قابلا للنزاع هو أنّ هذه الأقسام الثلاثة المتقدمة للعام هل يكون الاختلاف فيها من ناحية الموضوع ، أو يكون الاختلاف من ناحية الحكم؟ بمعنى أنّ ألفاظ العام تكون مختلفة فبعضها يدلّ على الأفرادي وبعضها على المجموعي ، وبعضها على البدلي ، أو لا يكون كذلك ، بل لا يكون اختلاف في ألفاظ العام وإنّما

٣٩٦

يكون هذا الاختلاف من ناحية الحكم.

لا يخفى عليك أنّه تكون ألفاظ العام مختلفة فبعض من ألفاظه يدلّ على الأفرادي والمجموعي والبدلي ، وبعض منها لا يدلّ إلّا على بعض الأقسام ، ولا إشكال في أنّ الجميع والمجموع مختلف وأنّ الجمع المحلّى بالألف واللام لا يكون دالّا على العموم البدلي مثلا فلا يمكن القول مطلقا بأنّ الاختلاف في أقسام العام يكون من ناحية الحكم لما قلنا ، كما أنّه لا يمكن أن يقال بأنّ الاختلاف بين الأقسام يكون مطلقا من ناحية الموضوع ، لما قلنا من أنّ بعض ألفاظ العام يدلّ على الأفرادي والمجموعي والبدلي.

فما قاله المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية من أنّ شمول العام في كلّ من الأقسام يكون بنحو واحد وإنّما الاختلاف يكون من ناحية الحكم إن كان مراده أنّ العام يكون معناه الشمول ، ولا فرق له في الأقسام فيكون صحيحا وإن كان غرضه أنّ ألفاظ العام لا تكون مختلفة في شمولها الأقسام الثلاثة فغير صحيح ، لما قلنا لك من أنّ ألفاظ العام تكون مختلفة فبعضها يدلّ على جميع الأقسام الثلاثة ، وبعضها لا يدلّ إلّا على بعض الأقسام ، وهذا واضح لا سترة فيه.

ثم إنّه لبعض العامة كلام وهو أنّ ألفاظ العموم موضوعة للخصوص ، وهذا الكلام كلام فاسد ولا يليق أن يبحث عنه ، لأنّه لا يكون لكلامهم معنى صحيح ، حيث إنّ مرادهم هو أنّ ألفاظ العام تكون حقيقة للخصوص فنسأل منهم أنّه حقيقة في أيّ مرتبة من الخصوص؟ فإذا لم يكن موضوعا للعموم فبأيّ دليل تقولون حقيقة في الخصوص؟ وما مرادكم؟ وفي أي مرتبة من الخصوص يكون حقيقة؟ غاية ما يمكن أن يقال : إنّه لم يكن لفظ العموم موضوعا وحقيقة في العموم ، وأمّا كونه حقيقة في الخصوص فلا يكون معقولا :

أولا : لما قلنا من أنّ في أيّ مرتبة من الخصوص يكون حقيقة!

٣٩٧

وثانيا : أنّ الدليل على كون ألفاظ العموم موضوعة للخصوص لم يكن موجودا ؛ لأنّ ما قالوا من أنّ الخاص يكون القدر المتيقّن ، أو أنّ ما من عامّ إلّا وقد خص ليس دليلا ، ولا ينبغي أن يعتنى به ، حيث إنّه في أيّ مرتبة من الخاص يكون متيقّنا.

وثالثا : لا يثبت كون الألفاظ حقيقة في القدر المتيقّن ، وأمّا ما قالوا من أنّ التخصيص يكون شايعا بدرجة يقال : ما من عام إلّا وقد خص فليس أيضا دليلا لمدّعاهم ، حيث إنّ اشتهار التخصيص لا يوجب كون اللفظ حقيقة في الخصوص إلّا إذا كان مع القرينة. فظهر لك أنّ كلامهم فاسد جدا.

٣٩٨

فصل

لا يخفى عليك أنّ للعام ألفاظا لا يكون ظهورها

في العموم محلّ إشكال

لا يخفى عليك أنّ للعام ألفاظا لا يكون ظهورها في العموم محلّ إشكال ، وما ينبغي أن يبحث عنه بعض الألفاظ التي يكون ظهورها محلّ إشكال وكلام فنقول بعون الله تعالى : ممّا قالوا بإفادته للعموم النكرة في سياق النهي أو النفي مثل (لا رجل في الدار) واعلم أنّه كما تكون (كان) تارة تامة وتارة تكون ناقصة ففي الأوّل لا تكون محتاجة الى الخبر وفي الثاني تكون محتاجة الى الخبر كذلك (ليس) أيضا تارة تامة وتارة تكون ناقصة.

فكلّما يكون النفي متعلّقا بنفس الطبيعة تكون ليس التامة وكلّما يكون النفي متعلّقا بالطبيعة لا بنفسها بل باعتبار صفة من صفاتها تكون ليس الناقصة. ولذا لو كان النفي متعلّقا بالطبيعة باعتبار صفة من صفات الطبيعة ولم يكن الخبر مذكورا لا بدّ من أن يقال بأنّ الخبر محذوف ، وأمّا (ما ولا) النافيتان للجنس فنقول : أمّا لفظ (لا) يكون لنفي الحقيقة ويتعلّق بالطبيعة باعتبار صفة من صفات الطبيعة ، لكن فرقها مع (ليس) هو أنّ في (ليس) لو كان النفي باعتبار صفة من صفات الطبيعة يحتاج الى الخبر ، ولذا لو لم يكن مذكورا لا بدّ من القول بأنّ خبره محذوف بخلاف (لا)

٣٩٩

الموضوعة لنفي الجنس.

والسرّ في ذلك هو أنّ (ليس) إذا كانت ناقصة تحتاج الى الخبر ولم يكن الكلام بدونه تامّا بخلاف (لا) الموضوعة لنفي الجنس فإنه لا تكون محتاجة الى الخبر ، لكن حيث إنّ نفي الطبيعة يكون باعتبار صفة من صفاتها ففي مقام الشرح تشرح كذلك ، فيكون كأنّه خبر في التقدير.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه كما قلنا لا يتعلّق النفي بالطبيعة من حيث هي ، لأنّها ليست إلّا هي فالنفي تعلّق بالطبيعة باعتبار صفة من صفاتها وحيث إنّ أوّل ما يحمل على الطبيعة يكون هو الوجود فعلى هذا لو قال : (لا رجل في الدار) لا يمكن أن يكون النفي بنفس الطبيعة إلّا باعتبار صفة من صفاتها فلا بدّ أن نقول بأنّه لا رجل موجود في الدار ، لأنّ الوجود يكون أوّل ما يحمل. فعلى هذا بعد ما كان النفي باعتبار الوجود فنقول حيث إنّ المتكلّم لم يبيّن أنّ أيّ رتبة من الوجود يكون مراده ، ولو كان مراده فردا خاصا من الوجود كان عليه أن يبيّنه ، فحيث لم يبيّن نحكم بمقتضى مقدمات الحكمة أنّ مراده يكون تمام أفراد الوجود.

فظهر لك أنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم لما قلنا ، ولا مانع من أن يكون استفادة العموم بمقدمات الحكمة لما قلنا سابقا ، وظهر لك أيضا أنّ استفادة العموم من النكرة في سياق النفي لا يكون محتاجا لجريان مقدمات الحكمة في نفس الطبيعة ، لأنّه بعد ما كان الحكم بالطبيعة باعتبار صفة من صفاتها ولا يكون للطبيعة قيد قبل الوجود فيكون المأخوذ نفس الطبيعة لا بشرط ، فلا يكون استفادة العموم محتاجا لجريان مقدمات الحكمة في نفس الطبيعة ، بل لا يكون استفادة العموم محتاجا لمقدمات الحكمة إلّا في الوجود والصفة الطارئة على الطبيعة ، ولو كان نفي الطبيعة باعتبار صفة اخرى من صفات الطبيعة غير الوجود فأيضا لا يكون استفادة العموم محتاجا لجريان مقدمات الحكمة في الطبيعة ؛ لأنّ نفي الطبيعة يكون باعتبار الصفة ،

٤٠٠