المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-31-0
الصفحات: ٤٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

الثاني تأكيدا للأمر الأوّل.

ولكن لا يخفى عليك أنّ كون إطلاق الهيئة مقتضيا للتأسيس مطلقا في غير محلّه ، بل الهيئة دالّة على البعث نحو المتعلّق ويدعو نحوه ، فلو لم يقع بعث نحو المتعلّق يكون لازم البعث إتيان متعلقه في الخارج ، وأمّا لو بعث نحو المتعلّق بانشاء قبلا فيكون بعثه تأكيدا للبعث الأوّل ، فعلى هذا لم يقع تعارض بين إطلاق المادة والهيئة أصلا ، فظاهر الأمر بعد الأمر قبل امتثال الأمر الأوّل هو التأكيد إلّا إذا دلّ دليل على خلاف ذلك وكونه تأسيسا لا تأكيدا.

هذا تمام الكلام في الأوامر ، والحمد لله أولا وآخرا ، وصلّى الله على رسوله وآله وسلّم وأنا العبد علي الصافي وفّقه الله تعالى لمرضاته وأعطاه خير الدنيا والآخرة ، وجعل عاقبة أمره خيرا.

٣٠١
٣٠٢

المقصد الثاني

في النواهي

٣٠٣
٣٠٤

في النواهي

وفيه فصول :

فصل

اعلم أنّه كما يكون الأمر دالّا على الطلب والبعث فكذلك النهي ، غاية الأمر أنّ الامر بعث وتحريك نحو الفعل والنهي بعث وتحريك نحو الترك ، فليس بينهما فرق في هذا الحيث ، بل في كلّ منهما بعث وتحريك إلّا أنّ البعث نحو الترك يستفاد من لفظ (لا) وليس على التحقيق لفظ (لا) مشتركا بين النفي والنهي ونفي الجنس وإن يظهر ذلك من كلمات علماء العربية ، بل لفظ (لا) في كلّ منها استعمل في معنى واحد سواء كان متعلّقه النهي أو النفي.

غاية الأمر لو كان متعلّقه الإنشاء يكون النهي ولو كان الإخبار يكون النفي ، وأوضح شاهد على عدم كون لفظ (لا) مشتركا لفظيا هو أنّه إن حاسبت ألفاظا مرادفة لهذا اللفظ في سائر اللغات ترى كون موضوعها في كلّ مورد واحدا مثلا لفظ (نه) في الفارسي في كلّ مورد يكون هو هذا ، ولذا يقال في مقام النهي بالفارسي (نزن) وفي مقام النفي (نزدى) فكذلك لفظ (لا) في كلّ مورد من موارد استعماله يكون له معنى واحد. غاية الأمر النفي والنهي يستفاد من كون المتكلّم في مقام

٣٠٥

الإخبار أو الإنشاء.

فعلى هذا لفظ (لا) دالّ على أنّ البعث يكون نحو الترك فلو صدّقت منّا هذا الكلام يسهل أمر النزاع آخر وهو النزاع المعروف في النهي بأنّ النهي يكون صرف الترك أو يكون مدلوله الكف عن الفعل. فعلى ما قلنا فلفظ (لا) لا يدلّ إلّا على ما يعبر عنه في الفارسي (نه) ، والمادة تدلّ على صرف الطبيعة ، والهيئة على الطلب والبعث ، فتصير نتيجته هو أن لا توجد هذا الفعل فيكون المطلوب صرف طلب ترك الفعل.

ولو فرض أنّه لم تقل بما قلنا من عدم كون (لا) مشتركا لفظيا ولكن مع ذلك لا إشكال في كون مدلول النهي صرف الترك لأنّه كما قلنا تكون المادة والهيئة ولفظ لا دالّة على البعث نحو الترك ، فالكفّ غير مستفاد لا من الهيئة ولا المادة ولا من لفظ (لا).

وما قيل من أنّ مدلول النهي لا يمكن أن يكون الترك ؛ لأنّ الترك أمر عدمي والعدم غير مقدور.

وفيه أنّ العدم باعتبار الوجود قابل للحكم ، فالعدم في الحال تحت اختيار المكلف ؛ لأنّ له أن يطرد العدم ويوجد وله الابقاء ، وهذا معنى القدرة ، وهذا واضح.

ثم إنّ المشهور كون النهي مفيدا للتكرار والدوام بمعنى كونه مفيدا ودالّا على عدم ايجاد متعلّقه مطلقا مع تسلمهم بأنّ الأمر لا يدلّ على المرّة والتكرار ، بل على التحقيق قالوا بكونه دالّا على البعث نحو صرف الطبيعة ، وليس فيه ما يدلّ على المرّة أو التكرار ، وأمّا في النهي فلم يلتزموا بذلك وقالوا بكون النهي مفيدا للدوام.

إذا عرفت هذا يرد إشكال وهو أنّكم مع التزامكم في الأمر بأنّ متعلّقه والهيئة لا تدل إلّا على طلب صرف الطبيعة كيف تقولون في النهي بكونه مفيدا للدوام؟ ويكون منشأ الإشكال هو أنّ الطبيعة تارة تلاحظ مهملة وتصير موردا للحكم ،

٣٠٦

وتارة تلاحظ مرسلة وتصير موردا للحكم ، فلو كان لحاظها بالنحو الأوّل ففي الأمر وفي النهي لا بدّ من الالتزام بحصول المطلوب بصرف ايجاد الطبيعة ولو في ضمن فرد في الأمر ، وحصول ترك الطبيعة ولو في ضمن فرد في النهي.

لو كان لحاظها بالنحو الثاني فلا بدّ من أن يكون المطلوب حصول تمام أفراد الطبيعة وايجادها في الأمر وحصول ترك الطبيعة في ضمن جميع أفرادها في النهي ، فالطبيعة لو أخذت مرسلة ففي الأمر والنهي اخذت مرسلة ولازم ذلك الالتزام بالدوام والتكرار في كلّ من الأمر والنهي ، ولو اخذت مهملة ففي الأمر والنهي اخذت مهملة ولازم ذلك الالتزام بحصول المطلوب بمجرّد ايجاد فرد في الأمر وانعدام فرد في النهي ، فالفرق بين الأمر والنهي بجعل الطبيعة في طرف الأمر مهملة وجعلها مرسلة في طرف النهي يكون بلا فارق.

وقد أجابوا عن هذا الإشكال غالبا بجواب معروف وهو : أنّ الطبيعي حيث يوجد بوجود فرد وينعدم بانعدام جميع الأفراد ففي طرف الأمر حيث إنّ المطلوب ليس إلّا إيجاد الطبيعة ، فبمجرد إتيان فرد توجد الطبيعة فيسقط الأمر بمجرّد إتيان فرد واحد ، وأمّا في طرف النهي ، حيث إنّ المطلوب هو انعدام الطبيعة وعدم ايجادها في الخارج ، وهذا المطلوب لا يحصل إلّا بترك جميع الأفراد ، وهذا هو سر الفرق بين الأمر والنهي.

وفيه أنّ هذا البيان غير كاف لدفع الإشكال ، لأنّه من أين قلت بأنّ المطلوب في الأمر صرف ايجاد الطبيعة حتى يحصل باتيان فرد؟ ومن أين قلت بأن المطلوب في النهي اعدام الطبيعة مطلقا حتى لا يحصل إلّا بترك جميع الأفراد؟ ومن أين يكون هذا الاستظهار؟ وهذا أوّل الكلام لأنّ المطلوب المستفاد في الأمر والنهي يكون بهيئة ومادة واحدة فبم تقول بأنّ الهيئة والمادة تدلّ في الأمر بنحو وفي النهي بنحو آخر؟

٣٠٧

وهل هذا إلّا قول بلا وجه ، وفرق بين الأمر والنهي بدون فارق لما قلنا ، ومسلّم عندهم بكون المادة والهيئة في كلّ من الأمر والنهي بنحو واحد؟

وقال شيخنا العلّامة الحائري رحمه‌الله وكان أصله من السيد العلّامة الفشاركي رحمه‌الله بأنّ في الأمر يكون البعث على صرف الوجود أي ناقض العدم فيكون المطلوب هو نقض العدم أو طرده ، فحيث يكون المطلوب نقض العدم فلا إشكال في أنّ نقض العدم يحصل بفرد واحد ، لأنّه بذلك انتقض العدم ، وفي النهي حيث يكون البعث نحو الترك فيكون المطلوب حقيقة نقيض ما كان مطلوبا في الأمر ، ففي الأمر بعد كون المطلوب صرف الوجود وناقض العدم ففي النهي يكون المطلوب عدم ايجاد صرف الوجود وناقض العدم ، فمقتضى النهي هو أنّ المكلّف لا يوجد ناقض العدم فلازمه هو ترك جميع أفراد الطبيعة حتى يحصل ترك ناقض العدم وترك صرف الوجود ، وبهذا فرّق بين الأمر والنهي.

ولكن فيه أنّ الموجود في الخارج هو الوجودات الخاصة فنقيض كلّ فرد عدم هذا الفرد ، فالمطلوب في الوجود ولو كان فرد من الوجود يكون المطلوب في طرف العدم أيضا فردا فلا يمكن التفكيك بينهما ، فلا يقتضي كون متعلّق الأمر صرف الوجود إن يكون في النهي متعلّقه عدم تمام أفراد الوجود ؛ لأنّ صرف الوجود كما يحصل بالفرد فالعدم أيضا يحصل بعدم ذلك الفرد.

والتحقيق في الجواب أن يقال بأنّ المادة والهيئة ولو كانت في طرف الأمر والنهي بنحو واحد إلّا أنّه حيث يكون في طرف الأمر طلب ايجاد جميع الأفراد غير ممكن لكون المكلّف غير قادر على إتيان جميع الأفراد في حال واحد فمن يصلي الآن في المسجد مثلا وتكون هذه فردا من الصلاة المتعلّق بها الأمر لا يكون قادرا على الصلاة في البيت التي هي أيضا فرد من الصلاة في هذا الآن ، فلا يمكن تعلّق الأمر بايجاد تمام الأفراد ، وأمّا في طرف النهي فحيث إنّ المكلّف مع تركه فردا من شرب

٣٠٨

الخمر يكون قادرا على ترك فرد آخر من شرب الخمر ، لأنّه يمكن له في آن واحد ترك شرب كلّ خمر ، فيمكن تعلّق النهي به بترك جميع أفراد الطبيعة.

وهذا هو السرّ في كون العموم في طرف الأوامر بدليا وفي طرف النواهي شموليا ؛ لأنّه بعد عدم تمكن المكلف من ايجاد جميع أفراد الطبيعة في عرض واحد لا بدّ أن يكون العام في الأوامر بدليا ، وأمّا في طرف النهي ، فحيث إنّ المكلف يتمكن من ترك جميع أفراد الحرام في عرض واحد فيكون العام في النهي شموليا غاية الأمر لم نقل بذلك كلية وأنّ في كلّ من الأوامر يكون العام بدليا وفي النواهي يكون العام شموليا ، بل تارة يمكن أن يكون بالعكس ويكون عموم الأمر شموليا وعموم النهي بدليا ، ولكن غالبا بحسب الظاهر ، يكون عموم الأمر بدليا وعموم النهي شموليا.

فالسرّ في الفرق بين الأمر والنهي هو ما قلنا ، والشاهد على كون العام في الأمر بدليا وفي النهي شموليا أنّه فيما لو شكّ في فرد بأنّ بإتيانه يسقط الأمر المتعلّق بأفراد الطبيعة على البدل أم لا يكون مجرى الاشتغال ، وبهذا الفرد المشكوك لا يسقط الأمر ، وأمّا في طرف النهي ففي كلّ فرد مشكوك تعلّق النهي به تجري البراءة والسرّ في هذا هو أنّ في طرف الأمر يكون متعلّق الغرض أمرا واحدا فلا بدّ من الإتيان بنحو يقطع بحصول البراءة وأمّا في طرف النهي فحيث يكون التكليف انحلاليا ففي كلّ فرد ينتقض بتعلّق التكليف به لا بدّ من تركه وفي الفرد المشكوك تعلّق التكليف به تجري البراءة ولا يلزم تركه.

فانقدح بما قلنا : إنّ بين الأمر والنهي يكون التفاوت من هذا الحيث يعني سقوط الأمر بفرد في الأمر وعدم السقوط إلّا بترك جميع الأفراد في النهي ، وإن كان الأمر والنهي متحدين من حيث المادة والهيئة.

٣٠٩

فصل

في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه :

في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه :

اعلم أنّ محل البحث والكلام في هذا الباب يظهر من عنوان محلّ الكلام ولا بدّ لنا من أخذ محلّ الكلام من هذا العنوان الذي عنونوه ، وهو أنّ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد هل يجوز أم لا؟ إذا عرفت هذا القول بعون الله تعالى أنّ من هذا العنوان يظهر امور.

الأوّل : أنّ الفرق بين المقام وبعض المعروف وهو أنّ النهي في العبادة يستلزم فساد العبادة أم لا واضح ؛ لأنّ النزاع في المقام يكون في أنّ تعلّق الأمر والنهي في شيء واحد يوجب الاجتماع أم لا حتّى لو صار موجب الاجتماع لا يجوز تعلّقهما ، وأمّا في النهي في العبادة فيكون البحث بعد الفراغ عن ذلك في أنّ بعد اجتماع الأمر والنهي هل يوجب تعلّق النهي بما تعلّق به الأمر لفساد العبادة أم لا؟ نعم لو قلنا بالامتناع وتغليب جانب النهي فيكون من صغريات بحث النهي في العبادات ، فالفرق بينهما واضح والعجب من الشبهة في ذلك وتطويلات بلا طائل.

الثاني : المراد بالواحد هنا أعمّ من الواحد الشخصي والنوعي والجنسي ؛ لأنّ الميزان هو اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، ولا فرق بين أنحاء الواحد ، لأنّه بكلّ

٣١٠

منها يصير مورد الكلام والبحث ، فالواحد في مقابل الاثنين بمعنى أنّ كل ما يكون موجودا في الخارج بوجود واحد يكون مورد البحث.

الثالث : أنّ هذا البحث يكون من مباحث الاصول ؛ لأنّ الميزان في كون المسألة اصولية على ما حقّقناه هو أنّ تصير كبرى لمسألة فرعية ، والمقام كذلك ، لأنّه لو التزمنا في المقام مثلا بالامتناع فنقول في الغصب والصلاة مثلا بأنّ في المورد اجتمع الأمر والنهي ، ولا يجوز اجتماع الأمر والنهي فلا يجوز اجتماع هذا الأمر والنهي ، وهذا واضح.

الرابع : أنّ النزاع في المقام يكون عقليا ؛ لأنّ عنوان البحث يكون جواز الاجتماع وعدمه ، فالمراد بالجواز هو الجواز العقلي ، غاية الأمر أنّه حيث يكون الكاشف منه هو الأمر والنهي فعنونوه في النواهى ومباحث الألفاظ وإلّا لا اختصاص بهما.

الخامس : أنّ هذا النزاع في المقام يعمّ لجميع أقسام الأمر والنهي فلا يختص بالأمر والنهي النفسي ، بل يعمّ غيره ؛ لأنّ ملاك النزاع جاء في كلّ الأقسام ، فإن جاز الاجتماع جاز في كلّ الأقسام ، وإن امتنع امتنع في جميع الأقسام ، وكذلك لا يختصّ النزاع بالوجوب والحرمة ، بل يجري في سائر الأحكام ، فيجري في الوجوب والكراهة ، والكراهة والحرمة ، والحرمة والاستحباب ، وغير ذلك لملاك النزاع في كلّها ، فإن امتنع اجتماع الأمر والنهي يمتنع اجتماع الأمر والكراهة مثلا أيضا ، غاية الأمر بين الأمر والنهي يكون التضادّ بتمام المعنى ومطلقا ، وفي غيرهما يكون تضادّه مع أحدهما بحدّه ، فالكراهة مضادّة مع الوجود بحدّها لا بتمام المعنى ، فافهم.

السادس : لا يخفى عليك أنّ في باب التعارض يكون الكلام في مقام اللفظ والكاشف ، بمعنى أنّ النزاع فيه يكون في مقام الاثبات لا الثبوت ، حيث إنّ بعد الفراغ وتسلّم عدم واقع لأحد الدليلين وثبوت أحدهما فقط في الواقع يقع الكلام في أنّ أيّ من الدليلين منهما يكون حجّة حتى يرفع اليد عن الآخر ويطرح فيعلم بكذب

٣١١

أحد الدليلين ، غاية الأمر حيث إنّ في مقام الإثبات لا ندري أنّ أيّا منهما هو الذي كان ثابتا في الواقع يقع التعارض بين الدليلين ، فلا بدّ من الرجوع الى أقوى الدليلين بالنحو المحرّر في محلّه.

وأمّا في باب التزاحم فليس الأمر كذلك ، بل الكلام يقع في أنّ بعد كون كلّ من الدليلين مسلّم في مقام الثبوت والإثبات ونعلم بواقعية كلّ منهما ، حيث إنّ المكلف لا يتمكن من الامتثال فنقول بالأخذ بالأهمّ في صورة وجوده وإلّا بالتخيير ، فلا إشكال في المتزاحمين بكون كلّ منهما مستندا الى الشارع وكونهما فعليين ولا يكون مانع من ناحية الحكمين أصلا ، بل يكون عدم تنجّز كلّ منهما معا لأجل عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما باتيانهما ، فالفرق بين التعارض والتزاحم هو أنّ في المتزاحمين لا قصور في الدليلين أصلا ولا إشكال في مقام الثبوت والاثبات وكونهما فعليين ، غاية الأمر عدم تمكن المكلف صار سببا لعدم تنجّز كلّ منهما معا.

وأمّا في المتعارضين فليس الثابت في الواقع إلّا أحدهما ، غاية الأمر في مقام الاثبات غير معلوم بأنّ أيّا من الدليلين يكون هو الثابت في الواقع فوقع التعارض بينهما ، ولأجل هذا في المتعارضين يأتي ما قالوا في مقام التعارض من الأخذ بأقوى الدليلين من حيث الظهور أو السند لأنّه ليست الحجّة إلّا واحدا منهما فبأقوائية الظهور أو السند نقول بأنّ الأقوى هو الثابت الواقعي ، وأمّا في باب التزاحم فلا مجال للأخذ بأقوى الظهورين أو السندين ، لأنّه من المسلّم أنّهما بتان وكلّ منهما حجّة ، غاية الأمر لا يتمكّن المكلف من الأخذ بكلّ منهما معا.

فعلى ما قلنا بعد ما تعلم بأنّ عدم فعلية الحكم تارة يمكن أن يكون مستندا بعدم المقتضي وتارة بعدم الشرط وتارة بوجود المانع ، ففي باب التعارض لا يلزم أن يكون عدم المقتضي لأحد الحكمين في كونهما متعارضين بل لو علم بعدم شرط الفعلية أو علم بوجود المانع ولو من ناحية مقتضي الحكم الآخر يكون أيضا مورد

٣١٢

التعارض ؛ لأنّ ما دام لم يصر أحد الحكمين فعليّا لأجل عدم المقتضي أو عدم الشرط أو وجود المانع وعلم بأنّ أحد الحكمين كذلك يعدّ من باب التعارض ويعامل مع الدليلين المتخالفين المعلوم عدم فعلية أحدهما لأجل عدم المقتضي أو عدم الشرط أو وجود المانع معاملة التعارض.

وأمّا في باب التزاحم فليس الأمر كذلك ، بل الأمر في المتزاحمين وكون الدليلين من قبيل المتزاحمين يكون بعد الفراغ عن اقتضاء الفعلية وحصول شرط الفعلية وعدم وجود مانع للفعلية في كلّ منهما ، فلو كان الدليلان فعليين من جميع الجهات ولا قصور في فعليتهما فحيث لم يتمكّن المكلف من الجمع بينهما يكونان من قبيل المتزاحمين.

فعلى هذا ما يظهر من كلمات بعض في مقام الفرق بين التعارض وبين التزاحم بكون الملاك في الثاني وعدم الملاك في الأوّل إن كان مراده من عدم الملاك هو عدم المقتضي لأحد الدليلين ففي غير محلّه ، لأنّه ظهر لك أنّه ربّما يتفق أن يكون في المتعارضين الملاك في كلّ منهما لكن أحدهما لا يكون شرط فعليّته موجودا أو مانع فعليّته غير مفقود ، ولأجل ما قلنا من أنّ ملاك التعارض هو قصور في أحد الدليلين وعدم ثبوت له واقعا بخلاف التزاحم ؛ لأنّ كلّا منهما ثابت واقعا ترى أنّ في مورد التعارض لا يتبدل الحكم بالجهل والإتيان ، بخلاف التزاحم فإنّه بمجرّد عدم فعلية أحدهما لأجل جهل به أو نسيان يكون إتيان الآخر في محلّه بخلاف المتعارضين ، فافهم.

فالميزان في كون الدليلين من باب التعارض هو ما قلنا من كون القصور في ناحية أحد الدليلين فالقصور يكون في ناحية الجعل والحكم يعني لم يكن الحكم تامّا إمّا من باب عدم إنشائه وإمّا من باب عدم فعليّته لقصور في المقتضي أو الشرط أو لوجود المانع ، والميزان في كون الدليلين من باب التزاحم هو كون القصور من ناحية

٣١٣

الطرف وعدم القصور في الجعل والحكم وبلوغ الحكم في مرتبة الفعلية ، غاية الأمر لقصور المكلف عن امتثالهما لم يصر أحدهما منجّزا.

فممّا مرّ ظهر لك أنّ المراد من عدم المقتضي والملاك في باب التعارض هو هذا المعنى يعني عدم المقتضي لإنشاء الحكم أو لفعلية الحكم وعدم المناط والملاك للإنشاء أو الفعلية ، وفي باب التزاحم يكون الجعل تامّا ، غاية الأمر القصور يكون في ناحية المكلف ، وما قلنا من الفرق بين التعارض والتزاحم يكون مراد المحقّق الخراساني رحمه‌الله في هذا الباب.

حيث قال رحمه‌الله في الأمر الخامس من الامور التي تعرض لها في هذا البحث : (إنّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلّا إذا كان في كلّ واحد من متعلقي الايجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا حتى في مورد التصادق والاجتماع). ومراده من مناط الحكم هو ما قلنا من أنّ في التزاحم لا بدّ وأن يكون الحكم تامّا وبالغا لمرتبة الفعلية لا أن يكون مراده من المناط هو المناط المعتبر في موضوع الحكم قبل الجعل حتى يشكل عليه تارة بأنّ المناط لو كان في باب التعارض عدم الملاك وفي باب التزاحم وجود الملاك في كلّ من الدليلين.

والالتزام بكون محلّ الكلام على القول بالامتناع يكون من باب المتزاحمين لا وجه له.

لأنّ هذا النزاع جار ولو على مذهب غير العدلية الّذين لا يقولون بالمصلحة والمفسدة ، فكيف تقول بالملاك والمصلحة في كلّ من الدليلين حتّى يكون اجتماع الأمر والنهي على الامتناع من باب التزاحم ، مع أنّ غير العدلية غير قائلين بالمصلحة والملاك ، ومع ذلك هذا النزاع يكون ولو على هذا القول وتارة بأنّه على مبناك تكون مرتبة الاقتضاء والمصلحة من مراتب الحكم فكيف تقول هنا بوجود الملاك على التزاحم وعدمه على التعارض ، والحال أنّ لازم هذا كون المقتضي قبل

٣١٤

الحكم ، والحال أنّك تلتزم بكون الاقتضاء والمصلحة من مراتب الحكم؟

ووجه عدم ورود الإشكالين على المحقّق الخراساني رحمه‌الله يظهر ممّا مرّ منّا وقلنا بأنّ مراده أيضا هو الذي قلنا به ، فبعد كون المراد من الملاك وعدم الملاك هو ملاك تمامية الحكم وعدم ملاك تمامية الحكم يعني عدم بلوغه مرتبة الانشاء أو الفعلية فيجري النزاع على قول غير العدلية ، ويكون على الامتناع المقام من باب التزاحم ، لأنّ ميزان التزاحم تمامية الحكم مع قطع النظر عن كون المصلحة أو المفسدة في متعلّقه ، فالحكم بلغ مرتبة الفعلية في التزاحم ولو لم يكن في متعلّقه المصلحة أو المفسدة على قول الأشعري.

وكذلك يدفع الإشكال الثاني ؛ لأنّ المراد من الملاك مع تصريحه بمناط الحكم ففي التعارض لم يتم ملاك الحكم من باب عدم بلوغه لمرتبة الإنشاء أو الفعلية ، وفي التزاحم بلغ الحكم لمرتبة الفعلية ، ولهذا تمّ ملاك الحكم ، فهذا لا ينافي مع كون الاقتضاء من مراتب الحكم عند هذا المحقّق رحمه‌الله فهذا الإشكال لا يرد عليه ، وإن كان أصل المطلب وهو كون الاقتضاء من مراتب الحكم في غير محلّه.

فظهر لك الميزان بين التعارض وبين التزاحم.

ثم بعد ذلك نقول بأنّ في باب اجتماع الأمر والنهي لو قلنا بالجواز فلا تعارض ولا تزاحم بين الدليلين أصلا ، لإمكان امتثال الأمر ولو كان يعصى بفعل المنهي عنه ، وأمّا لو قلنا بعدم جواز الاجتماع فيكون المقام من باب التزاحم ؛ لأنّ ميزان التزاحم على ما مر هو كون ملاك الجعل والحكم في كلّ من الدليلين ، وعدم قصور من ناحية الحكم ولكن المكلف متمكن من الامتثال والجمع.

ففي المقام أيضا كذلك ، حيث إنّ دليل الصلاة وكذلك دليل الغصب تام وفي كلّ من الصلاة والغصب يكون الحكم والجعل تامّا ولكن المكلف بعد فرض شمول كلّ من الحكمين لمورد الاجتماع لم يمكن له امتثال كلّ من التكليفين ، فلم يتمكن من أن

٣١٥

يأتي بالصلاة ويترك الغصب فيقع التزاحم بينهما ، ولكن مع كون التزاحم بينهما لا يمكن الالتزام بأخذ الأهمّ منهما لو كان في البين ، وإلّا بالتخيير كما نقول في بعض موارد التزاحم لأنّ بعد وقوع التزاحم أنّ العقل بمقتضى حفظ الغرض مهما أمكن يحكم بحكم ، ففي مثل (أنقذ زيدا) و (أنقذ عمرا) لو وقع التزاحم يحكم بأخذ الأهمّ منهما وانقاذه لو كان في البين ، وإلّا فالتخيير لأجل أنّ الأهمّ لو كان فما دام يمكن حفظ مقدار غرض من المولى لا بدّ من حفظه ، فإنقاذ الأهمّ أهمّ بنظره فيحكم العقل بإنقاذه.

وأمّا في المقام فما نقول بعدا إن شاء الله على التحقيق من أخذ المندوحة في المقام فلا بدّ من ترك الصلاة في مورد الاجتماع وإتيانه في محل آخر ، لأنّه يمكن حفظ الغرضين والحكمين ، فبعد إمكان حصول الصلاة في غير مورد الاجتماع وهو لازم أخذ المندوحة فلا بدّ من إتيان الصلاة في غير مورد الاجتماع وترك الغصب ، فحفظ الغرضين الإتيان بالصلاة في محلّ مباح وترك الغصب.

فيظهر لك ممّا مر أنّ الميزان مطلقا في باب التزاحم ليس الأخذ بالأهم لو كان وإلّا فالتخيير ، بل في بعض الموارد في باب التزاحم لا بدّ من أخذ أحد الطرفين ولو لم يكن بأهمّ مثل مورد اجتماع الأمر والنهي على الامتناع ، حيث إنّ مع المندوحة ولو كان دليل الصلاة أقوى أو ولو كانت الصلاة أهمّ ، ولكن مع ذلك لا بدّ من حفظ دليل الغصب وتركه وإتيان الصلاة في محلّ آخر ، لأنّه بذلك يحفظ غرض الصلاة والغصب ، فالعقل يحكم بذلك.

فممّا مرّ ظهر لك أنّ محلّ الكلام مع فرض كون الحكم في كلّ من الدليلين تامّا ومع الالتزام بالامتناع يكون من صغريات التزاحم ، فلا يمكن أن يقال بعدم كون المقام من باب التزاحم مع كون الملاك في كلّ من الحكمين تامّا لأنّ على هذا كلّ من الدليلين يشمل صورة الاجتماع فلا يصحّ في المقام إعمال باب التعارض. نعم لو

٣١٦

فرض عدم إطلاق للدليلين ولو فرض خروجه من التزاحم إلّا أنّه يخرج من باب اجتماع الأمر والنهي ، فلو قيل بما قاله المحقّق القمي رحمه‌الله من أنّ بمقتضى الرواية المعروفة : (جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا) يجوز الصلاة في كلّ مكان ولو المكان الغصبي كما قيل بجواز الوضوء من كلّ ماء ، فيخرج المقام من باب التزاحم ، لخروجه من باب اجتماع الأمر والنهي لعدم حرمة الغصب على هذا في مورد الصلاة ، فافهم.

إذا عرفت ميزان التعارض والتزاحم فلو علم كون الدليلين من باب التعارض فيعامل معهما معاملة التعارض وإن علم كونهما من باب التزاحم فيعامل معهما معاملة التزاحم وإن وقع الشكّ ولا ندري بأنّهما متعارضان أو متزاحمان فما نقول؟

الذي ينبغي أن يقال في هذا الباب : هو أنّ الدليلين إمّا أن لا يكون لهما إطلاق أصلا ، بل يكونان بنحو الإهمال فلا يكونان مطلقين ، بل يكونان مهملين فلا إشكال في ان في هذه الصورة لا يمكن أن يقال بكونهما من باب التعارض أو من باب التزاحم ؛ لأنّ بعد عدم الإطلاق للدليلين فلا يمكن أن يكونا من باب التعارض يعني لم يكونا فعليين وتامّين الملاك ، ويمكن أن يكونا تامّي الملاك ، ويمكن أن لا يكونا لا متزاحمين ولا متعارضين ، لإمكان كونهما حكمين حيثيّين من بعد عدم إطلاق لهما دالّ على شمولهما لكلّ فرد.

وإمّا أن يكون الإطلاق للدليلين :

فتارة يكون لكلّ منهما إطلاق حتى في موضوع حكم الآخر مثلا (أنقذ زيدا) له الإطلاق حتى في حال غرق عمرو وكذلك (أنقذ عمرا) له الإطلاق حتى في حال غرق زيد بحيث كون كلّ منهما بإطلاقه يشمل الموضوع الآخر لا لحكمهما ، ففي هذه الصورة لا إشكال بكون النسبة بين الدليلين التزاحم ؛ لأنّ في كلّ منهما يكون الجعل تامّا ولهما الإطلاق ، ولا قصور من ناحية الجعل ، غاية الأمر أنّ المكلف غير متمكن من الجمع بينهما وكذلك يكون باب الصلاة والغصب.

٣١٧

وتارة يكون لهما الإطلاق حتى بالنسبة الى حكم دليل الآخر مثلا (أنقذ زيدا) له الإطلاق حتى في حال وجوب إنقاذ عمرو وكذلك (أنقذ عمرا) ، أو مثلا يكون الغصب له الإطلاق حتّى في حال وجوب الصلاة فهو حرام حتّى في حال وجوب الصلاة ، وكذلك الصلاة لها الإطلاق يشمل حتى حال حرمة الغصب ، فإن كانا من هذا القبيل فلا يمكن الالتزام بكونهما من باب التزاحم ولو أنّ لهما الإطلاق ؛ لأنّ بعد شمول إطلاق كلّ منهما لحال حكم الآخر نعلم بأنّ هذا غير ممكن ولا يمكن للآمر الطلب كذلك فليس القصور من ناحية المكلف مع كون الجعل تامّا ، بل نعلم بأنّ الجعل غير ممكن بهذا النحو ، إذ كيف يمكن للشارع طلب وجود شيء في الفرد المجتمع مع الآخر مع حرمته بمقتضى الآخر مثلا يطلب ويبعث نحو الصلاة في الفرد الغصبي الذي حرم على المكلف ، فمع الحرمة يوجب؟ فالبعث والتحريك غير ممكن في هذا القسم فلا بدّ من رفع اليد من إطلاق أحد الدليلين.

وتارة يكون لهما الإطلاق إلّا أنّ إطلاق كلّ منهما غير شامل لموضوع الآخر ولا لحكمه ، بل لهما الإطلاق في غير موضوع الآخر وحكمه ففي هذه الصورة أيضا لا يمكن لنا الحكم بكونهما من باب التعارض أو التزاحم ، لأنّا لا ندري بتمامية الملاك يعني ملاك الجهل وعدم تماميته ، فالحكم بكون النسبة بينهما التعارض أو التزاحم غير ممكن لنا ، لأنّا ندري بكونهما متزاحمين أو متعارضين.

ثم إنّك عرفت ممّا بيّنا لك أنّ في مورد التعارض ليس إلّا حكم واحد ، لأنّه ليس إلّا لأحد الدليلين ملاك الحجّية ، وأمّا في باب التزاحم فيكون الحكمان تامّين. فعلى هذا في التعارض لا بدّ من العمل على طبق حكم واحد ، غاية الأمر بمقتضى المرجحات أو الجمع يكشف كون أحد الدليلين هو الحكم المتبع حتى لو غمض النظر عن الترجيح أو الجمع وقلنا بالتخيير ليس إلّا من باب أنّ في البين ليس إلّا حكم واحد ، وحيث لا ندري أيّهما هو هذا الحكم فنحكم بالتخيير.

٣١٨

والحاصل أنّ في المتعارضين ليس إلّا حكم واحد في البين ، وأمّا في المتزاحمين فيكون الحكمان فعليّين تامّي الاقتضاء ، فإن أمكن إتيانهما يجب إتيانهما ، لأنّ كلّ منهما حكم حقيقي وإن لم يمكن الجمع بينهما وحفظ كلّ من الغرضين لأجل مزاحمة كلّ منهما للآخر مثل الصلاة والإزالة ، فحيث إنّ الحكمين اقتضاؤهما تامّ ولكن حيث لم يقدر المكلف على الجمع بين الغرضين وإتيانهما لا بدّ له من حفظ الغرضين مهما أمكن ، فعلى هذا بعد كون المقتضي والملاك بالنحو الذي قلنا في كلّ من الحكمين فكلّ ما أمكن لا بدّ من حفظهما ولو كان أثر في البين لا بدّ من ترتيبه لو أمكن ، وكلّ مقدار لا يمكن له العمل يرفع اليد عنه لأجل عدم القدرة.

فنقول فيما نحن فيه أي في اجتماع الأمر والنهي بأنّه بعد كون المقام من قبيل المتزاحمين فإن قلنا بجواز الاجتماع ولو أنّ المقام مثلا الغصب والصلاة متزاحمين إلّا أنّه يمكن الجمع بينهما بإتيان الصلاة في المحلّ الآخر على القول باعتبار المندوحة وترك الغصب ، فالمكلف قادر على الإتيان بكلا الحكمين وإن قلنا بالامتناع فتارة نلتزم بتغليب جانب النهي وتارة نلتزم بتغليب جانب الأمر.

إن قلنا بالأوّل يعني تغليب جانب النهي فلو كان الأمر أمرا توصليا فلا إشكال في حصوله ولو في ضمن الحرام ؛ لأنّ هذا المعنى معنى التوصلية ، وإن كان عباديا كالصلاة فلا إشكال في عدم الأمر المتعلّق بها في هذه الصورة ، فهل يمكن فرض تصحيح الواجب كالصلاة مثلا وإتيانها مع عدم الأمر أو لا؟

فنقول : إن قلنا في صحّة العبادة بعدم كونها مبغوضة للمولى ولو باعتبار تواريه لا يصحّ العمل ، لأنّه مبغوض والمبغوض لا يصير مقرّبا ، وإن قلنا بكفاية الملاك في العبادة يصحّ العمل ولو قلنا في صحّة العبادة بلزوم وجود الأمر فأيضا لا يصحّ العمل لسقوط الأمر على الفرض هذا بالنسبة الى صورة تغليب جانب النهي وفعلّيته.

٣١٩

وأمّا لو لم يصر فعليّا لجهل المكلّف بالموضوع أو النسيان فالإتيان بالواجب المزاحم معه جائز ويصير مقرّبا وعباديّا ، لأنّه عدم فعلية التكليف بالنسبة الى الواجب يكون لأجل فعلية النهي وتغليب جانبه ، فلو لم يصر النهي فعليّا فيرتفع مزاحم الواجب ويصير الواجب فعليّا ، هذا كلّه في صورة تغليب جانب النهي.

وأمّا في صورة تغليب جانب الأمر فلا إشكال في حرمته لو أتى بالواجب في ضمن الحرام لسقوطه عن الفعليّة ولكن مع ذلك لو جهل بالواجب أو نسي فيصير النهي فعليّا ويلزم تركه ، لما قلنا من أنّ عدم فعليّته كان لأجل مزاحمته مع الواجب وتغليب جانب الأمر ، فإذا لم يصر الواجب فعليّا ترتفع المزاحمة فيصير النهي فعليّا ، فافهم.

إذا عرفت ما ذكرنا من المقدّمات نقول بأنّ الاستدلال على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي يتوقّف على رسم امور :

الأوّل : أنّه لا إشكال في أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة وبينها المغايرة والضدّية ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، نعم قد أشكل بعض بهذا المطلب وقال : إنّه لا مضادّة بين الأحكام الخمسة ؛ لأنّ التضادّ يكون في الامور الحقيقية ، فإذا كان شيء من الامور الحقيقية ويكون شيء آخر منافيا ومغايرا له ، ولا يمكن جمعهما يكون بينهما الضدّية مثل الحرارة والبرودة ، فإنّهما حيث يكونان من الامور الحقيقية ولم يمكن اجتماعهما في محلّ واحد يكون النسبة بينهما هي الضدّية وكلّ ما لم يكن كذلك ـ أي لم يكن من الامور الحقيقية ـ فلا معنى لتصوير الضدّية فيه ، وما نحن فيه يكون كذلك حيث إنّ الحكم يكون من الامور الاعتبارية ، فإذا كان من الامور الاعتبارية فلم يكن بين كلّ من الأحكام ضدّية.

ولا يخفى عليك أنّ ما قاله فاسد جدا حيث إنّ ما قاله من أنّ التضادّ يكون في الامور الحقيقية ممّا لا إشكال فيه ولكن لم يكن مقصودنا هو التضادّ الاصطلاحي ،

٣٢٠