المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني

المحجّة في تقريرات الحجّة - ج ١

المؤلف:

آية الله الحاج آقا علي الصافي الگلپايگاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة السيدة المعصومة سلام الله عليها
المطبعة: سپهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6197-31-0
الصفحات: ٤٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

كل ، مسألة ، فموضوع مسألة «الفاعل مرفوع» هو الفاعل ، وموضوع مسألة «المفعول منصوب» هو المفعول ، وهكذا في كلّ مسألة من مسائل النحو ، وكذا سائر العلوم ، فيلزم كون كلّ مسألة علما على حدة بخلاف ما إذا كان الامتياز بالأغراض لا وجه ؛ له لأنّه كما قلنا من أنّ على ما قال من أنّ أثر الواحد كاشف عن مؤثّر الواحد فإن كان الغرض واحدا فيكشف ذلك عن وحدة الموضوع ؛ لأنّه هو المؤثّر فيه وإن كان الموضوع متعددا أيضا لا بدّ من تعدد الأثر ؛ لأنّه لا يمكن تأثير شيئين في مؤثّر واحد ، ولأجل ما قلنا ذهب المحققون الى كون تمايز العلوم بالموضوعات ؛ لتقدّم رتبتها على المحمولات والأغراض.

وحاصل الكلام أنّ طريق فهم كون مسائل مختلفة علما وفنّا واحدا هو كون وحدة ذاتية بينها لعدم كفاية وحدة اعتبارية ، وإلّا يمكن أن يصير كلّ باب بل كلّ مسألة علما باعتبار الوحدة التي تعتبر لها ، وعلى هذا لا يقع تحت ميزان ولا يصير مضبوطا ، فلا بدّ من وحدة ذاتية ، والوحدة الذاتية التي بها يمتاز كلّ علم من الآخر إمّا تجيء من ناحية الموضوعات ، وإمّا من ناحية المحمولات ، وإمّا من ناحية الأغراض ، أعني الأثر المترتّب عليهما ذاتا لا الغرض المدوّن ، ولا بدّ وأن يكون تمايز العلوم أيضا بواحد من الامور الثلاثة : إمّا الموضوعات أو المحمولات أو الأغراض ، فانجرّ الكلام الى بيان الجهة الثانية ، فنقول :

٢١

الجهة الثانية :

فيما يمتاز كلّ علم عن علم آخر

فيما يمتاز كلّ علم عن علم آخر وما يكون وجه الامتياز يكون ما قلنا من أنّها الوحدة الذاتية فيها ، فنقول كما قلنا مختصرا بأنّ الناس بعد تعلّق غرضهم بفهم ما يعرض للأشياء الذي نعبّر عنه بالمحمولات ، فحيث إنّ الأغراض مختلفة فواحد يتعلّق غرضه بكشف عوارض بدن الانسان مثلا ، وواحد بعوارض الجسم مثلا ، وواحد بعوارض الكلمة مثلا الى غير ذلك ، وليس غرض الكلّ متوجّها بالكلّ ولا يمكن للكلّ التفحّص والتفتيش عن كلّ من العوارض التي تلحق الأشياء ، لعدم سعة العمر لذلك ، فيصير كلّ واحد أو كلّ طائفة بمقام كشف عارض من عوارض شيء من الأشياء ، والبحث والجد في كشف عارض الشيء هو نفس العلم الذي يبحث عن عوارض الشيء ، والفن الذي معدّ له هو فنّ هذا الموضوع ، فقهرا مع ميل الإنسان لكشف عارض أو عوارض من شيء أو أشياء وعدم تمكّنه من كشف الكلّ يتعلّق غرضه بخصوص ما يكون مائلا لكشفه فيرى أنّ موضوعات مختلفة تكون مؤثّرا في غرضه يعني يرى أنّ العارض الذي يكون في مقام كشفه هو حاصل في موضوعات متشتتة فيجمع هذه المتشتتات ويجعلها فنّا خاصا وعلما مخصوصا ؛ لأنّ نفس الموضوعات منها وحدتها ذاتية مع قطع النظر عن المحمولات والأثر ؛ لأنّ كلّا منها

٢٢

يندرج تحت جنس أو نوع أو صنف ، بمعنى أن يتصور جعل وحدة ذاتية باعتبار جنسها ، لأنّ الكلّ يندرج تحت جنس واحد ، وكذلك يمكن فرض وحدة ذاتية باعتبار نوعها ؛ لأنّ أفراد الموضوعات بعضها تحت نوع وبعضها تحت نوع آخر فكلّ منها يكون تحت نوع واحد بينها وحدة ذاتية باعتبار نوعها ، وكذلك باعتبار صنفها ؛ لأنّ كلّ صنف من أصنافها يمكن فرض وحدة ذاتية له باعتبار صنفه.

فظهر لك إمكان فرض وحدة بينها ذاتا مع قطع النظر عن المحمولات ، فلأجل هذه الوحدة تصير هذه الموضوعات المختلفة علما خاصا ، وهذه الوحدة وإن تكن بين جنس الموضوعات لأنّها تحت جنس واحد وهو الشيء مثلا ، ولكن حيث قلنا بعدم تعلّق غرض المدوّن والكاشف عن عوارض الموضوعات بكشف كلّ الموضوعات باعتبار تمام عوارضها فلا بدّ لصيرورة مسائل فنّا مخصوصا من اندراجها تحت نوع واحد ، فجهة الوحدة أنّها في الموضوعات يكون غالبا هو في وحدة النوعية ، إلّا إذا تعلّق الغرض بصنف خاصّ من النوع الذي تكون الموضوعات تحته ، ولذا يصير العلم الواحد علمين أو أكثر كما يأتي الكلام إن شاء الله ، بل وربّما تكون تحت سنخ واحد.

فعرفت ممّا مرّ أنّ من تعلّق غرضه بكشف عارض ويرى أنّ موضوعات مختلفة بينها وحدة باعتبار هذا العارض ذاتا فباعتبار هذه الوحدة تصير هذه الموضوعات مع عوارضها من مسائل علم واحد ، ويقال لهذه المسائل علم واحد ممتاز عن غيره من العلوم ، لأنّ البحث في هذا العلم عن عوارض هذه الموضوعات عوارضها الذاتية يعني يكون البحث عن العوارض الذاتية التي للموضوعات ، وإلّا لو لم يكن البحث عن عوارضها الذاتية فلا اختصاص لهذه العوارض بهذه الموضوعات ، ولا يمكن فرض جهة وحدة بين هذه الموضوعات باعتبارها لعدم كونها ذاتية لهذه الموضوعات ، فلا بدّ أن تكون العوارض عوارضا ذاتية ، فاذا حصل بهذا الاعتبار

٢٣

بين موضوعات مختلفة ومسائل متشتتة حيث وحدة ذاتية يقع الكلام في أنّ هذه الوحدة من ناحية الموضوعات أو المحمولات أو الغرض ، وأيضا يقع الكلام في أنّ أيّا من هذه الثلاثة سبب امتياز العلوم ، يعني سبب امتياز كلّ علم عن الآخر؟

وإذا بلغ الأمر الى هذا المقام :

نقول بأنّ امتياز العلوم ليس بالمحمولات ، لما قلنا لك من أنّ لازم ذلك هو صيرورة كلّ باب بل وكلّ مسألة علما على حدة ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، كما أنّ الامتياز ليس بالأغراض كما قلنا سابقا ، فما يكون قابلا لأن تمتاز به العلوم ـ وامتياز العلوم يكون به ـ هو الموضوعات ؛ لأنّ مقتضى الطبيعة ذلك ، فإنّ رتبتها مقدمة على المحمولات والأغراض فهي مع تقدّم رتبتها مقدمة لأن يكون بها تمايز العلوم ؛ لأنّ معها لا تصل النوبة للأغراض فيكون امتياز العلوم بالموضوعات ، وبينها تكون وحدة ذاتية.

فعلى هذا نقول بأنّ موضوعات مسائل علم الأصول بينها وحدة ذاتية التي بها تمتاز عن موضوعات علوم أخر ، فإذا كان كذلك فعلم الاصول علم مستقل وفنّ مخصوص في قبال سائر الفنون ، فما قاله شيخ هادي الطهراني ليس في محلّه.

وأيضا عرفت ممّا مرّ أنّ امتياز العلوم بالموضوعات لا بالمحمولات والأغراض ، لما قلنا.

٢٤

الجهة الثالثة :

المعروف في ألسنة القدماء

المعروف في ألسنة القدماء أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات ، وأورد على هذا الكلام صاحب الفصول رحمه‌الله بأنّ المراد من الحيثية التي قالوا بكون تمايز الموضوعات بها إن كانت حيثية تعليلية فلازم ذلك هو كون المحمولات علّة للموضوعات ، مثلا موضوع علم النحو إن كان هو الكلمة والكلام من حيث الاعراب والبناء وفي مقابله موضوع علم الصرف أيضا هو الكلمة والكلام غاية الأمر بحيثية اخرى وهي الإعلال والبناء ، وكذلك موضوع علم البيان هو الكلمة والكلام من حيث الخطابة والبلاغة ، فان كانت هذه الحيثيات حيثيات تعليلية فلازمه هو كون المحمولات علّة للموضوعات ، فتكون الكلمة مثلا هي الموضوع من حيث الاعراب والبناء ، والكلمة هي عين موضوعات المسائل ، فيكون الفاعل هو الموضوع من حيث كونه مرفوعا فيكون مرفوع في مسألة «الفاعل مرفوع» هو العلّة للفاعل ؛ لأنّ الفاعل بهذه الحيثية موضوع يعني متّحد مع الموضوع ، وهذا فاسد.

وإن كانت الحيثية حيثية تقييدية فلازم ذلك كون الموضوع مقيّدا بهذه الحيثية موضوعا ، ولازم ذلك هو كون الكلمة مثلا مقيدة بحيثية الإعراب والبناء موضوعا

٢٥

لعلم النحو وهكذا ، وهذا خلاف ما أرادوا ، لأنّهم كانوا في مقام أنّ بالحيثية يمتاز كل موضوع علم عن موضوع العلم الآخر. وعلى هذا لا يثبت ذلك لأنّ مع التّقييد بالحيثية التي هي موضوع لعلم آخر صار موضوعا لعلم آخر ، كما قلنا من أنّه على تقدير كون الحيثية تقييدية فالكلمة مثلا مع التقييد بحيثية الإعلال والبناء موضوع لعلم النحو ، وان كان المراد من كلامهم ما توهّمه صاحب الفصول رحمه‌الله فيرد عليهم إشكال آخر أيضا ، وهو أنّه على هذا يكون المحمول ضرورية دائما ، لأنّ مع تقييد الموضوع به يصير ضروريا.

وإن قلت : إنّ كلّ عرض ذاتي ضروري للمعروض ، أقول : بعد النظر والدليل يصير كذلك لا قبل ذلك ، ولكن على ما توهّم من مرادهم قبل النظر يكون المحمول ضروريا لتقييد الموضوع به ، فمع فرض الموضوع يكون المحمول ضروريا. وهذا باطل.

ولأجل هذا الإشكال ذهب صاحب الفصول رحمه‌الله الى التوجيه بنحو آخر وهو : أنّ تمايز الموضوعات بتمايز جهة البحث بمعنى أنّ بعد كون موضوع واحد موضوعا لعلمين فتمايز كلا الموضوعين من الآخر إنّما هو بتمايز جهة البحث. ولكن فيه أنّ لازم ذلك كون تمايز العلوم بالموضوعات والمحمولات كليهما ؛ لأنّ معنى كون جهة البحث دخيلا في الموضوعات هو هذا ، فافهم.

ولكن مع ذلك نقول بأنّ قولهم تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات صحيح وفي محلّه. بيانه : أنّ بعض الأشياء قابل لعروض بعض العوارض لها بمعنى أنّ لها استعداد وقابلية لقبول بعض العوارض ، مثلا الكلمة قابلة لقبول عوارض مثل الإعلال والبناء ، والإعراب والبناء ، والفصاحة والبلاغة ، ففيها هذه القابلية تكون موجودة ففي كون قابلية عروض بعض العوارض لبعض الأشياء لا شبهة ولا ترديد ، وأنّ هذه القابلية تارة تصل لمرتبة الفعلية وتارة لا تصل لمرتبة

٢٦

الفعلية.

فإذا عرفت هذا فنقول : إنّ في بعض الموضوعات قابلية عروض بعض العوارض ؛ يعني لها استعداد ذلك ، مثلا الكلمة كما قلنا لها استعداد ذلك ، فنقول بأنّ الموضوعات موضوعات باعتبار هذه القابلية التي فيها ، بل في الحقيقة ما هو الموضوع نفس هذه القابلية وفي العلم يبحث عن عوارض ذلك ، ويكون البحث عن فعلية تلك القابلية أيضا بحثا عن عوارض هذه القابلية ، فالمراد بأنّ تمايز الموضوعات بالحيثيات هو هذه القابلية والاستعداد التي تكون في الموضوع فالموضوع في كل علم هو القابلية والاستعداد الذي في الموضوعات لقبول العوارض في الحقيقة يعني في الحقيقة هذا الاستعداد هو الموضوع.

فعلى هذا لا مجال لا يراد صاحب الفصول رحمه‌الله على هذا البيان ، وليس المراد من الحيثية ما توهّمه رحمه‌الله واستشكل ، بل المراد ما قلنا من الاستعداد والقابلية ، فإذا كان الأمر كذلك فالموضوع في العلم إذا كان شيئا باعتبار قابليّته لعارض فيصير متميزا عن علم آخر يكون موضوعه هذا الموضوع باعتبار قابليته لعروض عارض آخر ؛ لأنّ في الحقيقة ما هو الموضوع نفس ذلك الاستعداد والقابلية ، ولا إشكال في أنّ هذه القابلية ممتازة عن غيرها ، فقابلية الإعلال والبناء غير قابلية الإعراب والبناء ، يعني قابلية قبول الإعلال والبناء غير قابلية قبولها الإعراب والبناء.

فبذلك يظهر الامتياز ، ولا يتداخل بعض العلوم في البعض ، ويصحّ ما قالوا بأنّ تمايز العلوم بالموضوعات وتمايز الموضوعات بالحيثيات ولا إشكال فيه.

٢٧

الجهة الرابعة :

إنّ المعروف هو أنّ الموضوع ما يبحث في العلم

عن عوارضه الذاتية

إنّ المعروف هو أنّ الموضوع ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية ، اعلم أنّه على ما قلنا ظهر لك أنّ الموضوع هو الجهة الجامعة التي تكون بين موضوعات المسائل ، فموضوع كلّ علم هو حيث الوحدة التي هي موجودة في موضوعات المسائل.

وبهذا البيان تعرف أنت ما هو الموضوع ، ولكن يعرف الموضوع أيضا بأنّ موضوع كلّ علم ما يبحث عن عوارضه الذاتية في العلم ، وقبل فهم ذلك نقول بأنّ العرض على قسمين :

القسم الأول : ما يعرض للشيء أوّلا وبالذات وبلا واسطة شيء آخر ، وهو ما يسمّى بالعرض الذاتي ، كالنطق العارض للانسان أوّلا وبالذات وبما هو هو بلا توسيط أمر آخر في العروض ، يعني لا يعرض النطق للانسان بواسطة أمر آخر ، ولذا يحمل عليه أوّلا وبالذات ويقال : الإنسان الناطق بلا حاجة الى أمر آخر ، وميزان

٢٨

فهم أنّ العارض يكون عرضا ذاتيا للشيء أو لا هو انه ـ بعد صحّة الحمل في كلّ منهما فيقال الإنسان ناطق ، ويقال أيضا : الإنسان ضاحك ـ إذا قيل : لم حمل : فقيل لأنّه هو ، فالعرض عرض ذاتي وإلّا فلا.

مثلا فإذا قلت : «الإنسان ناطق لأنّه إنسان» فالنطق ـ الذي هو العرض ـ عرض ذاتي للانسان. وأمّا في المثال الثاني فنقول : «الإنسان ضاحك لأنّه متعجّب» لا لأنّه إنسان فالضحك ليس عرضا ذاتيا وإلّا ففي كلّ منهما يحمل العارض على المعروض وإن كان في عروضه للموضوع محتاجا الى أمر آخر ، فهذا القسم ـ أعني ما يعرض للشيء أوّلا وبالذات وبما هو هو ـ هو المسمّى بالعرض الذاتي.

القسم الثاني : ما يعرض للشيء بواسطة أمر آخر وهو المسمّى بالعرض الغريب ، وهذا على قسمين ؛ لأنّ الواسطة إمّا داخلية وإمّا خارجية ، أمّا الداخلية أيضا فقسمين ؛ لأن الواسطة إمّا مساو للمعروض كالتكلم العارض للانسان بواسطة النطق فإنّ النطق مساو مع الانسان المعروض ، وإمّا أن تكون الواسطة أعمّ من المعروض كالحركة الإرادية التي تعرض للانسان بواسطة الحيوان ، فالحيوان وهو الواسطة أعمّ من الانسان المعروض ، وليس هنا قسما ثالثا يعني ما يكون الواسطة واسطة داخلية أخصّ ؛ لأنّ الجزء لا يمكن أن يكون أخصّ من الكلّ.

وأمّا الواسطة الخارجية فهي على أربعة أقسام ؛ لأنّ الواسطة الخارجية إمّا أعم وإمّا أخص وإمّا مساو وإمّا مباين مع المعروض ، فالأوّل كعروض التحيّز للأبيض بواسطة الجسم ، وهو أعمّ من الأبيض ، والثاني كعروض الضحك للحيوان بواسطة أمر أخص وهو الإنسان ، والثالث كعروض الضحك للإنسان بواسطة أمر مساو للانسان وهو التعجّب ، وأمّا الرابع كالحرارة العارضة للماء بواسطة النار المباين مع

٢٩

إذا عرفت ذلك كلّه لا إشكال في أنّ في كلّ علم يبحث عن العوارض الذاتية للموضوع.

وكذلك الحق هو البحث في العلم عمّا يعرض للموضوع بواسطة أمر مساو له سواء كان هذا الأمر المساوي واسطة داخلية أو خارجية ؛ لأنّ بعد كون الميزان في ما يبحث في العلم عمّا يعرض لنفس الموضوع فقط ، لا لأمر آخر فنقول بأنّ عرض المساوي لا يعرض لغير الموضوع ولا يحمل على غيره ، فلا يحمل التكلّم على غير الانسان وإن عرض للناطق فهو أيضا ليس غير الانسان ، وكذلك المساوي الخارجي فإنّ الضحك لا يعرض للانسان بلا واسطة ، بل يعرض بواسطة التعجب ، وهو لا يعرض إلّا للإنسان ، وما هو لا يعرض إلّا للإنسان أيضا وهو التعجب ، فلذا تقول : كلّ إنسان متعجّب ، وكلّ متعجب إنسان ، وكذلك تقول : كلّ إنسان ضاحك ، وكلّ ضاحك إنسان ، فحيث إنّ العرض الذي يعرض للشيء بواسطة الأمر المساوي لا يعرض الّا لهذا الشيء فهو كالعوارض الذاتية ، فلو كان للموضوع عوارض من هذا القبيل يبحث في العلم عنه.

فظهر لك أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية لا خصوص ما يعرض للشيء أوّلا وبالذات ، بل ولو يعرض بواسطة أمر مساو داخلي أو أمر مساو خارج عن الشيء.

ثم إنّ هنا إشكالا وهو أنّكم تقولون بأنّ في العلم يبحث عن العوارض الذاتية للموضوع ، ولازم ذلك عدم كون بعض المسائل بل الأغلب من عوارض الموضوع ، مثلا في علم النحو الاعراب والبناء ليس من عوارض نفس الموضوع يعني نفس الكلمة ، مثلا مرفوع في مسألة «الفاعل مرفوع» التي يبحث فيها في علم النحو ليس من عوارض نفس الكلمة ، بل يكون من عوارض الفاعل ، وكذلك في المفعول

٣٠

وكذلك مثلا في الفقه إن كان الموضوع فعل المكلف فالبحث عن وجوب الصلاة أو الزكاة أو غيرها ليس بحثا عن عوارض فعل المكلف أوّلا وبالذات ، بل في «الصلاة واجبة» يعرض الوجوب للصلاة ، وهكذا فليس البحث عن عوارض الموضوع عوارضه الذاتية ، لأنّه يحمل أوّلا وبالذات الوجوب على الصلاة لا بفعل المكلف فيقال : «الصلاة واجبة» لا يقال فعل المكلف واجب ولو اتصف فعله بالوجوب أيضا ليس إلّا بواسطة الصلاة وقد قيل في جواب ذلك بعض البيانات ولا نتعرّض لها.

والحقّ في الجواب هو أن يقال بأنّ بعض الأشياء يكون لأجزائه وجود منحاز في الخارج ، وبعضها ليس كذلك ، فإن كان لأصناف النوع وجود منحاز في الخارج فالعرض العارض بالصنف وإن عرض للنوع إلّا انه ليس عروضه أوّلا وبالذات ، بل بواسطة ذلك. وإن لم يكن لصنفه وجود منحاز ـ بل الموجود في الخارج ليس إلّا وجودا واحدا ، فوجود الصنف عين وجود الفرد ، والصنف الموجود وهو من الرأس الى الرجل هو النوع ـ فالعارض العارض للصنف يعرض لهذا الوجود الواحد ، فيعرض للنوع بعين عروضه للصنف ؛ لاتّحادهما خارجا ، فعرض العارض لهذا الموجود بشراشره ، فنقول على هذا بأنّ العارض في المسائل المبحوثة في بعض العلوم وإن كان يعرض للموضوع بواسطة صنفه ولكن هذا العارض عارض للصنف بشراشره لا بحيث صنفه ، فالرفع عارض للفاعل بشراشره ، وليس في الخارج للفاعل وجود منحاز غير وجود الكلمة ، بل هو عينها.

فبذلك البيان يرتفع الاشكال ويصحّ على ما بيّنا توجيه عبارة المحقّق الخراساني رحمه‌الله في هذا المقام فإنّه قال : «إنّ موضوع كلّ علم الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أي بلا واسطة في العروض هو نفس موضوعات مسائله

٣١

عينا ، وما يتّحد معها خارجا وإن كان يغايرها مفهوما تغاير الكلّي ومصاديقه والطبيعي وافراده» فإنّ الكلّي مع مصاديقه وجود واحد خارجا ، فلذا يعرض العارض للمصداق بعين عروضه للكلّي وبالعكس ، وكذلك الطبيعي وأفرده.

٣٢

الجهة الخامسة

في بيان موضوع علم الاصول

اعلم أنّ المحقّق القمّي رحمه‌الله قال بأنّ موضوع علم الاصول هو الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة ، والسرّ في تقييد الأدلّة بكونها دليلا وبهذا الوصف هو أنّه لو لم تكن الأدلّة بوصف الدليلية موضوعا يلزم أن يكون موضوع علم الاصول أربعة أشياء : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل لا أمرا واحدا ، وهو واضح البطلان ، وأمّا لو قيدت الأربعة بوصف الدليلية فيفرض بينها جامع وهو الدليلية ، فيكون الموضوع أمرا واحدا وهو الدليل.

ولكن من الواضح أنّه لو كان موضوع علم الاصول ؛ ما قاله رحمه‌الله يلزم أن يكون أغلب مباحث الاصول بل كلّها إلّا مبحث التعادل والترجيح خارجا عن الاصول ؛ لأنّ البحث عن الأوامر والنواهي وغيرها من العام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن على هذا من العوارض البعيدة للكتاب والسنّة ؛ لأنّ البحث في الأمر مثلا يكون في أنّه هل يدلّ على الوجوب أو لا؟ فهو من عوارض الأمر لا من عوارض الكتاب والسنّة.

٣٣

وعلى هذا لو قيل ـ كما قال بعض ـ بأنّ البحث يكون على خصوص أوامر الكتاب والسنّة فيكون الوجوب على عوارضهما لا يندفع به الإشكال ؛ لأنّه ولو كان البحث عن خصوص الأمر الوارد فيهما للوجوب أوّلا ولكن مع ذلك يعرض الوجوب للأمر ، ولو عرض للكتاب والسنّة أيضا فيكون من باب أنّه أمر لا من باب أنّه كتاب أو سنّة ، فعروض الوجوب للأمر في «أقيموا الصلاة» عرض له باعتبار كونه أمرا لا باعتبار كونه كتابا ، فعروضه للكتاب في قوله : «أقيموا» يكون بواسطة الأمر فإنّك تقول : «أقيموا» للوجوب ؛ لأنّه أمر لا لأنّه كتاب ، وهكذا الكلام في النواهي الى آخر ما قلنا فيكون البحث عنها بحثا عن العوارض الغريبة البعيدة للموضوع ـ يعني الأدلّة ـ لا عن العوارض الذاتية.

وأما غيرها من الأبحاث كالبحث عن حجّية الكتاب وخبر الواحد فعلى هذا يكون من المبادئ لأنّه ليس البحث عنها من مسائل الاصول ، بل يكون من مسائل الكلام ؛ لأنّ البحث يقع في أنّ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام حجة أو لا ، والمتكفّل لهذا البحث هو الكلام لا الاصول ؛ لأنّه ليس البحث عن دليلية الدليل بحث عن الدليل.

ولأجل ما قلنا من الإشكال قال صاحب الفصول رحمه‌الله بأنّ موضوع علم الاصول هو الأدلّة الأربعة لا بما هي أدلّة ، بل ذاتها مع قطع النظر عن وصف الدليلية ، فعلى هذا يكون البحث عن حجّية الكتاب أو الخبر من عوارض الكتاب والسنّة ؛ لأنّ الحجّية يعرضها بلا واسطة أمر ، وتكون من العارض لهما.

ولكن يرد عليه أوّلا : ما قلنا من أنّ لازم ذلك هو خروج مباحث الألفاظ لما قلنا من أنّ المحمولات تعرض في الأمر والنهي وغيرها على الأمر والنهي وإن عرض للكتاب والسنّة فيكون بواسطة الأمر أو النهي مثلا.

وثانيا : أنّ لازم ذلك هو كون موضوع العلم أربعة أشياء لا شيئا واحدا ، وهي

٣٤

الكتاب والسنّة والإجماع والعقل وليس على تقدير كون الموضوع ذواتها جامع واحد بينها ، ولا يلتزم به نفس صاحب الفصول رحمه‌الله أيضا.

وثالثا : يلزم خروج بحث خبر الواحد عن علم الاصول ؛ لأنّ الحجّية تعرض للخبر الحاكي عن السنّة لا نفس السنّة.

وقد تصدّى الشيخ رحمه‌الله لدفع الإشكال بأنّ النزاع في الخبر الواحد يكون في أنّ السنّة هل تثبت بالخبر الواحد أو لا؟ فيكون البحث عن عوارض السنّة لا الخبر ، واستشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بأنّ ما قلت بأن النزاع في الخبر يكون في أنّ السنّة هل تثبت بالخبر أو لا؟ ما مرادك من الثبوت؟

فإن كان مرادك من الثبوت الثبوت الواقعي بمعنى أنّ السنّة الواقعية هل تثبت بالخبر أو لا؟ فلا يكون البحث عن هذا الحيث بحثا عن عوارض ؛ لأنّ البحث عن ثبوت الشيء وما هو مفاد كان التامة ومفاد هل البسيطة ليس من العوارض ، بل بعد فرض الثبوت والوجود إن كان البحث في الجهة الطارئة والعارضة بالوجود فهو بحث عن العوارض فالبحث على هذا ليس من عوارض السنّة ، وإن كان المراد من الثبوت الثبوت التعبدي فهو يعرض للخبر لا للسنّة ؛ لأنّ التعبد يكون في الخبر.

فعلى هذا يكون البحث عن عوارض الخبر لا السنّة ولكن ليس إشكال المحقّق المذكور واردا على الشيخ رحمه‌الله ، فإنّ مراد الشيخ رحمه‌الله من الثبوت هو ليس الثبوت بالاصطلاح الحكمي ـ أعني الوجود ـ كما توهّمه المحقّق الخراساني رحمه‌الله بل مراده من الثبوت هو معناه المتعارف يعني الكشف ، وبعبارة اخرى الطريق ، كما تقول : هل يثبت مثلا الهلال بالبيّنة أو لا؟ فليس معناه أنّ الهلال هل يوجد بالبيّنة أو لا؟ بل معناه أنّ البيّنة كاشفة وطريقة لثبوت الهلال ووجوده أوّلا ، ففي المقام أيضا يكون مراد الشيخ رحمه‌الله ذلك الّذي تقدّم.

وعلى هذا كما أنّ البحث لو كان في الخبر الواحد في أنّ السنّة هل تثبت بالإخبار

٣٥

لا أنّ بالخبر تكشف السنّة ويصير الخبر طريقا وكاشفا لها أولا ، فكما أنّ هذا الثبوت يعرض للخبر كذلك يعرض للسنّة ؛ لأنّ الثبوت أمر اضافي ، ينسب بالمثبت ـ بالكسر ـ وبالمثبت ـ بالفتح ـ كليهما فيعرض السنّة والخبر كليهما ، فيكون البحث في الخبر على هذا من عوارض السنّة أيضا ؛ لأنّه يعني : الثبوت على هذا يعرض لها.

ولكن يرد على الشيخ رحمه‌الله أنّه وان كان الثبوت من جهة كونه أمرا اضافيا يعرض السنة والخبر كليهما ولكن لا بد وان يكون البحث عن عوارض السنّة في الخبر الواحد حتى يكون البحث عن عوارض الموضوع وفي البحث عن الخبر ليس الاشكال ومحل الكلام من ناحية السنّة بمعنى انّه ليس القصور منها ، بل القصور ان كان في ناحية الخبر وان الخبر قابل لان يثبت به السنّة أو لا ، فالبحث يكون في الخبر فالثبوت يعرض للخبر فالعارض وهو المحمول يعرض للخبر ، لأنّ الإشكال فيه لا في السنّة كما ترى في البحث الذي عنونوه بأن تخصيص الكتاب هل يجوز بالخبر أو لا؟ فيكون حيث الاشكال في ناحية الخبر وان له قابلية ان يخصص بها الكتاب أو لا والمقام أيضا كذلك.

فالبحث في حجّية الخبر الواحد ليس بحثا عن عوارض السنّة ، لما قلنا من أن الإشكال يكون في الخبر وأنّ به تثبت السنّة أو لا تثبت به ، ومع قطع النظر عمّا قلنا فى المقام فيما هو الموضوع والنقض والإشكال يكون هنا مطالب كثيرة ولا ثمرة للتعرّض عنها ، ولذا نعطف الكلام الى ما هو الحقّ في المقام.

فنقول بعونه تعالى : أولا : قبل الشروع فيما هو الموضوع بأنّ ما قيل من كون الموضوع خصوص الأدلّة الأربعة لا وجه له ، لما بيّنا لك. وليس مراد من قال بأن الموضوع هو الأدلّة الأربعة أيضا الاختصاص بها كما ترى ذلك من كلام صاحب القوانين رحمه‌الله من أنّه قال في ذيل كلامه بأنّ القياس : فليس من مذهبنا ، وأمّا الاستصحاب فهو إمّا من السنّة أو العقل ، فيستفاد من ذلك أنّ الدليل هو الموضوع

٣٦

خصوص هذه الأربعة ، والاختصاص بها كان من باب عدم دليل عنده غيرها لا أنّ لها الموضوعية.

إذا عرفت ذلك فالحقّ أنّ موضوع علم اصول الفقه هو ما يمكن أن يكون دليلا للفقه من حيث كونه دليلا ، أمّا وجه كون موضوع الاصول هو ما يمكن أن يكون دليلا كما يظهر ذلك من كلمات بعض القدماء مثل السيد المرتضى رحمه‌الله في الذريعة ، والشيخ رحمه‌الله في العدّة فإنّ في كلماتهما وغيرهما قبل زمان العلّامة رحمه‌الله وإن لم يكن من ذكر الموضوع والمسائل والمبادئ أثر في كلماتهم ، وهذه الاصطلاحات المنطقية شمت في زمان العلّامة رحمه‌الله وسرت إلى الاصول إلّا أنّ مع ذلك يظهر من كلامهما أنّ موضوع مسائل الاصول ـ يعني ما يبحث في الاصول ـ هو ما يمكن أن يصير دليلا للفقه وكذلك يظهر بعدهما من لبّ كلام العلّامة رحمه‌الله بأنّ موضوع الاصول هو ما يكون دليلا للفقه ، بل عبارة الشيخ البهائي رحمه‌الله في الزبدة على ما أظن هي عين هذه العبارة يعني «ما يمكن» فمراده أنّ الموضوع ما يمكن أن يكون دليلا وأيضا نفس اصول الفقه والتسمية بذلك شاهد على أنّ موضوعه هو دليل الفقه ، لأنّ اصول الفقه يعني دليل الفقه.

والدليل على ذلك ـ مع قطع النظر عمّا قلنا ـ هو أنّ بعد كون مسائل اصول الفقه وما يبحث عنها في هذه المسائل يكون لأجل صيرورة الموضوع قابلا لأن يقع دليلا للفقه ، فالبحث في الحقيقة يكون في أنّ هذه الموضوعات دليل للفقه وطريق للاستنباط أو لا ، وقلنا بأنّ موضوع العلم هو ما يتّحد مع موضوعات المسائل خارجا ، فالبحث بعد ما كان في العلم عن صيرورة تلك الموضوعات دليلا أو لا ، فيكون البحث عن عوارض حيث الوحدة التي كانت في موضوعات المسائل وهو الموضوع فيبحث في العلم عمّا يمكن أن يكون دليلا للفقه فهو الموضوع.

وبعبارة اخرى بعد ما كان النظر في تدوين علم الاصول هو بيان ما يبتني عليه

٣٧

الفقه ويكون موضوعات مسائل اصول الفقه هو ما يقع في طريق الفقه وكشف ما هو حكم شرعي ، أو ما هو وظيفة عملية ، أو ما يصحّ أن يكون عذرا للمكلّف على اختلاف مسائله وعلى اختلاف المباني فيكون موضوعه هو ما يمكن أن يكون دليلا للفقه ؛ لأنّ بعد كون البحث عن موضوعات مسائله هذا الحيث ـ يعني عن حيث إمكان صيرورتها دليلا للفقه وعدمه ـ وقلنا بأنّ حيث الوحدة التي تكون بين موضوعات المسائل هو موضوع العلم ، فالجامع الواحد الذي بين موضوعات مسائل الاصول ليس إلّا إمكان صيرورته دليلا للفقه.

فالموضوع على هذا يكون ما قلنا من أنّ ما يمكن أن يكون دليلا للفقه ويستفاد ذلك من تسمية هذا العلم باصول الفقه ، فمعناه ما يبتني عليه الفقه ، فعلمت أنّ ما قلنا بأنّ ما هو موضوع علم اصول الفقه يكون موافقا للاعتبار ، ولا مجال للإشكال فيه.

وأمّا وجه ما اخترنا من الحيثية في الموضوع وقلنا بأنّ الموضوع هو ما يمكن أن يكون دليلا للفقه من حيث كونه دليلا فيظهر وجهه ممّا بيّنا لك سابقا من أنّ تمايز العلوم بالموضوعات وتمايز الموضوعات بالحيثيات ونشير اليه هنا على وجه الاختصار ، وهو أنّ بعد كون الشيء له جهات وحيثيات ولا يتعلق الغرض بجميع حيثياته ، وحيث إنّ الطالبين له مختلفين ، فبعضهم مائل اليه لأجل كشف حيثية من حيثياته غير الحيث الذي يطلبه الآخر ، فلأجل السهولة دوّن لكلّ من جهاته وحيثياته علم مخصوص وفنّ مستقل ، فتمايز هذا الشيء الموضوع لعلوم مختلفة بتمايز حيثياته كما قلنا في الكلمة ، فإنّها موضوعة في الصرف من حيث الإعلال والبناء وقابليتها لأن تصير معتلا أو مبنيا وبهذه الحيثية يمتاز علم الصرف عن علم النحو ؛ لأنّ في علم النحو وإن كان الموضوع هو الكلمة لكن بحيث آخر وهو حيث قابليتها لقبول الإعراب والبناء.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ غير اصول الفقه حيث إنّ بعض العلوم الاخرى يمكن

٣٨

أن تصير دليلا للفقه كالتفسير وعلم الرجال وغيرهما ، فإذا كان الموضوع هو نفس ما يمكن أن يصير دليلا للفقه فلازمه دخول تلك العلوم أيضا في علم الاصول ؛ لأنّ بعد كون علم الاصول عبارة عن علم يبحث فيه عن عوارض ما يمكن أن يكون دليلا.

فالبحث عن خصوصيات قراءة القرآن يعني مسائل علم التفسير ، وكذلك مسائل علم الرجال أيضا يمكن أن تصير دليلا في الفقه فهي داخلة في مسائل اصول الفقه ، والحال أنّ علم التفسير والرجال علمان مستقلان فلأجل خروجهما نحتاج الى تقييد موضوع علم الاصول بالحيثية التي قلنا ، يعني حيث كونه دليلا ، فيبحث في علم الاصول عن عوارض ما يمكن أن يكون دليلا ، لكن حيث البحث يكون عن حيثية دليليّته.

فعلم التفسير وعلم الرجال وغيرهما خارجة عن علم الاصول وإن أمكن أن يصيرا دليلا ؛ لأنّ البحث في علم التفسير ليس من جهة كون هذا العلم دليلا للفقه ، بل لا نظر في البحث عن الآيات مثلا عن هذا الحيث حتى عن الآيات المتعلّقة بالأحكام ، مثلا في التفسير يتكلّم عن المراد وشأن النزول وكيفية قراءة (حَتَّى يَطْهُرْنَ) لكن لا من حيث كون ذلك يمكن أن يكون دليلا للفقه.

فعرفت ممّا مرّ لزوم قيد الحيثية في تعريف علم الاصول ، وممّا قلنا يظهر لك أنّ كلّ ما يمكن أن يكون دليلا للفقه داخل في علم الاصول فنحن ندور مدار هذا العنوان ، فكلّ شيء وقع تحت هذا العنوان وكان له هذه القابليّة ـ يعني يمكن أن يصير دليلا وإن كان وقوعه دليلا ـ فهو من مسائل الاصول.

ولو أنّ بعد البحث نكشف عدم كونه دليلا يعني نكشف أنّ الإمكان الذي كان فيه لم يصر فعليّا ، فعلى هذا البحث عن حجّية القياس وعدمه بحث اصولي ؛ لأنّ البحث بعد إمكان أن يكون دليلا للفقه يكون في أنّ القياس حجّة ودليل فعلا أو لا ، ولو لم

٣٩

يلتزم بكونه دليلا فعلا يعني ننكر إمكانه الوقوعي ، ولكن ليس ذلك موجبا لخروجه عن العلم ، كما أنّ في خبر الواحد أيضا صرف إنكار السيد حجّيته لم يخرجه عن مسائل الاصول ؛ لأنّ صرف البحث عن إمكان حجّيته يكفي في كونه من مسائل علم الاصول.

إذا عرفت موضوع علم الاصول نقول بأنّ هذا الموضوع ينطبق على كلّ ما يقال من المباني في المراد من الفقه.

فإن كان المراد من الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعيّة الواقعية ففي علم الاصول يقع البحث عن عوارض ما يمكن أن يصير دليلا لكشف الحكم الواقعي ، وإن كان المراد منه الحكم الأعمّ من الواقعي والظاهري فأيضا يبحث في الاصول عن عوارض ما يمكن أن يكون دليلا للحكم الأعمّ من الظاهري والواقعي.

وإن كان المراد من الفقه صرف المعذورية والمنجّزية لا الأحكام فأيضا في الاصول يبحث عن عوارض ما يمكن أن يصير دليلا لمعذورية المكلف أو منجّزية التكليف عليه ، وان كان الفقه عبارة عن وظائف عملية فكذلك نقول بأنّ على ما قلنا يبحث في علم الاصول عمّا يمكن أن يكون دليلا على هذه الوظائف العملية ، وإن كان المراد من الفقه أعمّ من الحكم الشرعي ، أو الوظيفة العملية أو المؤمّن والمعذّر والمنجّز كالبراءة والاشتغال فكذلك نقول : إنّ موضوع علم الاصول هو ما يمكن أن يكون دليلا لها ، والبحث في الاصول يكون عن عوارض هذا الموضوع.

اذا عرفت هذا فلننظر في المسائل المبحوث عنها في الاصول لكي نرى أنّ أيّا منها من مسائل الاصول وأيّا منها خارج عن مسائل الاصول ، فكلّما رأينا أنّ البحث منصب على عوارض «ما يمكن أن يكون دليلا للفقه» قلنا بكونه من المسائل الاصولية ، وكلّ مسألة لم تكن كذلك فهي خارجة عن مسائل علم الاصول.

فنقول بعونه تعالى : إنّ بعض المباحث كالبحث عن الحقيقة والمجاز والمشترك وما

٤٠