منهاج الأصول - ج ٥

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ٥

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٧

والقصاء لوضوح الفرق بينهما إذ تلك ليست من الامور المجعولة والقضاء والولاية من الامور المجعولة.

وأما الوكالة والنيابة فانهما أيضا من الاعتبارات العرفية الجعلية التي يقصد بها التوصل اليها بانشائه المخصوص فان مرجعهما إلى جعل ولاية للغير على مال أو نفس نعم ربما يقال أن النيابة ليست من الأحكام الوضعية وانما تكون من الحقائق الادعائية والوجودات التنزيلية بنحو ينزل النائب نفسه منزلة المنوب عنه بادعاء كونه هو هو بالنسبة إلى ما يصدر عنه من الامور الراجعة الى المنوب عنه.

وبهذا المعنى تختلف الولاية عن الوكالة حيث إن مرجعها إلى جعل الغير بما هو غير ولي سلطانا على التصرف في مال الموكل فلذا لا يحتاج الوكيل في ايقاع العمل للموكل فيه من قصد وقوعه عن موكله بل هو بعد تحقق وكالته يستقل في ايقاع العمل الموكل فيه من غير فرق بين كونه عقدا أو ايقاعا لظهور الفرق الواضح بين جعل الغير بما هو عير ولي سلطانا على العمل الموكل فيه وبين جعل النائب منزلة المنوب عنه بادعاء كونه هو هو.

ومن المعلوم ان ذلك غير مرتبط بالأحكام الوضعية والاعتبارات الجعلية إذ مرجع الجعل فيها إلى ايجاد حقيقتها بنحو ينطبق المفهوم عليها انطباقا حقيقيا وتكون مصداقا حقيقيا لذلك المفهوم ويحمل عليه المفهوم بالحمل الشائع الصناعي بخلاف باب الادعاء والتنزيل فيها فانه يكون متحققا بالجعل والانشاء ولكن مجرد ذلك لا يوجب كونها من الأحكام الوضعية.

وأما القسم الثاني وإن كان مجعولا شرعيا لكنه لا يوجد للمفهوم فرد حقيقي في عالم الاعتبار بل يوجد فردا ادعائي فالطواف بعد

١٦١

جعله في عالم التشريع بمنزلة الصلاة يصير فردا ادعائيا للصلاة لا فردا حقيقيا ولو في عالم الاعتبار لان الصلاة أمر واقعي خارجي والطواف كذلك لا ينقلب عما هو عليه حتى يصير فردا حقيقيا للصلاة لكي يحمل الصلاة عليها بالحمل الشائع بل الطواف هو فرد دعائي بلحاظ الأثر.

وأما الحجية بمعنى المعذرية والمنجزية فهي منتزعة من الكاشفية بنحو تتميم الكشف بلا اعتبار جهة زائدة بناء على كفايته في تمييز الواقع وبما يستتبعه من الحكم الطريقي على ما هو المختار ودعوى المحقق الخراساني (قده) بكونها مجعولة بنفسها لا منتزعة من أمر مجعول نظير الملكية ونحوهما من منشآت العقود والايقاعات ممنوعة اذ الحجية ليست إلا اعتبار عن كون العبد معذورا أو محلا لاستحقاق العقوبة على المخالفة ومن الواضح أن هذا المعنى نظير السببية الحقيقية أمر ذاتي للشيء لرجوعه حقيقية إلى الملازمة لكشف الواقع واستحقاق العقوبة على المخالفة.

وأما الحجية بمعنى الوسطية وهو الطريقية والكاشفية والوسط في الاثبات في غير القطع لا يعقل أن تكون من المجعولات التشريعية وانما هي مجعولات تكويني.

وأما في غيره فهي من المجعولات تكوينيا بالعرض إذ الحجية والطريقية انما هي ادعائية وليست من الأمور الاعتبارية التي توجد في عالم الاعتبار حقيقة إذ الطريقية أمر تكويني لا يوجد بصرف الاعتبار إلا ادّعاءً فالامارات ليست مصاديق حقيقة للكشف والطرق بل هي مصاديق ادعائية أيضا.

ومن هذا القبيل الهوهوية التي ادعيناها في باب وضع الألفاظ

١٦٢

فانها أمر واقعي تكويني لا توجد بصرف الجعل والاعتبار إلا ادّعاءً.

وبعد الفراغ عن تحقيق القول في الأحكام الوضعية فنقول لا يمكن جريان الاستصحاب فيها إلا بالنسبة إلى ما يكون منها جعليا ابتدائيا وأما ما لا يكون منها جعليا بل كانت من الأمور الاعتبارية الانتزاعية كالجزئية مثلا فلا يجري فيها الاستصحاب إلا بجريانه بالنسب إلى منشأ انتزاعها لأنه لا يمكن جعل الجزئية ولا رفعها ابتداء وانما يمكن الوضع والرفع بالنسبة إلى منشأها.

وأما ما يكون منها من الأمور الواقعية فحالها حال سائر الامور التكوينية والموضوعات الخارجية فيدور جريان الاستصحاب فيها مدار يكون لها أثر شرعي عملي أم لا يكون لها ذلك كما لا يخفى هذا تمام الكلام في المسألة وتمييز ما هو الحق من الأقوال.

١٦٣
١٦٤

تنبيهات الاستصحاب

١٦٥

ينبغي التنبيه على امر النية

التنبيه الأول يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين وعدم كفاية الوجود التقديري لهما مثلا : لو تيقن المكلف الحدث في زمان معين ثم غفل وصلى فان علم بعدم حصول الطهارة له فلا اشكال في بطلان الصلاة.

وأما لو احتمل حصولها فتارة تستمر غفلته إلى أن يفرغ من الصلاة ثم يشك بعدها انه تطهر قبلها والظاهر الحكم بالصحة لحكومة قاعدة الفراغ على الاستصحاب الحدث الفعلي.

وأخرى يحدث له الشك في الطهارة حال الصلاة والظاهر البطلان لان الشك لمّا حدث قبل الصلاة كان محكوما في زمان حدوثه بأنه محدث فتكون صلاته بالحدث الاستصحابي فتبطل ولا مجال لقاعدة الشك بعد الفراغ إذ موردها حدوث الشك بعد الفراغ فلا تشمل صورة حدوثه قبله كما في المقام.

ولكن لا يخفى أن الحكم بالصحة في الأولى والبطلان في الثانية ليس مبنيا على اعتبار الشك الفعلي في الاستصحاب لأنه لو بنى على كفاية الشك التقديري لا يمكن الحكم بالبطلان في الصورة الأولى لقاعدة الفراغ كما انه لو بني على اعتبار الشك الفعلي يمكن القول بالبطلان في الصورة الثانية لحصول الشك الفعلي بعد الفراغ وهو كاف في اثبات الحدث ظاهرا في حال الصلاة فيثبت البطلان لو لا قاعدة الشك بعد الفراغ.

والظاهر ان الصحة والبطلان مبنيان على جريان قاعدة الفراغ وعدمه فان جرت فيهما فالحكم بالصحة وان لم تجر فيهما فالحكم

١٦٦

بالبطلان وان جرت في أحدهما دون الآخر فالحكم بالتفصيل.

والظاهر أن قوام الاستصحاب اليقين بثبوت المستصحب سابقا والشك في بقاءه لاحقا وانما الكلام في أن اعتبار اليقين السابق من جهة كونه قوام حقيقة الاستصحاب أو من جهة كونه مما به قوام تطبيقه على المورد وحيث قلنا سابقا من أن أخذ اليقين بما هو طريق لا بما هو صفة خاصة لكي يكون قوام حقيقته ملازمه أن يكون في مكان التطبيق وقد تقدم تفصيل ذلك.

التنبيه الثاني :

لا اشكال في جريان الاستصحاب فيما لو شك في بقاء اليقين الوجداني وأما لو شك في بقاء اليقين المحرز بالأدلة الظنية مثلا لو قامت أمارة على ثبوت حكم في زمان فانه لا اشكال في أن مقتضى دليل الحجية وجوب العمل على طبق تلك الامارة في زمان قيامها عليه.

وأما لو شك في الحكم بعد ذلك الزمان فيثبت الحكم فيما لم تكن متعرضة الا لمجرد الثبوت فلم تكن هي المرجع من غير اشكال وانما الكلام في جواز الرجوع إلى الاستصحاب ليثبت بقاء ذلك الحكم قيل بعدم جواز الرجوع اليه لعدم اقتضاء الامارة ثبوت مؤداها حتى يكون الشك في بقائه بل انما تقتضي احتمال الثبوت لعدم تحقق اليقين بالثبوت لكي يكون شكا في البقاء فلا يجري الاستصحاب لاختلال ركنيه.

وقد أجاب الاستاذ (قده) بما لفظه (ان الحكم الواقعى الذي هو مؤدى الطريق حينئذ محكوم بالبقاء فتكون الحجة على بقائه تعبدا للملازمة بيته وبين ثبوته واقعا).

١٦٧

توضيحه ان الموضوع في الاستصحاب انما هو مطلق الشك ولو كان تقديرا بمعنى البقاء على تقدير الثبوت وليس موضوعها خصوص الشك في البقاء الفعلي لكي يتوقف على اليقين بالثبوت فتكون أدلة الاستصحاب بجعل الملازمة بين ثبوت الشيء وبقائه.

ولو علم بعدم الثبوت إذ صدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها فاذا قامت الامارة على الثبوت كانت حجة عليه وعلى البقاء وذلك بالاستصحاب إذ الدليل على أحد المتلازمين دليل عن الآخر فيكون المقام من قبيل ما لو قامت الامارة على نجاسة شيء فانها تكون حجة على نجاسة ملاقيه لثبوت الملازمة بين نجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه غاية الأمر أن الملازمة في المثال واقعية وفي المقام ظاهرية.

ولكن لا يخفى أن جريان الاستصحاب يتم على ما سلكه (قده) في باب الطرق والامارات من أن المجعول فيها هو الحجية كما أن ما أفاده في الجواب عن الاشكال يتم بناء على كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت فانه يصح الاستصحاب ويجري من غير حاجة إلى احراز المستصحب يكون الاستصحاب يثبت البقاء التعبدي للشيء على تقدير ثبوته لرجوعه إلى جعل الملازمة الظاهرية بين ثبوت الشيء وبقائه.

ولكن الحق ما عرفت منا في أدلة الطرق والامارات من انها بنحو تتميم الكشف واثبات احراز التعبدي للواقع لا بنحو تنزيل المؤدى ولا جعل الحجية فلا مانع من استصحاب الأحكام التي قامت الامارات على ثبوتها من غير فرق بين أن يكون اليقين في لا تنقض اليقين ملحوظا بنحو المرآتية أو العنوانية.

حيث أن دليل الامارة متكفل لاثبات العلم والاحراز بنحو يوسع دائرة اليقين في لا تنقض اليقين وبذلك يجري الاستصحاب في مؤديات

١٦٨

الامارات حيث تكون مؤدياتها محرزة بالاحراز التعبدي.

وبذلك تتم حكومتها عند قيامها على بقاء الحالة السابقة أو ارتفاعها من غير حاجة الى جعل اليقين في لا تنقض كفاية عن مطلق الاحراز لكي تكون الامارة مقدمة عليه بنحو الورود لا الحكومة ولا يحتاج إلى دعوى كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت في صحة الاستصحاب وقد أورد بعض الأعاظم على ما قرره الاستاذ (قده) بوجهين :

الأول فلأن المجعول في الطرق والامارات هو الحجية المستتبعة لتنجيز الواقع لا الاحراز والوسطية محل نظر حيث انه يمتنع جعل التنجيز والمعذرية.

أما التنجيز فانه يدور مدار وصول التكليف بالحكم إلى المكلف ولو بالطريق فلو لم يصل بنفسه أو بطريقة لا يكون منجزا لكي يكون معذرا فالتنجيز والمعذرية لا يقبلان الجعل لكونهما من اللوازم العقلية.

الثاني مما ذكره من جريان الاستصحاب في مؤديات الطرق والامارات يكفي فيه الشك في البقاء على تقدير الحدوث محل نظر لان ذلك لا يرفع الاشكال حيث ان حقيقة الاستصحاب وان كان هو التعبد في البقاء إلّا أن التعبد انما هو ببقاء ما ثبت عند الشك فيه.

ولا معنى للتعبد في البقاء على تقدير الحدوث إلا بدعوى الملازمة والملازمة كالسببية مما لا تنالها يد الجعل الشرعي فصحة الاستصحاب يتوقف على احراز الحدوث ليصح التعبد ببقاء الحادث عند الشك في بقائه ولا معنى للتعبد بالبقاء في ما شك في حدوثه.

ولكن لا يخفى أن ذلك انما يتم لو كان المقصود بالتبعية التنجيز والمعذرية إلى وصول التكليف وعدمه ولا اشكال عدم قابليتهما لوقوعهما

١٦٩

تحت الجعل ولكن ذلك لا يقصده الاستاذ (قده) وانما غرضه ان الحجية (١) كالملكية من الاعتبارات الجعلية التي تتبع جعل سببها عقلا وبذلك يجري الاستصحاب في مؤديات الامارات حيث تكون مؤدياتها محرزة بالاحراز التعبدي وبذلك تتم حكومتها عند قيامها على بقاء الحالة

__________________

(١) لا يخفى أن اشكال المحقق الخراساني (قده) مبني على كون المجعول في الامارات التنجيز عند المصادفة والعذر عند المخالفة فلذا يشكل جريان الاستصحاب فيما إذا كان المستصحب ثابتا في الامارات في الاصول إذ قيام الامارة أو الأصل على ثبوت شيء لا يوجب اليقين به لا وجدانا ولا تعبديا بل لا يتحقق شك في مورده بداهة أن الشك في البقاء فرع اليقين في الحدوث ومع فرض أنه لا يقين في الحدوث لا يتحقق شك في البقاء.

وعلى ذلك أجاب المحقق الخراساني (قده) بصحة جريانه وتحقق الشك في بقائه على تقدير حدوثه وبذلك تتحقق حقيقة الاستصحاب الذي هو جعل الملازمة بين ثبوت شيء وبقائه إلا أن ما ذكره (قده) محل نظر إذ أريد من الملازمة الملازمة بين الحدوث والبقاء الواقعية بمعنى أنه يكون ثبوت الشيء ملازما لبقائه واقعا فهو ممنوع أشد المنع إذ هو مخالف للوجدان على أن بقاء المشكوك يكون حينئذ مستندا إلى نقس الامارة لا إلى الاستصحاب حيث ان الاستصحاب بناء على ما ذكره انما يثبت تحقق الملازمة بين الحدوث ولا يكون متكفلا باثبات المشكوك بقائه.

كما أن الأدلة التي قامت على الملازمة بين القصر والافطار في السفر بقوله اذا قصرت افطرت واذا أفطرت قصرت) فان هذا الدليل لا يدل على وجوب الافطار وانما الدليل الذي تكفل به دل

١٧٠

السابقة أو ارتفاعها من غير حاجة إلى جعل اليقين في لا تنقض كتابه عن مطلق الاحراز لكي تكون الامارة مقدمة عليه بنحو الورود لا الحكومة ولا يحتاج إلى دعوى كفاية الشك في البقاء على تقدير الثبوت في صحة الاستصحاب.

__________________

على وجوب القصر على من قصر ثمانية فراسخ وان أريد من الملازمة الظاهرية فلازمه الالتزام بعدم جريان البراءة بالاضافة الى المشكوك البدوى في مورد انحلال العلم الاجمالي.

كما لو علمنا اجمالا بوجود محرمات يجب الاجتناب عن كل ما احتمل كونها منها ثم قام دليل على تعين مقدار ما علم منها فينحل العلم الاجمالي فيؤخذ بما قام الدليل على كونه محرما وتجرى البراءة في الباقي مع أنه مقتضاه استفادة الملازمة الظاهرية بدليل الاستصحاب هو جريان الاستصحاب فيما شك في كونه منها مع أنه لا يلتزم به.

والتحقيق أن أصل المبني باطل إذ الظاهر أن المجعول في باب الطرق والامارات هو الاحراز والطريقية كما ذكرنا ذلك في باب الامارات وحاصله ان الشارع جعل الامارة محرزة للواقع ونزله الامارة منزلة العلم بنحو يجعل له فردين وجدانيا وتعبديا وعليه يترتب على الشيء آثاره الواقعية عند قيام الامارة عليه.

كما يترتب عليه عند العلم الوجداني وعليه يكون المكلف عند قيام الامارة محرزا للواقع غاية الأمر يكون احرازه تعبديا ويكون من مصاديق اليقين في لا تنقض اليقين بالشك حيث أنه لم يعتبر فيه صفة اليقين وانما اعتبر فيه كونه كاشفا عن الواقع فالمضي على طبق اليقين بنحو الكاشفية عن الواقع بنحو الحقيقة.

ولذا صح قيام الامارة مقام اليقين وان أردت توضيح ما ذكرناه

١٧١

ودعوى أنه لا مانع من جريان الاستصحاب بناء على استفادة جعل الحجية من دليل الامارة بتقريب أن قيام الامارة على وجوب شيء يقطع بمطلق وجوبه الأعم من الوجوب الواقعي المتحقق في صورة المصادفة والوجوب الظاهري حتى مع عدم المصادفة فاذا شك في ارتفاعه يجري فيه الاستصحاب ممنوعة بأن ذلك إنما يتم إذا كان مفاد الامارة السببية لا الطريقية.

__________________

مثل رفع اليد عن اليقين السابق بقيام الامارة على خلافه كما لو تيقن بطهارة ماء وشك في طهارته من جهة احتمال عروض ما يوجب نجاسته ثم قامت امارة على نجاسته.

فمن الواضح أنه لا يجوز المضي على طبق اليقين في الطهارة مع أن المذكور في الرواية عدم نقض اليقين إلا بيقين آخر فيكون اليقين المتأخر رافعا لذلك اليقين السابق بواسطة كشفه عن الواقع فقيام الامارة موجب لكشفه عن الواقع فيرفع ذلك اليقين السابق فاذا جاز قيام الامارة مقام اليقين الثاني في جواز رفع اليد عن اليقين السابق جاز قيامها مقام اليقين الأول في وجوب المضي على طبقه إذ لا فرق بين اليقينين.

هذا كله في المستصحب الذى قامت الامارة عليه وأما إذا كان المستصحب ثابتا بالاصول العملية فهل يكون كالامارة أولا فنقول أن موضوع حكم الأصل تارة يكون باقيا في فرض الشك في بقاء الحكم وأخرى لا يكون باقيا بأن لا يكون الأصل متكفلا لبيان استمرار الحكم في فرض عروض الشك.

أما في الأول فلا يجري الاستصحاب لبقاء الموضوع بيان ذلك أنه إذا حكم بطهارة شيء أو حليته طاهرا باصالة الطهارة أو الحلية

١٧٢

إذ مرجع الحكم الطريقي إلى كونه ايجابا حقيقيا على تقدير وصوريا على تقدير آخر مع عدم تصور جامع بينهما وبان يكون من الفرد المردد بين ما له الأثر بين ما لا أثر له فلا يجري الاستصحاب الكلي لعدم تعلق اليقين والشك بموضوع لو الأثر كما ان دعوى جريان الاستصحاب في الحكم الظاهري الذي هو مفاد دليل التعبد بالامارة.

حيث ان قيام الامارة على وجوب شيء أو طهارته ونجاسته مما يقطع فيه بثبوت الحكم الظاهري ومع الشك في الزمان المتأخر في نجاسة ما قامت الامارة على طهارته تستصحب تلك الطهارة الظاهرية لتحقق

__________________

ثم شك في بقاء تلك الطهارة أو الحلية من جهة احتمال عروض ما يوجب نجاسته أو حرمته فيكون موضوع اصالة الطهارة أو الحلية هو كون الشيء مشكوكا في طهارته أو حليته باق في الزمان المتأخر.

فعليه لا مجال للاستصحاب ومثله في بقاء الموضوع ما اذا ثبت حكم بالاستصحاب فمع عدم اليقين بالخلاف يحكم ببقائه بلا حاجة إلى استصحاب آخر فلو شك في طهارة الثوب مثلا من جهة اصابته الدم فحكم بطهارته بمقتضى الاستصحاب ثم شك بعد ذلك في اصابته للبول مثلا لم يحتج إلى جريان استصحاب آخر لأن موضوع الاستصحاب الأول باق غاية الأمر ان الشك في بقاء الطهارة ناشئ من جهة احتمال اصابة الدم أولا ومن جهة احتمال اصابته للبول ثانيا.

وهذا لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده اللهم إلا أن يفرض جريان الاستصحاب في نفس منشأ الشك فيكون أحد موضوع الاستصحابين مغايرا مع الآخر إذ موضوع الأول عدم ملاقاته للدم وموضوع الثاني عدم ملاقاته للبول وهما متغايران لكنه يخرج عن كونه استصحابا في الحكم الظاهري.

١٧٣

أركانه من غير حاجة إلى احراز الطهارة الواقعية التي هى مؤدى الامارة لكي يقال بعدم جريان الاستصحاب لعدم احراز الحدوث ممنوعة فان ذلك انما يتم اذا لم يكن منشأ احتمال عدم المطابقة منحصرا بجهة مخصوصة.

وأما مع الانحصار فلا يجري الاستصحاب للقطع بانتفاء الحكم الظاهري من غير تلك الجهة كما لو فرضنا أنه ومع الشك في طهارة الماء ونجاسته في زمان من جهة احتمال ملاقاته مع الدم بنحو يكون منشأ الشك منحصرا بالاحتمال المذكورة فقامت البينة على طهارته في الصبح فمن الواضح انما يقتضيه التعبد بالبينة من الطهارة الظاهرية للماء انما هو طهارته من تلك الجهة لا مطلقا ولازم ذلك حصر منشأ الشك في

__________________

وأما في الثاني كما هو في الموارد التي يترتب على جريان الأصل حكم في موضوع آخر كما لو غسل ثوبه بالماء المحكوم بطهارته بمقتضى الاستصحاب ثم شك في بقائه بعد ذلك من جهة احتمال اصابته للبول مثلا فلا يمكن اثبات طهارته بعين ما دل على طهارة الماء المغسول به إذ المترتب على طهارة الماء هو حدوث الطهارة في الثوب المغسول به.

وأما بقائها فهو لبس من آثار طهارة الماء فعليه لا مانع من جريان الاستصحاب في طهارة الثوب لأنه قد حكم بطهارته ظاهرا ومنه يظهر التأمل فى ما ذكره الأستاذ (قده) في جواب استصحاب الحكم الظاهر للقطع بتحققه فانه لا مانع من استصحابه اللهم إلا أن يقال بأنه من الاستصحاب الكلي من القسم الثالث وكونه منه محل نظر إلا أن يرجع إلى ما ذكرناه أخيرا من اختلاف الموضوع فان موضوع الأول غير الثاني.

١٧٤

نجاسته بتلك الجهة بعد اليقين بعدم نجاسته من تلك الجهة الاخرى ومع هذا اليقين يمنع التعبد بالبينة حتى من الجهة المعلومة فلو شك في بقاء طهارته من غير تلك الجهة المشكوكة في الزمان المتأخر. وإنما يشك في طهارته من جهة ملاقاته مع البول أو غيره من النجاسات فلا يجري فيه الاستصحاب للقطع بانتقاء الحكم الظاهري من الأول من غير الجهة المشكوكة أولا وعليه فلو لا اجراء الاستصحاب في الحكم

__________________

وكيف كان الذي ينبغي أن يقال هو أنه يقال هو أنه بناء على ما هو المختار أن المجعول هو الطريقية بمعنى تتميم الكشف في باب الامارات يكون اليقين المأخوذ في لا تنقض اليقين بالشك هو اليقين بالشيء في الزمان السابق قد أخذ موضوعا للحكم بالبقاء في ظرف الشك بالبقاء بما هو طريق ومحرز من دون فرق بين ما احرز ثبوته بمحرز وجداني كالقطع أو بمحرز تعبدي كالامارات والأصول المحرزة دون غير المحرز.

وليس معنى ذلك أن اليقين في لا تنقض استعمل بمعنى المحرز لكي يكون أعم من المحرز الوجداني والتعبدي وإنما اليقين مستعمل بالمعنى والمعروف وهو الاعتقاد الجازم غايته ان اليقين في موضوع الحكم لم يؤخذ بنحو الصفتية لما هو معلوم انه لم يكن عندنا حكم قد أخذ في موضوعه اليقين بنحو الصفتية وانما يؤخذ على نحو الطريقية والكاشفية.

وقد عرفت منا سابقا أن أدلة الامارات والاصول المحرزة لها حكومة على الاستصحاب بمعنى أنها توسع موضوع الاستصحاب وعليه يتحقق بذلك موضوع الاستصحاب وهو بقاء المتيقن في ظرف الشك.

١٧٥

الواقعي الذي هو مؤدى البينة لا مجال لاجرائه في الحكم الظاهري الذي هو مفاد دليل التعبد.

__________________

نعم يتوجه اشكال تحقق الحكم بلا موضوع بناء على ما سلكه المحقق الخراساني في الكفاية من عدم قيام الامارات والاصول المحرزة مقام القطع المأخوذ بنحو الطريقية والقول بأن المجعول هو الملازمة.

ففيه أولا : أن الملازمة بين الشيئين ولو كانت ظاهرية ليست قابلة للجعل التشريعي لكونها من الأمور التكوينية وحالها حال العلية والسببية.

وثانيا : أن ذلك لازم لوجود الحكم بلا موضوع هذا كله بناء على تتميم الكشف.

وأما لو قلنا بجعل المؤدى فلا يرد اشكال أصلا حيث أنه بناء على جعل المؤدى لا يفرق بين أن يتعلق اليقين بحكم واقعي أو ظاهري فلم يبق لنا في المقام اشكال إلا الاشكال في جريان الاستصحاب بل يجري في كل أصل معنى بالعلم بالخلاف كقاعدتي الحل والطهارة وهو أنه قبل حصول العلم بالخلاف نفس مؤدى ذلك الأصل من غير حاجة إلى الاستصحاب إذ يكون من قبيل تحصيل ما هو حاصل وبعد حصول الغاية أعني العلم بالخلاف لا يبقى موضوع للاستصحاب فافهم وتأمل.

١٧٦

التنبيه الثالث :

ان المستصحب اي ما له الأثر الشرعي تارة يكون جزئيا وأخرى يكون كليا والأول أما أن يكون شخصا معينا كما إذا كان الأثر مترتبا على شخص زيد وكان مقطوع الحدوث وشك في بقائه وأما أن يكون مترددا بين أمرين كما اذا علم اجمالا بتحقق شخص له الأمر وهو مردد بين زيد بن عمر وزيد بن بكر أما الأول فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه وأما الثاني كما لو شك في أن النهار ينتهي بغياب الفرص أو بذهاب الحمرة المشرقية وكالشك في مفهوم الرضاع المحرم ما بلغ عشر رضعات أو خمس عشرة رضعه أو مفهوم الكر المردد بين ما يساوي سبع وعشرون شبرا أو ثلاث وأربعون شبرا فلا يصح استصحاب المفهوم المردد بين فردين أو احدهما.

حيث أن هذا العناوين العرضي وان كان متعلقا لليقين والشك إلا أن مثل هذا العناوين ليس موضوعا للاثر إذ الأثر لم يترتب في الأدلة عليها ولذا لا يجري الاستصحاب لا في العناوين الاجمالية ولا في العنوانين التفصيلية لانتفاء الأثر الشرعي في العنوانين الاجمالية وانتفاء الشك في البقاء في العنوانين التفصيلية (١).

__________________

(١) وحاصله أن المانع من جريان الاستصحاب في الفرد المردد هو عدم ترتب الأثر لما هو المعلوم وهو عنوان الفرد المردد أو احدهما وما أشبه ذلك فان هذه العناوين لم تؤخذ موضوعا للاثر في لسان الأدلة وما هو موضوع الأثر هو كل فرد بعنوانه الخاص وهو ليس مما علم سابقا فالذي يظهر منه (قدس‌سره) أنه يقول بصحة استصحاب

١٧٧

وبالجملة أن الأثر الشرعي منتف بما هو مشكوك وانتفاء الشك في البقاء فيما له الأثر الشرعي لكونه دائرا بين المقطوعين أي مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء وبذلك يظهر الفرق بين الفرد المردد وبين القسم الثاني من الكلى كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر فان صحة الاستصحاب فيه لترتب الأثر الشرعي على نفس الكلي وهو المانعية من الصلاة بخلاف الفرد المردد فان الأثر الشرعي انما يكون للشخص لا بعنوان أحد الشخصين.

وهذه الجهة هي الفارقة بين المقامين لا بصدف كون الجامع المتعلق بالشك واليقين ذاتيا بالنسبة إلى الكلي وعرضيا بالنسبة إلى أحد الفردين.

ولذا لو فرض ترتب أثر شرعى على العنوان العرضي وهو عنوان أحد الفردين الذي هو جامع عرضي لقلنا بجريان الاستصحاب فيه كما لو فرض ان الأثر الشرعي مترتب على نفس الحصة أو الفرد لا الكلي الذي هو جامع ذاتي بين الفردين لقلنا بعدم جريان الاستصحاب فيه وسيأتي بيانه إن شاء الله عن قريب على نحو التفصيل.

__________________

الفرد المردد في حد نفسه ولكن لا يجري لعدم الأثر فلو فرض في مورد وجود أثر لذلك العنوان فلا مانع من جريانه.

ولكن لا يخفى أن عدم جريانه لعدم تمامية أركانه أعني اليقين السابق والشك اللاحق حيث انه بعد الاتيان بأحد الاطراف أو تلفه أو خروجه عن الابتلاء مما يقطع بعدم بقاء ذلك العنوان الاجمالي فالذي يحتمل البقاء هو الفرد الواقعي الذي معلوم في علم الله ولم يكن معلوما قط وما كان معلوما ذلك العنوان الاجمالي غير محتمل البقاء وغير باق قطعا وعليه لا تتم أركان الاستصحاب لكي يقال بجريانه.

١٧٨

والثانى وهو ما اذا كان كليا فتارة يكون الأثر مترتبا عليه على نحو الوجود الساري بمعنى أن الكلي بوجوده الساري متحقق في ضمن كل فرد مما له الاثر ومرجعه إلى أن كلّا من الطبيعة الكلية المتحققة في ضمن كل شخص موضوعا لحكم شرعي مختص به له الامتثال والمعصية كالعام الاستغراقي وان كانت الخصوصية في كل حصة خارجة عنه كما في مانعية النجاسة الخبثية للصلاة ولهذا يجب التقليل فيها فيما اذا لم يكن ازالتها رأسا والكلام في ذلك سيأتي أيضا.

وأخرى كان الكلي بما هو صرف وجود الطبيعة بما له الأثر ومرجعه إلى أن الأثر مترتب على أول وجودها وهذا ينقسم إلى أقسام ثلاثة لأن الشك في بقائه الكلي تارة من جهة القطع بتحققه في ضمن شخص خاص ويشك في بقاء ذلك الشخص.

كما اذا علم بوجود الانسان في ضمن ثم زيد شك في بقائه من جهة الشك في بقاء زيد وارتفاعه واخرى كان الشك في بقائه من جهة الشك في تحققه في ضمن فرد يقطع بارتفاعه أو في ضمن فرد يقطع ببقائه.

كما اذا علم بتحقق انسان أما في ضمن زيد نقطع بارتفاعه وأما في ضمن عمر نقطع ببقائه.

وهذا هو القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي باصطلاح الشيخ (قده) كما أن الأول هو القسم الأول والثالث ما كان الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في حدوث فرد آخر بعد القطع بارتفاع مقطوع الحدوث وهو القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي وهو على قسمين الأول ما اذا شك في حدوث فرد مقطوع البقاء مقارنا لحدوث الفرد المعلوم الارتفاع والثانى ما إذا شك في حدوث فرد مقطوع البقاء

١٧٩

مقارنا لزوال فرد معلوم الحدوث وهو أيضا يتصور على وجهين أحدهما ما إذا كان الفرد (١) المشكوك الحدوث مباينا للفرد الأول المقطوع

__________________

(١) يعتبر في الاستصحاب الكلي أن يكون الاثر مترتبا على القدر المشترك فاذا جرى الاستصحاب ترتب ذلك الأثر وأما خصوص أثر الفرد الباقي لا يترتب على الاستصحاب الكلي حيث أنه غير متكفل باثباته بقاء خصوص الفرد الباقي مثلا ما يترتب على جريان استصحاب الحدث الكلي المردد بين الأصغر والأكبر انما هو أثر طبيعي الحدث من عدم جواز مس كتابة المصحف وغيره.

وأما عدم جواز المكث في المسجد الذي هو أثر لخصوص الحدث الاكبر فلا يترتب عليه الا على القول بالأصل المثبت كما انه يعتبر في جريانه ألا يكون في مورده أصل حاكم عليه فمع وجوده لا تصل النوبة إلى جريانه.

كما إذا كان المكلف قد أحدث بالحدث الأصغر سابقا ثم خرج منه بلل مشتبه بين البول والمني فيجري الاستصحاب الحدث الأصغر لكونه معلوما بالتفضيل.

وأما الحدث الأكبر فيجري فيه اصالة عدم حدوث الحدث الأكبر حيث أنه مشكوك الحدوث فيكون حاكما على الاستصحاب الكلي من غير فرق بين القول ان الحدث الأكبر مضاد للأصغر أو مؤكد له أو مخالف معه حيث انه يستصحب عدم تبدل الحدث الأصغر بالحدث الأكبر على الأول وعدم تأكده على الثاني.

وعدم حدوث فرد ثاني معه على الثالث فيحكم بجواز الدخول بالصلاة بلا غسل وكما لو علم بنجاسة شيء وترددت النجاسة بين الذاتية والعرضية كالشعر المردد بين شعر الخنزير وشعر آخر متنجس ثم غسل

١٨٠