منهاج الأصول - ج ٤

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ٤

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

فيه فعليه لا بد من الاستدلال بهذه الرواية من سد هذا الاحتمال إذ عليه تكون هذه الرواية اجنبية عن المقام إذ الصدور لا يلازم الاعلام وحينئذ يكون مفادها التنبيه على منع الملازمة بين حكم العقل وبين حكم الشرع ودعوى ان حمل الرواية على الاحتمال الثاني فتكون متعرضة لما هو اوضح الواضحات وهو اباحة الاشياء قبل صدور النهي فيه ممنوعة فان الرواية حينئذ لم تكن متعرضة لذلك الاحتمال

__________________

شرعي فيكون المراد منه اما الاباحة الواقعية او الظاهرية من غير فرق بين كون القضية خبرية او انشائية ، اما على الاول فلا سبيل له إذ يلزم ان يكون أحد الضدين رافعا للضد الآخر ولا معنى لان يقال بان كل شيء مطلق واقعا حتى يصدر فيه نهى فهو نظير ما يقال ان كل شيء ساكن الى أن يتحرك ، واما على الثاني فيستلزم التصويب المجمع على بطلانه وحيث بطل احتمال ارادة الاباحة الواقعية تعين ان يراد من (المطلق) في الرواية الاباحة الظاهرية ومع ارادته كذلك يلزم ان يراد من الورود هو الوصول إذ لا ترتفع الاباحة الظاهرية بصدور الحرمة الواقعية ما لم تصل فيكون وصولها رافعا للاباحة الظاهرية فعليه يكون مفاد الرواية ان كل شيء مطلق ظاهرا حتى يرد فيه نهى وعليه يكون الموضوع في هذه القضية هو الشيء بما انه مشكوك الحكم من غير فرق بين كون الشك لأجل الاشتباه في الموضوع او الاشتباه في الحكم فدلالتها على البراءة مطلقة اي الشبهة الموضوعية أو الحكمية فتكون دلالة ظاهرة من غير حاجة الى التمسك باصالة صدور النهي كما ذكره المحقق الخراساني (قده) على انه لو جرى هذا لاصل يكون حاكما على ادلة البراءة إلا انه لا يكون من الاستدلال بالخبر وانما هو دليل مستقل على ان جريانه لاثبات الحلية واقعية كانت او ظاهرية يكون من الاصول المثبتة التي لا نقول بحجيتها فلا تغفل.

٨١

فقط بل هي متعرضة لمنع الملازمة بين حكم العقل وبين حكم الشرع مثلا لو ادرك العقل مفسدة في شيء لم يصدر النهي من الشارع بتركه فبمقتضى هذه الرواية تدل على عدم الملازمة بين حكم الشارع وحكم العقل إذ المفاسد والمصالح إنما هي مقتضيات للاحكام لا علل لها فمن الجائز أن في الشيء مقتض للتأثير ولكن فيه ما يمنع تأثير المقتضى وكيف كان فمبنى الاستدلال هو كون الرواية ناظرة للاحتمال الاول لا للاحتمال الثاني وعليه يكون مفاد الرواية هو بيان الوظيفة الظاهرية في مرحلة الشك في الواقع ولا يقدح أخذ الغاية غاية ظاهرية لكي تكون الغاية كالمغيا اللهم إلا أن يقال بانه يمكن تمامية الاستدلال على تقدير ارادة الصدور من لفظ (يرد) في الرواية. بيان ذلك ان الدلالة تارة تكون قطعية واخرى ظنية فعلى الاول تكون الرواية خارجة عما نحن فيه وعلى الثاني يكون التعبد بما تقتضيه الدلالة الظنية وظيفة ظاهرية فيراد من الاطلاق في المغيا هو الحكم بالاباحة في المرتبة المتأخرة رتبة عن مرحلة الواقع وبعدم القول بالفصل بين مراتب الحكم تصل النوبة الى مرتبة الادنى من تلك المراتب وهي مرتبة الشك بمثل هذا الحكم بالاباحة فيحكم بالاطلاق والحكم بالاباحة ايضا وعليه يتم المطلوب مع حمل الورود بمعنى الصدور لا الوصول وان كان حمل ذلك خلاف الظاهر كما لا يخفى.

ومنها ـ صحيحة عبد الرحمن عن ابي ابراهيم عليه‌السلام فيمن تزوج امرأة في عدتها قال عليه‌السلام لا اما اذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو اعظم من ذلك فقال باي الجهالتين يعذر بجهالته ان ذلك محرم عليه أم بجهالة انها في عدة فقال احدى الحالتين أهون من الاخرى الجهالة بان الله حرم ذلك عليه ، وذلك بانه لا يقدر على الاحتياط معها فقلت : وهو في الاخرى معذور ، قال : نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في ان يتزوجها

٨٢

فقلت : فان كان احدهما متعمدا والآخر يجهل فقال : الذي تعمد لا يحل له ان يرجع الى صاحبه ابدا ، وتقريب الاستدلال يظهر من قوله : (وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك) فانه يدل على معذورية كل من الجاهل بالحكم والجاهل بالموضوع أي الجهل بالتحريم ، والجهل بموضوعه أي كونها في العدة وان المراد بما هو أعظم هي العقوبة لكونها اظهر الافراد ، والعقوبة بنحو تشمل الاخروية إذ لو اريد منها خصوص الدنيوية التي هي الحدود والتعزيرات لما صح الاستدلال بها فاذا صح تعميمها تم التمسك بهما للمقام لدلالتها على كون الجهل بالحكم أو الموضوع يرفع العقوبة الاخروية فلا يجب الاحتياط حينئذ في الشبهة التحريمية في قبال الاخباري الذي يدعى وجوب الاحتياط فيها وقد أورد الشيخ الانصاري بلزوم التفكيك بين الجهالتين وحاصله ان الجهالة ان اريد منها الغفلة فلا معنى لتخصيص الجاهل بالحكم بعدم القدرة على الاحتياط إذ ذلك يشمل الجهل بالعدة لعدم قدرته على الاحتياط اذا كان غافلا وان اريد منها هو الشك فالجاهل بالحكم كالجاهل بالعدة قادر على الاحتياط ، ولكن لا يخفى ان المراد من الجهالة مطلق الجهل الشامل للغفلة والشك إلا انه بالنسبة الى الجهل بالحكم يراد منه الغفلة لكون الغالب بالنسبة الى الحكم يكون غافلا ولذا يبعد ان يراد منه الشك إذا الشاك يكون ملتفتا فلذا لا يكون قادرا على الاحتياط بخلاف الجهل في العدة فان الغالب هو ان يكون ملتفتا الى عدم كونها في العدة عند ارادة التزويج فلذا الجهل بالعدة يلائم الشك وعليه يكون قادرا على الاحتياط ولا يلزم من ذلك التفكيك بين الجهالتين إذ الاختلاف بحسب المورد وإلا الجهالة بمعنى واحد وهو القدر المشترك بين الغفلة والشك هذا ولكن الاستدلال مبني على ان يراد من المعذورية من حيث الحكم التكليفي إلا ان الظاهر ان السياق يأبى حمله على ذلك فالسياق إنما يقتضى الحمل على الحكم الوضعي وهو عدم حرمتها

٨٣

مؤيدا لا من حيث المؤاخذة ثم ان شيخنا الانصاري (قده) منع الاستدلال بهذه الرواية من جهة اخرى وحاصله ان الشك ان كان في انقضاء العدة مع العلم بمقدارها فهو من الشبهة في الموضوع وذلك خارج عما نحن فيه على انه يمكن جريان استصحاب عدم الجواز في الفرض المذكور وان كان الشك في مقدار العدة فهو شبهة حكمية قصر في السؤال عنها وليس معذور اتفاقا لاصالة بقاء العدة ولكن لا يخفى ان جريان استصحاب بقاء العدة في الفرض الثانى لا يكون إلا على القسم الثاني من استصحاب الكلي المردد بين ما هو مقطوع الارتفاع وبين ما هو مشكوك الحدوث إلا ان شرط جريانه ان يكون ذا أثر مع ان كلي العدة ليس له أثر نعم يمكن ان تستصحب الحرمة الثابتة سابقا ولكن لا مجرى له لوجود الدليل الحاكم بالمعذورية فلا يبقى مورد للاستصحاب فافهم وتأمل لكي لا يشتبه عليك الحال.

اصالة الحل

ومما استدل على البراءة بقوله عليه‌السلام : (كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه) بتقريب ان ما شك في حليته فهو محكوم بالحل الى ان تعرف الحرام وذلك يدل على ان شرب التتن مثلا مما شك في حرمته فهو محكوم بالاباحة ولكن لا يخفى ان الاستدلال بذلك يتم لو قلنا بان المراد يكون حلالا او حراما أي ما كان بنحو الاتصاف والصلاحية بمعنى ان الشيء صالح للحلال وصالح للحرام فيكون مفاد الرواية ان كل شيء يصلح للامرين فهو محكوم بالحلية حتى

٨٤

تعرف الحرمة فتكون الرواية مختصة بالشبهة الحكمية (١) اللهم إلا ان يقال

__________________

(١) وفاقا للاستاذ المحقق النّائينيّ (قده) حيث قال ان ظاهر لفظ الشيء في الرواية هو الموجود الخارجي لا المفهوم الكلي فعليه لا ينقسم الى الحلال والحرام وذلك يكون قرينة على ان المراد من التقسيم هو الترديد بمعنى ان الشيء اما أن يكون حراما أو حلالا فعليه ان الترديد لا يكون قرينة على الاختصاص بالشبهة الموضوعية ولكنه (قده) ذكر اخيرا ان ذلك خلاف الظاهر من كلمة بعينه فان الظاهر منها الاختصاص بالشبهات الموضوعية على ان الانقسام الفعلي وان كان متصورا في الشبهة الحكمية كاللحم مثلا فيه حلال وهو لحم الغنم وحرام وهو لحم الارنب ومشكوك فيه وهو لحم الحمار إلا ان الظاهر كون الانقسام له الدخل في الشك ، ومن الواضح ان الانقسام الفعلي المتصور ليس له الدخل قطعا وذلك لا تتصور إلا في الشبهة الموضوعية وبالجملة فكلمة فيه ظاهرة في اختصاص الحديث في الشبهات الموضوعية كما هو كذلك كلمة بعينه فان معرفة الشيء بعينه إنما يكون من الموضوعات الخارجية ولا معنى لان يكون غاية له حتى تعرف الحكم بعينه. نعم لو لم يكن في الرواية بعينه لامكن شمول الرواية للشبهة الحكمية والموضوعية وكيف كان فقد استدل لجريان اصالة الحل في المقام بثلاث روايات رواية مسعدة بن صدقة وكل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه الخ فان صدرها يشمل كلتا الشبهتين إلا ان الشيخ الانصاري استشكل في شمولها للافراد والانواع والانصاف انه لا مانع من شمول الرواية لهما حيث انه يستفاد من حتى تعرف كونها صفة للشىء المجهول فبالنسبة الى المجتهد مصداقه النوع لتعلق شكه بنوع الشىء وبالنسبة الى المقلد يتعلق شكه بالفرد نعم ربما يستشكل من شمولها للشبهة الحكمية من جهة ذيل الرواية فانها مذيلة بما يختص بالشبهة

٨٥

ان المستفاد من ضمير بعينه هو العهد الى الشيء الخارجي المعلوم على التفصيل وكون الرواية كذلك تختص بالشبهة الموضوعية بل لو قلنا باللام للجنس والضمير يعود الى الجنس فتكون الرواية محتملة الامرين بيان ذلك هو ان الحرمة التي اخذت غاية تارة معلومة المصداق مشكوكة الحرمة واخرى معلومة الحرمة مشكوكة المصداق والذي ينسبق الى الذهن هو الثاني الذي هو عبارة عن الشبهة الموضوعية دون الاول الذى هو الشبهة الحكمية على ان الظاهر كون الشيء في الرواية منقسما الى الحرمة والحلية بالفعل لا بنحو الصلاحية فعليه تختص بالشبهة في الموضوع ولا تشمل الشبهة في الحكم إلا بتقريب ان الانقسام الفعلي حاصل باعتبار كلي اللحم ففي لحم الغنم حلال ولحم الأرنب حرام فبالنسبة لكليه يكون منقسما اليهما بالفعل فيكون اشتباه في القسم الثالث كلحم الحمير مثلا ومنشأ ذلك وجود القسمين في كليه بالفعل فحينئذ يحكم بحلية القسم الثالث واتمام ذلك في بقية الفروض بعدم القول بالفصل فتأمل.

وقد يستدل على البراءة في الشبهات الحكمية برواية مسعدة بن صدقة عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع او قهر فبيع أو امرأة تحتك وهي اختك او رضيعتك والاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك أو تقوم به البينة وتقريب الاستدلال بذلك هو ما ذكرناه في سابقتها إلا ان الاستدلال

__________________

الموضوعية على ان لفظة بعينه تختص بها لظهور كون بعينه قد اتى بها للتأسيس لا للتأكيد لما هو معلوم ان الاصل في القيد ان يؤتى به للتأسيس فيما لو دار بين كونه للتأكيد أو للتأسيس ومما ذكرنا تعرف الحال في الخبرين الاخيرين فلا تغفل

٨٦

بهذه الرواية ربما يمنع حيث انها مذيلة بامثلة كالثوب والعبد والامرأة مما يوجب اختصاصها بالشبهة الموضوعية فتخرج عما نحن فيه على ان جعل الحلية في مثل هذه الرواية المذيلة بمثل تلك الأمور محل نظر إذ كل واحد من تلك الامور فيها قاعدة تخصه كمثل اليد أو السوق او الاستصحاب فمع وجود مثل القاعدة يلغى جعل الحلية ولكن الانصاف انه يمكن الجواب عن الاخير بدعوى ان تلك الامور انما ذكرت بنحو المثال والتنظير وليس الغرض تطبيق جعل الحلية عليها كما ان الاشكال الاول يمكن منعه بدعوى ان الحكم بالاباحة في هذه الرواية لم تكن بنحو الانشاء وانما اعتبر بنحو الاخبار والحكاية عن الموارد المحكومة بالاباحة المنشئة بانشاءات مستقلة فحينئذ لا مانع من التمسك بمثل هذه الرواية على جريان البراءة في الشبهة الحكمية ومن ذلك يعلم ان مفاد الرواية لا يختص بالشبهة الموضوعية بسبب كونها مذيلة بالامثلة التي من قبيل الشبهة الموضوعية لما هو معلوم ان ذكرها من باب المثال وليس في مقام انحصار تطبيق الصدر على تلك الامثلة كما انه لا ينافي جريان الأصل الموضوعي في بعض تلك الامثلة إذ الرواية في مقام الحكاية عن انشاء مستقل. نعم ينافي ذلك لو كانت الرواية في مقام الجعل والانشاء فعليه لا ينافي كون بعض تلك الامثلة قد انشأ فيها قاعدة الحل مجرى للاصل الموضوعي وبسبب جريان الاصل الموضوعي ترتفع القاعدة لمزاحمة ما هو اقوى منها.

وبالجملة ان هذه الرواية لم تكن في مقام انشاء قاعدة الحل بل هي اخبار عن انشاءات مستقلة يكون بعضها مزاحما مع الأصل الموضوعي وبعضها غير مزاحم ففي صورة المزاحمة ترتفع القاعدة بخلاف صورة غير المزاحمة ولكن الانصاف حمل الرواية على الاخبار والحكاية محل نظر إذ ذلك مخالف للسياق فحملها على كونها في مقام الانشاء متعين وهذه الامثلة اتي بها للتنظير ولم يأت بها لبيان موارد تلك القاعدة لكي تكون القاعدة مذيلة بما ينافيها وبما ذكرنا

٨٧

يمكن الجمع بين الاستشهاد بالرواية وبين حملها على الانشاء دون الحكاية كما لا يخفى هذا تمام الكلام في الاستدلال بالاخبار على جريان اصالة البراءة في الشبهة الحكمية.

الاجماع

وقد يستدل للبراءة بالاجماع فان اريد به ان الاجماع قام على البراءة في ظرف عدم البيان فهو مسلم لكنه خارج عن محل النزاع بين الاصوليين والاخباريين لما عرفت في أول المسألة ان النزاع في الصغرى ، وان اريد من الاجماع قيامه على العمل بالبراءة في صورة الجهل بالواقع اتجه الاستدلال بالاجماع ولكن انى لنا باثبات ذلك بل هو في غاية الوهن لان تحصيله غير معتبر من جهة احتمال ان يكون مدرك المجمعين هو حكم العقل بذلك فكيف بالاجماع المنقول وبالجملة الاجماع في مورد حكم العقل لا أثر له ولذا لا يستدل به على انه لو تم الاجماع فهو في نظر الاصوليين ليس إلا وقد خالفهم في ذلك الاخباريون ومع مخالفتهم كيف يكون مثل هذا الاجماع يكشف عن قول المعصوم الذي هو ملاك حجيته وعليه مع عدم كشفه لا يكون الاجماع بمعتبر وقد اوضحنا ذلك في الاجماع المنقول فراجع لكي يتضح لك الحال.

٨٨

الاستدلال بدليل العقل على البراءة

وقد استدل على البراءة بدليل العقل وهي قاعدة قبح العقاب من دون بيان فان العقل حاكم على انتفاء العقوبة على ما اشتبه حكمه مع عدم بيان من الشارع (١) ولكن لا يخفى ان هذه القاعدة قد عرفت انها مسلمة عند الاصولي

__________________

(١) لا يخفى ان البيان بوجوده الواقعي ليس محركا وزاجرا وإنما يكون المحرك بوجوده العلمي بمعنى ان وظيفة المولوية تقتضي جعل الحكم وبيانه على نحو يتمكن العبد من الوصول اليه بالفحص فاذا لم يجعل أو جعل ولم يتمكن العبد من الوصول اليه فمقتضى ذلك عدم العقوبة عند مخالفته للواقع والحاكم بذلك هو العقل وهذا من القضايا المسلمة عند الاخباري والاصولي إلا انه يدعى حكومة قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فان العقل يستقل بذلك فيقدم على حكم العقل بالقبح.

وقد اجاب الشيخ الانصاري (قده) بان وجوب الدفع ليس غيريا وانما وجوبه نفسي فالعقاب يكون على مخالفته لا على مخالفة الواقع وخالفه في ذلك المحقق الخراساني بان الوجوب ليس نفسيا وإنما هو طريقي إنما يأتي به لحفظ الواقع وقد رفع التنافي بان قاعدة القبح ترفع موضوع قاعدة وجوب الدفع ، ثم اورد عليه بانه يمكن ان ينعكس الأمر بان تكون قاعدة وجوب الدفع ترفع موضوع قاعدة القبح وقد دفع ذلك في التعليقة بان بيانية قاعدة وجوب الدفع مستلزم للدور بتقريب ان بيانيتها فرع تحقق موضوعها وتحقق موضوعها فرع عدم جريان قاعدة القبح الرافعة لموضوعها وعدم جريانها فرع بيانية قاعدة وجوب الدفع وذلك باطل لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه.

٨٩

والاخباري ، وإنما النزاع بينهما في الصغرى فان الاخباري يدعى بيانية ادلة الاحتياط من العلم الاجمالي ، والاصولي ينكر بيانية ذلك ومع الاغماض

__________________

ولكن لا يخفى انه يمكن جريان هذا المحذور من طرف قاعدة القبح بعد فرض صلاحية قاعدة وجوب الدفع للبيانية كما هو ظاهر عبارة الكفاية بتقريب ان جريان قاعدة القبح فرع موضوعها وهو عدم البيان وهو متوقف على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل وعدم بيانيتها موقوف على عدم موضوعها ، وعدم موضوعها موقوف على جريان قاعدة القبح الموقوف على عدم موضوعها ، وعدم موضوعها موقوف على جريان قاعدة القبح الموقوف على عدم بيانية قاعدة وجوب الدفع فعدم بيانيتها موقوف على عدم فكما ان بيانيتها متوقف على بيانيتها فكذلك عدم بيانيتها متوقف على عدم بيانيتها وقد أجاب المحقق النّائينيّ (قده) بعدم صلاحية قاعدة وجوب الدفع للبيانية إذ الوجوب فيها إرشادي محض لا يستتبع على مخالفته عقوبة فيما لو يصادف الواقع كما هو شأن جميع القواعد الظاهرية من غير فرق بين كونها محرزة كالامارات والاصول التنزيلية ام غيرها كالاحتياط فان العقاب على مخالفة الواقع.

فدعوى ان العقاب على مخالفة قاعدة وجوب الدفع وان لم يؤد الى مخالفة الواقع مما لا يستقيم هذا بناء على ان الضرر هو العقاب ، واما بناء على انه نفس المصالح والمفاسد فقد ادعى الشيخ الانصاري (قده) بان احتمالها لا يرتفع بقاعدة قبح العقاب من دون بيان ولكن لا يخفى ان المصالح والمفاسد ليست من افراد الضرر فان باب المصلحة والمفسدة غير باب الضرر الذي يستقل العقل بالتحرز عنه.

بيان ذلك هو ان التعارض إنما يتصور في الدليلين الظنيين لا بين الدليلين العقليين القطعيين إذ لا يعقل التعارض بينهما وإلا لزم ان يحكم العقل بثبوت المتناقضين ففيما نحن فيه مع الالتزام بالمعارضة بين قاعدة القبح وقاعدة وجوب

٩٠

عما ذكر يصح الاستدلال للبراءة بقاعدة قبح العقاب من دون بيان ولا يرد على ذلك معارضتها لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل «بل يدعى تقديمها على تلك

__________________

الدفع يلزم ان يحكم العقل باستحقاق العقاب وبعدمه وهو محال ، فلذا لا بد من تقديم احدى القاعدتين على الاخرى ومن الواضح ان قاعدة القبح تقدم على قاعدة وجوب الدفع لان الاولى واردة في ظرف عدم البيان والثانية غير صالحة للبيانية فان الضرر ان كان المراد به هو العقاب فلا يخلو الحال في وجوب دفعه فوجوب دفعه تارة يكون نفسيا واخرى طريقيا وثالثة ارشاديا ، اما كونه نفسيا فباطل إذ عليه يكون العقاب على مخالفته لا على مخالفة التكاليف الواقعية وهو محل منع إذ هذه القاعدة من القواعد الظاهرية التي لا تستتبع العقوبة على مخالفتها وإنما العقوبة على مخالفة التكاليف الواقعية المجهولة او على مخالفتها اذا أدى الى مخالفة الواقع كالامارات والاصول ، على انه لو قلنا بالعقوبة على مخالفة هذا الحكم العقلي يلزم القول بتعدد العقوبة فيما لو كان الاحتمال مصادفا للواقع مع انه لم يلتزم به أحد ، واما كون الوجوب طريقيا فلما عرفت من كونها بيانا يلزم منه الدور الذي هو واضح البطلان فلذا كان المتعين حمل الوجوب في القاعدة على الارشادي وهو لا يترتب على مخالفته شيء غير ما يترتب على مخالفة الواقع المحتمل ومع مجيء قاعدة قبح العقاب من دون بيان يرتفع ذاك الاحتمال ، ومن هنا نقول بورود قاعدة قبح العقاب من دون بيان على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فعليه هذه القاعدة الثانية تفيد بغير هذا المقام مما كان الواقع منجزا بمنجز كالعلم الاجمالى وغيره.

وبالجملة جعل قاعدة وجوب الضرر المحتمل بيانا مبني على كون الوجوب فيها طريقيا ، وقد عرفت ان ذلك مستلزم للمحال وهو الدور الواضح البطلان فيتعين كون الوجوب ارشاديا فحينئذ يختص جريان قاعدة وجوب الدفع بما اذا كان الواقع

٩١

القاعدة بدعوى ان هذه القاعدة تكون بيانا فيرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب من دون بيان ، لان العقل الحاكم بدفع الضرر المحتمل إما أن يكون واردا مورد

__________________

منجزا بمنجز من علم وغيره فلا تتوارد القاعدتان على مورد واحد لكي تقع المعارضة بينهما هذا اذا اريد من الضرر الاخروي ، وان اريد الضرر الدنيوي بمعنى المصالح والمفاسد فيمكن دعوى انه بناء على الملازمة فيستكشف منه الحكم الشرعي فيكون حينئذ بيانا.

ولكن لا يخفى ان ذلك محل منع إذ استكشاف الحكم الشرعي من الحكم العقلي بقاعدة الملازمة فيما إذا لم يكن للحكم الشرعي على تقدير تحققه ارشاديا ومع كونه كذلك كباب الاطاعة لا يستكشف منه الحكم الشرعي المولوي لعدم قابليته للجعل.

وبالجملة استكشاف الحكم الشرعي فيما امكن ان يكون مولويا ، واما فيما لم يمكن كونه مولويا لا يستكشف منه الحكم الشرعي والمقام على تقدير تحققه يكون ارشاديا لرجوعه الى ناحية الاطاعة والامتثال الراجع الى سلسلة المعلولات على ان الملاكات لا يجب تحصيلها مضافا إلى ان الملاكات تارة تكون لها اهمية بنحو يجب التحرز حتى في صورة الاحتمال كمثل وجوب الاحتياط المجعول في الدماء والفروج فانه مجعول بجعل ثانوي مسمى بمتمم الخطاب حيث لا يمكن استيفاؤه بالخطاب الواحد واخرى لا يكون للملاك اهمية بحيث يجب رعايته في ظرف الشك ففي هذه الصورة يمكن جعل اصل كالبراءة قد تؤدي الى خلاف الواقع بخلاف الصورة الاولى فلا بد فيها من جعل قاعدة محرزة للواقع ومع الشك في ان الملاك من اي هاتين الصورتين فلا مانع من القول بجريان قبح العقاب من دون بيان.

٩٢

انتفاء البيان ، أو يكون واردا في ظرف البيان بحيث يكون حكم العقل متأخرا عن البيان.

فعلى الاول تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل إذ مع جريان تلك القاعدة لا يبقى مجال لاحتمال العقوبة حتى يحكم العقل بوجوب دفعها فيرتفع حينئذ موضوع القاعدة الثانية.

واما على الثاني فنقول البيان الذي حصل اولا ، ثم يحكم العقل بدفع

__________________

فعليه في هذه الصورة لا مانع من جعل أصل قد يؤدي الى مخالفة الواقع وبما ذكرنا يظهر وجه كلام الشيخ الانصاري (قده) حيث جعل المقام من الشبهة الموضوعية بمعنى انا نشك في ان الملاك من أي الصورتين وحينئذ يكون من الشبهة الموضوعية الذى لا اشكال في جريان البراءة فيها.

فتحصل من جميع ما ذكرنا ان وجوب دفع الضرر غير صالح للبيانية على جميع المباني إذ بناء علي مبنى الشيخ الانصاري (قده) من الوجوب النفسي فالعقاب عليه لا على التكاليف الواقعية فلا يكون بيانا منجزا لها وقد عرفت انه خلاف التحقيق كما انه بناء على كون الوجوب طريقيا كما هو مبنى المحقق الخراساني فهو وان صلح للبيانية إلا انه مستلزم للدور على انه غير مستلزم للعقاب إلا على القول بالملازمة بين الحكم العقلي والشرعي وقد عرفت في محله انها محل منع واما بناء على كون الوجوب حكما ارشاديا فلا يكون موجبا لاستحقاق العقاب وانما العمل على الواقع المجهول ، ومع جريان العقاب بلا بيان لا يبقى موضوع لهذه القاعدة هذا إذا كان المراد بالضرر هو العقاب ، واما إذا كان غيره فلا يجب دفعه اذا كان محتملا لبناء العقلاء على عدم وجوب دفعه سيما إذا كان متداركا فلا تغفل.

٩٣

الضرر المحتمل فهذا الحكم العقلي ان كان مستفادا من نفس حكم العقل بوجوب دفع الضرر فغير معقول ، إذ كيف يتقدم ما يكون مستفادا من المتأخر وان كان مستفادا من غيره فمفقود وبعبارة اخرى ان البيان الذي ينشأ منه احتمال الضرر لا بد وان يكون في المرتبة السابقة على احتمال المضرة لفرض ان هذا الاحتمال نشأ منه فيكون احتمال المضرة متأخرا عن البيان تأخر المعلول عن علته ، فحينئذ يكون مجال لحكم العقل بوجوب دفع الضرر لوجود موضوعه الذي هو احتمال المضرة الناشئ من البيان ، وعليه لا يعقل ان تكون هذه القاعدة بيانا ، لفرض أنه متقدم عليها بمرتبتين ، فلو كانت بيانا لزم الدور الواضح ، واذا فرض ان هذه القاعدة ـ اعني وجوب دفع الضرر ـ غير صالحة للبيانية فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان فمع جريانها ترفع احتمال المضرة فلذا تقدم عليها لكونها رافعة للقاعدة الثانية ، هذا كله لو اريد من الضرر هو الاخروي.

واما لو اريد منه الدنيوي فنقول : لا تلازم بين احتمال الوجوب او التحريم وبين احتمال المضرة أو المنفعة ، وثانيا نمنع مجرد فوت المصلحة او الوقوع في المفسدة ضررا لكي يحكم العقل بوجوب دفعه ، وثالثا ان حكم العقل بوجوب الدفع من الشارع يكون حكما ارشاديا لا مولويا مستتبعا للعقوبة أو المثوبة ، ورابعا ان حكم الشارع المستكشف من حكم العقل إنما يكون مولويا بناء على الملازمة ، وقد عرفت ان الحق عدمها ، وخامسا ان الضرر الذي يجب التحرز عنه هو الضرر غير المتدارك ، اما الضرر المتدارك فلا يجب التحرز عنه ، كما في المقام فان الادلة قائمة على كون الضرر متدارك فلا يجب التحرز عنه فافهم.

ثم انه قد استدل للبراءة بان التكليف بما لا طريق الى العلم به تكليف بما لا يطاق. وذكر الشيخ الانصاري (قده) في توجيه ذلك بان الظاهر من (بما لا يطاق) هو كونه في مقام الامتثال بان يكون اتيان الفعل بداعي امتثال

٩٤

الأمر بنحو يكون هو المحرك للاتيان وذلك لا يتصور مع احتمال التكليف إذ ليس الغرض منه هو ايجاد الفعل ولو لم يقصد الاطاعة في مقام الامتثال.

بيان ذلك هو ان الغرض من الخطاب هو الاعلام والغرض من الاعلام هو التوصل الى حكم العقل بالامتثال والغرض منه هو وقوع الفعل في الخارج بداعي الامتثال لا بداع نفساني ضرورة ان الدواعي النفسانية لا تصلح ان تكون غرضا من التكليف إذ المأتي به بالداعي النفساني يكون حاصلا في الخارج مطلقا من غير فرق في ذلك بين التكليف أو غيره فينحصر الغرض من التكليف ان يوجد المكلف الفعل بنحو الامتثال ومعلوم ان وقوعه بذاك النحو يفتقر الى الاعلام فما لم يتحقق الاعلام بذلك التكليف الواقعي يمتنع تحقق التكليف الواقعي وإلا لزم تخلف الغرض من التكليف.

وبالجملة الغرض من التكليف هو البعث والتحريك وذلك لا يتحقق إلا مع العلم فحينئذ ينحصر التكليف بالعالم دون الجاهل ، ولكن لا يخفى ان ذلك مستلزم للتصويب مع انه ليس الغرض من التكليف إلا التحريك نحو الفعل واما ايجاده فشيء راجع الى نفس المكلف بالفتح وبعبارة اخرى انه ليس تحققه موجبا لان ينسد جميع ابواب العدم بل الذي يجب ان ينسد ابواب العدم الذي ينشأ منه انعدام التكليف. نعم ايجاده محتاج الى سد جميع ابواب العدم الذي بعضها ليس راجعا اليه على ان الغرض من التكليف الداعوية الشأنية بنحو تكون الفعلية إنما تتحقق مع كون القابلية للالتفات موجودة وذلك يلازم ان يعلم المكلف الامر ، وعليه لا مانع من تحقق هذه الفعلية في حق الجاهل وهذا المعنى هو المشترك بين الجاهل والعالم ولا يلزم من تحقق ذلك في الجاهل التكليف بما لا يطلق نعم يلزم لو قلنا بالفعلية المطلقة الموجبة للتنجز على المكلف واستحق المؤاخذة على

٩٥

تركه ولا يحصل ذلك إلا بان يوصل التكليف الى المكلف ولو كان ذلك التكليف ايجاب الاحتياط.

وبالجملة فالجاهل مكلف بالتكليف الفعلي بالمعنى المذكور لا الفعلية المطلقة وليس الغرض من التكليف ذلك بل قد عرفت ان الغرض من التكليف هو المحركية الشأنية بنحو تكون فعلية إذا كان المكلف قابلا للانبعاث نحو الامر كما لا يخفى على ذي مسكة ودراية.

الاستدلال بالاستصحاب على البراءة

وقد استدل للبراءة بالاستصحاب ، وتقريبه انه قبل التكليف أي في حال الصغر يتيقن بالبراءة ففي حال البلوغ يشك في توجه التكليف بالنسبة الى الشبهة التحريمية فيستصحب براءة الذمة من التكليف ولكن لا يخفى ان الاستصحاب يتقوم بركنين يقين سابق وشك لا حق والمشكوك اللاحق لا يخلو الحال فيه اما ان يكون هو العقوبة او الاشتغال أو المنع او التحريم.

فان كان الاول فيمنع جريان استصحاب عدمها إذ مع الشك في تنجز التكليف نقطع بارتفاع العقوبة بقبح العقاب بلا بيان فمع تحقق هذا القطع لا يبقى مجال لاحتمال العقوبة لكي يجري الاستصحاب ويكون من قبيل ما هو محرز بالوجدان يحرز بالأصل. وان كان الثاني فائضا محل منع إذ مع عدم وصول التكليف نقطع بفراغ الذمة عن التكليف فلا يبقى مجال للشك بالاشتغال إذ الامر لا يخلو. اما ان يصل اليه التكليف فنقطع بتحقق اشتغال الذمة ومع عدم الوصول

٩٦

نقطع بالعدم ففي أي مقام يشك في الاشتغال لكي يستصحب.

ودعوى ان التكليف كالدين فكما ان الدين تشتغل الذمة به حتى مع عدم العلم به ، كذلك التكليف تشتغل الذمة به لو كان متحققا مع عدم العلم به ممنوعة بالفرق بينهما في نظر العرف حيث يعتبرون الذمة وعاء للدين ولا يعتبرون ذلك في التكليف وان كان الاخير أيضا في محل منع إذ من مقومات الاستصحاب وجود الشك لكونه من الاصول العملية التي موضوعها الشك فهو حكم في ظرف الشك ولازم ذلك ان الاستصحاب متأخر عن الشك تأخر الحكم عن موضوعه ومن الواضح ان حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان لا يبقى شكا لكي يجري الاستصحاب ففي حكم العقل بالقبح يرفع موضوع الاستصحاب.

نعم لو قلنا بان مدرك الاستصحاب هو الظن لا الاخبار او قلنا بحجية الأصل المثبت يكون موردا لجريان الاستصحاب وحينئذ له وجه لجريانه وتترتب عليه ثمرة عملية وهي انه على الاول يكون الظن بعدم المنع يستلزم الظن بالرخصة فينتج من ذلك انه علاوة على التأمين العقلى يثبت اللازم وهكذا على الثاني ولكن التحقيق على ما سيأتي ان شاء الله تعالى ان حجية الاستصحاب مستفادة من الاخبار وهكذا على ما سيأتي انا لا نقول بحجية الأصل المثبت فعلى المختار لا يمكن القول بجريان الاستصحاب بوجه من الوجوه وقد اجيب عن جريان الاستصحاب بان من شرط جريانه ان يكون المستصحب له أثر شرعي او يترتب عليه اثر شرعي والمقام ليس من ذاك القبيل إذ اليقين في حال الصغر لم يكن له أثر شرعي ولا يترتب عليه أثر شرعي ومع عدم ذلك لا يجري الاستصحاب (١)

__________________

(١) لا يخفى ان الاستصحاب ان كان اصالة عدم الجعل فلا أثر له ، وان كان عبارة عن عدم الحكم فربما قيل بانه لا يجري بتقريب انه يشترط في

٩٧

ولكن لا يخفى انه يكفي في جريان الاستصحاب كونه في زمان الشك مما يترتب عليه أثر شرعي.

__________________

الاستصحاب اما ان يكون موضوعا لاثر شرعي أو بنفسه اثر شرعي وعدم الحكم المجعول ليس مجعولا ولا موضوعا لاثر شرعي مجعول ولكن يمكن دفع ذلك اولا بانه يكتفى في الاستصحاب ان يكون المستصحب قابلا للجعل لا أنه يكون مجعولا فعلا والحكم لما كان ثبوته قابلا للجعل فعدمه أيضا يكون قابل للجعل مضافا الى انه في ظرف الشك في الحكم يمكن جعل حكم تعبدي في تلك المرتبة وان كان المراد هو استصحاب عدم التكليف حال الصغر فهو ليس امرا شرعيا وإنما هو حكم عقلي فلا يكون قابلا للجعل على ان استصحاب الرخصة في حال الصغر لاثبات الرخصة الشرعية في حال الكبر في محل المنع حيث انه يكون من قبيل استصحاب فرد لا ثبات فرد آخر ويشترط في الاستصحاب أن تكون القضية المتيقنة عين المشكوكة نعم يمكن أن يقال بجريان استصحاب كلي الرخصة ولكن لا يخفى انه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي الذي نقول بعدم جريانه لعدم كون القضية المتيقنة عين المشكوكة مع انه لو قلنا من قبيل ما يجري فيه الاستصحاب كما لو كان من قبيل الاعراض بان يكون للمستصحب جهة اتصال عرفي كالتكلم ففي المقام لا يجري ايضا إذ لو جرى لزم ان يكون ما هو محرز بالوجدان محرز بالتعبد إذ الرخصة في حال الكبر تترتب على نفس الشك وبمجرد حصول الشك في الرخصة يحكم العقل بقبح المؤاخذة عليه من دون بيان وهو أمر وجداني فاحراز هذا الامر الوجداني باحرازه بالتعبد من الامور الباطلة ، ثم للشيخ الانصاري (قده) كلمات مضطربة إلا انه بعد التأمل في كلامه يعطي انه في بيان ان المستصحب أحد امور ثلاثة :

اما براءة الذمة او عدم المنع من الفعل او عدم استحقاق العقاب عليه ولا اثر

٩٨

وبالجملة عمدة الاشكال هو ما ذكرنا من ان العقل حاكم بقبح العقاب من دون بيان ، فعليه لا حاجة الى جريان الاستصحاب ولو جرى يكون من قبيل ما هو محرز بالوجدان محرز بالتعبد.

__________________

للمستصحب سوى عدم ترتب العقاب على الفعل والترخيص في الفعل ولا يخفى ان ترتب العقاب ليس من الامور المجعولة والاذن في الترخص هو من الامور المقارنة التي لا تترتب على المستصحب ، نعم لو قلنا بان حجية الاستصحاب من باب الظن فيعد من الامارات او قلنا بحجية الاصل المثبت فلا مانع من جريان الاستصحاب إلا ان ذلك خلاف المختار على ما سيأتي ان شاء الله تعالى.

وكيف كان فقد قرب الشيخ (قده) الاستصحاب بتقريبين : الاول الاستصحاب العدمي وهو استصحاب عدم التكليف في حال الصغر وعدم استحقاق العقوبة على ارتكاب الفعل او الترك وقد أجاب عنه بوجهين : أحدهما انه يعتبر في الاستصحاب ان تكون القضية المتيقنة عين المشكوكة إذ مع عدمه يكون من قبيل اسراء حكم من موضوع الى موضوع آخر كما في المقام فان براءة الذمة المتحققة في حال الصغر بمناط رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وقطعا انه ارتفع باعتبار زوال موضوعه والمشكوك براءة ذمته في حال البلوغ وهو حكم آخر لموضوع آخر فلم تكن القضية المتيقنة عين القضية المشكوكة.

الوجه الثاني ان هذا الاستصحاب لو افاد القطع ببراءة الذمة لكان لجريانه مجال إلا انه من المعلوم انه لا يفيد ذلك بل يبقى احتمال العقوبة بحال فمع بقائه يكون موردا لقاعدة قبح العقاب من دون بيان فمع جريان القاعدة يكون جريان الاستصحاب لغوا إلا إذا قلنا بانه معتبر من باب الظن أو انه يثبت اللوازم والقول بذلك محل منع على ما سيأتي بيانه في مبحث الاستصحاب ولكن لا يخفى انه

٩٩

اللهم إلا أن يقال ان الغرض من القول بالبراءة بمناط الاستصحاب هو الرد على الاخباريين القائلين بالاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية ، بخلاف ما لو قلنا بالبراءة بمناط قاعدة قبح العقاب من دون بيان ، فانه على هذا التقدير

__________________

يمكن منع الوجهين اما عن الأول فالموضوع المأخوذ في الاستصحاب في المقام متحد والصغر والكبر من الحالات وعليه تكون القضية المتيقنة عين القضية المشكوكة.

واما عن الثاني فجريان الاستصحاب يوجب القطع بعدم العقاب لكونه من لوازم المنع بالفعل فمع عدم تحققه بالاستصحاب فلا عقاب ولعله لهذا وامثاله ذكر المحقق النّائينيّ (قده) وجهين آخرين للمنع عن جريان الاستصحاب بالتقريب المذكور.

الأول ان جريان هذا الاستصحاب لغو للزوم تحصيل الحاصل بتقريب انه يعتبر في الاستصحاب ان يكون الاثر المرغوب مترتبا علي الواقع لا على نفس الشك إذ لو كان مترتبا عليه تجري قاعدة القبح فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب للزوم تحصيل الحاصل بل يلزم ما هو اردأ منه وهو انه يلزم ما هو محرز بالوجدان محرز بالتعبد كما هو كذلك بالنسبة الى الشك في الحجية فان نفس الشك يوجب القطع بعدمها فلا حاجة الى استصحاب عدم الحجية فاجراؤها يوجب تحصيل الحاصل بل يلزم ان يكون ما هو محرز بالوجدان محرز بالتعبد.

الوجه الثاني انه يعتبر في الاستصحاب ان يكون المتيقن باقيا في زمان الشك وفي المقام لم يكن متحققا فان المتيقن هو العدم غير قابل لتحمل التكليف وهذا لم يكن متحققا حال البلوغ فان العدم في حال البلوغ عدم التكليف القابل لتحمله وبعبارة اخرى العدم في حال الصغر غير منتسب الى الشارع فهو عدم محمولي بخلاف العدم في حال الكبر فانه يمكن ان ينسب الى الشارع فهو من العدم النعتي واستصحاب

١٠٠