منهاج الأصول - ج ٤

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ٤

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

تعليقيا وهو خلاف التحقيق إذ حكم العقل علة تامة بعد إحراز الشرطية بالاشتغال فلا يصلح للرفع كما لا يخفى.

ثم لا يخفى أن حديث الرفع إنما يجري في حال الجهل وقبل تبين الخلاف ، واما بعد الانكشاف فلا يجري الحديث بل يجب عليه الاعادة أخذا باطلاق دليل الجزء. نعم لو قام دليل على عدم الاعادة كما جاء في خصوص الصلاة فيما لو ترك جزءا غير ركنى كمثل قوله «لا تعاد الصلاة إلا من خمس ... الخ» وجب التعبد به لا يقال ان الحديث وارد مورد الامتنان ومقتضاه الاطلاق حتى مع رفع النسيان والاكراه إذ مع اختصاصه بصورة النسيان فلا امتنان لاستقلال العقل بذلك.

لانا نقول ان هذا الحديث ليس مثبتا لوجوب بقية الاجزاء ولذا نقول بعدم دلالة الحديث على الاجزاء لعدم نظره الى الواقع واما اطلاق الحديث في مقام الامتنان لشموله لما كان بغير سوء الاختيار فان ذلك لا يحكم العقل برفعه إذ رفعه في ذلك الحال فيه كمال الامتنان.

ودعوى ان رتبة النسيان متأخرة عن الحكم الواقعي كالالتفات ولذا لا يعقل جعل مماثل للواقع جعلا مولويا فعليه أي شيء يكون مرفوعا ممنوعة بان وجوب التحفظ ولو بإيجاد مقدمات الالتفات يمكن جعله من الشارع فلا مانع في رفعه إذ كلما أمكن وضعه أمكن رفعه ، وهكذا الكلام فيما لا يطيقون وما اضطروا من حيث جريان الحديث فيما لو كان عدم وجوب التحفظ حرجيا. إلا ان هذا الرفع لا يثبت وجوب بقية الاجزاء كما يمكن القول به في النسيان وبهذه الجهة تمتاز هاتان الفقرتان عن النسيان. واما الفرق بينهما فهو : ان الاكراه إنما يجري في المعاملة بالمعنى الاخص ولا يجري في التكليفيات بخلاف الاضطرار لتحقق الامتنان في الاول دون الثاني.

بيان ذلك هو أن في المعاملة قد أخذ فيها طيب النفس والرضا المستفاد عن

٦١

قوله تعالى (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفسه) وان الاكراه ينافي ذلك ولا يخفى أن ذلك يقتضي أن يكون الحديث رافعا للصحة الفعلية لا رفع أصل الصحة بنحو لا سبيل للحوق الاجازة لكون الصحة الفعلية تكون ارفاقا وامتنانا في حق المكره فرفع أصل الصحة لا امتنان فيه لكون ذلك خلاف الارفاق بخلاف الاضطرار فانه وان اعتبر فيه الرضا وطيب النفس إلّا أن رفع الصحة عن المعاملة المضطر عليها لقوت نفسه أو عياله يوجب زيادة الاضطرار وهو خلاف الامتنان والارفاق في حقه (١).

__________________

(١) لا يخفى ان الرفع في هذه الفقرات يختلف فبالنسبة الى ما لا يعلمون رفع ظاهري من دون منافاته للحكم الواقعي فمع ورود عموم أو اطلاق يثبت التكليف بنحو يرتفع به الجهل فلا يبقى موضوع لحديث الرفع فيكون ذاك الدليل واردا أو حاكما على الحديث فلو علمنا بالحديث ورفعنا جزئية ما شك في جزئيته ثم انكشف الخلاف فاجزاء المأتي ببقية الاجزاء مبني على القول باجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي. واما الرفع بالنسبة الى بقية الفقرات الأخر فهو واقعي فلو ورد عموم أو اطلاق مثبت للحكم في تلك الموارد فلا بد من تخصيصه بحديث الرفع. وعليه ارتفاع تلك العناوين يوجب تبدل الحكم من حينه فلذا قلنا باجزاء المأتي به في حال الاضطرار عن الحكم الواقعي لكونه حكما واقعيا ثانويا.

حديث الرفع يعم التكليفية والوضعية ثم لا يخفى ان حديث الرفع لا يختص بالاحكام التكليفية بل يجرى حتى في الاحكام الوضعية كما انه لا يختص بمتعلقات الاحكام بل يجري حتى في موضوعاتها أيضا اذ كما يكون فعل المكلف متعلقا للتكليف يكون موضوعا له فلو اضطر المكلف أو اكره على ايجاد موضوع التكليف كالافطار في نهار شهر رمضان

٦٢

ثم لا يخفى ان الحديث انما يرفع الآثار المترتبة على الاشياء بعناوينها الاولية لا بعناوينها الثانوية كما صرح به الشيخ في فرائده. إلّا انه لم يبين وجه المحالية

__________________

الذي هو موضوع لوجوب الكفارة فبحديث الرفع يرتفع حكمه ، واما لو اضطر أو اكره على ايجاد متعلق التكليف فتارة يكون بنحو الطبيعة السارية الموجبة لانحلال احكامها حسب افراد تلك الطبيعة كما هو كذلك في المحرمات فمع طرو احد هذه العناوين على فرد من افراد الطبيعة يسقط التكليف المتعلق به بخلاف ما اذا كانت الطبيعة على نحو صرف الوجود كما في التكاليف الايجابية فان طرو أحد هذه التكاليف على فرد خاص لا يوجب سقوط التكليف المتعلق بالكلي لتحقق مصاديقه الأخر إلا اذا اضطر الى ترك الطبيعة في تمام الوقت أو في خصوص آخره فيما اذا لم يأت به قبل ذلك فحينئذ يكون التكليف ساقطا هذا كله في التكليف الاستقلالي. واما التكليف الضمني كما لو اضطر الى ترك جزء او شرط فانه لا يرتفع التكليف المتعلق بذلك الجزء او الشرط وان ارتفعت حرمة ابطال العمل من تلك الجهة. نعم الاتيان بالناقص لا يكون مجزيا مع التمكن من ايجاد فرد تام من بقية الافراد.

ودعوى ان المرفوع انما هو خصوص الجزء المضطر او شرطه واما غيره فلا موجب لرفع اليد عن وجوبه ممنوعة اذ الامر الضمني المتعلق بالجزء لا يرتفع إلّا بارتفاع أصل التكليف فهو تابع له ثبوتا وبقاء ، وهكذا الحكم الوضعي المنتزع من الحكم التكليفي كما لو اضطر الى التكلم في الصلاة او اكره على الصلاة الى غير القبلة في تمام الوقت فالصلاة الى القبلة او الخالية عن كلام الآدمي لا تكون واجبة بحديث الرفع اذ شأنه رفع الحكم لا ثبوته فيحتاج ثبوت

٦٣

نعم ذكر الاستاذ (قده) في الكفاية ما حاصله بانه لو كان المرفوع الآثار بعناوينها الثانوية يلزم المحال لان رفع العناوين الثانوية وهي الخطأ أو النسيان مستدع لثبوت الحكم والحديث يرفع الخطأ او النسيان فيكون مستدعيا لرفعه فيلزم أن يكون الشيء مرفوعا ومثبتا.

__________________

وجوب بقية الاجزاء الى دليل كما يدعى ثبوت الدليل في خصوص الصلاة كقوله عليه‌السلام : «الصلاة لا تسقط بحال» فمع عدم الدليل لا يسقط الواجب مع الاخلال ببعض ما اعتبر فيه ، ولذا نقول بوجوب القضاء لكونه من آثار فوق الواجب في الوقت.

وبالجملة أنه لا دلالة لحديث الرفع على تنزيل فعل المضطر اليه منزلة العدم ليجتزى ببقية اجزاء الواجب في مقام الامتثال إذ شمول الحديث لمورد لا يترتب عليه إلا رفع التكليف عن نفس المورد فالاكراه على فعل محرم في نفسه يرفع حرمته كما ان الاكراه على معاملة يرفع نفوذها ولازم ذلك ان الحديث يشمل المورد الذي يترتب عليه أثر ، واما ما لا أثر له فلا يشمله الحديث كما لو اكره المكلف على ترك بيع داره لا يمكن الحكم بحصول النقل والانتقال من دون بيع فان الحديث إنما يتكفل رفع الحكم التكليفي او الوضعي عن المكره عليه لا اثبات حكم له ، ولذا لو اكره على تقديم القبول على الايجاب بناء على اشتراط تقديم الايجاب على القبول لم يحكم بصحة ما وقع بالخارج بحديث الرفع إذ الواقع في الخارج لا حكم له بالشريعة ليرتفع بالاكراه وما هو موضوع الحكم بالنفوذ لم يتحقق بالخارج على الفرض فلا معنى لشمول الحديث له ، وضابط ذلك هو ان كلما يكون صحيحا واقعا في نفس المعاملة إذا وقع مكرها عليه يرتفع عنه

٦٤

ولكن لا يخفى أن اقتران الفقرات بالطيرة تقتضي ترتب مقتضاها لا ارتفاعه ، فبوحدة السياق يقتضي جريان ذلك بالبقية فالخطأ والنسيان لا يكون موجبا للرفع قبل الذي يوجب الرفع هو المنة في حال الخطأ أو النسيان فالحق في وجه المحالية هو انه لو أجرى الحديث في الآثار بعناوينها الثانوية يلزم أن يكون الشيء ملحوظا مستقلا ومرآة وهو محال.

بيان ذلك ان هذه العناوين بلحاظ آثارها إنما هي موضوعات لها والنظر اليها نظر استقلالي فلو رفعت هذه الآثار كان المقصود من الرفع رفعا استقلاليا وإذا لوحظت هذه العناوين بلحاظ الآثار المترتبة على العناوين الاولية يكون اللحاظ اليها نظرا مرآتيا ولحاظا آليا فرفعه يكون النظر اليه نظرا آليا فيلزم المحال وهو كون الشيء ملحوظا مستقلا ومرآة على انه لو رفع الحديث تلك الآثار المترتبة على العناوين الثانوية يلزم أن يرفع اليد عن الدليل الدال على ترتبها فيكون ذلك لغوا لا أثر له على انه لو جرى ذلك يلزم أن يكون خلاف الامتنان فان الكفارة المترتبة على قتل الخطأ وسجدتي السهو المترتبة على السهو شرعا للجبر والتدارك لو رفعت هذه الآثار بالحديث المذكور يلزم منه خلاف الامتنان كما لا يخفى وينبغي التنبيه على امور :

الاول ـ قد عرفت منا سابقا ان الرفع يتحقق بتحقق مقتضية لاعتبار العقلاء وجود الشيء مع تحققه بالعناية ، ومن هنا قلنا بصحة اشتراط سقوط الخيار في متن العقد. والرفع إنما يتحقق في مورد الامتنان ومورده في مورد (ما لا يعلمون) عبارة عن ان يرفع عن المكلف انشاء حكم حافظ للواقع في ظرف عدم العلم للمكلف وذلك رحمة ورأفة من المولى وبه يحصل الامتنان ولذا

__________________

حكمه بحديث الرفع لا ما إذا كان فاسدا في نفسه فانه لا يترتب عليه الصحة إذا وقع عن اكراه فلا تغفل.

٦٥

يقدم على ادلة الاحتياط إذ مع استفادة وجوب الاحتياط من ادلته فهو خلاف الامتنان ولاجل ذلك التزمنا بحمل تلك الاخبار على الاستحباب.

الثاني ـ ان الرفع كما يرفع الحكم التكليفي كذلك يرفع الحكم الوضعي كالجزئية او الشرطية ولا يوجب ان يرتفع بذلك حكم المنسي مطلقا ، وانما يرتفع في مورد النسيان ، واما لو تعقبه الذكر فيجب الاعادة ، ولذا قلنا ان حديث الرفع لا يقتضي الاجزاء ، نعم لو قلنا بان الحديث يدل على في الحكم مطلقا لاقتضى الاجزاء.

وبالجملة الحديث يقتضي رفع التكليف الذي هو منشأ لانتزاع الجزئية ما دام ناسيا لا رفع دخل المنسي في المصلحة لكون ذلك امرا تكوينيا لا يتعلق به الرفع التشريعي ، فيكون الحديث موجبا لبقاء الأمر الناشئ من تحقق المصلحة بعد زوال النسيان الموجب لتحقق التكليف الموجب للاعادة بعد حصول التذكر.

ودعوى ان ذلك خلاف الامتنان لان رفع التكليف في حال النسيان امر عقلي من غير حاجة الى رفعه بالحديث الشريف وكونه في مورد الامتنان يلزم حمله على الاطلاق اي حتى مع الالتفات وذلك يساوق رفع الجزئية والشرطية مطلقا المقتضي لعدم الاعادة بعد زوال النسيان وهو عبارة عن اجزاء المأتى به في حال النسيان ممنوعة بان ذلك يتم لو اريد من النسيان خصوص ما كان بغير اختياره ، وإلا فالعقل لا يحكم بالرفع والحكم بايجاب التحفظ عليه. وحينئذ يكون لشمول الحديث له مجال فجريانه يرفع وجوب التحفظ.

ومما ذكرنا من حكم العقل بوجوب التحفظ يندفع ما يقال بان حديث الرفع يرفع الاحكام المتأخرة عن الواقع ، وفي هذه المرتبة لا يحكم العقل بوجوب التحفظ وجوبا مولويا فمع عدم حكمه بذلك كيف لا يكون مجال لرفعه

٦٦

بالحديث الشريف لما عرفت منا سابقا ان في هذه المرتبة قد ينتهي الأمر الى صيرورة الوجوب عقليا فحينئذ يكون رفعه باعتبار رفع منشئه.

ودعوى ان مفاد الحديث جعل المأمور به هو خصوص ما عدا المنسي ممنوعة لعدم كون الحديث مثبتا بان يجعل التكليف متعلقا بالفاقد وانما شأنه رفع التكليف فلذا لا بد من التماس دليل آخر يدل على كفاية الفاقد عن الواجد في حال النسيان فلا يمكن تصحيح العبادة بالحديث الشريف وادعى بعض الاعاظم (قده) عدم امكان تصحيحها به بتقريب ان مفاد الحديث تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود لاحتياج الثاني الى كون الحديث يدل على الوضع مع انه لا يستفاد منه الوضع فالحديث لا يصحح العبادة ، ولكن لا يخفى ان الحديث لو كان مفاده ذلك لا يفرق فيه بين رفع الوجود او رفع العدم إذ لو كان مفاده رفع الوجود في عالم التشريع بمعنى خلو صفحة الوجود عن الحكم في عالم التشريع فيكون رفع العدم عبارة عن عدم اخذه في موضع الفساد فحينئذ يكون الحديث متمحضا للرفع ، وعليه يمكن تصحيح العبادة ومقتضيا للاجزاء.

ودعوى ان المنسي ليس هو الجزئية أو الشرطية ، وإنما هو الجزء أو الشرط ومع العلم بالجزئية او الشرطية ليس في البين مورد للرفع التشريعي من حيث الموضوع لكي تصح العبادة ممنوعة بان ما ذكر بعينه جار في ايجاد المانع نسيانا حيث لا تكون المانعية منسية ومن المعلوم جريان الحديث في رفع المانع الراجع الى رفع المانعية فليس المحذور من كون الحديث مصححا لعبادة الناسي لبعض الاجزاء إلا ما ذكرنا من ان الحديث يرفع الجزء او الشرط ما دام ناسيا ولا يرفعه مطلقا لكي يقتضي الاجزاء كما لا يخفى.

«التنبيه الثالث» انه بالنسبة الى «ما لا يطيقون» ان المراد منها مرتبة من الحرج فيكون مرجع رفعه الى عدم وجوب التحفظ بمقدماته عند الوصول

٦٧

الى الحرج فيكون مفاد هذا الحديث مساوقا لما في الآية الشريفة ولكن لا يخفى انه لو تعلق بالجزء يرفع وجوبه ، إلا انه لا يوجب وجوب بقية الاجزاء إذ لا ملزم لها لعدم اطلاق في وجوبها لكي يشملها مع سقوط ذلك الجزء.

وبهذا يحصل الفرق بين هذه الصورة وصورة النسيان ، واما بقية الفقرات فالطيرة يحتمل ان يراد من رفعها رفع المؤاخذة على التطير ، ويحتمل ان يراد التوقف من التحرك نحو المقصود ، وعليه يكون ردا على التوقف ، واما الوسوسة في التفكر أو التفكر في الوسوسة ، كما في رواية اخرى فالمراد منها رفع المؤاخذة على الوسوسة ، اما الحدس الذي هو غير ظاهر باللسان فربما يكون رفعه بمجاهدة النفس بصرفها الى احوال نفسه وعدم التفتيش عن امور الناس ، وما وهب لهم من الرفاهية في المال والولد ، وحينئذ يكون المرفوع فيه هو وجوب رفعه بمجاهدة النفس ، بل ربما يقال ان هذا الحمل أولى من حمله على رفع استحقاق المؤاخذة ، إذ ذلك ينافي الاخبار الدالة على الاستحقاق فنحتاج الى الجمع بينها وبين حديث الرفع ، وكيف كان فقد وقع الاشكال بالنسبة الى هذه العناوين المذكورة في الحديث كالتطير والتفكر في الخلق والحسد وحاصله ان هذه الامور لما كانت غير اختيارية فلا يصح لان يتعلق الرفع بها ولو باعتبار حكمها إذ لا يمكن ان تكون هذه العناوين لتشريع الحكم التحريمي ولكن لا يخفى انه يمكن دفع ذلك بانها وان كانت غير اختيارية إلا انها بمبادئها تكون اختيارية لامكان التحرز عنها ، وعدم الوقوع فيها وذلك كاف في اقتضاء تحريمها ، فعليه لا مانع من رفعها فيكون رفعها كرفع ايجاب الاحتياط وايجاب التحفظ عن الخطأ والنسيان.

ودعوى ان هذه الآثار غير قابلة للرفع لانها ثابتة للشيء بعنوانه الثانوي فتكون من قبيل ثبوت سجدتي السهو للمنسي ممنوعة ، بان هذه الآثار ثابتة

٦٨

للواقع المجهول او الواقع الحاصل خطأ او نسيانا وليس من آثار تلك العناوين الثانوية اي اثر لنفس الخطأ او النسيان او الجهل فافهم.

حديث الحجب

ومما استدل به على البراءة قوله عليه‌السلام : (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) بتقريب ان الحجب (١) في هذا الحديث إنما هو في مقام التشريع بمعنى عدم انشاء خطاب.

__________________

(١) لا يخفى ان حقيقة الحجب إنما يتحقق فيما لو كان الحكم ثابتا إما بالوحي أو الالهام الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم او الوصي عليه‌السلام ومع عدم ثبوته فلا معنى للحجب كما ان نسبة الحجب الى العلم مرجعه الى حجب المعلوم إذ لا معنى لنسبة الحجب الى العلم إذا عرفت ان الحجب يستدعي ثبوت التكليف واقعا بالوحي أو الالهام فاعلم ان حجبه تعالى يتصور على نحوين فتارة يكون بعدم امر حججه عليهم‌السلام بتبليغه الى العباد واخرى يكون باختفائه بعد التبليغ من الحجج اما باخفاء الظالمين او بغير ذلك فان كان على النحو الاول فنسبة الحجب اليه تعالى ظاهر لعدم امر الحجج بالتبليغ فيكون الحجب من قبله وان كان على النحو الثاني فغير ظاهر نسبة الحجب اليه بل الحجب إنما هو من قبل الظالمين فانهم صاروا سببا للاخفاء.

ودعوى ان حصول الاشياء لا بد له من سبب والسبب يكون من سبب الى ان ترجع الى مسبب الاسباب فتنتهي السلسلة اليه جل وعلا في غير محلها إذ الاشياء لما كانت محدودة تنشأ من سبب محدود مع قطع النظر عن طبيعة الوجود ـ

٦٩

ولو كان بايجاب الاحتياط في ظرف الجهل من باب الامتنان منه تعالى ولا يشمل رفع الحكم الواقعي لظهور ان حجب علمه كان بنحو العلية للوضع فهو متأخر عن الحكم الواقعي فكيف يكون رافعا له إلا ان هذا الحديث بهذا التقريب يختص بما يكون الحجب عن الحكم الواقعي واقعا ولا يشمل غيره إلا بعدم القول بالفصل إلّا ان يقال بان الحجب في الحديث إنما هو في مقام التكوين بمعنى انه بسبب الامور الخارجية فحينئذ لا يختص بما ذكر كما ان الوضع

__________________

المطلق فانه ينسب الى الموجود المطلق فان الفاعل الذي منه الوجود منحصر في واجب الوجود دون الفاعل الذي به الوجود فانه غير منحصر في شيء ولكن الفعل المحدود يلحظ باعتبار ترتب الاثر فتارة يكون الاثر بقصر ربوبي فلذا ينسب الى ما منه الوجود كقوله تعالى مخاطبا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) واخرى يلاحظ فيه جهة الخلوص ويقع قريبا فينسب له تعالى كقوله تعالى : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) وقوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) وربما يلاحظ جهة الماهية والدنو فلذا ينسب الى نفس الشخص كقوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) كما انه ربما يلاحظ طبيعة الوجود فينسب الى ما منه الوجود كقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فالمسبب الصادر من الاسباب الطبيعية ان كان بلحاظ الاطلاق فينسب اليه تعالى إذ هو المحيي والمميت والضار والنافع بخلاف ما لو صدر من اشخاص يغلب جهة الماهية فانه لا ينسب اليه تعالى بل ينفى عنه وما اختفى بسبب الظالمين لا ينسب اليه تعالى ، وإنما هو منسوب اليهم كنسبة الكتمان الى العباد في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) ولم ينسب اليه تعالى ، وبهذا يجاب عن شبهة الجبر بان يقال ما نسب الى الله تعالى بلحاظ ما منه الوجود وما نسب الى العبد بلحاظ ما به الوجود.

٧٠

لا يكون متعلقا بالحكم الواقعي لما عرفت من علية حجب العلم للوضع الموجب لتأخر الموضوع عن الحكم الواقعي رتبة ولا ينافي كونه باقيا على فعليته لو كان متحققا بمعنى انه قد علمتم انشاؤه من قبل الشارع المقدس كما هو مقتضى تمامية التبليغ في حجة الوداع وعليه تكون الرواية شاملة للاحكام المبينة من قبل الشارع إلا انها خفيت بسبب الامور الخارجية التي هي مورد النزاع بين الاصولي والاخباري فيكون ذلك دليلا على عدم ايجاب الاحتياط بالنسبة الى الاحكام المجهولة.

ودعوى ان الحديث ناظر الى الاحكام غير المبينة الخارجة عن محل النزاع

__________________

وبالجملة ان الحكم الذي امر حججه بتبليغه للعباد قد عرفه لهم وبينه لهم ولم يحجبه عنهم وانما حجبه اخفاء الظالمين له ، اللهم إلا ان يقال انه كما يحصل بذلك يحصل بغيره لفقد النص او تعارض النصين او انه لا مورد للسؤال لعدم وجود موضوع مثلا لكي يسأل عنه ، ولكن يمكن دعوى ارجاع كل ذلك لاخفاء الظالمين لكون المراد باخفاء الظالمين عدم الاعتراف بالامامة فسد هذا الباب اوجب ان لا تصل الينا الاحكام ، وكيف كان ان نسبة الحجب اليه تعالى يوجب خروج الحديث عما نحن فيه ومنحصر فيما لم يبين من الاحكام من غير فرق بين ان يكون لاجل التوسعة على الامة مع ثبوت المقتضي لبيانه او لاجل مانع من البيان ولو كان من قبيل المكلفين لاستلزام هلاك اكثر الناس فبمقتضى المصلحة اخفاء تلك الاحكام فيكون من قبيل اسكتوا عما سكت الله عنه ، وعليه يكون الحديث الشريف اجنبيا عما نحن فيه الذي لم يحجب من قبله تعالى ، وقد امر حججه بالتبليغ إلا انه قد اخفى الظالمون ذلك او تحصل موانع أخر لا دخل للمقام فيه فلا تغفل.

٧١

ويكون مساوقا لما ورد (وسكت عن اشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها) فيكون الحديث اجنبيا عن المقام كما ينسب ذلك الى الشيخ الانصاري (قده) في غير محلها لما عرفت ان ظاهر الحديث هو في الاحكام التي هي في مقام التشريع ولا يشمل الاحكام الواقعية وانما هي باقية على فعليتها فهو كحديث الرفع من هذه الجهة بل ربما يقال بان الاستدلال بحديث الحجب على المدعى اولى من حديث الرفع لعدم وجود الحديث في سياق يقتضي الاختصاص بالشبهة الموضوعية كما هو متحقق في حديث الرفع ، فدعوى اختصاص حديث الحجب في الشبهة الحكمية غير مجازفة كما هو ظاهر حجب العلم الموجب للوضع المناسب لحجب الحكم فيختص ذلك بالشبهة الحكمية.

نعم يمكن تقريب التعميم بنحو يكون الحديث شاملا للشبهة الحكمية والموضوعية بامرين :

الاول ـ ان أخذ صفة الحجب فيه على نحو التقييد مثل أخذ صفة المشكوك في قاعدة كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام فان الشيء بعنوانه الاولى لم يؤخذ وانما اخذ بعنوانه الثانوي وهو كونه مشكوكا فكذلك فيما نحن فيه فان صفة الحجب قد أخذ بنحو التقييد فيكون الوضع مستندا الى الشيء بوصف كونه محجوبا والحجب في الحكم محجوبيته بنفسه وبلحاظ الموضوع بلحاظ اثره وعلى الاول تكون نسبة الحجب الى الحكم نسبة حقيقية ، وعلى الثاني تكون النسبة مجازية ولا جامع بينهما إلّا بنحو النسبة المجازية بمعنى ان نسبة الوضع الى ما حجب الذي هو اعم من الموضوع والحكم مجازيا وليس في البين ما يمكن وضعه الا ايجاب الاحتياط لما عرفت من الحكم الذي يترتب على الشيء الواقع المجهول انما هو متأخر عنه رتبة وليس هناك ما يصلح للوضع الا ايجاب الاحتياط لفرض انه

٧٢

حكم متأخر فحينئذ يكون معنى الحديث وضع التكليف للزوم رعاية الاحتياط كما حجب مطلقا من غير فرق بين ما كان المحجوب حكما او موضوعا فبذلك يكون الحديث شاملا للشبهتين الحكمية والموضوعية.

الامر الثاني ـ ان الوضع يستند الى الحكم الجزئي المتحقق في الواقعة الخاصة او في المورد الخاص كما يستند الى الحكم الكلي فيكون ما حجب عنوانا مشيرا الى الحكم الكلي والحكم الجزئي ولازمه شموله للشبهة الحكمية والموضوعية وبهذا الاعتبار يكون الاسناد الى الحكم مطلقا اسنادا حقيقيا ، ولا يخفى ان هذا الذي ذكرناه من التعميم لا يرد عليه سوى ما ذكره الاستاذ (قده) في الكفاية وفاقا للشيخ الانصاري (قده) بما حاصله ان الرواية ناظرة الى ما لا ينكرها الأخباري فان الأحكام تارة تصل الى المرتبة الفعلية بنحو يكون السفراء يؤمرون بتبليغها واخرى لم تكن كذلك بل هي باقية في عالمها الانشائي ولم تبرز الى عالم الخطاب ومحل النزاع بين الاصولي والاخباري في الصورة الأولى والحديث ناظر الى الصورة الثانية فلا يصح الاستدلال بالحديث على البراءة لمورد النزاع ولكن لا يخفى اولا ما عرفت منا سابقا بان حجب العلم لا يرفع الحكم الواقعي بل يرفع الحكم الذي هو في المرتبة المتأخرة عن الحكم الواقعي كما هو ظاهر علية الحجب لوضع الحكم. وثانيا ان كل ما شك في الحرمة يمكن ارجاعه الى الصورة الثانية ولو بمعونة الاستصحاب ، وهو عدم وصول الحكم الى المرتبة الفعلية الذي هو استصحاب العدم الازلي وهو مبنى البراءة المتسالم عليها وهذا المقدار كاف لمدعى البراءة في الشبهات التحريمية.

لا يقال كيف يجري الاستصحاب في مثل المقام مع انه قد حصل التبليغ كما هو مقتضى حجة الوداع لانا نقول ان التبليغ في حجة الوداع يمكن ان يكون المراد منها الاحكام التي يراد فعلها او تركها ومن الجائز ان يكون المشكوك خاليا من الحكم ولو ظاهرا ولكن بالاستصحاب يجعل له حكم ، على انه لو قلنا بان

٧٣

كل واقعة لا بد لها من حكم ولو كان هو الاباحة فنقول ان العلم الاجمالي بوجود تكليف في كل واقعة ، الحاصل من خطبة حجة الوداع إلا ان هذا العلم الاجمالى لا يمنع من جريان الاستصحاب لعدم تنجزه من جهة كون احد اطرافه لا اثر له ومتى كان كذلك يسقط العلم عن المنجزية فيجري الاستصحاب بلا معارض.

والتحقيق ان يقال : ان الحجب تارة يراد منه المنع واخرى يراد منه الستر وعلي الاول يكون التجوز في الكلمة ، وعلى الثاني يكون التجوز في الاسناد ولم يكن تجوزا في الكلمة وعليه قد استعمل الحجب في معناه الحقيقي وهو الستر وإنما التجوز في اسناد الحجب الى العلم لان الستر حقيقة إنما يكون عن امر مفروغ الوجود ثم ستر ، والعلم غير قابل للستر بعد وجوده إذ العلم إذا وجد برز ولا يكون محجوبا فنسبة الحجب اليه لا بد وان تكون بنحو التجوز.

وبالجملة ان اسناد الحجب اما ان يكون المراد من حجب العلم منع مقتضيه فيكون من قبيل التجوز في الكلمة حيث استعمل الحجب بمعنى المنع ، واما ان يراد به ابداء المانع بعد وجود المقتضي فيكون من قبيل التجوز في الاسناد أى في اسناد الحجب الى العلم.

اذا عرفت ذلك فاعلم ان الحديث على الأول يخرج عن الاستدلال به على البراءة لانه يكون متعرضا للاحكام غير البالغة الى حد الفعلية وليست تلك الاحكام موردا للنزاع بين الاخباريين والاصوليين إذ من المسلم عند الجميع عدم وجوب التعرض لها ، وعلى الثاني يتم الاستدلال به للبراءة والظاهر حمل الحديث على الوجه الثاني بل قد عرفت منا سابقا انه المتعين ان الحجب لا يمنع فعلية تلك الاحكام لفرض كونه متأخرا عنها على انه لو سلمنا حمله على الوجه الاول فنقول : ان المنع كما يكون مقتضاه المنع عن الفعلية فيخرج الحديث عن مقام الاستدلال للبراءة كذلك يصلح ان يكون مقتضاه المنع عن لزوم رعاية التكليف بعد كونه فعليا كما

٧٤

يظهر من بعض الروايات ان بعض الاحكام محجوبة الى ان يظهر الحجة المنتظر عجل الله فرجه.

وبالجملة الحجب يجتمع مع كون الاحكام فعلية فتجري البراءة لعدم المنافاة بينهما ولو سلمنا ذلك كله فنقول لا اشكال في صدق الحجب فيما إذا كان المورد اجمال النص فاذا جرى الحديث في ذلك المورد فيجري في غيره بعدم القول بالفصل فلا تغفل.

ومنها قوله عليه‌السلام : (الناس في سعة ما لا يعلمون) (١) فقد استدل بهذه الرواية على جريان البراءة في الشبهات الحكمية وحاصله ان الناس في سعة مدة عدم علمهم فما داموا غير عالمين بالواقع هم في سعة من غير فرق بين كون ما مصدرية او ظرفية إذ القضية على هذا التقدير تكون بمنزلة السالبة المنحلة الى السوالب متعددة فتكون عبارة عن ان كل حكم لم يعلم به يكون الانسان في سعة منه فعليه يكون حجة للاصولي في جريان البراءة في مورد النزاع ، اللهم إلا ان يقال بان المراد بالسلب عدم علمهم بشيء مما يرجع الى الوظيفة الواقعية فيكون مفاده حينئذ مفاد حكم

__________________

(١) لا يخفى ان (ما) يحتمل ان يراد منها مصدرية زمانية بمعنى هم في سعة ما داموا لم يعلموا وعليه يرجع الى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ويحتمل ان يكون ما موصولة قد اضيفت الى لفظ السعة فتكون السعة مضافا اليه وقد رجح المحقق النائيني (قدس‌سره) الاحتمال الاول فعليه يكون الحديث مفاد قاعدة قبح العقاب من دون بيان المتسالم عليه عند الفريقين فلا يصح الاستدلال بهذه الرواية على البراءة الشرعية على انه يمكن دعوى حكومة ادلة الاحتياط على مثل هذه الادلة التي مفادها قاعدة قبح العقاب من دون بيان لصيرورة تلك الادلة الدالة على ايجاب الاحتياط بيانا ولكن لا يخفى ان هذا الاحتمال خلاف الظاهر خصوصا بعد ملاحظة استقرار موارد الاستعمالات من ان ما الزمانية لا تدخل

٧٥

العقل بقبح العقاب من دون بيان ، وقد عرفت انه لا نزاع فيه بل هو محل التسالم بين الفريقين ولكن الانصاف انه يبعد الالتزام به لكون الرواية في مقام الامتنان وورودها في هذا المقام يعين الاحتمال الاول ولاجل ذلك تمسك به الاصوليون وعليه فتقع المعارضة بين ادلة الاصوليين وادلة الاخباريين.

ودعوى ورود ادلة الاخباريين على ادلة الاصوليين بتقريب ان المستفاد من ادلتهم الوجوب النفسي ضعيفة جدا لعدم مساعدة ادلتهم على ذلك فان الناظر في ادلتهم كرواية التثليث وقوله هلك من حيث لا يعلم يجد انهم يدعون ثبوت العقوبة على مخالفة التكليف المجهول لا العقوبة على وجوب الاحتياط

__________________

على الفعل المضارع وإنما تدخل على الفعل الماضي ويؤيد ذلك ان المحقق القمي (قده) ذكر الحديث بنحو آخر لا يصح لجعل ما زمانية (الناس في سعة مما لم يعلموا) فان ما فيما ذكره لا يكون إلا موصولة فظهر مما ذكرنا ان الاحتمال الثاني هو الاقرب فيكون المعنى الناس في سعة في الحكم المجهول وعليه مفاده مفاد حديث الرفع من التوسعة عند الجهل بالواقع فتقع المعارضة بين هذه الرواية وبين ادلة الاحتياط الدالة على تحقق الضيق بايجاب الاحتياط ودعوى ان وجوب الاحتياط نفسي فيكون مقدما على البراءة في غير محلها على ما سيأتي ان المستفاد من اخباره أن ايجابه طريقي والانصاف ان الاستدلال بمثل هذا الحديث الذي لم ينقل إلا عن العامة ، والموجود في بعض كتب الخاصة كالوسائل هي رواية السكوني الواردة في السفرة المطروحة في الطريق كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين فقيل له يا امير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم او مجوسي فقال عليه‌السلام : (هم في سعة حتى يعلموا) فان موردها الشبهة الموضوعية ويمكن دعوى اختصاصها بها فلا تغفل.

٧٦

وحينئذ لا تكون واردة او حاكمة على دليل الاصولي إلا ان يقال بان المراد من عدم العلم بمطلق الوظيفة الفعلية ، وقد عرفت ان ظاهر الدليل ان المراد منه العلم هو العلم بالواقع وحينئذ يكون حجة للاصولي في قبال الاخباري ودعوى انها في مقام الارشاد لنفي الحرج من قبل العقل فيكون مفادها مفاد حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان المتسالم عليه عند الطرفين فعليه لا تكون حجة للاصولي في قبال الاخباري فانها وان كانت غير بعيدة إلا انها تنافي كونها في مقام الامتنان كما لا يخفى.

ومنها رواية عبد الاعلى عن الصادق عليه‌السلام قال سألته عمن لم يعرف شيئا هل عليه شيء؟ قال عليه‌السلام : (لا) بتقريب ان يراد من الشيء في قوله عليه شيء عبارة عن الكلفة او العقوبة وتكون الرواية في مقام نفي العقوبة. ولو بنفي منشئه من ايجاب الاحتياط فحينئذ يعارض ادلة الاخباريين.

ولكن لا يخفى ان هذا يتم بناء على ان يراد من الشيء الاول مطلق ما لا يعرفه من الاحكام فينطبق على فرد خارجي معين لكى لا يفيد العموم من المنفي. وعليه يكون المعنى هل عليه شيء في خصوص ذلك المجهول. واما لو اريد من الشيء هو جميع الاحكام فيختص بالجاهل القاصر الغافل عن الاحكام كاهل البوادي فيخرج عن محل النزاع. إلا انه من المستبعد ارادة ذلك غايته اختصاصه بعدم معرفة الأحكام باجمعها مع التفاتة اليها وذلك يكفي لرد الاخباري بضم عدم القول بالفصل بناء على ما عرفت من ان المراد من (لا) نفي الشيء بنحو التشريع ولو كان بمنشئه من ايجاب الاحتياط فتقع المعارضة بين الاستدلال بهذه الرواية وبين ادلة الاخباريين إلا ان يستفاد من ادلتهم الوجوب النفسي فتكون واردة على تلك الادلة ولكنك قد عرفت ان استفادة ذلك بعيد غاية البعد ، والانصاف ان ارادة العموم من النفي هو مقتضى وقوع النكرة في سياق النفي وعليه لا يختص

٧٧

بمن جهل جميع الاحكام بل يعم المقام فلذا لا مانع من الاستدلال بهذه الرواية على جريان البراءة في الشبهة الحكمية كما لا يخفى.

ومنها قوله عليه‌السلام : (أيما امرئ ركب امرا بجهالة فلا شيء عليه) وتقريب الاستدلال بهذه الرواية هو نفي البأس والعقوبة مع عدم العلم بحرمة الشيء ولا يخفى ان ذلك مبني على ان المراد من الجهالة هو الاعم من التردد كما سيأتى ان شاء الله من صحة الاطلاق في رواية عبد الرحمن ومنه يظهر انه لا مورد للاعتراض بان المراد من الجهالة هو الجهل المركب إذ ذلك مناف للاطلاق اللهم إلا ان يقال بان التمسك بالاطلاق يستحسن لو كان مشتركا معنويا ، وليس كذلك لكونه من المشترك اللفظي وقد يستشكل على التمسك بالاطلاق بناء على ان المراد من الجهالة الاعم من الوظيفة الظاهرية والواقعية فيكون مفادها مفاد قاعدة قبح العقاب من دون بيان الذي هو متسالم عند الفريقين على انه على هذا التقدير تكون ادلة الاخباريين واردة على ادلة الاصوليين ولكن لا يخفى ان ارادة ذلك محل اشكال ، ودعوى كون الباء في قوله (بجهالة) ظاهرة في السببية وذلك يقتضي الاختصاص بالغافل والجاهل المركب ممنوعة إذ ظهور الباء في السببية لا يقتضى الاختصاص بالجاهل المركب بل يشمل حتى الجاهل البسيط غاية الامر انه في الجهل البسيط السببية إنما هو بتوسط حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وذلك لا يوجب الفرق في ناحية الاستدلال كما لا يخفى.

ومنها قوله عليه‌السلام : ان الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم بتقريب ان ما لم يأتهم ولم يعرفهم لا عقوبة عليه ولكن لا يخفى ان هذا مبني على ان المراد من عدم العلم بالواقعيات فحينئذ تقع المعارضة بين هذه الرواية وادلة الاخباريين. نعم لو قلنا بان تحصيل العلم واجب نفسي تكون ادلة الاخباريين واردة على هذه الرواية كما انه لو اريد مما اتاهم هو مطلق الوظيفة الواقعية والظاهرية فتكون ادلة

٧٨

الاخباريين مقدمة على ادلة الاصوليين بنحو الورود بل حتى لو قربنا الدليل بنحو نفي العقوبة على الاحكام غير الواصلة إلى المكلف ولو كانت لاجل اخفاء بعض الظلمة تكون ادلة الاخباريين واردة على ادلة الاصوليين إذ يصح للمولى الاحتجاج والمؤاخذة على الواقع من اجل جعل الاحتياط. والانصاف ان الظاهر من معرفة الاحكام بعناوينها الاولية الذي قربا الاستدلال بهذه الرواية فحينئذ تقع المعارضة بين هذه الرواية وأدلة الاخباريين ، ولم تكن ادلتهم واردة عليها كما لا يخفى.

ومنها قوله عليه‌السلام : (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) بتقريب ان ما لم يعلم النهي عن الشيء يكون المكلف في سعة ومطلق فيه أي مرخص ولا يجب الاحتياط فيه فتكون الرواية ظاهرة في رد الاخباري القائل بايجاب الاحتياط وقد ادعى شيخنا الانصاري بان هذه الرواية اظهر ما في الباب من الادلة علي جريان البراءة في الشبهة الحكمية ، ولكن لا يخفى ان ذلك يتم بناء على ان المراد من الورود هو الوصول ، ومن النهي هو ما تعلق بالشيء بعنوانه الواقعي فيكون مفاد الرواية انه عند الشك في وصول النهي لا يجب رعاية الواقع. واما بناء على ان المراد من متعلق النهي هو مطلق الشيء ولو بالعنوان الثانوي أي ولو كان مجهول الحكم فلا يتم الاستدلال بذلك لعدم مقاومتها لادلة الاخباريين لورود تلك الادلة على هذه الرواية كما انه لا يتم الاستدلال بهذه الرواية بناء على ان المراد من الورود هو الصدور لخروج ذلك عن محل البحث والنزاع لكونه مسلما عند الفريقين إذ لا كلام في عدم ترتب العقوبة ولا يجب الاحتياط ما لم يكن متعلقا للنهي واقعا ولعل من استدل بهذه الرواية علي اصالة الاباحة في الاشياء قد نظر الى ذلك والانصاف ان احتمال ان يراد من المتعلق هو مطلق ولو كان

٧٩

بالعنوان الثانوي في غاية البعد إلا ان ارادة الورود بمعنى الصدور (١) لا بعد

__________________

(١) وقواه المحقق الخراساني فعليه يخرج عن محل النزاع إذ هو مسلم عند الفريقين إلا انه بضميمة اصالة عدم ورود الحكم وجعله يمكن التمسك بها للبراءة ولكنه غير نافع إذ التقييد بالغاية لا يكون إلا تعبدا بالمعنى مع انه اجنبي عما نحن فيه مضافا الى انه اخص من المدعى لعدم شموله لورود النهي في زمان والاباحة في زمان آخر وشك في المتقدم منهما.

ودعوى عدم القول بالفصل إنما يجدي فيما إذا كانا متلازمين لا مطلقا على ان استعمال الورود بمعنى الصدور غير شائع وانما المراد به هو الوصول فيكون الاطلاق بمعنى الاباحة الشرعية فيتم الاستدلال بالرواية على ان كل ما شك في حرمته فهو مطلق شرعا ومحكوم بالاباحة حتى يرد فيه النهي وعليه تقدم على ادلة الاحتياط لكونها اخص من تلك الأدلة خلافا للاستاذ المحقق النّائينيّ (قده) حيث قال بانه لا دلالة لهذه الرواية على البراءة لكون مفادها اللاحرجية الأصلية قبل الشرع بمعنى ان الاشياء بعناوينها الأولية مرسلة حتى يرد من الشارع نهى فتكون الرواية اجنبية عن المقام الذي هو عبارة عما لو شك في اباحة شيء بعد ثبوت الشرع ، ولكن لا يخفى ان استفادة ذلك خلاف ظاهر الرواية فان ظاهرها يدل على كون الحكم المستفاد حكما شرعيا مولويا لا حكما عقليا او حكما شرعيا ارشاديا وبهذا الظهور استدل شيخنا الانصاري (قده) وادعى انها اظهر الروايات وبما انها تختص بالشبهة الحكمية فلذا تقدم على ادلة الاخباريين.

بيان ذلك ان الورود بمعنى الوصول وليس بمعنى الصدور لكثرة استعماله فيه وندرة استعماله في الصدور بل لو صح استعماله في الصدور ففي هذه الرواية لم يستعمل إلا في الوصول لاقترانه بالاطلاق الذي قد عرفت انه حكم مولوي

٨٠