منهاج الأصول - ج ٤

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ٤

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

اقول ويمكن الجواب عن اشكال استعمال اللفظ في المعينين بوجهين آخرين الاول أن (ما) ليست مستعملة في خصوص الحكم او الفعل حتى يلزم منه استعمال اللفظ في معنيين بل انما هي مستعملة في معنى عام صالح للانطباق على الحكم والفعل وهو لفظ شيء ولا مانع منه.

ودعوى انه لا جامع بين نسبة الفعل الى المفعول المطلق وبين نسبة الفعل الى المفعول به ممنوعة لامكان تصوير جامع بينهما ولو عنوانا عرضيا ونسبة الفعل الى ذلك الجامع ليست معنونة بالمفعول به ولا بالمفعول المطلق بل إنما هي نسبة ثالثة خارجة عن تلك النسبتين سمها ما شئت ولا نزاع لنا بالتسمية بل الكلام في وحدة النسبة وتعددها ومنه يعلم اتحاد النسبة وبذلك يندفع اشكال استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد.

الثاني ان الاشكال إنما يتوجه لو كان المراد من لفظ (ما) المعنيين ولم يكن هناك دالان كل دال يدل على معنى خاص واما لو كان هناك دالان دال

__________________

التسمية ولو سلم صدق المفعول به عليه فلا اشكال في ان تعلق الفعل به مغاير لتعلقه بغيره من انحاء ما هو المفعول به فحينئذ يبقى الاشكال بحاله على ان المفعول المطلق لا يكون إلا نتيجة الفعل المعبر عنه باسم المصدر ولا يصح أخذ جهة الصدور والانتساب ولاجل ذلك ان المفعول المطلق لا يعمل.

وبالجملة ان المصدر المؤكد الذي يسمونه مفعولا مطلق إنما هو الحدث من حيث جهة الصدور المعبر عنه بالمعنى المصدري دون ما هو نتيجة الفعل المعبر عنه بالاسم المصدري فانه في الحقيقة مفعولا به نعم المفعول المطلق المبين للنوع والعدد يكون عبارة عن الحدث بماله من المعنى المصدري وقد قرب ذلك بجعله مفعولا به ايضا بما له من المعنى الاسم المصدرى لامكان جعله موضوعا لترتب الآثار

٢١

يدل على الحكم وآخر يدل على الفعل وحينئذ يكون نظير (العلم) المنصوب المكتنف بدالين يراد من كل دال نسبة خاصة توضيح ذلك ان تعدد النسبة إنما ينشأ. اما من تعدد المنتسب او من تعدد المنتسب اليه مثلا زيد قائم وزيد قاعد فتعدد النسبة فيه من تعدد المنتسب وكزيد قائم وعمرو قائم فتعددها من جهة تعدد المنتسب اليه ومع اتحاد المنتسب والمنتسب اليه لا يعقل تعدد النسبة والمقام من قبيل تعدد المنتسب اليه إذ النسبة إنما هي متقومة بالخصوصيتين بحسب القرينة فتكون عندنا قرينتان حاليتان باحدهما دلالة على الفعل وبالاخرى دلالة على الحكم ولفظة (ما) يراد بها نفس الجامع ولو فرض عنوانا عرضيا فلم تكن الخصوصيتان ملحوظتين من لفظة (ما) وانما استفيدتا من الدالين فلم يكن من ذاك من استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد.

وبالجملة لو كان المستعمل فيه لفظه (ما) هو كل واحد من المفعول به والمفعول المطلق لزم منه استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد واما لو فرض

__________________

ويتعلق به التكليف اللهم إلا ان يقال بان ما جعل مفعولا به هو مقدم رتبة في مقام الاعتبار على المصدر فكيف يجعل ما هو حاصل المصدر المسمى بالاسم المصدري مفعولا به فيلزم اعتبار المتأخر متقدما وذلك باطل ولكن لا يخفى ان الفعل بالمعنى الاسم المصدري ربما يكون له عنوان خاص فيكون بهذا العنوان بلحاظ الشرع والعقل موضوعا للآثار ومنها الوجوب والحرمة إلا ان الشأن في المقام ان ما هو الاثر والنتيجة قد أخذ مقدما في عالم الاعتبار فان نسبة التكليف الى الحكم نسبة الحكم الى موضوعه فبناء على كون اسم المصدر مفعولا به ففي عالم الاعتبار يكون مقدما وقد فرض كونه من نتائج ما نسب اليه اللهم إلا أن يقال انه ليس هو نتيجة ما نسب اليه وإنما هو اعتبر اسم مصدر وقد نسب اليه الوجوب او التحريم فلا تغفل.

٢٢

استعمال لفظه (ما) (١) في الجامع بينهما ولو كان امرا عرضيا كما يفرض ان تستعمل في الشيء الذي هو كلي يشمل كلتا الخصوصيتين وأراد كل واحد منهما من دال خارجي فلا يلزم منه استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد لا من الموصول ولا من الايناء ولا من تعلقه بالموصول اما الموصول فقد عرفت انه مستعمل في معنى عرضي كلي شامل لجميع الخصوصيات واما الايتاء فالمراد منه هو الاعطاء ، والاعطاء يخلف بحسب المصاديق فيراد منه الاعلام عند اضافته الى الحكم والاقدار عند اضافته الى المال أو الفعل واما تعلق الفعل بالموصول فليس إلا تعلقا واحدا وذلك يرجع الى التعلق بالجامع وتحليله الى نحوين من التعلق لا يوجب تعدده على انه لو اريد من التكليف الحكم وكان المراد منه معناه اللغوي أي الكلفة والمشقة فيمكن أن يكون المراد من الموصول هو المفعول به أو منه ، وارجاع النسبتين الى معنى واحد.

فظهر مما ذكرنا امكان ارادة العام من لفظ الموصول واستفادة الخصوصية

__________________

(١) لا يخفى ان الالتزام بان المستعمل فيه من لفظة (ما) هو الجامع بين المفعولين محل نظر فان (ما) الموصول لما كان من العناوين المبهمة المجعولة مرآة لما هو متعلق الحكم وليست هي مما يتعلق بها الحكم فحينئذ لا بد ان يفرض مرآة للخصوصيتين ولا جامع بينهما على انه لو فرض كون الجامع طرفا للنسبة فمن الواضح ان الجامع ليس له تحقق إلا باحد الخصوصيتين فلا بد من أن تكون النسبة متعنونة باحد العنوانين اما مفعول مطلق أو مفعولا به. نعم لو فرض تحقق جامع واقعي لامكن تحقق النسبة اليه واستفادة الخصوصية من دال آخر إلا ان اتيانه محل نظر على ان النسبة الى الجامع التي هي تعد نسبة ثالثة من أى قسم من المفاعيل إذ لا جامع بينها مضافا الى عدم امكان جعل ماء الموصولية مفعولا مطلقا لو قلنا بان التكليف معناه الاصطلاحي فضلا عن كونه هو المشقة للزوم كون التكليف

٢٣

من دال آخر فحينئذ يمكن التمسك بالاطلاق على المطلوب ولكن لا يخفى ان الاستدلال بالآية على البراءة إذا تم اطلاقها وربما يمنع تمامية الاطلاق لوجود

__________________

بالواقع ينحصر بالعالم وبكون الجاهل ليس مكلفا بالواقع فلذا الاولى جعل التكليف في الآية عبارة عن المشقة والموصول عبارة عن الحكم فالمعنى حينئذ ينحصر في جعل الموصول مفعولا به وحينئذ يستحيل جعله مفعولا مطلقا لعدم كونه من جنس الفعل ولا محذور سوى ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره من الايراد عليه بما حاصله ان المفعول به لا بد وان يكون موجودا قبل الفعل لكى يقع الفعل عليه كوجود زيد قبل وقوع الضرب عليه في قولك اضرب زيدا بخلاف المفعول المطلق فان وجوده يتحقق بوجود الفعل ولذا بنى الزمخشري على ان السماوات في قوله تعالى خلق الله السماوات مفعول مطلق لا مفعول به.

وعليه في المقام ينحصر جعل ما الموصولة مفعولا مطلقا بناء على ان المراد منها الحكم وقد أجاب قدس‌سره بان المفعول المطلق النوعي والعددي يصح جعله مفعولا به بنحو من العناية مثلا الوجوب والتحريم وان كان وجودهما بنفس الايجاب والانشاء وليس لهما تحقق في المرتبة السابقة إلا أنهما باعتبار ما لهما من المعنى الاسم المصدري يصح تعلق التكليف بهما نعم هما بمعنى المصدر لا يصح تعلق التكليف بهما ودعوى ان الاشكال غير وارد حيث ان العدم معتبرا في المفعول تقدما ولو رتبة إذ كثير من الافعال ليست بموجودة قبل الفعل كمثل احفر البئر وابن المسجد الى غير ذلك ففي غير محله إذ ذلك في غير الخالق جل وعلا فان مخلوقاته عين الخلق فليس بينهما تقدم اصلا نعم يصلح لان يكون مفعولا به بالمعنى الاسم المصدري حيث انه لا مانع من كونه بهذا المعنى موضوعا للآثار

٢٤

قدر متيقن في مقام التخاطب فان موردها المال فحينئذ يكون من قبيل القرينة المقامية المحتملة المانعة من تحقق الاطلاق. اللهم إلا ان يقال ان الامام استشهد بها على غير موردها (قال قلت هل كلف الناس بالمعرفة قال لا على الله البيان لا يكلف الله نفسا إلا ما آتيها) فانه استشهد سلام الله عليه على موردها وغيرها وذلك دليل على عدم اختصاصها بالمورد فلا يكون هو القدر المتيقن في مقام التخاطب فعليه لا مانع من التمسك بها على البراءة سوى ما عرفت منا سابقا بان هذه الآية ترفع الكلفة والمشقة عند عدم ايصال التكاليف الواقعية فحينئذ تكون من قبيل قبح العقاب بلا بيان الذي لا ينكره الاخباري إذ الاخباري يدعى تحقق البيان وهو ايجاب الاحتياط المستفاد من الأخبار.

ودعوى ان المستفاد من الآية رفع الكلفة والمشقة مطلقا ولو من قبيل جعل الاحتياط ففي غير محلها اذ الكلفة والضيق إنما يكون من نفس التكاليف لا من قبيل جعل الاحتياط حتى لو قلنا بان جعل الاحتياط اعتبر طريقيا فانه على ذاك التقدير يكون منجزا للواقع المجهول فتكون البراءة رافعة لنفس الواقع لا ايجاب الاحتياط في هذه الآية وكذا ما يكون في سنخها مثل لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا تصلح دليلا للبراءة بل حالها حال قبح العقاب بلا بيان.

اللهم إلا أن يقال بان الايتاء ان كان بمعنى الاعلام يكون مساوقا لقبح العقاب بلا بيان كما انه إذا كان بمعنى تمامية الحجة فلا يتم الاستدلال على البراءة نعم بالقياس الى الأحكام وكان بمعنى الاعلام كان للاستدلال بها للبراءة مجال إذ

__________________

وينسب بعض الآثار كالوجوب أو التحريم كما في المقام وليس ذلك نتيجة ما نسب اليه من المعنى المصدرى لكي يقال بانه متأخر عنه فكيف يكون متقدما عليه لاعتباره مفعولا به فلا تغفل.

٢٥

هي حينئذ دالة على ان الشارع لم يوجب الاحتياط رعاية للاحكام الواقعية قبل اعلامه بها ففي حال الشك ليس مكلفا بشيء ولكن ذلك مبني على كون القضية في مورد الاطلاق ولكن يمكن منعه لكون موردها هو خصوص الانفاق بالمال فيكون من قبيل القدر المتيقن في مورد المخاطب إلا أن يقال ان خصوصية المورد لا يوجب رفع الاطلاق خصوصا بعد استشهاد الامام عليه‌السلام في رواية عبد الاعلى المتقدمة لغير موردها وذلك دليل على عدم اختصاص موردها بالمال.

ودعوى انه ليس في الرواية دلالة على اعمية الايتاء بل يمكن تطبيقه على خصوص الاقدار من جهة ان المعرفة لها جهة موضوعية فهي مطلوبة مع تحقق القدرة عليها فلا يجب تحصيل المعرفة إلا باقداره سبحانه وتعالى ممنوعة إذ المعرفة كما ان لها جهة موضوعية لها جهة طريقية فلا مانع من ان صدر الرواية ناظرة للجهتين فبالنسبة الى كون المعرفة لها موضوعية يراد من الايتاء الاقدار وبالنسبة الى جهة طريقتها يراد من الايتاء الاعلام.

ودعوى لزوم استعمال اللفظ في معنيين قد عرفت ضعفه كما ان دعوى عدم ارادة الجهتين من المعرفة ممنوعة حيث ان اطلاق انتفاء التكليف يقضي بالتعميم على ان المحكي في اصول الكافي ضم لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلى قوله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتيها فحينئذ يكون الظاهر من آية الايتاء الاعلام ومن آية الوسع الاقدار فيكون التعرض بالآيتين للمعرفة بكلا الجهتين.

ومما ذكرنا يظهر النظر في الاستدلال بانه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) كما لا يخفى.

ومنها قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وتقريب الاستدلال بهذه الآية مبني على ان المراد من الرسول في الآية كناية عن البيان وقيام الحجة على التكليف الذي هو البيان للواقع المجهول ففي مورد عدم البيان النقلي

٢٦

فيحكم بالبراءة في الشبهة التحريمية ولكن لا يخفى أنه على هذا التقريب لا تحصل المعارضة لأدلة الاخباريين المثبتة للبيان النقلي بل تكون أدلتهم واردة عليها لو تم استدلالهم على وجوب الاحتياط.

ودعوى أن نفي العقوبة على الواقع المجهول لا ينافي ثبوتها على الاحتياط لأجل أخباره ممنوعة. إذ وجوب الاحتياط لم يكن نفسيا لكي يترتب العقاب عليه بل إنما وجوبه مقدمي فلا عقاب على الواقع المجهول لو خالف ، ويدل على ذلك قوله عليه‌السلام «هلك من حيث لا يعلم» فانه لو كان وجوبه نفسيا لكان قد هلك من حيث يعلم لا من حيث لا يعلم.

وبالجملة مفاد هذه الآية مفاد قبح العقاب بلا بيان فمع تحقق البيان الحاصل من الأخبار الواردة في التوقف عند الشبهة والآمرة في الاحتياط فيها أو من العلم الاجمالي بثبوت الاحكام الالزامية وهو يقتضي الاحتياط فلا مجال لجريان البراءة حينئذ. نعم يكون لها مجال مع ابطال ذلك إما بدعوى دلالة تلك الاخبار على عدم وجوب التوقف أو انحلال العلم الاجمالي على حسب ما يأتي ان شاء الله تعالى إلا ان الاشكال في دلالة الآية على البراءة حيث أن المستفاد منها هو نفي فعلية التعذيب لا نفي الاستحقاق مع أن محل الكلام بين الاصوليين والاخباريين هو نفي الاستحقاق ونفي الفعلية لا يلازم نفي الاستحقاق (١) ولكن لا يخفى

__________________

(١) وقد أجاب الشيخ الانصاري (قده) في فرائده ان الآية وان كانت ظاهرة في نفي فعلية التعذيب لا نفي الاستحقاق يصح الاستدلال بها لنفي الاستحقاق إذ الخصم يعترف بالملازمة بين الفعلية والاستحقاق في خصوص المقام بتقريب ان الأدلة التي أقامها على الاستحقاق تدل على نفي الفعلية فان الظاهر من الهلكة المأخوذ في أخبار التثليث هي الهلكة الفعلية لا مجرد الاستحقاق وقد

٢٧

ان القضية ظاهرة في نفي التعذيب مطلقا سواء كان من جهة انتفاء المقتضي أو من

__________________

أورد المحقق الخراساني (قده) في كفايته بما لفظه «ولو سلم اعتراف الخصم ... الخ» وتوضيحه ان الاستدلال إنما يصح جدليا وهو القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات ولو كانت مسلمة عند الخصم وذلك لا ينفع في اثبات المدعى إلّا باعتقاد الخصم على أنا نمنع هذا الاعتراف اذ لا تزيد ارتكاب الشبهة على المعصية الحقيقية ومن الواضح أنه لا ملازمة عنده بين الاستحقاق والفعلية فيها فكيف يعترف بالملازمة بالشبهة ولا دلالة لاخبار التثليث على الفعلية اذ الوعيد بالهلكة فيها كالوعيد على العذاب على المعصية وبلا اشكال ان المقصود من العذاب على المعصية هو الاستحقاق.

اللهم إلّا ان يقال بان النزاع بين الاخباري والاصولي ليس في الاستحقاق وعدمه بل النزاع في البيان وعدمه فالاخباري يدعي البيان من أخبار الاحتياط والاصولي ينكر تحقق البيان.

وبعبارة أخرى أن النزاع بينهما في وجود المؤمن لارتكاب الشبهة ، الاصولي يدعي وجود المؤمن لجواز ارتكاب الشبهة كشرب التتن المشتبه حكمه مثلا وهذا المؤمن ناشئ من رفع العقوبة سواء كانت بنحو الاستحقاق أم بنحو الفعلية على أنه كيف يكون المتنازع فيه في الاستحقاق مع ان النزاع بين الفريقين هو رفع فعلية العقوبة المعبر عنها برفع المؤاخذة هذا كله لو اريد من التعذيب في الآية الشريفة هو التعذيب الأخروى.

واما لو اريد منه العذاب الدنيوي لما صح الاستدلال بها على المورد لرجوعه الى نفي التعذيب للامم السابقة قبل بعث الرسل وادعى الشيخ الانصاري (قدس‌سره) في فرائده ان الظاهر في الاخبار بنفي التعذيب ذلك ومنشأ الظهور

٢٨

جهة وجود المانع فالأخذ بظاهر إطلاق السلب يقتضي شموله لكلتا الصورتين

__________________

هو ظهور لفظه (كنا) فانها للماضي وقد أجاب المحقق الخراساني في الحاشية بما لفظه «فيه تأمل بل منع فان الافعال المنسوبة اليه تعالى منسلخة غالبا عن الزمان» ولكن لا يخفى ان كون الافعال المنسوبة اليه ولو قلنا بانسلاخها فلا ينافي المعية في الزمان اذ الفعل الزماني لا يكون إلا لفاعل زماني فالافعال المنسوبة اليه تبارك وتعالى كالافعال المنسوبة الى غيره من حيث دلالتها على الزمان من دون حاجة الى الالتزام بالانسلاخ عن الزمان واستفادة الزمان منها اما بمعية القيومية مع الزمان فمع السابق سابق ومع اللاحق لاحق ، واما بلحاظ سبقه بملاك السبق الزماني الذي هو عدم مجامعة المتأخر مع المتقدم في الوجود فمع هذه الاستفادة يكون الزمان الماضي مستفادا من لفظة (كنا) وعليه يتم استظهار نفي التعذيب بالنسبة للامم السابقة من الآية.

اللهم إلا أن يقال ان لفظة (ما كنا) ونحوها ظاهرة في أن الفعل غير لائق بالفاعل وغير مناسب له كما يستفاد ذلك من قوله تعالى (ما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) (وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ) فحينئذ يكون المستفاد من الآية الشريفة ان التعذيب قبل البيان لا يليق به سبحانه وتعالى من غير فرق بين عذاب الدنيا والآخرة.

ولكن لا يخفى أن غاية ما يستفاد منها أن التعذيب منفي حيث لا بيان الذي هو مفاد حكم العقل بقبح العقاب بدون بيان. بناء على أن المراد من بعث الرسل هو البيان الواصل كما هو الظاهر. وقد عرفت ان النزاع بين الاخباريين والاصوليين ليس في ذلك ، وإنما ذلك كبرى مسلمة بين الفريقين ، وإنما النزاع في الصغرى فلو تمت أدلة الاخباريين على وجوب الاحتياط من الأخبار المروية

٢٩

وذلك يساوق نفي الاستحقاق إذ نفي التعذيب بنفي مقتضيه الذي هو عبارة عن نفي الاستحقاق (١).

__________________

عن الأئمة الاطهار أو من العلم الاجمالي لصار ذلك هو البيان فيكون مقدما على ما يستفاد من هذه الآية وما يكون بمفادها.

هذا وعن بعض الأجلة دعوى امكان الاستدلال بهذه الآية من باب البرهان لا من باب الجدل باعتبار قيام الاجماع على عدم الاستحقاق على تقدير عدم الفعلية في خصوص المقام ولو فرض صحته فهو أجنبي عن الاجماع المصطلح حيث أن الاستحقاق إن كان عقليا فملازمته للعقاب في الآخرة وعدمها واقعي لا جعلي تشريعي إذ أحد الطرفين مجعول عقلائي والآخر مجعول تكويني فالملازمة بينها لا تكون من باب التشريع لكي يكون الاجماع تعبديا أو على أمر تشريعي بل وان كان الاستحقاق شرعيا فهو وان كان قابلا شرعا بالاناطة بشيء لكى تكون الملازمة جعلية شرعية إلا انه لا تصح الاناطة بفعلية نفس العقاب الاخروي حيث لا يصح إلا بنحو الشرط المتأخر ، إذ فعلية العقاب لو ترتبت على استحقاقه فترتب استحقاقه على فعليته دوري وهو واضح البطلان للزوم كون الشيء شرطا لنفسه. نعم يصح اناطة الاستحقاق بعدم ما يمنع عن فعلية العقاب فيرجع الى اناطة الاستحقاق بالبيان بالاجماع فيكون استدلالا على عدم الاستحقاق مع الجهل بالاجماع عن دون حاجة الى الاستدلال بالآية كما لا يخفى فلا تغفل.

(١) لا يخفى أن ترتب الثواب والعقاب علي ارتكاب الشيء انما يكون ظاهرا في الاقتضاء دون الفعلية كما هو كذلك بالنسبة الى ترتب الخواص والآثار فقولنا السم قاتل والبار محرقة ونحو ذلك فانه ظاهر في الاقتضاء دون الفعلية. واما بالنسبة الى الاحكام المترتبة على الموضوعات فيمكن القول بكونها في مقام اثبات الاقتضاء دون الفعلية فحينئذ تدل على الاستحقاق أو على عدمه في المقام ودعوى أنه لا منة في رفع العقاب مع عدم الاستحقاق ممنوعة لانا نمنع

٣٠

وبما ذكرنا يظهر انه لا حاجة الى ما أجاب به الاستاذ (قده) في الكفاية بقوله : «ولو سلم اعترف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية لما صح

__________________

كون الآية في مقام اثبات اللطف بل يمكن أن تكون في مقام اثبات العدل بان الله لا يظلم العباد على أن العقاب من الشارع فعدم جعله لعدم جعل الاحتمال منجزا فهو في كمال المنة ، ولكن الانصاف أن ترتب الاحكام على موضوعاتها ظاهرة في الفعلية دون الاقتضاء بخلاف ترتب الآثار والخواص فانها ظاهرة في الاقتضاء إذ يندر وجود كون الشيء علة لترتب الخاصية بل يبعد ان لا يكون للشيء شرط أو مانع. نعم بالنسبة الى ترتب الاعدام تكون فعلية لا اقتضائية اذ ترتب العدم على شيء يكون فعليا على كل حال من غير فرق بين أن يكون لعدم مقتضيه أو لعدم شرطه أو لوجود المانع.

وبالجملة فرق بين ترتب الآثار والخواص وبين نفيها ففي الاول ظاهر في الاقتضاء دون الثاني فانه ظاهر في الفعلية فلا يوجب الحمل على الاقتضاء دون الفعلية كما هو كذلك في طرف الاثبات اذ ليس العدم بالاقتضاء حتى يتوهم كونه نظير ثبوت المقتضى بثبوت المقتضي.

فظهر مما ذكرنا أنه لا موجب لحمل القضايا النافية على غير الفعلية لا ثبوتا ولا اثباتا فعليه ان عدم الشيء اذا كان مترتبا على عدم شيء آخر فلا محالة يكون ذلك الآخر اما لعدم مقتضيه أو لعدم شرطه ، وأما إذا كان مترتبا على وجود شيء فلا محالة يكون ذلك الشيء مانعا إذ الوجود لا يقتضي العدم فعدمه يكون من باب الشرط فترتب العدم عليه من قبيل ترتب عدم المشروط على عدم شرطه.

وبالجملة ترتب عدم شيء على وجود شيء أو عدم شيء لا يكشف عن

٣١

الاستدلال بها إلا جدلا مع انه لا يفيد في إحقاق الحق إذ القياس الجدلي ليس برهانا يوجب التصديق بالمطلوب ، كما أنه يظهر مما ذكرنا بانه لا حاجة الى كون المراد من التعذيب التعذيب الشأني لكون الافعال المنسوبة اليه تعالى منسلخة عن الزمان كما انه يظهر بطلان دعوى كون المراد في التعذيب الدنيوي فيكون اخبارا عن الامم السابقة على ان ذلك إنما يتم بناء علي كون اعتبار المضي في (كنا) بلحاظ حال الخطاب وذلك خلاف الظاهر فان الظاهر كون المضي إنما هو بلحاظ حال البعث.

وبالجملة المستفاد من الآية الشريفة هو الأخذ باطلاق السلب الشامل لجميع افراد نفي التعذيب من غير فرق بين ان يكون لنفي مقتضيه او لوجود المانع وبذلك لا يبقى مجال لاشكال المحقق القمي (قده) من التناقض بين الاستدلال بها للبراءة لنفي استحقاق العقاب وبين رد من استدل بها على عدم الملازمة بانها تنفي العذاب الفعلي ونفي الفعلية اعم من نفي الاستحقاق لعدم الملازمة بينهما كما في الظهار (١).

__________________

ثبوت المقتضى ولا عن عدمه. نعم اذا كان المترتب عليه عدم شرطه او وجود مانعة يكون كاشفا عن وجود المقتضى له وإلا لكان استناده الى عدم المقتضي اولى من الاستناد الى عدم شرطه او وجود مانعة فلا تغفل.

(١) لا يخفى انه قيل بان الحرمة الشرعية مع اخبار الشارع بنفي التعذيب والتفضل بالعفو لا يجتمعان للزوم ان يحمل الشارع العباد على التجري بفعل الحرام اذ الاخبار بالعفو يوجب إقدامهم على فعل الحرام المعفو عنه ولازمه لغوية جعل الحرمة الشرعية نعم لا مانع من الاخبار بالعفو بالنسبة الى المعصية التي لا يكون الاخبار به موجبا للتجري واقدام العباد عليها كالاخبار بالعفو

٣٢

ومن الآيات التي استدل بها على البراءة قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) بتقريب ان المراد من التبين هو الاعلام فلا يعذبهم الا بعد ان يعلمهم فحيث لا اعلام لا عقاب ، ودلالة هذه الآية على البراءة اظهر من دلالة سابقتها اذ دلالة البيان على الاعلام كانت بالدلالة اللفظية ودلالة بعث الرسول عليه انما تكون بالدلالة الالتزامية وبنحو الكناية على ان المراد من «يضل» هو الخذلان الذي هو بمعنى اعظم من العقوبة

__________________

عن نية السيئة فان المخبر به هو العفو عن نية السيئة المجردة عن تعقبها بالسيئة ولا يمكن للعبد التجري على ذلك فان القصد والتجري على النية المجردة لا يعقل اذ لا يتحقق العزم على العزم المجرد. ولكن لا يخفى انه ليس المقصود من العزم المشرف على العمل المتصل به بل المقصود هو العزم المنفصل عنه ولا مانع من كون ذلك هو مما يرغب فيه ويلتذ به بنحو يكون المقصود مستقلا من دون الاتصال بالعمل كما لو قصد المعصية في النهار وتفكر في خصوصياتها بنحو يلتذ بها بل ربما يقال بانه لا تنافي بين الحرمة الشرعية مع اخبار الشارع بالتفضل بالعفو اذ حكم العقل بلزوم اطاعة المولى يمكن ان يكون للحسن الملزم بالاتيان وليس لأجل الفرار من العقاب واما العلم بالعفو في صورة الاخبار بالتفضل لا يرفع الاستحقاق بل يتوقف صدق العفو عليه اذ لا معنى للعفو الا بعد الاستحقاق.

اللهم إلّا ان يقال ان استلزام الاستحقاق انما جاء من جهة التفضل والمنة إلّا انه بعد تحققه قبيح من المولى العود الى العقوبة ، وحينئذ لا يكون العبد مستحقا للعقوبة. والانصاف ان العفو عقيب العمل قبيح ولكن لا قبح فيه بالنسبة الى الاخبار بالعفو او العلم به فيما بعد لكونه كالاخبار بالعفو وعدم التعذيب في يوم القيامة فافهم وتأمل.

٣٣

كالخلود في النار مثلا ، فاذا كان الجهل مانعا من المرتبة العليا فمنعه من المرتبة الدانية بطريق اولى ، فالاستدلال على المطلوب بهذه الآية يكون من جهتين لفظية وفحوائية.

ومما ذكرنا من التقريب يندفع بعض الاعتراضات الواردة في المقام ، كما انه لا معنى للخدشة بان مفاد الآية هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان الذى هو مسلم بين الفريقين. على انه لو قلنا بذلك فهو انما يكون بناء على ان المراد من البيان هو تمام الحجة فتكون اخبار الاحتياط واردة على هذه الآية. ولكنك قد عرفت ان مبنى الاستدلال كما هو الظاهر ان المراد من البيان هو الاعلام فتكون الآية دالة على البراءة.

فالمتحصل ان عدم وجوب رعاية الواقعيات قبل وجود البيان إن استفيد ذلك من الآية فحينئذ تحصل المعارضة مع ادلة الاخباريين لو تمت دلالتها ولا تكون ادلة الاخباريين واردة عليها.

ودعوى ان وجوب الاحتياط نفسي فتكون ادلة الاخباريين واردة عليها قد عرفت ضعفها ، كما ان دعوى منع الفحوى بتقريب ان الخذلان يكون قبيحا على الحكيم بالنسبة الى المرتبة العليا ولا يستلزم ذلك العقوبة على ما دونها مكابرة وبلا دليل إذ الجهل إذا كان مانعا عن الخذلان الذى هو اعظم من العقوبة فبطريق اولى يكون مانعا لما دونه من المراتب ومنشأ ذلك التوهم تخيل ان العلم شرط في الخذلان ومنعه ظاهر.

فتحصل مما ذكرناه ان الاشكال على دلالة الآية على البراءة بان مفادها مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان لكي تكون ادلة الاخباريين واردة عليها مبني على ان يكون الخذلان مسبوقا بالبيان. واما اذا كان المراد من البيان هو الاعلام بحكم الشيء واقعا بعنوانه الاولي لا الاعلام بمطلق الحكم ولو كان

٣٤

بعنوانه الثانوي اى بما انه مشكوك الحكم فيكون مفادها نفي جعل ما هو السبب من ايجاب الاحتياط ونحوه لصح الاستدلال بهذه الآية لكونها حينئذ تعارض اخبار الاحتياط ولا تكون اخبار الاحتياط واردة عليها ومن ذلك يظهر ان لا وجه للاشكال على الاستدلال بالآية بانها ظاهرة في الاخبار عن حال الامم السابقة فتختص بالعقاب الدنيوي او ان مفادها هو الاضلال بمعنى الخذلان الموجب لاستحقاق العذاب الدائم وهو اعظم مرتبة من العذاب وتوقف هذه المرتبة على البيان لا يستلزم توقف المرتبة الدانية عليها لما عرفت ان هذه الآية كالآية السابقة في مقام اظهار العدل وانه سبحانه وتعالى لا يظلم العباد وليست هذه الآية في مقام المنة فحينئذ لا يفرق بين العذاب الدنيوى والاخروي كما ان المانع عن العذاب الدائم والخلود في النار الذي هو المرتبة العليا من العذاب ليس إلا عدم البيان الموجب لقبحه على الحكيم (١) وبطريق اولى يثبت عدمه في المرتبة الثانية فيستفاد المقام من الآية بالفحوى وانكار هذا الفحوى كما عرفت انه مكابرة وبلا دليل على انه لا يفرق بين مراتب العذاب لوجود المناط في جميعها فمع عدم البيان لا عذاب لقبح اثباته مع عدم البيان. كما لا يخفى.

ومن الآيات التي استدل بها على البراءة قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) وتقريب الاستدلال انه سبحانه وتعالى اناط الهلاك بالبينة ففي مورد عدم وجودها لا هلاك ، وفي مورد الشبهة التحريمية لا بينة فيها فلا عقوبة ولكن قد يحدث في جعل عقوبة الآية دليلا على المدعى

__________________

(١) لا يخفى ان الأولوية ممنوعة اذ الجهل إذا كان مانعا عن الأمر الأهم لا يستلزم ان يكون مانعا عن الأمر المهم بل الامر بالعكس كما هو واضح فلا تغفل.

٣٥

فان ذلك ينافي كون اناطة الحياة بالبينة اذ يكفي في الحياة عدم البينة بحكم العقل بقبح عقاب من دون بيان ولا يحتاج ذلك الى تحقق البينة فلازم اناطة الحياة بالبينة واقترانها بالفقرة السابقة وجوب صرفها عن المقام وجعلها في خصوص اصول الدين ولو لا ذلك للزم افتراق الفقرتين في المعنى حيث ان اناطة الحياة بالبينة لا تصلح الا لاصول الدين وجعل الفقرة الأولى اعني «ليهلك من هلك عن بينة» شاملة للشبهة التحريمية يوجب اختلال السياق ودعوى ان افتراق الفقرتين بان تكون الفقرة قد اوتي بها من جهة المحسنات الأخر البديعية ليس ذلك إلّا احتمالا وهو لا يوجب صحة الاستدلال اذ الاستدلال يحتاج الى احراز الدلالة لكي يدل على المدعي وبالجملة ان جملة «يحيى من حى عن بينة» هو اناطة الحياة بالبينة السابقة وليس ذلك إلّا في الامور الاعتقادية ولا تشمل التكاليف الفرعية وبذلك يوجب صرف الجملة السابقة عن ظهورها في التكاليف الفرعية وذلك حفظا للسياق فلا تغفل.

ومن الآيات التى استدل بها علي البراءة قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) وتقرير الاستدلال انه سبحانه وتعالى ألهم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طريق الرد على اليهود لما حرموا على أنفسهم بعض ما رزقهم الله بانه لا أجد فيما أوحي اليّ محرما؟ فما حرمتموه على أنفسكم مما لم يعلم حرمته فالتزامكم بتحريمه هو افتراء فيستكشف من ذلك بان عدم الحرمة منوطة بعدم الوجدان ففي الشبهة التحريمية لما لم نجد بيان التحريم لذا نحكم بالبراءة ، ودعوى انه لا ملازمة بين عدم الوجدان وعدم الوجود ممنوعة بانه لو لم تكن ملازمة بينهما لما صح الاستدلال بها على رد اليهود وقد يشكل على ذلك بان العدول من عدم الوجود الى عدم الوجدان لا يدل على المطلب بل فيه إشعار للمطلوب وهو ممنوع. إذ كل شيئين متلازمين إذا انيط الحكم

٣٦

باحدهما دون الآخر يشعر منه بان للخصوصية دخلا وليست للخصوصية الاخرى دخل وان كان ترتبها على نحو التلازم مثلا لو كان بين العدالة والنجفية ملازمة فقال المولى اكرم النجفي دل بان خصوصية النجفية لها دخل في وجوب الاكرام فالقول بانه إشعار لا أنه يدل على ذلك ضعيف جدا كما ان دعوى أن وجه العدول من باب كون المجادلة بالتي هي أحسن ضعيفة إذ المجادلة لا تصلح أن تكون ردا أو إلزاما للخصم إلا أن يكون عدم الوجدان حجة على الخصم في الحلية

وبالجملة فلا خدشة في دلالة الآية على المدعى من هذه الجهات. نعم يمكن أن يقال بانها مفادها مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان الذى هو متفق عليه بين الفريقين فيكون مضمون الآية أنه مع عدم البيان لم يكن حراما ، والاخباري يدعي وجود البيان بادلة الاحتياط فتكون تلك الادلة واردة على ما يستفاد من الآية. اللهم إلا أن يقال أن الآية كما تنفي الحرمة الواقعية تنفي إيجاب الاحتياط فحينئذ يكون مفاد الآية معارضا لما دل على وجوب التوقف والاحتياط ومنه يعلم أنه لا وجه لما قيل أن التوبيخ على اليهود لاجل التزامهم بالترك لكونه من التشريع المحرم وليس ذلك من جهة كون الترك من باب الاحتياط لما عرفت منا سابقا بان الآية كما تنفي ذلك تنفى إيجاب الاحتياط فافهم وتأمل.

ومن الآيات التي استدل بها على البراءة قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) وتقريب الاستدلال انه سبحانه وتعالى وبخ اليهود على ترك الاشياء التي لم يفصلها أي يبين حرمتها بل ذكر حرمة غيرها فيظهر من ذلك ان الشبهة التحريمية حيث لم تكن مما بين حرمتها فلا مانع في جواز ارتكابها بل ربما يقال أن هذه الآية أظهر من سابقتها حيث أن السابقة مفادها عدم جواز الحكم بالحرمة على ما لم يوجد تحريمه فيما أوحي الى النبيين (ص) وهذه تدل على أنه لا يجوز الالتزام بالترك مع عدم كونه مما

٣٧

فصل. ولكن لا يخفى ان التوبيخ إنما هو على الالتزام بترك الشيء مع تفصيل جميع المحرمات وحينئذ يدل على العلم بعدم الحرمة وليس المقام من قبيل ذلك إذ المقام لا يعلم حرمته وبالجملة أن المستفاد من الآية ان الخارج منها هو معلوم الحلية لا محتمل الحرمة والمفيد هو الثاني دون الاول إذ محل البحث هو ما احتمل كونه من المحرمات التفصيلية لا ما علم بالخروج منها ولكن الانصاف أنه يمكن التمسك باطلاق الآية الدالة على حلية ما خرج من المحرمات من غير فرق بينما علم حليته أو لم يعلم فحينئذ لا مانع من التمسك باطلاقها على المورد كما لا يخفى هذا تمام الكلام في التمسك بالآيات على جريان البراءة في الشبهة التحريمية.

واما السنة

فقد استدل منها على البراءة بروايات منها حديث الرفع المروي عن حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع عن أمتي تسعة أشياء «الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا اليه والطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة».

وتقريب الاستدلال ان الالزام المحتمل سواء كان وجوبيا أو تحريميا مع عدم قيام حجة على ثبوته يكون داخلا فيما لا يعلمون فهو مرفوع ظاهرا وان كان ثابتا واقعا بمعنى رفع الحكم ظاهرا في مرتبة الجهل لا رفعه واقعا وإلا لكان الجهل بالحكم علة للعلم بعدمه وهو باطل للزوم التصويب الممنوع عندنا وذلك يدل على المطلوب.

وكيف كان فقد وقع الكلام في أن الرفع هل متوجه الى التكليف الفعلي كما قال الاستاذ (قده) حيث يقول : فالالزام المجهول مما لا يعلم فهو مرفوع فعلا وان كان ثابتا واقعا» أو متوجه على الاحتياط كما يقوله شيخنا الانصاري أعلى الله مقامه في فرائده؟ والحق هو الثاني.

٣٨

بيان ذلك يستدعي بيان الفرق بين الرفع والدفع فنقول انه يعتبر في الرفع صدقه على أمر ثابت وذلك يستلزم في صحة استعماله وجود المرفوع في الزمان السابق بنحو لو لا الرفع لكان موجودا بخلاف الدفع فانه لا يعتبر في صدقه إلا ثبوت المقتضى للوجود حيث ان الدفع يمانع تأثير المقتضى فالرفع والدفع يشتركان في تحقق المقتضى للشيء ، إلا ان الرفع يعتبر فيه وجود الاثر سابقا والدفع لا يعتبر فيه ذلك. فان المعتبر فيه منع المقتضي عن التأثير. وبعبارة اخرى ان الرفع عبارة عن انعدام الشيء وتبدل الوجود بالعدم فهو نقيض الوجود ، ومن المعلوم ان النقيضين في مرتبة واحدة إذ لو كانا في مرتبتين لزم اجتماعهما ، وبعبارة اخرى لا يجتمع أيس مع ليس فلا بد أن يكونا في مرتبة واحدة فلو كانا في رتبتين لاجتمع ايس مع ليس فلا يتحقق التناقض بينهما وهذا يساوق ان يكون الرفع بمعنى الدفع لا بمعناه الأصلي وهو انعدام بعد الوجود إذ هو متأخر عنه مرتبة فلا يكون نقيضه ، ونسبة الرفع الى التسعة ليست إلا كنسبة واحدة وليست متعددة كما لو تعددت نسبة الرفع الى كل واحد منها ، ولو كان التعدد بالواو العاطفة إذ نسبة الرفع في الحديث الى التسعة للحاظ واحد والفقرات المفصلة إنما هي بيان التسعة وليست بيانا للنسبة. فاذا كانت النسبة واحدة فهي اما حقيقية بالنسبة الى الكل او مجازية بالنسبة الى الكل اذ لا جامع بينهما وحيث ان المتيقن من الخارج ان نسبة الرفع الى ما لا يطيقون والخطأ والنسيان نسبة مجازية اى تنزيلية اي رفع الاثر بلسان رفع منشئه وحينئذ يتعين ان المراد من نسبة الرفع الى ما لا يعلمون نسبة تنزيلية.

وبعبارة اخرى ان نسبة الرفع تارة تكون حقيقية بلحاظ رفع الحكم واخرى تكون تنزيلية بلحاظ رفع اثره وهو الاحتياط ولكن المحافظة على وحدة السياق يقتضي كون المراد هو الاخير وإلا لاختل السياق ولما صح نسبة الرفع الى التسعة كما يخفى

٣٩

ولو سلمنا ذلك فنقول ان موضوع الرفع هو عدم العلم والشك وظاهر اخذ العنوان في لسان الدليل هو كونه مناطا للحكم وعلة لترتب الأثر فتكون هذه العناوين من الجهات التعليلية بمعنى كون مناط الرفع هو الخطأ والنسيان وما لا يعلمون.

وحينئذ يمكن دعوى ابقاء الرفع في الحديث على ظهوره في الرفع الحقيقي باعتبار انه يكفي في وجوده تحقق المقتضى له فان العقلاء يعتبرون وجود الشيء عند تحقق مقتضية فيرتبون عليه احكاما كثيرة ولا يحتاج الى جعل الرفع في الحديث بمعنى الدفع لكى يكون الاسناد مجازيا أو دعوى (١) أن حقيقة الرفع

__________________

(١) ذكرنا في تقريراتنا لبحث الاستاذ المحقق النائيني (قده) ان بيان حديث الرفع يتوقف على ذكر امور :

الاول : ان الرفع انما هو رفع في مقام التشريع وليس المراد به الرفع الحقيقي وحينئذ مفاده البناء على عدم الحكم تشريعا ولو كان له تحقق واقعا وبذلك صح نسبة الرفع الى هذه الامور ولا يتوقف عين حذف مضاف كالمؤاخذة او جميع الآثار او الاثر المناسب حتى يقع النزاع في انه اي شيء هو المحذوف باعتبار ان دلالة الاقتضاء تقتضي تقدير شيء صونا لكلام الحكيم كما هو كذلك بالنسبة الى اسأل القرية حيث ان السؤال انما يكون لمن يعقل. فصحة الكلام تدل على حذف المضاف اي اسأل اهل القرية.

الثانى : ان الرفع عين الدفع في المقام بمعنى رفع اثر المقتضي الذي هو الجامع بينهما لتحققه فيهما. نعم لو قلنا ان الممكن مستغن عن المؤثر فحينئذ يكون الرفع حاصلا بمعنى رفع العلة التامة ولم يكن معنى للرفع واما على ما هو ـ (منهاج الاصول ـ ٥) ـ

٤٠