منهاج الأصول - ج ٤

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ٤

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

قوله (ع) : (من ترك الشبهات كان لما استبان له اترك) فانها وان كانت قابلة للحمل على الارشاد إلا ان ظهورها في المولوية تنفي حملها على الارشاد ، ولكن هل يستفاد منها الاستحباب النفسي او تحمل على الطريقية؟ الظاهر هو الثاني لظهورها في حفظ الواقع فتكون كسائر الطرق والامارات إنما اتي بها لحفظ الواقع ولكن الانصاف ان المحقق للتقرب المعتبر في العبادة يحصل من الاتيان بالفعل لمجرد احتمال المطلوبية رجاء فعليه لا موقع للاشكال في جريان الاحتياط في العبادة فانه من الواضح امكان الاتيان بما احتمل وجوبه بداعي احتمال المطلوبية فلا تغفل.

التنبيه الرابع في بيان اوامر الاحتياط التنبيه الرابع في ان اوامر الاحتياط يمكن ان يستفاد منها الاستحباب فيما إذا أتى المكلف بالفعل برجاء المطلوبية ، واما مع عدم الاتيان بذلك فيشكل الفتوى بالاستحباب فما ذكره المشهور من الفتوى بالاستحباب من دون تقييد بالاتيان برجاء المحبوبية محل اشكال. نعم قيل بذلك فيما لو كان احتمال الوجوب لاجل قيام خبر ضعيف استنادا الى الاخبار الكثيرة الآمرة باتيان كل ما بلغه من الثواب بخبر ضعيف كما عن صفوان عن الصادق (ع) قال : (من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخبر فعمل به كان له اجر ذلك ، وان كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله. وعن محمد بن مروان عن ابي عبد الله قال سمعت أبا جعفر (ع) يقول من بلغه ثواب من الله تعالى على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه وان لم يكن الحديث كما بلغه الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة الدالة على استحباب ما بلغ فيه الثواب ، ولا يخفى ان استفادة استحباب نفس الفعل منها محل اشكال (١) للاشكال في دلالتها وبيان ذلك يتوقف على بيان امرين الاول ان

__________________

(١) لا يخفى ان اخبار من بلغ تارة تقرب على نحو تكون متعرضة لجهة اصولية واخرى تكون متعرضة لجهة فقهية وثالثة تكون متعرضة لجهة كلامية

١٨١

الدليل الدال على ترتب الثواب على البلوغ تارة يكون ارشادا لحكم العقل بمعنى الارشاد لرجحان من بلغه الثواب على اتيان الفعل فيكون ارشادا محضا الى نفس الواقع واخرى يكون مولويا وعلى الاخير اما نفسيا او طريقيا والطريق اما

__________________

وذلك ينشأ مما يستفاد من تلك الاخبار فتارة يستفاد منها اعطاء شرائط الحجية للخبر الضعيف بنحو لو لا اخبار من بلغ كان فاقدا للحجية وإنما باخبار من بلغ تتم حجيته وعليه يكون الخبر الضعيف دالا على الاستحباب بواسطة اخبار من بلغ ، وحينئذ يستفاد منها الجهة الاصولية واخرى يستفاد من الاخبار كون نفس البلوغ له دخل فى الاستحباب وحينئذ تكون الاخبار متعرضة لجهة فقهية وثالثة يستفاد منها ان اعطاء الثواب لمن بلغه بعد العمل من باب التفضل والرحمة فتكون نظير العفو بعد العمل فعليه تكون تلك الاخبار متعرضة لجهة كلامية هذا في مقام الثبوت ، واما مقام الاثبات فالذي يظهر من اخبار الباب هو الجهة الكلامية بمعنى انه تعالى يتفضل باعطاء الثواب بعد العمل فتكون متعرضة للحكم بعد العمل إلا انه يعارضه الظهور السياقى الدال على الترغيب والحث على الاتيان بالعمل فتكون متعرضة لما قبل العمل فتدل على الاستحباب النفسي الناشئ من الرجحان القائم بنفس الفعل.

ولا يخفى ان هذا الظهور السياقى مقدم على الظهور اللفظي فاذا قدم يوجب رفع اليد عن الظهور اللفظي فحينئذ يدور الامر بين ان تكون متعرضة لاعطاء الحجية للخبر الضعيف الفاقد لشرائط الحجية او تكون متعرضة لاعطاء الثواب على الفعل بالعنوان الطارئ الثانوي وهو عنوان البلوغ نظير عنوان امر الوالدين وعنوان قضاء حوائج الاخوان ، والظاهر هو الاخير إذ لا مجال لاحتمال الاول إذ لسان هذه الاخبار عدم القاء احتمال الخلاف كما هو مقتضى

١٨٢

بلحاظ مصادفة الواقع وعدمه ، واما بلحاظ الخبر الضعيف وعدمه وعليه يكون اخبار من بلغ في مقام اعطاء الحجية للخبر الضعيف.

الامر الثاني ان كون الامر للارشاد او كونه مولويا مبني على كون البلوغ المأخوذ

_________________

قوله (ع) وان لم يكن كما بلغه وذلك مناف لجعل حجية ما بلغه من الخبر الضعيف على ان المستفاد من الفاء في قوله فعمله هو كون ما يترتب على العمل المتفرع على بلوغ الثواب ومن الواضح ان الفاعل لا يستند على قول المبلغ إلا إذا كان قوله واجدا لشرائط الحجية من العدالة او الوثاقة وعليه لا تكون الرواية بصدد بيان حال العمل قبل البلوغ وانما الرواية بصدد بيان الحكم بعد البلوغ. ودعوى ان مقتضى اطلاق الموضوع هو البلوغ مطلقا وذلك يقتضي عدم اعتبار شرائط الحجية ممنوعة إذ الحكم في القضية إنما سيق لاعطاء الثواب على العمل بعد البلوغ وليس في مقام بيان نفس الموضوع الذي هو البلوغ لكي يتمسك باطلاقه وإنما هو بصدد بيان حكم آخر بعد تحقق الموضوع الذي هو البلوغ كما هو قضية قوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) فانه ليس في بيان حكم العضو لكي يتمسك بطهارته وإنما هو في مقام حلية ما يصطاده كلب الصيد وانه ليس من الميتة.

وكيف كان فهذه الرواية ليست في مقام بيان اعطاء الحجية كما انها ليست في مقام عدم اعتبار شرائط الحجية كما هي معتبرة في الاحكام اللزومية بدعوى ان يكون مفادها اسقاط شرائط الحجية في باب المستحبات وتوسعة للحجية في ادلتها بمعنى انه لا يعتبر فيها ما كان معتبرا في حجية الخبر من العدالة والوثاقة فان هذه الدعوى ممنوعة إذ هي بعيدة عن ظاهر هذه الاخبار فان ظاهرها هو فرض عدم ثبوت المؤدى في الواقع وذلك ينافي جعل الحجية والانصاف ان القول بان مفادها ثبوت الثواب على العمل بالعنوان الطارئ هو الحق

١٨٣

في اخبار من بلغ هل اخذ بنحو الجهة التقيدية او اخذ بنحو الجهة التعليلية فان كان بالنحو الأول فلا يكون الامر إلا مولويا لعدم كونه موضوعا لحكم العقل بالرجحان وان كان بالنحو الثاني فالجهة خارجة عن الفعل فيكون نفس الفعل موضوعا وحينئذ تلك الجهة التي اخذت تعليلا تارة تكون بنحو الشرط لطرو الحكم بمعنى ان الامر قد تعلق بنفس الفعل إلا انه بشرط حصول البلوغ واخرى يكون داعيا لنفس العمل بنحو لا يؤتى به إلا بداعي البلوغ ، وهو تارة يدعو لنفس الفعل واخرى يدعو إليه بداعي الثواب وثالثة يدعو الى الفعل الذي يترتب عليه الثواب بداعي احتمال الامر فيكون من قبيل داعي الداعي.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان البلوغ لو كان بنحو الجهة التقييدية فالامر المتوجه اليه يكون مولويا وهو تارة يكون نفسيا واخرى طريقيا فعلى الاول مستحبا ظاهريا بالعنوان الثانوي ، وعلى الثاني فتارة يكون بعنوان جعل الحكم الظاهري بعنوان الثواب على بلوغ العمل فيكون مستحبا ظاهريا بالعنوان الثاني كالاول إلا انه فرق بينهما من حيث المخالفة فان الاول يتصور فيه المخالفة كسائر المستحبات دون الثاني

_________________

لظهور تلك الاخبار في ذلك فتكون دالة على استحباب الاتيان بمجرد بلوغ الثواب والظاهر انه لا ثمرة عملية بين القول بان اخبار من بلغ تثبت حجية خبر الضعيف وبين القول بان الثواب يترتب على العنوان الطارئ ودعوى ظهور الثمرة بين القولين فيما لو دل خبر ضعيف على استحباب ما ثبت حرمته بعموم او اطلاق فانه على الاول يكون الخبر الضعيف حجة شرعية تخصص العموم وتقيد الاطلاق ، وعلى الثاني تقع المزاحمة بين الحكم الاستحبابي والتحريمي من جهة العنوان الذاتي والعرضي فيقدم الحكم الالزامي ممنوعة بان مثل هذا الخبر غير مشمول لاخبار من بلغ على الوجهين فلا ثمرة بين القولين كما لا يخفى.

١٨٤

واخرى بمعنى تتميم الكشف ، أي أن هذه الاخبار تجعل مؤدى الخبر الضعيف حكما واقعيا تعبديا كالامارات المعتبرة.

هذا والذي يظهر من اخبار الباب هو الحث والترغيب على الاتيان بما بلغ قبل العمل.

ودعوى بعض الاعاظم (قده) انها ليست بصدد ذلك وإنما هى في مقام ترتب الثواب لمن بلغه بعد العمل تفضلا منه تعالى ورحمة منه وان خالف قول المبلغ للواقع ولا اطلاق للموضوع الذي هو البلوغ لكي يتمسك باطلاقه لكون الاخبار سيقت لبيان حكم آخر كما هو مقتضى صحيحة هشام بن سالم عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : (من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب فعمله كان اجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله) ـ ممنوعة إذ ظاهرها هو الحث والترغيب قبل العمل على ان بعض تلك الاخبار كرواية محمد بن مروان قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : (من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه وان لم يكن الحديث كما بلغه) يدل على ان الاتيان بالبالغ المحتمل انه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوجب ترتب الثواب عليه وهذه الرواية كما ترى مقيدة لسائر الاخبار المطلقة.

وعليه بعد بطلان هذا الاحتمال يدور الامر بين ان تحمل هذه الاوامر على الاستحباب النفسي المولوي او الطريقى المولوي او على الارشاد الى حكم العقل بحسن الاتيان بالعمل رجاء الواقع وتترتب عليه المثوبة فلا مولوية نفسية او طريقية إلا ان استفادة الطريقية محل نظر للزوم كون مفادها الغاء احتمال الخلاف مع ان المستفاد من قوله عليه‌السلام وان لم يكن الأمر كما بلغه هو عدم الغاء احتمال الخلاف ، فحينئذ يدور الامر بين الحمل على الاستحباب النفسي المولوي او الحمل على الارشاد الى ما يحكم العقل من حسن الاتيان فيترتب عليه الثواب والظاهر من

١٨٥

الاخبار هو الثاني لظهور كون العمل المتفرع على البلوغ هو الباعث على الاتيان كما يشهد تقييد بعض الأخبار بالتماس ذلك الثواب فانه كالصريح كون الامر للارشاد. هذا كله لو لم نستفد الاستحباب النفسي من اخبار الباب.

واما لو استفدنا منها الاستحباب النفسى فلا اشكال في اختصاصها بمن قام عنده خبر ضعيف يدل على الوجوب او الندب باعتبار ان موضوعها البلوغ ولا يتحقق إلا بذلك. فعليه للفقيه الافتاء بذلك لتحقق موضوعه. واما بالنسبة لمن لم يبلغه ذلك الخبر لا يمكن الافتاء بالاستحباب.

فما ذكره المشهور من الفتوى بالاستحباب مطلقا حتى لمن لم يقم عنده الخبر الضعيف محل اشكال ونظر لما عرفت من اختصاصها بمن قام عنده ذلك الخبر الضعيف ، وعليه لا يمكن للفقيه الافتاء للمقلد ـ بالكسر ـ بالاستحباب وجواز الفتوى للمقلد ـ بالفتح ـ من باب نيابة المجتهد عن المقلد انما يتم لو قلنا بعدم اختصاصه ثبوتا لغير من قام عنده الخبر او التصرف فى البلوغ بان يراد منه ما يعم المقلد نفسه او من هو نائب عنه في الفحص. هذا بناء على استفادة الاستحباب النفسي. واما لو قلنا بانه يستفاد من هذه الاخبار الحكم الطريقي بمعنى الحجية للخبر الضعيف كما هو ظاهر كلمات القوم من حملها على التسامح فى ادلة السنن (١)

__________________

(١) لا يخفى ان هذا الاحتمال ضعيف إذ ان لسان الحجية إنما هو الماء احتمال الخلاف بمعنى ان مؤدى الطريق هو الواقع بخلاف المقام فانه مفروض في مورد عدم ثبوت الواقع وهذا ينافي جعل الحجية ، ولذا اخترنا ان الثواب يكون على العمل بالعنوان الثانوي الطارئ اعنى البلوغ لمساعدة الظهور العرفي.

وعليه يكون التعبير بالتسامح مسامحة لدلالة الروايات على الاستحباب النفسي بمجرد بلوغ الثواب بنحو يكون البلوغ داعيا لا بنحو القيدية لان الثواب المرتب

١٨٦

فله الافتاء حيث انه كسائر الطرق المعتبرة بنحو يتحقق لهذا الخبر الضعيف قيام الرجحان بنفس الفعل لكافة المكلفين فيفتى على مضمونه من الاستحباب واقعا وان كان دليل الاعتبار مختصا بالمجتهد كما هو كذلك بالنسبة الى سائر الطرق

__________________

على نفس العمل مقيد بالبلوغ فيكون ذات العمل مستحبا نفسيا.

وادعى الشيخ الانصاري (قده) القيدية لامرين الاول تفريع العمل على البلوغ ، الثاني ما يظهر من قوله عليه‌السلام : (فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه) ومن قوله عليه‌السلام : (من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له ذلك الثواب وان كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله) فان مقتضى ذلك المستحب هو خصوص ما يؤتى به التماس الثواب او طلبا لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبذلك تقيد المطلقات للعلم بوحدة المطلوب فيوجب التقييد وان لم نقل بوجوب حمل المطلق على المقيد في المستحبات.

وقد اجاب المحقق الخراسانى (قده) في كفايته عن الاول بان التفريع لا دلالة له على التقييد. نعم يكون هو الباعث للمكلف على الاتيان بالعمل رجاء الثواب وليس ذلك موجبا لتعنون العمل بذلك لكي يؤتى به بهذا العنوان.

وعن الثاني بان الظاهر من الروايتين كون الامر فيهما ارشادا الى حكم العقل وكونه كذلك لا يوجب تقييد مطلقات بقية الروايات إذ لا ينافي كون المطلق مولويا والمقيد ارشاديا. وكيف كان فقد ذكر الشيخ الانصاري الثمرة بين ما ذكره وبين كون الاوامر تدل على الاستحباب الشرعي (تظهر في ترتب الآثار المترتبة الشرعية على المستحبات الشرعية مثل ارتفاع الحدث المترتب على الوضوء المأمور به شرعا فان مجرد ورود خبر غير معتبر بالامر به لا يوجب إلا استحقاق الثواب عليه ولا يترتب عليه رفع الحدث فتأمل وكذا الحكم

١٨٧

من الحكم الاصولي بناء على عدم لزوم الفحص فى مثله واختصاصه بالاحكام اللزومية دون غيرها.

__________________

باستحباب غسل ما استرسل من اللحية في الوضوء من باب مجرد الاحتياط لا يسوغ جواز المسح ببلة الوضوء بل يحتمل قويا ان يمنع من المسح ببلله. وان قلنا بصيرورته مستحبا شرعيا فافهم. انتهى).

ولكن لا يخفى ان هذا انما يتم لو قلنا بان الوضوء إنما يصح لو كان لاجل غاية من الغايات ، واما لو قلنا بان الوضوء مستحب نفسي كما يظهر من بعض الروايات كقوله : (اكثر من الطهور يزيد الله في عمرك) فلا تظهر الثمرة فانه مع ورود خبر ضعيف يأمر بالوضوء لغاية من الغايات يكون مستحبا نفسيا ويرتفع به الحدث على كل حال سواء كان الخبر صادقا ام كاذبا ، واما المسح ببلة ما استرسل من اللحية فهو على تقديره من الاجزاء المستحبة لا مانع من المسح ببلله نعم ربما يقال بعدم ورود خبر اصلا. وكيف كان فالوضوءات التي دل عليها خبر ضعيف على استحبابها لغاية من الغايات على القول باستحبابها يرتفع بها الحدث وإلا فلا ، إلا ان الشيخ الانصارى (قده) يمنع ذلك ويدعي بان كل وضوء مستحب لم يثبت كونه رافعا للحدث كما هو كذلك بالنسبة إلى الحائض والجنب ومثله الوضوء التجديدي ولكن لا يخفى ما فيه فان وضوء الجنب والحائض لا يرتفع بهما الحدث لكونه حدثا اكبر على انه يمكن دعوى ارتفاع بعض مراتب الحدث وليس رفعا تاما. واما الوضوء التجديدي فلا مانع من كونه موجبا لشدة الطهارة كما يستفاد من بعض الاخبار الوضوء على الوضوء نور على نور.

وبالجملة الثمرة مبنية على القول بعدم كون الغسلتين والمسحتين في الوضوء مستحبا نفسيا وعلى القول باستحبابها نفسيا فلا ثمرة تظهر بين القولين والظاهر انها يظهر فيما لو نذر اتيان مستحب شرعي فلو بلغه شيء من الثواب فعلى القول

١٨٨

واما بناء على المختار من كون الاوامر ارشادية فلا مجال للفتوى لنفسه بالاستحباب نعم اللازم بالاتيان به ان يكون برجاء المطلوبية كما له الفتوى بهذا المضمون.

التنبيه الخامس لا اشكال في تحقق البلوغ بالخبر الضعيف من دون معارض ، واما لو كان لذلك الخبر الضعيف معارض يدل على الكراهة او الحرمة فهل يتحقق البلوغ ام لا؟ كما لو قام خبر ضعيف على وجوب شىء او استحبابه وقام خبر آخر ضعيف يدل على عدم استحبابه او كراهته فالظاهر انه يتحقق البلوغ لدخول مثل ذلك تحت عمومات من بلغ وقيام الخبر الآخر بنفي الاستحباب او كراهته لا يوجب عدم شمول تلك الاخبار إذ ذلك لا يوجب اقتضاء العدم فحينئذ يحكم باستحبابه في الجميع حتى بالنسبة الى ما قام عليه الخبر الضعيف المعارض.

وبالجملة لا تعارض بين الخبر المقتضي لصدق البلوغ وبين الخبر الذي ليس فيه اقتضاء لصدقه. نعم لو كان الخبر المعارض معتبرا فربما يمنع صدق البلوغ حيث انه بدليل اعتبار الخبر ينفي الاستحباب فلا يصدق عليه البلوغ ولكن لا يخفى ان نفي الاستحباب إنما هو بالعنوان الاولي ولا ينافي اثباته بالعنوان الثانوي الطارئ وحينئذ لا مانع من شمول اخبار من بلغ لذلك فمع شموله يدخل تحت التسامح في ادلة السنن ولا يعارضها ما دل على حجية الخبر من غير فرق بين القول بتتميم الكشف او تنزيل المؤدى لما عرفت من عدم المنافاة بينهما.

وبالجملة فلا مانع من شمول ادلة التسامح لمثل ذلك كما انه لا مانع من

__________________

باستحبابه النفسي يحصل البرء لو اتى بذلك ، وعلى القول باستحباب اتيان العمل بداعي البلوغ لم يحصل البرء ولم يف بالنذر على تفصيل ذكرناه في حاشيتنا على الكفاية.

١٨٩

شمولها لفتوى الفقيه إذا كان بلسان يستحب واحتمل استناد ذلك الى الرواية واما مع العلم بعدم الاستناد الى ذلك بان علم استناده الى بعض القواعد العامة كحسن الاحسان وامثال ذلك يشكل صدق البلوغ اذ الظاهر منه هو الاستناد الى الرواية بلا واسطة فشموله لمثل ذلك محل منع ونظر بناء على ان المستفاد من الاخبار هو الاستحباب النفسى او الطريقي. واما بناء على كون المستفاد منها هو الانقياد فلا مانع من صدق البلوغ على الفتوى إذ يكفى في ذلك هو الاحتمال ورجاء المطلوبية هذا تمام الكلام في مبحث اصالة البراءة والحمد لله رب العالمين.

١٩٠

اصالة التخيير

هذا هو الاصل الثاني من الاصول العملية الجارية في مقام الشك في الواقع (١).

__________________

(١) لا يخفى أن التخيير في دوران الامر بين المحذورين حيث لا يمكن فيه مخالفة او موافقة قطعية وان التخيير فيه تخييرا قهريا تكوينيا فلا يعد من الاصول الاربعة الجارية في مقام الشك بالواقع مضافا الى أن جريان التخيير فرع إمكانه مع انه غير ممكن بتقريب ان تأثير العلم الاجمالي مشروط بكون المعلوم بالاجمال المتعلق به التكليف قابلا لان يكون محركا للعبد نحو العمل وداعيا اليه وذلك لا يتحقق إلا وان يكون ما تعلق به العلم جامعا صالحا لانطباقه على الافراد كما لو تعلق بوجوب أحد الشيئين او حرمة احدهما والمقام ليس من ذاك القبيل إذ لا جامع بين الفعل والترك ، والامر بالجامع بنحو التخيير بينهما غير ممكن لكونه من تحصيل الحاصل إذ الشخص بحسب خلقته تكوينا اما فاعلا او تاركا محل نظر بل منع لعدم اشتراط تنجيز العلم الاجمالي بما ذكر ، على انه لو قلنا بالاشتراط بذلك إلا ان الجامع الذي هو متعلق للعلم لا يلزم أن يكون جنسا او مطلقا بنحو ينطبق على الافراد تخييرا بل يكفي كونه جامعا بنحو ينطبق على الفرد المتشخص واقعا المردد بين طرفين ، وحينئذ تكون صحة التكليف به اتيانا على نحو التعيين.

واما تحصيل الحاصل فلا يلزم بالنسبة الى كل واحد من الطرفين إذ كل واحد من الطرفين ليس خارجا عن القدرة فله ايجاد الفعل او الترك وإلا لما صح

١٩١

الموجب للمخالفة القطعية إلا أن ذلك محل منع ، إذ العلم الاجمالي

__________________

جعل الاباحة في مواردها إذ نتيجتها هو الترخيص في الفعل او الترك.

فظهر مما ذكرناه انه لا مانع من جعل الاباحة الشرعية الواقعية او الظاهرية لما عرفت ان الانسان ليس مقهورا على الفعل او الترك بل يصدر عنه الفعل عن اختيار وبارادة ولذا لا مانع من جعل الحكم بالتخيير او الاباحة الذي مفادها الترخيص في الفعل او الترك.

واما بالنسبة الى البراءة فقد ذكر الاستاذ (قده) على ما سيأتي في المتن عدم جريانها في المقام لكون حكم العقل علة لسقوط العلم عن البيانية وذلك في الرتبة السابقة ولا تصل النوبة الى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ولكن لا يخفى ما فيه إذ علة عدم البيان ليس لذلك لكي يكون معلولا له بل هو لاجل عدم المقدورية.

ودعوى انه يكفي ذلك إذ لو لم يكن معلولا بالتخيير لكنه معلول لعلة التخيير ففي رتبة اللابيانية الحكم بالتخيير موجود فلا تصل النوبة لاعمال القاعدة ممنوعة لما عرفت من ان العلم في المقام لا يحتاج الى السقوط لكي نحتاج الى علة السقوط ولم يكن في زمان هو حجة لكي يسقط بل العلم الذي يراه العقل بيانا هو الذي يتعلق بالمقدور والمتعلق بغير المقدور من الاول لا يكون من افراد البيان فلا مانع في المقام من جريان البراءة العقلية والشرعية ايضا

ودعوى ان البراءة الشرعية لا تجري ، إذ جريانها فرع امكان جعل الاحتياط للشارع في مرتبة الشك وهو محل منع ممنوعة اذ للشارع جعل ايجاب الاحتياط لكل واحد من المحتملين ولو كان جعله بالنسبة الى احدهما. نعم يمكن

١٩٢

وذلك فيما اذا دار الأمر بين محذورين ، أي بين الوجوب والحرمة وبيان ذلك يظهر في ذكر امور :

الاول : ان الحكم بالتخيير بين المحذورين عبارة اخرى عن التخيير بين الفعل والترك والحكم بذلك حكم عقلي محض وهو لاجل اضطرار المكلف الى

__________________

دعوى عدم جريان الاباحة الشرعية لقصور ادلتها كمثل كل شيء لك حلال بالنسبة الى مشتبه الحرمة والحلية. فالذي يقتضيه التحقيق هو انه لا مانع من جريان البراءة الشرعية او العقلية لما ذكرنا من امكان جعلها بالنسبة الى احدهما المعين.

واما القول بتقديم جانب الحرمة لكون دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة فمحل منع إذ نمنع اولوية ذلك لعدم الدليل الشرعي او العقلي عليه على انه لو تم إنما يتم فيما اذا كانت المفسدة والمصلحة معلومتين ، واما فيما لم يعلم فيه المفسدة وإنما هو احتمال فلا نسلم تلك الأولوية ، كما ان ما ذكره المحقق الخراساني في الكفاية من منع جريان قبح العقاب بلا بيان من جهة ان العلم بجنس الالزام حاصل فالبيان تام محل منع بل نظر ، اذ العلم بالتكليف الالزامي غير قابل للباعثية فلا يكون بيانا ، فعليه البراءة العقلية جارية في المقام كالبراءة الشرعية فلا تصل النوبة الى التخيير العقلي فلذا صح لنا القول بان المقام من قبيل الشك في التكليف لا الشك في المكلف به بل لا مانع من جريان الاستصحاب في هذا المقام من غير فرق بين الاصول التنزيلية وغيرها كما لا فرق بين ان تكون الشبهة موضوعية او حكمية كما لو علم بوقوع الحلف على السفر او على تركه فانه لا مانع من استصحاب عدم الحلف على السفر واستصحاب عدم الحلف على تركه. نعم يبقى الاشكال في انه لو رجعنا الى الاصول العملية في مقام دوران الامر بين محذورين فيلزم من جريانهما مخالفة احد الاصلين للواقع أو ان الرجوع الى الاصول النافية

١٩٣

احدهما تكوينا وعدم امكان جمعهما لعدم قدرة المكلف على ذلك فلذا لا يجب مراعاة العلم الاجمالي بلزوم اتيان احدهما لعدم خلو الواقعة تكوينا من الفعل أو الترك ومن هنا يسقط اعتبار العلم الاجمالي لما عرفت من اضطرار المكلف الى اتيان احدهما وذلك يوجب عدم قابليته للتأثير ، ومع فرض عدم قابليته لذلك لا يكون موجبا للتخيير ، وعدم امكان ذلك لا يكون داعيا للاتيان باحدهما إذ داعويته للاتيان باحدهما منوط بصلاحيته للتأثير الموجب للتخيير وقد عرفت انه غير صالح له كما لا يخفى.

الأمر الثاني : انك قد عرفت ان التخيير في المقام عبارة عن عدم الحرج في الفعل او الترك فيكون من التخيير بين النقيضين ولذا لا يكون المقام من التخيير الشرعي او العقلي اذ المناط فيهما امكان المخالفة القطعية ففي المقام ولو كان الحاكم

__________________

إنما يصح عند الشك في أصل التكليف لا مثل المقام لحصول العلم بجنس الالزام فيكون من الشك بالمكلف به ولكن لا يخفى أما عن الاول فلا محذور فيه إذ لا يلزم إلا المخالفة الالتزامية وقد عرفت انه لا محذور فيها مع عدم حصول المخالفة القطعية كما في المقام ، واما عن الثاني فالعلم بالالزام إنما يمنع من جريان الاصول فيما إذا كان التكليف المعلوم قابلا للباعثية لا مثل المقام. نعم ربما يستشكل من جريان اصالة الاباحة لكونها اصلا واحدا منافيا للعلم بالالزام تكوينا وقد ذكرنا انه يعتبر في جريان الاصل عدم العلم بمخالفته للواقع.

فظهر مما ذكرنا انه لا مانع من جريان الاصول كالبراءة والاستصحاب الجاريين في كل من الوجوب والحرمة مستقلا من غير محذور سوى أن جريانهما موجب لمخالفة أحد الاصلين للواقع مع الشك في موافقة كل منهما له في نفسه وليس إلا مخالفة التزامية وقد عرفت انه لا محذور فيها.

١٩٤

به هو العقل إلّا انه بمناط التكوين والاضطرار بعد بطلان الترجيح بلا مرجح نعم لا مانع من جعله من التخيير باحد الدليلين فيكون الأخذ باحدهما تعيينا من الحكم الظاهرى إلّا ان ذلك يحتاج الى معين. وبالجملة الحكم في التخيير في المقام من الحكم العقلي المحض بمناط الاضطرار والتكوين لا بمناط الحسن والقبح فلا مجال لاعمال المولوية في الأمر بالتخيير بينهما لما عرفت ان اعماله يعد لغوا.

الأمر الثالث : هل التخيير بين المحذورين استمرارى او بدوي؟ فقد يتوهم انه بدوي اذ استمرارية التخيير يوجب القطع بكل من الموافقة والمخالفة بخلاف ما لو قلنا انه بدوي حيث انه لا يلزم منه إلّا احتمالهما. ولكن لا يخفى ان ذلك مبني على ان العلم الاجمالي منجز للواقع بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية بنحو العلية وبالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء القابل لمنع المانع. فعليه لو دار الامر بين الاطاعتين تقدم جانب العلية على الاقتضاء لصلاحيتها الى المانعية وينتج من ذلك المنع من التخيير الاستمراري الموجب للمخالفة القطعية إلا أن ذلك محل منع ، إذ العلم الاجمالي بالنسبة الى الموافقة القطعية علة تامة كالمخالفة القطعية من غير فرق بينهما (١) وحيث لا يمكن تحققهما فلا أثر له.

__________________

(١) والظاهر أن ذلك لعدم تنجز التكليف فالمكلف حيث لا يمكنه الاحتياط والموافقة القطعية لامتناع الجمع بين الفعل والترك لكونهما نقيضين كما لا يمكنه المخالفة القطعية لامتناع ترك النقيضين فلا يترتب على العلم المذكور أثر في نظر العقل فلا يكون منجزا وذلك لعدم كونه بيانا ، وظاهر ذلك انه يحصل من ترك المخالفة القطعية وبذلك يفرق بين كون العلم الاجمالي متحقق في واقعة او واقعتين إذ بالإضافة الى الواقعتين يتمكن المكلف من حصول المخالفة القطعية كما

١٩٥

اذا عرفت هذه الامور فاعلم ان حكم العقل بالتخيير علة لسقوط العلم الاجمالي

__________________

لو ترك في واقعة واتى بالفعل في واقعة اخرى حصلت المخالفة القطعية ولذا العقل لا يفرق في قبح المخالفة القطعية بين المخالفة الدفعية والتدريجية كما هو الظاهر من كلام الشيخ الانصاري (قده) في مباحث القطع الحكم بقبح المخالفة القطعية في واقعتين وعدم الحكم بتنجز التكليف في واقعة لعدم التمكن من المخالفة القطعية وسره هو تنجز العلم الاجمالي بالنسبة الى الواقعتين لعدم قصور في منجزيته إذ المانع هو عدم التمكن من الامتثال وقد فرض حصوله من حيث ترك المخالفة القطعية بالاضافة الى الواقعتين والذي يقتضيه التحقيق ان العلم لا ينجز إلا في ظرفه مع القدرة على امتثاله ، ومن الواضح ان في الوقائع المتعددة تحصل هناك تكاليف متعددة بحسب تعدد الواقعة فلا ينجز كل علم إلا ما هو في ظرفه وقد فرض عدم قبوله للتنجز إذ العلوم المتعددة اجمالية كانت او تفصيلية تتعلق بتكاليف يتمكن فيها من ترك المخالفة القطعية. نعم انتزاع كلي العلم من العلوم المتعددة وكلي التكليف من التكاليف المتعددة وبنسبة المخالفة القطعية الى ذلك التكليف المعلوم بعلم واحد اوجب الوقوع في الاشتباه إذ ضم مخالفة في واقعة الى المخالفة في الواقعة الاخرى يوجب القطع بالمخالفة إلا انه مخالفة غير مؤثرة لما فرض انه لا اثر لكل مخالفة للتكليف المعلوم في كل واقعة ومنه يظهر ان التمكن من ترك المخالفة القطعية في واقعتين غير مفيد إذ ليس امتثالا للتكليف المعلوم المترتب عليه الاثر إذ كل تكليف متعلق بواقعة يستدعي امتثال نفسه بحكم العقل لا امتثاله او امتثال تكليف آخر في واقعة اخرى.

ودعوى عدم الفرق بين المخالفة القطعية الدفعية والتدريجية فهو اذا كان التدريج طرف العلم لا مثل ما نحن فيه من حيث كون كل واقعة اجنبية عن

١٩٦

عن البيانية وحكمه كذلك لأجل عدم القدرة وذلك في المرتبة السابقة فلذا لا معنى

__________________

الواقعة الاخرى من حيث العلم والمعلوم والامتثال إذ ليس الاشكال فيما نحن فيه تدريجية المخالفة كي يجاب بان التكليف بالمتأخر بنحو المعلق او بنحو المشروط بالشرط المتأخر ، واخرى بان الواجب المشروط إذا علم بتحقق شرطه في ظرفه كفى في تنجزه فيه. ومن فيه هنا يعلم كون التخيير استمراريا نظرا الى ان كل فرد من تلك الافراد له حكم مستقل مغاير لحكم فرد آخر وقد دار الامر فيه بين محذورين فيحكم العقل فيه بالتخيير لعدم امكان الموافقة والمخالفة القطعيتين ولا يترتب على ذلك غير ان المكلف لو اختار الفعل في فرد والترك في فرد آخر يعلم بمخالفة التكليف الواقعي في أحدهما ولا مانع منه مع فرض عدم تنجز التكليف. ودعوى ان العلم الاجمالي بالالزام الجامع بين الوجوب والحرمة وان لم يكن منجزا إلا انه مع فرض تعدد الافراد يتولد من العلم الاجمالي بالالزام في كل فرد علم اجمالي ثابت بين كل فردين من الأفراد وهو العلم بوجوب احدهما وحرمة الآخر وهو وان لم يمكن موافقته القطعية لاحتمال الوجوب والحرمة في كل منهما إلا انه يمكن المخالفة القطعية وقد عرفت ان العلم الاجمالي ينجز معلومه بالمقدار الممكن من حيث الموافقة أو المخالفة وعليه يكون التخيير بدويا لا استمراريا مدفوعة لما عرفت ان هذا العلم المتولد إنما هو امر انتزاعي منتزع من العلوم المتعددة ويكون متعلقه تكليف منتزع من التكاليف المتعددة وتكون المخالفة القطعية الى ذلك التكليف لا اثر لها إذ ذلك ينتج من ضم مخالفة في واقعة الى المخالفة في واقعة اخرى ولا أثر للقطع بمخالفة ذلك لفرض ان الاثر مترتب على مخالفة التكليف المعلوم في كل واقعة فلذا يقوى القول بالتخيير الاستمراري على تفصيل ذكرناه في حاشيتنا على الكفاية.

١٩٧

لجريان البراءة الشرعية والعقلية إذ حكم العقل بالتخيير بمناط الاضطرار تكوينا في المرتبة السابقة (١) الذي هو عبارة اخرى عن حصول الترخيص فيها فلا يبقى

__________________

(١) ذكرنا في تقريراتنا لبحث الاستاذ المحقق النّائينيّ (قده) في دوران الأمر بين محذورين مع عدم احتمال ثالث كالاباحة مثلا وإلا يخرج عن محل الكلام ويدخل في الشبهة التحريمية وان محل الكلام فيه وإذا كانا توصليين إذ مع كونهما تعبديين او احدهما المعين تعبديا يخرج عن محل الكلام لحصول المخالفة القطعية ومحل الكلام اذا لم تحصل المخالفة. وكيف كان فالمدعى في هذا المبحث عدم منجزية العلم الاجمالي وعدم جريان الاصول اعم من ان تكون تنزيلية ام لا عقلية أم شرعية إلا استصحاب الوجود في أحد الطرفين لو كان له حالة سابقة.

بيان ذلك ان الجزء الأول من المدعى اعني عدم منجزية العلم الاجمالي فلان اشتراط المنجزية يتحقق بركنين وكلاهما في المقام غير حاصلين.

الاول ـ أن يكون المعلوم الاجمالي قابلا لتوجه الخطاب بان يكون جامعا خطابيا لكي يكون التخيير بين الافراد تخييرا عقليا كفعل الصلاة المرددة بين الظهر والجمعة او جامعا ملاكيا كالأمر المردد بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر مع فقد الجامع بينهما وليس إلا تنجز العلم الاجمالي بتحقق أحدهما.

الثاني ـ أن يكون للمعلوم بالاجمال مخالفة عملية قطعية وكلا الركنين في المقام ساقطان. اما عدم وجود جامع بين الفعل والترك لا ملاكا ولا خطابا فهو أمر بديهي كما أن المخالفة القطعية غير حاصلة في هذا المقام لعدم امكان حصولها.

واما الجزء الثاني اعني سقوط الاصول إلا الاستصحاب في احد الطرفين

١٩٨

مجال لجعل الاباحة او الترخيص الناشئ من البراءة للغوية الجعل في المرتبة اللاحقة مع حكم العقل بالترخيص بالمرتبة السابقة مضافا الى أن الترخيص في المقام بمناط الاضطرار والتكوين بعد بطلان الترجيح بلا مرجح فحينئذ لا يبقى مجال لجريان الترخيص الناشئ من اصالتي البراءة والاباحة بمناط عدم البيان.

__________________

فنقول اما سقوط أصالتي البراءة والاشتغال فواضح إذ مع حكم العقل بالتخيير يستلزم عدم صحة جعل الحكم الظاهرى للغويته ويكون من قبيل تحصيل الحاصل فلذا لا معنى لجعل اصالة البراءة العقلية. واما البراءة الشرعية حيث انه لا يتمكن من وضع الالزام بايجاب الاحتياط فلذا لا يمكنه الرفع.

أقول ان ما ذكره الاستاذ (قده) محل نظر يظهر مما ذكرناه سابقا وهو ان القدرة على الوضع انما تلحظ بالقياس الى كل من الحرمة والوجوب على البدل لا اليهما معا فيكون جعل الاحتياط بالنسبة الى كل واحد منهما امر ممكن ويظهر لك ذلك من القدرة على كل من الافعال المتضادة فانه يكفي القدرة على ترك المجموع ولا يعتبر فيه القدرة على فعل الجميع في عرض واحد.

وكيف كان فقد قال الاستاذ بانه لا مانع من جريان استصحاب الوجود في أحد الطرفين لو كان له حالة سابقة كاستصحاب الوجوب او الحرمة وبه ينحل العلم الاجمالي ، واما بالنسبة الى الطرفين فلا يجري إلا استصحاب الوجوب الذي له اضافة الى المجعول لعدم وجود الحالة السابقة له.

واما بالاضافة الى عدم الجعل فهو من الاصول المثبتة. وبالجملة جريان الاصول مشروط بامرين بالنسبة الى غير التنزيلية واما بالنسبة اليها فبأمور ثلاثة.

اثنان منها شرطان لجريان كل الاصول وهما ان يكون للمستصحب أثر وان لا يكون مناقضا للمعلوم بالتفصيل.

١٩٩

فظهر مما ذكرنا انه لا مجال لدعوى الشيخ الأنصاري (قده) من انصراف ادلة البراءة عن مثل المقام او دعوى عدم جريان الاصول النافية كاستصحاب عدم الوجوب او عدم الحرمة او المرخصة كاصالتي الحل والاباحة في كل من الفعل او الترك لحصول المناقضة بين جريانها والعلم الالزامي بأحدهما لما عرفت منا سابقا ان الترخيص لما كان بالمرتبة السابقة لا يكون مشمولا للبراءة لكي يدعى الانصراف كما ان المناقضة إنما تتصور مع حفظ المرتبة على انه لا مناقضة بينهما حيث ان العلم يتعلق بنفس العناوين والصور الذهنية التى ترى خارجية بلا سراية الى وجود المعنونات خارجا والشك يتعلق بنفس الخصوصيات التفصيلية ولذا قلنا بجمع العلم والشك في وجود واحد باعتبار الاجمال والتفصيل. وعليه لا ينافي تعلق العلم الاجمالي بعنوان احدهما اي الفعل او الترك والاباحة والبراءة يجريان في خصوص الفعل

__________________

واما الأمر الثالث المختص بالاصول التنزيلية وهو ان لا يكون التنزيلان على خلاف الواقع.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان هذه الامور مفقودة في المقام اما عدم جريانها في المقام فواضح واما مناقضتها للمعلوم بالتفصيل فان الالتزام باباحة كل من الطرفين ينافي العلم التفصيلي بوجوب الالتزام باحدهما. ودعوى ان مناقضته لا تضر حيث ان العلم الاجمالي لا أثر له سوى الالتزام مدفوعة بان مناقضته تحصل ولو لم يكن له اثر ، واما المناقضة بالنسبة الى الاصول التنزيلية فتحصل في اصل الجعل لو جرت في الطرفين. والحاصل ان الاصول لا تجرى في الطرفين تنزيلية كانت ام غيرها. واما جريانها في أحد الأطراف لو كان لها حالة سابقة فلا مانع منه وبجريانها يوجب انحلال المعلوم بالاجمال.

٢٠٠