تراثنا ـ العددان [ 89 و 90 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 89 و 90 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٢

من ذخائر الترّاث

٣٠١
٣٠٢

٣٠٣
٣٠٤

بسـم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وليّ المتّقين ، وقوّة المسـتضعفين ، دليل المتحيّرين ، وماحي آثار المفسـدين ، قاصم الجبّارين ، ومبير الظالمين ، وصلّى الله على محمّـد خاتم النبيّين ، وسـيّد المرسـلين ، شـفيع المذنبين ، والمبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله الطاهرين المعصومين ، نجوم المهتدين ، وأعلام الدين ، النفاة عنه تحريف الغالين ، وابتداع المضلّين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين.

وبعـد :

قال تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَـدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(١).

والمسـتفاد من الآية الكريمة أنّ الله سـبحانه وتعالى بيّن أفضل الطرق للهداية إلى سـبيله ، وأمر رسـوله الكريم أن يدعو الناس بها ، مع التأكيد على مراعاة مدى اسـتعداد كلّ فئة من الناس من الجنبة الإدراكية والعقلية ، ثمّ دعوتهم بإحدى هذه الطرق الثلاث بما يقتضيه هذا الاسـتعداد المعرفي ، وهو ما أكّده (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله : «إنّـا معاشـر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم»(٢).

__________________

(١) سـورة النحل ١٦ : ١٢٥.

(٢) انظر : الكافي ١ / ٢٣ ح ١٥ ، فردوس الأخبار ١ / ٢٢٩ ح ١٦١٤ ، كنز العمّال ١٠ / ٢٤٢ ح ٢٩٢٨٢.

٣٠٥

وأوّل هذه الطرق : هو طريقة الحكمة ، وهو عبارة عن البراهين اليقينية ، والأقيسـة القطعية التي تفيد النتائج القطعية والعقائد اليقينية ، وهذه أفضل الطرق وأشـرفها ، وهي التي أشـار الله تعالى إليها بقوله : (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(١) ، وأتباع هذه الطريقة لا يقبلون الدعوة إلاّ بها ، وهم طلاّب الحكمة ، وأتباع العلوم اليقينية ، والدلائل القطعية.

وثانيها : طريق الموعظة الحسـنة ، وهو عبارة عن الدلائل الإقناعية والأمارات الظـنّية ، أو ما يسـمّى بـ «الأدلّة الخطابية» ، فمن الناس من يسـكن إليها وتطمئنّ بها قلوبهم ، وهم أهل الفطرة والسـلامة الّذين لم يبلغوا مرتبة فهم المعارف الحكمية العالية ، والبراهين القطعية الدقيقة ، بل يكـتفون بالخطابات الحسـنة.

وثالثها : طريق الجدل ، وهو عبارة عن الأدلّة التي يراد بها إلزام الخصم ، وإبطال حجّته ، وإفحامه ، والتسـمية المشـهورة لهذه الطريق هي «علم الكلام» ، ويقسـم إلى قسـمين.

أوّلا : أن تكون الأدلّـة مركّبة من مقدّمات باطلة ، وشـرطيّات فاسـدة ـ وإن اعتمد فيها ظاهراً على بعض المسـلّمات ـ فتكون النتائج باطلة ، وهي بالمغالطيات والمشـاغبات أشـبه ؛ مرجعها القصور الذهني ، وقلّة التمييز ، والغايات المغرضة ، وهذه طريقة أصحاب المتبنّيات القبلية الباطلة ، وأتباع التأويلات الفاسدة ، وأهل العناد ، والسفسـطائية ، والمشاغبين ، والتي يراد الترويج لها بكلّ التلبيسـات والحيل الفاسـدة ، وهذا القسـم لا يليق بالعامّة

__________________

(١) سـورة البقرة ٢ : ٢٦٩.

٣٠٦

فضلا عن أهل العلم والفضل.

وإليه أشـار تعـالى بقوله : (وَجَـادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُـدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)(١).

وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْم وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَاب مُنِير)(٢).

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَـاتِ الله بِـغَيْرِ سُـلْطَان أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ أَلاَّ كِبْرٌ مَا هُم بِبَالِغِيهِ)(٣).

ثانياً : أن تكون الأدلّة مبنية على مقدّمات يقينية ، أو مُجمَع على التسـليم بها ، أو مسـلّم بها عند الخصم ، فَـيُلْزَم بها لِما ألزم به نفسـه ، فتكون النتائج يقينية أو إلزامية ، وهذا هو الجدال بالتي هي أحسـن ، وإليه أشـار تعالى بقوله : (وَلاَ تُـجَادِلُوا أَهْـلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِـالَّتِي هِـيَ أَحْسَـنُ)(٤).

كما روي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : «نحن المجادلون في دين الله على لسـان سـبعين نبيّـاً»(٥).

وهذه طريقة المتكلّمين ، وهي التي أمر المعصومون عليهم‌السلام بها ؛ كقول الإمام الصادق عليه‌السلام لهشـام بن الحكم بعد مناظرته للشـامي : «مثلُـك فليكلّم الناس»(٦).

__________________

(١) سـورة غافر ٤٠ : ٥.

(٢) سـورة الحج ٢٢ : ٨.

(٣) سـورة غافر ٤٠ : ٥٦.

(٤) سـورة العنكبوت ٢٩ : ٤٦.

(٥) الاحتجاج ١ / ٦.

(٦) الكافي ١ / ١٧٣ ح ٤ ، الإرشـاد ـ للمفيد ـ ٢ / ١٩٩ ، الاحتجاج ٢ / ٢٨٢.

٣٠٧

وبذلك يتبيّن لنا أنّ الجدال فيه قسـم مذموم ؛ لأنّه مبنيٌّ على الباطل ، وقسم حسن وهو المأمور به ، وقد بيّن الإمام جعفر بن محمّـد الصادق عليه‌السلامذلك ، عندما قيل له في النهي عن الجدل ـ في ما رواه الإمام أبو محمّـد الحسـن بن علي العسـكري عليهما‌السلام ـ بقوله : «أمّا الجدال بغير التي هي أحسـن ، فأن تجادل [به] مبطلا فيورد عليك باطلا ، فلا تردّه بحجّة قد نصبها الله ، ولكن تجحد قوله أو تجحد حقّاً ، يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله ، فتجحد ذلك الحقّ مخافة أن يكون له عليك فيه حجّة ، لأنّك لا تدري كيف المخلص منه ، فذلك حرام على شـيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين.

أمّا المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته ، وضعف ما في يده ، حجّة له على باطله.

وأمّا الضعفاء منكم فتغمّ قلوبهم ؛ لِما يرون من ضعف المحقّ في يد المبطل.

وأمّا الجدال بالتي هي أحسـن ، فهو ما أمر الله تعالى به نبيّه أن يجادل به ... ـ إلى أن قال : ـ لأنّ فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شـبههم»(١).

فهذه هي الطرق التي أُمرنا باتّباعها بغية تحقّق ما يرجى من ورائها.

ولا يخفى أنّ الغاية المرجوّة من لزوم اتّباع هذه الطرق ، هي شـمول الهداية لأكبر عدد ممكن من الناس ، كما هو المسـتفاد من الآية المتقدّمة وغيرها من الآيات الكريمة ، وأحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعصومين عليهم‌السلام

__________________

(١) الاحتجاج ١ / ٢٤ ـ ٢٦.

٣٠٨

بهذا المعنى متواترة ، وما يتحقّق عند سـلوكها أفضل ممّا يتحقّق بالقوّة والقهر.

ومن ذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في حديث ـ لعليّ عليه‌السلام عندما أعطاه الراية وأمره بالتوجّه إلى خيبر والنزول بسـاحتهم ودعوتهم إلى الإسـلام وإخبارهم بما يجب عليهم من حقّ الله فيه : «لإن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من أن يكون لك حمر الـنَّـعَم»(١).

وفي لفظ آخر عندما بعثه إلى اليمن : «لإن يهدي الله على يدك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشـمس»(٢).

وعلى ذلك ـ أي الجدال بالتي هي أحسـن ـ جرت سـيرة الرعيل الأوّل من المتكلّمين من أصحاب المعصومين عليهم‌السلام ، وكذا الّذين يلونهـم في الطبقات ، متّبعين ما أمرهم به أئمّتهم عليهم‌السلام ؛ منهم : كميل بن زياد النخعي ، وصعصعة بن صوحان العبدي ، وسُليم بن قيس الهلالي ، وأبان بن تغلب الكوفي ، وأبو جعفر البجلي الأحول ، وقيس بن الماصر ، وزرارة بن

__________________

(١) انظر : صحيح البخاري ٤ / ١٢٢ ـ ١٢٣ ح ١٥٢ وص ١٤٥ ح ٢١٣ وج ٥ / ٨٧ ـ ٨٨ ح ١٩٧ وص ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ح ٢٣١ ، صحيح مسـلم ٧ / ١٢١ ـ ١٢٢ ، سـنن أبي داود ٣ / ٣٢١ ح ٣٦٦١ ، السـنن الكبرى ـ للنسـائي ـ ٥ / ٤٦ ح ٨١٤٩ وص ١١٠ ح ٨٤٠٣ ، مسـند أحمد ٥ / ٣٣٣ ، المعجم الكبير ٦ / ١٥٢ ح ٥٨١٨ وص ١٦٧ ح ٥٨٧٧ وص ١٨٧ ـ ١٨٨ ح ٥٩٥٠ وص ١٩٨ ح ٥٩٩١ ، مسند أبي يعلى ١ / ٢٩١ ـ ٢٩٢ ح ٣٥٤ وج ١٣ / ٥٢٢ ـ ٥٢٣ ح ٧٥٢٧ وص ٥٣١ ح ٧٥٣٧ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٩ / ٤٣ ح ٦٨٩٣ ، سـنن سـعيد بن منصور ٢ / ١٧٨ ح ٢٤٧٢ ، مسـند الروياني ٢ / ١٢٤ ـ ١٢٥ ح ١٠٢٣ ، السـنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٩ / ١٠٧ ، تاريخ دمشـق ٤٢ / ٨٥ ـ ٨٨.

(٢) خرّجه الطبراني في المعجم الكبير ١ / ٣١٥ ح ٩٣٠ وص ٣٣٢ ح ٩٩٤ ، وابن حبّان في السـيرة النبوية : ٣٩١ ، والواقدي في المغازي ٣ / ١٠٧٩ ، والحكيم الترمذي في نوادر الأُصول ١ / ٢٩٣ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ٣٣٤.

٣٠٩

أعين ، وهشـام بن الحكم ، والضحّاك أبو مالك الحضرمي ، ومحمّـد بن عمرو الزبيدي ، وأحمد بن داود الفزاري ، وأبو الأحوص المصري ، وعيسـى بن روضة ، والحسـن بن عليّ بن يقطين ، وفضّال بن الحسـن بن فضّال ، ويونس بن عبـد الرحمن ، والفضل بن شـاذان الأزدي ، ويعقوب بن إسـحاق الكندي ، والناشـئ الصغير ، وعليّ بن إسـماعيل الميثمي ، وعليّ بن منصور ، وسـعد بن عبـد الله الأشـعري ، وإسـماعيل بن عليّ النوبختي ، وابن أبي عقيل العمّاني ، ومحمّـد بن عبـد الرحمن بن قبّة الرازي ، والحسـن بن موسـى النوبختي ، والشـيخ المفيد ، والشـريف المرتضى ، وأبو الصلاح الحلبي ، وأبو الفتح الكراجكي ، والشـيخ الطوسـي ، وابن جبر ، وسـديد الدين الحمصي ، وابن ميثم البحراني ، والنصير الطوسـي ، والعلاّمة الحلّي ، وغيرهم رحمة الله عليهم.

وتبعاً لهذا الهدي الحسـن جرت مناظرة شـيخنا الصدوق رحمه‌الله مع الملك ركن الدولة ، والتي كان محور البحث فيها يدور حول مسـألة تعدّ من أخطر المسـائل العقائدية ، ألا وهي مسـألة الإمامة ، ومَن هو صاحب الحقّ بخلافة رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ والتي جرى بسـببها من سـفك للدماء ، وهتك للحرمات ، وسـبي للذراري ، ونهب للأموال ، وتشـريد من الديار ، وغير ذلك من أحداث جسـيمة ، وفجائع أليمة ما يقصر عنه حدّ الوصف.

قال أبو الفتح الشـهرسـتاني : «وأعظم خلاف بين الأُمّة خلاف الإمامة ؛ إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كلّ زمان»(١).

__________________

(١) الملل والنحل ١ / ١٣.

٣١٠

ولا يقلّ أثراً عن السـيف المسـلول على الإمامة ، ما خطّته الأقلام فيها ، وما قاله الخطباء على المنابر عنها ، وما جرى بين المتكلّمين من مناظرات حولها.

لذلك كانت هذ المسـألة هي موضوع مناظرة الشـيخ الصدوق وركن الدولة ، والتي دامت عدّة مجالس كما يظهر من بعض فقراتها ، بل جاء في أحدها ما نصّه : «وفي يوم آخر».

وقد ذكر الشـيخ النجاشـي هذه المجالس من ضمن ما أورده للشـيخ الصدوق من الكتب بعنوان : «ذِكر المجلس الذي جرى له بين يدَي ركن الدولة ، ذِكر مجلس آخر ، ذِكر مجلس ثالث ، ذِكر مجلس رابع ، ذكر مجلس خامس»(١).

وذكرها صاحب الذريعة بعنوان «المجالس الخمسـة» للشـيخ الصدوق(٢) ، وبعنوان «مجالس مع ركن الدولة» وقال : «وهي خمسـة مجالس ، كلّ واحد منها رسـالة مفردة ، كما عدّها النجاشـي كذلك»(٣) ، وبعنوان «مناظرة ركن الدولة مع الشـيخ الصدوق»(٤) ، وفي ذلك تأكيد لما اسـتظهرناه.

وجمع هذه المجالس تلميذه الشـيخ الفاضل أبو جعفر ركن الدين محمّـد بن أحمد بن العبّـاس الدوريَسـتي(٥) في رسـالة مختصرة ،

__________________

(١) رجال النجاشـي : ٣٩٢.

(٢) الذريعة ١٩ / ٣٦٠.

(٣) الذريعة ١٩ / ٣٦٧ رقم ١٦٣٥.

(٤) الذريعة ٢٢ / ٢٩٣ رقم ٧١٥١.

(٥) نسـب التسـتري في مجالس المؤمنين ١ / ٤٥٦ كتابة هذه المناظرة إلى ابنه الشـيخ

٣١١

__________________

أبي عبـد الله جعفر بن محمّـد الدوريسـتي ، وفيه تأمّل ؛ لِما يلي :

إنّ الشـيخ جعفر بن محمّـد الدوريسـتي يعدّ في طبقة الشـيخ الطوسـي ؛ لأنّه من تلامذة الشـيخ المفيد ، والشـريف المرتضى ، ويروي عنه محمّـد بن أحمد بن شـهريار الخازن ، تلميذ الطوسـي وصهره على بنته ، وكان حيّـاً سـنة ٤٧٣ هـ على ما ذكره صاحب «الذريعة» إذ قال : «وبقي صاحب الترجمة إلى سـنة ٤٧٣ ، كما يظهر من كتاب (ثاقب المناقب) على ما أورد عنه صاحب (الروضات) في ص ٥٩٧ ، وهي حكاية أبي عبـد الله المحدّث ، أملاها المفيد على صاحب الترجمة في سـنة ٤٠١ هـ بالعربية ، ثمّ ترجمها صاحبُ الترجمة إلى الفارسـية بخطّه في سـنة ٤٧٣ هـ ، ثمّ عرّب الفارسـية صاحبُ (ثاقب المناقب) وأدرجها في كتابه المذكور سـنة ٥٦٠ هـ كما فصّلناه في (الذريعة)».

انظر : طبقات أعلام الشـيعة ـ القرن الخامس والسـادس ـ ٢ / ٤٣ ـ ٤٤ ، الذريعة ٥ / ٥.

كما ذكر كحّالة أنّه كان حيّاً قبل سـنة ٤٦٠ هـ ، ولم يتهيّأ لي معرفة مرجعه في ذلك.

انظر : معجم المؤلّفين ١ / ٤٩٤ رقم ٣٧١٤.

وعلى هذا ، فمن البعيد جدّاً أن يكون هو المقرّر لمناظرة الشـيخ الصدوق مع ركن الدولة ؛ لأنّ المناظرة جرت نحو سـنة ٣٤٧ هـ ، كما سـيأتي بيان ذلك في ترجمة والده.

ولو افترضنا أنّـه كان من المعمّرين ـ كما احتمله صاحب «روضات الجنّات» ـ ، فإنّـه لا يمكن حضوره في مجلس المناظرة حتّى مع هذا الاحتمال ؛ لأنّ ولادته سـتكون بعد سـنة ٣٤٧ هـ مع احتمال وفاته في سـنة ٤٧٣ هـ ؛ ولو تنزّلنا وقلنا : إنّ المناظرة جرت في سـنة وفاة ركن الدولة ، فيكون وقتئذ طفلا إنْ لم يكن قد وُلد بعـد ، ومن البعيد حضوره في هذا المجلس وهو بهذه السـنّ الصغيرة.

أضف إلى ذلك أنّ جملة ممّن ترجم له ذكروا أنّه وُلد سـنة ٣٨٠ هـ.

فقد ترجمه صاحب «السـياق لتاريخ نيسـابور» كما في «المنتخب» ص ١٨٥ رقم ٤٦٤ بهذا العنوان : «الفقيه الدويسي : جعفر بن محمّـد بن أحمد بن العبّـاس ، الفقيه ، أبو عبـد الله الدويسـي ، قرية من قرى بيهق ، حدّث عن محمّـد

٣١٢

__________________

ابن بكران عن المحاملي ، وعن أبيه ، وغيرهمـا.

قال صالح بن أبي صالح في ما قرأت من خطّه : سـألته عن مولده فقال : سـنة ثمانين وثلاثمئة».

ونقله عن ياقوت الحموي. انظر : معجم البلدان ٢ / ٥٥٨ رقم ٤٩٤٦.

واحتمال أن يكون غيره بعيد جدّاً لوجوه ثلاثـة :

أوّلها : اتّحادهما في أربعة أسـماء والكنية ، ومعه فإنّ احتمال الغيرية ضعيف جدّاً ، وقد تتـبّعنا كتب التراجم والتواريخ فلم نعثر على ما يدلّ على أنّهما اثنين.

وثانيها : إنّ احتمال تصحيف «الدوريسـتي» بـ «الدويسـي» وارد جدّاً ؛ للتشـابه بالرسـم.

وثالثها : عدم ذكر صاحب «تاريخ بيهق» لهذه القرية ، واحتمال عدم علمه بها بعيد ؛ لأنّها بلاده وهو خبير بها.

وقد راجعنا «تاريخ بيهق» فوجدنا أنّه قد ورد ذكر قرية «دويين» خمس مرّات ، في الصفحات : ١٣٧ ، ٢٩٨ ، ٣١٣ ، ٣٤١ ، ٤٩٧ ، ولم نعثر على أيّ ذِكر لقرية تسـمّى «دويـس».

وراجعنا «معجم البلدان» وغيره ، فلم نجد أيّ ذِكر لقرية «دويين» ، ممّا يؤكّد ما أفدنـاه.

وفي ضوء ذلك يمكن أن نقول : إنّ وفاته كانت في أواخر القرن الخامس الهجري.

بقي هنا إشـكالان ينبغي التنبيه إليهما :

الأوّل : ذكر بعضهم روايته عن الشـيخ الصدوق من دون واسـطة أبيه ، كما في «فرائد السـمطين» في عدّة موارد ، وكذا في بعض نسـخ «الاحتجاج» ، وهو بعيد ؛ لأنّ وفاة الصدوق كانت سـنة ٣٨١ هـ ، وولادة الدوريسـتي كانت سـنة ٣٨٠ هـ.

الثاني : ورد في موارد كثيرة من «فرائد السمطين» رواية الشـيخ شاذان بن جبرئيل عنه ، وجاء ـ كذلك ـ في إجازة العلاّمة رحمه‌الله لبني زهرة أنّه يروي عن والده ، وأحمد بن طاووس وخاله المحقّق جميعاً ، عن السـيّد فخار بن معد ، عن شـاذان ابن جبرئيل ، عن أبي عبـد الله الدوريسـتي ، عن الشـيخ المفيد رحمه‌الله ؛ كما في البحـار ١٠٧ / ٦٩ ـ ٧٠ كـتاب الإجازات / الإجازة الخامسـة.

٣١٣

إلاّ أنّها بالغة الأهمّـيّـة ؛ لِما فيها من دلالة على علوّ مكانة الشـيخ الصدوق الذي ذاع صيته وعلمه وفضله بين القاصي والداني ، حتّى وصلت شـهرته إلى مسـامع الملك ركن الدولة ممّا دعاه إلى أن يرسـل بطلبه والحضور بين يديه ، وبعد مجيء الشـيخ أجلسـه إلى جانبه ، وما أن بدأ المجلس حتّى

__________________

وفيه تأمّـل ؛ لأنّ من البعيد رواية شـاذان بن جبرئيل عن جعفر بن محمّـد الدوريسـتي من دون واسـطة في أقلّ تقدير ؛ لأنّه كان حيّـاً سـنة ٥٩٣ هـ على ما ذكره السـيّد فخار بن معد في كتابه «إيمان أبي طالب» ص ٩٠ ، في روايته عنه بواسـط في تلك السـنة ، وحتّى لو كان من المعمّرين ، فمن البعيد روايته عنه.

نعم ، ألّف كتابه «إزاحة العلّة في معرفة القبلة» سـنة ٥٥٨ هـ ، كما صرّح به في ديباجته.

انظر : الذريعة ١ / ٥٢٧ رقم ٢٥٧٢.

ولو قلنا : إنّه ألّفه وهو في السـتّين من عمره ، فروايته عن الدوريسـتي مسـتبعدة كذلك.

ثمّ كيف يروي عنه من دون واسـطة؟! وهو الذي يروي عن الشـيخ أبي عليّ ابن الشـيخ أبي جعفر الطوسـي ـ الذي كان حيّاً سـنة ٥١١ هـ ، كما في مواضع كـثيرة جدّاً من كتاب «بشـارة المصطفى» ـ بواسـطة عماد الدين الطبري ـ صاحب «البشـارة» ، الذي كان حيّاً سـنة ٥٥٣ هـ ـ على ما في إجازة العلاّمة ؛ كما في البحـار ١٠٧ / ٦٩ ، فضلا عن كون الدوريسـتي أعلى طبقة من أبي عليّ الطوسـي ، بل هو في عداد طبقة أبيه وإن تأخّرت وفاته عنه ، رحمة الله عليهم جميعاً.

وممّا ينبغي التنبيه إليه كذلك ، ما ذكره كحّالة في معجم المؤلّفين ١ / ٨٠٧ رقم ٥٩٧٣ ، في ترجمة شـاذان بن جبرئيل ، أنّه كان حيّاً في حدود سـنة ٦٥٠ هـ ، وفي كتابه «الفضائل» المطبوع ، أنّ وفاته سـنة ٦٦٠ هـ ، وهو بعيد للغاية ، لرواية الشـيخ سـديد الدين والد العلاّمة ، وجمال الدين ابن طاووس ، والمحقّق الحلّي عنه بواسـطة السـيّد فخار بن معد ، المتوفّى سـنة ٦٣٠ هـ ، وإلاّ لرووا عنه من دون واسـطة ، فضلا عن رواية السـيّد فخار عنه وهو متأخّر عنه بطبقة ، والذي نحتمله أنّه توفّي حدود السـتّمئة.

والمتحصّل ممّا تقدّم : أن ما نسـبه التسـتري ، ونقله عنه غيره ، من أنّ المقـرِّر للمناظرة هو جعفر بن محمّـد الدوريسـتي ، ليـس بتامّ!

٣١٤

توجّه الملك بالسـؤال إلى الشـيخ ، وهكذا بدأت المناظرة.

ولكنّ الأمر الذي يؤسـف له أنّها وصلتنا ناقصة ؛ لأنّ مجالس هذه المناظرة كانت خمسـة كما تقدّم عن النجاشـي ، والذي وصل إلينا في المخطوطة التي بين أيدينا لا يحتمل أكثر من ثلاثة مجالس ، كما هو بيّن بـأدنى تأمّـل ، بـل حتّى هذه الثلاثـة فيها نقص ليس بالقليـل ، وهو ظاهـر لا يخفى على القارئ فضلا عن المتتـبّع ؛ لوجود خلل في بعض الموارد ، وعدم ترابط بعضها ، بل نظنّ أنّ بعض هذه المجالس في غير محلّها من حيث ترتيبها التسـلسـلي.

والذي نحتمله أنّ الشـيخ الدوريسـتي لم يحضر في بعض هذه المجالس ، فجمع ما سـمعه منها ، أو أنّه جمعها في أوراق سـائبة وحصل لبعض أوراقها تلف أو ضيـاع ، وجاء من بعده مَن دوّن ما وجد منها فجاءت ناقصـة وغير متسـلسـلة ، ولا ننسـى نصيب الناسـخ من التسـبب في حصول بعض موارد السـقط فيها ، والذي نظنّ أنّ كثيراً من هذا السـقط عائـد إليه.

كما ورد في نسـخة التسـتري مورد جاء فيه أنّ الملك «في يوم آخر» ذكر الشـيخ بغيابه ، وأنّ الملك أثنى عليه ، وأنّ أحد الحاضرين ـ ممّن يتصيّد في الماء العكر بحسـب الظاهر ـ قال : «إنّ الشـيخ يعتقد أنّ رأس الحسـين عليه‌السلام عندما كان على الرمح كان يقرأ سـورة الكهف ؛ فقال الملك : إنّي لم أسـمع ذلك منه ، لكنّي سـأسـأله ، ثمّ كتب رقعة إلى الشـيخ بهذا الشـأن».

والذي نرجّحه أنّ هذه المكاتبة ليسـت من ضمن مجالس المناظرة الخمسـة ؛ لأنّ الشـيخ رحمه‌الله أجاب عن سـؤال الملك مكاتبة ثمّ أرسـله إليه.

٣١٥

وبالرغم من كلّ هذا يبقى ما وصل إلينا من هذه المناظرة أثراً نفسـياً كشـف لنا عن جانب مهمّ من أُسـلوب الشـيخ الصدوق رحمه‌الله في الجدل يضاف إلى تراثه الذي بين أيدينا ، والحمد لله على كلّ حال.

٣١٦

ترجمة الشـيخ الصدوق

هو : الشـيخ أبو جعفر محمّـد بن عليّ بن الحسـين بن موسـى بن بابويه القمّي ، نزيل الريّ ، المولود سـنة ٣٠٦ هـ ، والمتوفّى سـنة ٣٨١ هـ ، رئيـس المحدّثين في عصره ، وصاحب التصانيف الكثيرة التي عليها اعتماد الطائفة الحـقّـة ، وأشـهرها «من لا يحضره الفقيه» ، ثاني الكتب الأربعة المعتمدة لدى الطائفة ، وكان كثير السـماع واسـع الرحلة في طلب الحـديث.

ذكره النجاشـي في رجاله وقال : «شـيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسـان ، وكان ورد بغداد سـنة خمس وخمسـين وثلاثمئة ، وسـمع منه شـيوخ الطائفة وهو حدث السـنّ ، وله كتب كثيرة ...» وذكر جملة منها(١).

وقال الشـيخ في «الفهرسـت» : «كان جليلا ، حافظاً للأحاديث ، بصيراً بالرجال ، ناقداً للأخبار ، لم يُر في القمّـيّين مثله في حفظه وكثرة علمه ، له نحو من ثلاثمئة مصنّف ، وفهرسـت كتبه معروف ...» ثمّ ذكر جملة من مصنّفاته(٢).

وذكره في «رجاله» ، في من لم يرو عنهم عليهم‌السلام ، وقال : «جليل القدر ، حفظة ، بصير بالفقه والأخبار والرجال ، له مصنّفات كثيرة»(٣).

__________________

(١) انظر : رجال النجاشـي : ٣٨٩ رقم ١٠٤٩.

(٢) انظر : فهرسـت الشـيخ : ٤٤٢ رقم ٧١٠.

(٣) رجال الشـيخ : ٤٩٥ رقم ٢٥.

٣١٧

ووصفه ابن شـهر آشـوب بأنّه مبارز القمّـيّين(١).

وذكره الخطيب في «تاريخ بغداد» ، وقال : «نزل بغداد وحدّث بها عن أبيه ، وكان من شـيوخ الشـيعة ، ومشـهوري الرافضة ، حدّثنا عنه محمّـد بن طلحة النعالي(٢)»(٣).

وذكر السـمعاني مثل ما تقدّم عن الخطيب(٤).

وشـهرته تغني عن الإسـهاب في ذِكر أخباره.

__________________

(١) انظر : معالم العلماء : ١١١ رقم ٧٦٤.

(٢) هو : محمّـد بن طلحة بن محمّـد بن عثمان النعالي ، المتوفّى سـنة ٤١٣ هـ ، روى عن أبي بكر الشـافعي ، والجعابي ، وأبي بحر البربهاري ، وابن مالك القطيعي ، وحبيب بن الحسـن القزّاز ، وغيرهم.

قال الخطيب : «كتبت عنه ، وكان رافضياً» وهو جدّ أبي عبـد الله الحسـين بن أحمد الحافظ.

انظر : تاريخ بغـداد ٥ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤ رقم ٢٩٠٨ ، الأنسـاب ـ للسـمعاني ـ ٢ / ١٥٥ «الحافظ» ، ميزان الاعتدال ٦ / ١٩٤ رقم ٧٧٢٣ ، لسـان الميزان ٥ / ٢١٢ رقم ٧٣٢.

(٣) تاريخ بغداد ٣ / ٨٩ رقم ١٠٧٨.

(٤) انظر : الأنسـاب ـ للسـمعاني ـ ٤ / ٥٤٤.

٣١٨

ترجمة الدوريسـتي

هو : الشـيخ الجليل ركن الدين أبو جعفر محمّـد بن أحمد بن العبّاس بن الفاخر [محمّـد] العبسـي ، نسـبة إلى بني عبس قبيلة حذيفة بن اليمان ؛ لأنّه من ذرّيّته.

والـدُوْرْيَـسْـتِـي نسبة إلى دوريست ـ بضمّ الدال وسـكون الواو والراء أيضاً يلتقي فيه سـاكنان ، ثمّ ياء مفتوحة وسـين مهملة سـاكنة ، وتاء مثنّاة من فوقها ـ من قرى الريّ.

وفي «مجالس المؤمنين» و «تعليقة البهبهاني على منهج المقال» ، أنّه يقال لها الآن : دَرَشْـت ، بدال وراء مهملتين مفتوحتين وشين معجمة سـاكنة.

وُصف بأنّه فقيه ، عالم ، فاضل ، يروي عنه ولده جعفر ، ويروي عن أبي جعفر بن بابويه(١).

أهل بيته :

هو من بيت علم خرج منه جماعة كثيرة يقال لهم : مشـايخ دوريسـت ؛ قال الشـيخ منتجب الدين في ترجمة الشـيخ نجم الدين

__________________

(١) انظر : الذريعة ٢٢ / ٢٩٣ رقم ٧١٥١ ، معجم البلدان ٢ / ٥٥٠ ـ ٥٥١ رقم ٤٩١٨ ، أعيان الشـيعة ٤ / ١٥١ ، أمل الآمل ٢ / ٢٤١ رقم ٧١١ ، رياض العلماء ٥ / ٢٦ ، مسـتدرك الوسـائل (الخاتمـة) ٢١ / ٣٨ ، منهج المقال (تعليقة الوحيد) ٣ / ٢٣٠.

٣١٩

عبـد الله بن جعفر الدوريسـتي حفيد المترجم : «له الرواية عن أسـلافه مشـايخ (دوريسـت) فقهاء الشـيعة».

وقال التسـتري في ترجمة ابنه جعفر بن محمّـد : «إنّه من بيت جليل ، أهل علم وعفّة وإمامة خلفاً عن سـلف».

وقال الشـيخ النوري عند ذِكر ابن المترجم : «العالم الجليل ، المعروف بيته آباءً وأبناءً بالفقاهة والفضل».

ووصفهم الشـيخ عبّاس القمّي ببيت العلم والفضل(١).

منهم : ولده أبو عبـد الله جعفر بن محمّـد الدوريسـتي ، المولود سـنة ٣٨٠ هـ ، والمتوفّى سـنة ٤٩٨ هـ ، كما تقدّم بيانه ، وثّـقه الشـيخ في «رجاله» ، في مَن لم يرو عن الأئمّـة عليهم‌السلام.

وقال فيه الشـيخ منتجب الدين : «ثقة عين عدل».

وُصف بالعالم الجليل ، الفقيه ، العظيم الشـأن ، وأنّه من أكابر علماء الإمامية ، كثير الرواية ، وكان الوزير نظام الملك يعظّمه ويذهب في كلّ أُسـبوعين مرّة من الريّ إلى قرية «دوريسـت» للسـماع منه.

قرأ على الشـيخ المفيد ، وعلم الهدى ، وغيرهما ، وروى عنه جماعة ، له كتب منها : الكفاية في العبادات ، وكتاب يوم وليلة ، وكتاب الاعتقادات ، وكتاب الردّ على الزيدية ، وغيرها(٢).

__________________

(١) انظر : فهرسـت الشـيخ منتجب الدين : ١٢٨ رقم ٢٧٦ ، مسـتدرك الوسـائل (الخاتمـة) ٢١ / ٣٧ ، أعيان الشـيعة ٤ / ١٥١ وج ٩ / ١١٥ ، الكنى والألقاب ٢ / ٢٣٣.

(٢) انظر : رجال الشـيخ : ٤٥٩ رقم ١٧ ، فهرسـت الشـيخ منتجب الدين : ٣٧ رقم

٣٢٠