الإفصاح في الإمامة

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]

الإفصاح في الإمامة

المؤلف:

محمّد بن محمّد النعمان العكبري [ الشيخ المفيد ]


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد
المطبعة: مهر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

أذاهم الفساد (١) وقد دل القرآن على ذلك وجاءت به الأخبار :

قال الله عزوجل (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٢).

وقال تعالى (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٣).

وقال تعالى (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عليهمْ شَهِيداً) (٤) وكل هذه أمور منتظرة غير ماضية ولا موجودة في الحال.

ومثلهم فيما بشرهم الله تعالى به من ذلك ما تضمنه قوله تعالى (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٥) قوله تعالى في بني إسرائيل (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عليهمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (٦).

ومما أنزله فيهم سوى المثل لهم عليه‌السلام قوله تعالى (الَّذِينَ إِنْ

__________________

(١) في أ ، ح : العناد.

(٢) سورة الانبياء ٢١ : ١٠٥.

(٣) سورة آل عمران ٣ : ٨٣.

(٤) سورة النساء ٤ : ١٥٩.

(٥) سورة القصص ٢٨ : ٥ ، ٦.

(٦) سورة الاسراء ١٧ : ٦.

١٠١

مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (١) فصار معاني جميع ما تلوناه راجعا إلى الإشارة إليهم عليه‌السلام بما ذكرناه.

ويحقق (٢) ذلك ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الاتفاق من قوله لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا)). (٣)

وأما ما تعلقوا به من كاف المواجهة فإنه لا يخل بما شرحناه في التأويل من آل محمد عليه‌السلام لأن القائم من آل محمد والموجود من أهل بيته في حياته فهو من المواجهين في الحقيقة والنسب والحسب وإن لم يكن من أعيانهم فإذا كان منهم بما وصفناه فقد دخل تحت الخطاب وبطل ما توهم أهل الخلاف

فصل

على أنه يقال لهم ما الفصل بينكم فيما تأولتم به هذه الآية (٤) وبين من تأولها خلاف تأويلكم فأوجب حكمها في غير من سميتم ولجأ

__________________

(١) سورة الحج ٢٢ : ٤١.

(٢) في ب ، م : وتحقيق.

(٣) سنن أبى داود ٤ : ١٠٦ ، سنن الترمذي ٤ : ٥٢ ، مسند أحمد ١ : ٣٧٦ ، ٣٧٧ ، ٤٣٠ ، ٤٤٨. وراجع إحقاق الحق ١٣ : ٢٣٤ ـ ٢٤٧.

(٤) (هذه الاية) ليس في ب ، م.

١٠٢

في صحة مقاله إلى مثل عيوبكم فقال

إن الله جل اسمه بشر في هذه الآية بالاستخلاف أبا سفيان صخر بن حرب ومعاوية ويزيد ابني أبي سفيان وذلك أنى قد وجدتهم انتظموا صفات الموعودين بالاستخلاف وكانوا من الخائفين عند قوة الإسلام لخلافهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتوجه إليهم الوعد من الله سبحانه بالأمن من الخوف بشرط الانتقال إلى الإيمان واستئناف الأعمال الصالحات والاستخلاف بعد ذلك والتمكين لهم في البلاد ثوابا لهم على طاعة الله وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وترغيبا لهم في الإيمان فأجابوا الله تعالى إلى ما دعاهم إليه وأذعنوا بالإسلام وعملوا الصالحات فأمنوا من المخوفات.

واستخلفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته وكانوا من بعده خلفاء لخلفائه الراشدين ألا ترى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلف أبا سفيان على سبي الطائف وهم يومئذ ستة آلاف إنسان واستعمله من بعد ذلك على نجران فلم يزل عامله عليها حتى قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو خليفته فيها من غير عزل له ولا استبدال.

واستعمل أيضا صلى‌الله‌عليه‌وآله يزيد بن أبي سفيان على صدقات أخواله بني فراس بن غنم فجباها (١) وقدم بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلقيه أبوه أبو سفيان فطلب منه مال الصدقات فأبى أن يعطيه فقال

__________________

(١) (فجباها) ليس في ب ، ح ، م. أنظر الاصابة ٦ : ٣٤١ ، الاعلام للزركلي ٩ : ٢٣٧.

١٠٣

إذا صرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبره بذلك فأخبره فقال له خذ المال فعد به إلى أبيك)). فسوغه مال الصدقات كله صلة لرحمه وإكراما له وتمييزا له من كافة أهل الإسلام.

واستعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على كتابته معاوية وكان والي خليفته من بعده عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان ربع أجناد الشام وتوفي وهو خليفته على ذلك فأقره عمر بن الخطاب إلى أن مات في خلافته.

وإذا كان أبو سفيان ومعاوية ويزيد ابناه على ظاهر الإسلام والإيمان والعمل الصالح وكان لهم من الخلافة في الإسلام ما وصفناه ثم الذي حصل لمعاوية خاصة من الإمرة بعد أمير المؤمنين عليه‌السلام وبيعة الحسن بن علي عليه‌السلام وتسليم الأمر إليه حتى سمي عامه عام الجماعة للاتفاق ولم يسم عام أحد من الخلفاء قبله بذلك ثبت أنهم المعنيون في الآية ببشارة الاستخلاف دون من ادعيتم له ذلك بمعنى الاستدلال على ما انتظمتموه من الاعتبار.

وهذا أشبه من تأويل المعتزلة للآية في أبي بكر وعمر وعثمان وهو ناقض لمذاهبهم ومضاد لاعتقاداتهم ولا فضل لأحد منهم فيه إلا أن يرجع في العبرة (١) إلى ما شرحناه أو يعتمد في التفسير على الأثر حسبما قدمناه فيبطل حينئذ توهمه فيما تأوله على ما بيناه والحمد لله.

__________________

(١) في العبرة) ليس في ب ، ح ، م.

(٢) (على ما بيناه) ليس في ب.

١٠٤

فصل

ثم يقال لهم أيضا ألستم تعلمون أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أبي سرح قد كانا واليين على المسلمين من قبل عثمان بن عفان وهو إمام عدل عندكم مرضي الفعال وقد كان مروان بن الحكم كذلك ثم خطب له على المنابر في الإسلام بإمرة المؤمنين كما خطب لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وكذلك أيضا ابنه عبد الملك ومن بعده من بني أمية قد حكموا في العباد وتمكنوا في البلاد وفبأي شيء تدفعون صرف معنى الآية إليهم والوعد بالاستخلاف لهم وإدخالهم في جملة من سميتموه وزعمتم أنهم أئمة عدل خلفاء واعتمدتم في صحة ذلك على ما ذكرناه في أمر أبي سفيان ومعاوية ويزيد ابنيه حسبما شرحناه؟!

فلا يجدون مهربا من ذلك بما قدمناه على الترتيب الذي رسمناه وكذلك السؤال عليهم في عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري فإنهما ممن كانا على ظاهر الإسلام والعمل الصالح عند الجمهور من الناس وكانا من المواجهين بالخطاب وممن خاف في صدر الإسلام وحصلت لهما ولايات (١) في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلافة له ولخلفائه على أصولهم بغير إشكال وليس يمكن لخصومنا دفع التأويل فيهما بما يتعلقون به في بني (٢) أمية وبني مروان من الخروج عن الخوف

__________________

(١) في ب ، ح ، م : وحصلت لهم.

(٢) (بني) ليس في ب.

١٠٥

في صدر الإسلام وهذا كله تخليط ورطهم الجهل فيه بدين الله تعالى والعداوة لأوليائه عليهم‌السلام

__________________

(١) في أ : والولاية.

١٠٦

فصل

فإن قال قد وضح لي ما ذكرتموه في أمر هذه الآية وأثبتموه في معناها كما ظهر الحق لي فيما تقدمها (١) وانكشف بترادف الحجج التي أوردتموها ما كان مستورا عني من ضعف تأول مخالفيكم لها غير أني واصف استدلالا لهم من آي أخر على ما يدعونه من إمامة أبي بكر وعمر لأسمع ما عندكم فيه فإن أمره قد اشتبه علي ولست أجد محيصا عنه وذلك أنهم قالوا وجدنا الله تعالى يقول في سورة الفتح (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٢).

ثم قال (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣).

__________________

(١) (في امر .. تقدمها) ليس في ب ، م.

(٢) سورة الفتح ٤٨ : ١٥.

(٣) سورة الفتح ٤٨ : ١٦.

١٠٧

قالوا فحظر الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله إخراج المخلفين معه بقوله (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ).

ثم أوجب عليهم الخروج مع الداعي لهم من بعده إلى قتال القوم الذين وصفهم بالبأس الشديد من الكفار وألزمهم طاعته في قتالهم حتى يجيبوا إلى الإسلام ووجدنا الداعي لهم إلى ذلك من بعده أبا بكر وعمر لأن أبا بكر (١) دعاهم إلى قتال المرتدين وكانوا أولي بأس شديد على الحال المعروفة ثم دعاهم عمر بن الخطاب من بعده إلى قتال أهل فارس وكانوا كفارا أشداء فدل ذلك على إمامتهما بما فرض الله تعالى في كتابه من طاعتهما (٢) فهذا دليل للقوم على نظامه الذي حكيناه فما قولكم فيه؟

قيل له : ما نرى في هذا الكلام على إعجاب أهل الخلاف به حجة تؤنس ولا شبهة تلتبس وليس فيه أكثر من الدعوى العرية عن البرهان ومن لجأ إلى مثله فيما يجب بالحجة والبيان فقد كشف عن عجزه وشهد على نفسه بالخذلان وذلك أن متضمن الآي ينبئ عن منع المخلفين من اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند الانطلاق إلى المغانم التي سأله القوم اتباعه ليأخذوها (٣) وليس فيه حظر عليه صلوات الله عليها إخراجهم

__________________

(١) (لان أبا بكر) ليس في ب ، م.

(٢) ممن ذهب إلى هذا الرأي ابن جريج والقرطبي والزمخشري والبيضاوي ، انظر تفسير القرطبي ١٦ : ٢٧٢ ، الكشاف ٤ : ٣٣٨ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٤١٠ ، الدر المنثور ٧ : ٥٢٠.

(٣) في ب ، ح ، م ، له وأخذها.

١٠٨

معه في غير ذلك الوجه ولا منع له من إيجاب الجهاد عليهم معه في مغاز أخر.

وبعد تلك الحال فمن أين يجب إذا كان الله تعالى قد أمره بإيذانهم عند الرد لهم عن وجه الغنيمة بالدعوة فيما بعد إلى قتال الكافرين أن يكون ذلك بدعاء من بعده دون أن يكون بدعائه هو بنفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله قد دعا أمته إلى قتال طوائف من الكفار أولي بأس شديد بعد هذه الغزاة التي غنم فيها المسلمون وحظر الله تعالى فيها على المخلفين الخروج وهل فيما ذكروه من ذلك أكثر من الدعوى على ما وصفناه.

فصل

ثم يقال لهم أليس الوجه الذي منع الله تعالى المخلفين من اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه الوصول إلى الغنائم منه بالخروج معه هو فتح خيبر الذي بشر الله تعالى به أهل بيعة الرضوان على ما اتفق عليه أهل التفسير وتواتر به أهل السير والآثار فلا بد من أن يقولوا بلى وإلا سقط الكلام معهم فيما يتعلق بتأويل القرآن ويرجع فيه إلى علماء التفسير ورواه الأخبار إذ ما وصفناه إجماع ممن سميناه.

فيقال لهم : أولستم تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد غزا بعد غزوة خيبر غزوات عديدة وسار بنفسه وأصحابه إلى مواطن كثيرة ،

__________________

(١) معالم التنزيل ٥ : ١٧٠ ، الكشاف ٤ : ٣٣٧ ، تفسير الرازي ٢٨ : ٩٠ ، تفسير القرطبي ١٦ : ٢٧٠ وغيرها.

١٠٩

واستنفر (١) الأعراب وغيرهم فيها إلى جهاد الكفار ولقي المسلمون في تلك المقامات من أعدائهم ما انتظم وصف الله تعالى له بالبأس الشديد لا سيما بمؤتة (٢) وحنين وتبوك سوى ما قبلها وما بينها وبعدها من الغزوات ولا بد أيضا من أن يقولوا بلى وإلا وضح من جهلهم ما يحظر مناظرتهم في هذا الباب.

فيقال لهم : فمن أين يخرج لكم مع ما وصفناه أيها الضعفاء الأوغاد وجوب طاعة المخلفين من الأعراب بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دون أن يكون هو الداعي لهم بنفسه على ما بيناه فلا يجدون حيلة في إثبات ما ادعوه مع ما شرحناه.

فصل

ثم يقال لهم ينبغي أن تنتبهوا من رقدتكم وتعلموا أن الله تعالى لو أراد منع المخلفين من اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع غزواته على ما ظننتموه لما خص ذلك بوقت معين دون ما سواه ولكان الحظر له واردا على الإطلاق وبما يوجب عمومه في كل حال ولما لم يكن الأمر كذلك بل كان مختصا بزمان الغنائم التي تضمن البشارة فيها القرآن وبوصف مسألتهم له بالاتباع دون حال الامتناع منه أو الإعراض (٣) عن

__________________

(١) في أ : واستبق ، وفي م : استفزًّ.

(٢) مؤته : قرية في حدود الشام. " معجم البلدان ٥ : ٢١٩ ".

(٣) في أ ، ب ، م : والإعراض.

١١٠

السؤال دل على بطلان ما توهمتموه ووضح لكم بذلك الصواب.

فصل آخر

وقد ظن بعض أهل الخلاف بجهله وقلة (١) علمه أن هؤلاء المخلفين من الأعراب هم الطائفة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك وكانت مظاهرة له بالنفاق فتعلق فيما ادعاه من حظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم الاتباع له على كل حال بقوله جل اسمه في سورة التوبة (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (٢).

فقال هذا هو المراد بقوله في سورة الفتح (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) (٣) وإذا كان قد منعه من إخراجهم معه أبدا ثبت أن الداعي لهم إلى قتال القوم الذين وصفهم بالبأس الشديد هو غيره وذلك مصحح عند نفسه ما ادعاه من وجوب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان على ما قدمنا القول فيه وبيناه آنفا.

فيقال له : أيها الغافل الغبي الناقص أين يذهب بك وهذه

__________________

(١) في ب ، ح ، م : دون.

وممّن ذهب إلى هذا الرأي ابن زيد والجبائي والفخر الرازي ، انظر تفسير الطبري ٢٦ : ٥١ ، والثعالبي ٤ : ١٧٥ والفخر الرازي ٢٨ : ٩٠.

(٢) سورة التوبة ٩ : ٨٣.

(٣) سورة الفتح ٤٨ : ١٥.

١١١

الآية وما قبلها من قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (١) نزلت في غزوة تبوك بإجماع علماء الأمة ولتفصيل ما قبلها من التأويل قصص طويله قد ذكرها المفسرون وسطرها مصنفو السير والمحدثون؟!

ولا خلاف أن الآيات التي نزلت في سورة الفتح نزلت في المخلفين عن الحديبية وبين هاتين الغزوتين من تفاوت الزمان ما لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم وبين الفريقين أيضا في النعت والصفات اختلاف في ظاهر القرآن.

فكيف يكون ما نزل بتبوك وهي سنة تسع من الهجرة متقدما على النازل في عام الحديبية وهي سنة ست لو لا أنك في حيرة تصدك عن الرشاد؟!

ثم يقال له فهب أن جهلك بالأخبار وقلة معرفتك بالسير والآثار سهل عليك القول في تأويل القرآن بما قضى على بطلانه التأريخ المتفق عليه بواضح البيان أما سمعت الله جل اسمه يقول في المخلفين من الأعراب (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢).

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٣٨.

(٢) سورة الفتح ٤٨ : ١٦.

١١٢

فأخبر عن وقوع الدعوة لهم إلى القتال على الاستقبال وإرجاء أمرهم في الثواب والعقاب بشرطه في الطاعة منهم والعصيان ولم يقطع بوقوع أحد الأمرين منهم على البيان.

وقال جل اسمه في المخلفين الآخرين من المنافقين المذكورين في سورة براءة (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (١).

فقطع على استحقاقهم العقاب (٢) وأخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بخروجهم من الدنيا على الضلال ونهاه عن الصلاة عليهم إذا فارقوا الحياة ليكشف بذلك عن نفاقهم لسائر الناس وشهد عليهم بالكفر بالله عز اسمه وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بصريح الكلام ولم يجعل لهم في الثواب شرطا على حال وأكد ذلك بقوله تعالى (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٣) وهذا جزم من الله تعالى على كفرهم في الحال وموتهم على الشرك

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٨٣ ، ٨٤.

(٢) في ب نسخة بدل ، وفي ح : العذاب.

(٣) سورة التوبة ٩ : ٨٥.

١١٣

به وسوء عاقبتهم وخلودهم في النار وقد ثبت في (١) العقول فرق ما بين المرجأ أمره فيما يوجب الثواب والعقاب (٢) وبين المقطوع له بأحدهما (٣) على الوجوه كلها.

وأن الإرجاء لما ذكرناه والشرط الذي ضمنه كلام الله تعالى فيما تلوناه لا يصح اجتماعه مع القطع بما شرحناه من متضمن الآي الأخر على ما بيناه لشخص واحد ولا لأشخاص متعددة على جميع الأحوال وأن من جوز (٤) ذلك وارتاب في معناه فليس بمحل من يناظر في الديانات لأنه لا يصير إلى ذلك إلا بآفة تخرجه عن حد (٥) العقلاء أو مكابرة ظاهرة وعناد وهذا كاف في فضيحة هؤلاء الضلال الذين حملهم الجهل بدين الله والنصب لآل محمد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله على القول في القرآن بغير هدى ولا بيان نسأل الله التوفيق ونعوذ به من الخذلان

فصل

على أنا لو سلمنا لهم تسليم نظر ما توهموه من تضمن الآية لوجوب طاعة داع للمخلفين من الأعراب إلى القتال بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) في أزيادة : بدائة.

(٢) (فيما .. والعقاب) ليس في ب ، م.

(٣) في ب ، ح ، م : العقاب.

(٤) في أ : جهل.

(٥) في ب : جد.

١١٤

على ما اقترحوه واعتبرنا فيما ادعوه من ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان بمثل ما اعتبروه لكان بأن يكون دلالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أولى من أن يكون دلالة على إمامة من ذكروه وذلك أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قد دعا بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قتال الناكثين بالبصرة والقاسطين بالشام والمارقين بالنهروان واستنفر الكافة إلى قتالهم وحربهم وجهادهم حتى ينقادوا بذلك إلى دين الله تعالى الذي فارقوه ويخرجوا به عن الضلال الذي اكتسبوه وقد علم كل من سمع الأخبار ما كان من شدة أصحاب الجمل وصبرهم عند اللقاء حتى قتل بين الفريقين على قول المقل عشرة آلاف إنسان.

وتقرر عند أهل العلم أنه لم تر حرب في جاهلية ولا إسلام أصعب ولا أشد من حرب صفين ولا سيما ما جرى من ذلك ليلة الهرير حتى فات أهل الشام فيها الصلاة وصلى أهل العراق بالتكبير والتهليل والتسبيح بدلا من الركوع والسجود والقراءة لما كانوا عليه من الاضطرار (١) بتواصل اللقاء في القتال حتى كلت السيوف بينهم لكثرة الضراب وفنى النبل وتكسرت الرماح بالطعان ولجأ كل امرئ منهم عند عدم سلاحه إلى قتال صاحبه بيده وفمه حتى هلك جمهورهم بما وصفناه وانكشفت الحرب بينهم عن قتل نيف وعشرين ألف (٢)

__________________

(١) في ب ، ح ، م : الاضطراب.

(٢) في ب ، م : قتل عشرين ألف.

١١٥

إنسان على قول المقل أيضا وضعف هذا العدد أو قريب من الضعف على قول آخرين بحسب اختلافهم في الروايات.

فأما أهل النهروان فقد بلغ وظهر من شدتهم وبأسهم وصبرهم على القتال مع أمير المؤمنين عليه‌السلام بالبصرة والشام ما لم يرتب فيه من أهل العلم (١) اثنان وظهر من إقدامهم بعد التحكيم على قتل النفوس والاستسلام للموت والبأس والنجدة ما يغني أهل العلم به عن الاستدلال عليه والاستخراج لمعناه ولو لم يدل على عظم بأسهم وشدتهم في القتال إلا أنهم كانوا بالاتفاق أربعة آلاف إنسان فصبروا على اللقاء حتى قتل سائرهم سوى أربعة أنفس شذوا منهم على ما جاءت به الأخبار.

ولم يجر أمر أبي بكر وعمر في الدعوة مجرى أمير المؤمنين عليه‌السلام لأنهما كانا مكتفيين بطاعة الجمهور لهما وانقياد الجماعات إلى طاعتهما وعصبية الرجال لهما فلم يظهر من دعائهما إلى قتال من سير إليه الجيوش ما ظهر من أمير المؤمنين عليه‌السلام في الاستنفار والترغيب في الجهاد والترهيب من تركه والاجتهاد في ذلك والنكير له حالا بعد حال لتقاعد الجمهور عن نصرته وخذلان من خذله من أعدائه الشاكين في أمره والمعاندين له وما مني به من تمويه خصومة وتعلقهم في استحلال قتاله بالشبهات.

ثم لم يبن من شدة أهل الردة وفارس مثل ما ذكرناه من أهل

__________________

(١) في أ : الاسلام.

١١٦

البصرة والشام والنهروان على ما شرحناه بل ظهر منهم خلاف ذلك لسرعة انفضاضهم عمن لقيهم من أهل الإسلام وتفرقهم وهلاكهم بأهون سعي وأوحى (١) مدة وأقرب مؤنة على ما تواترت به الآثار وعلمه كافة من سمع الأخبار فبان بما وصفناه أننا مع التسليم للخصوم بما ادعوه في معنى الآية وباعتبارهم الذين اعتمدوه أولى بالحجة منهم في صرف تأويلها إلى إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام دون من سموه على ما قدمناه.

ولو تكافأ القولان ولم يكن لأحدهما رجحان على صاحبه في البرهان لكانت المكافأة مسقطة لما حكموا به من تخصيص أبي بكر وعمر بدلالة الآية على الترتيب الذي أصلوا الكلام عليه في الاستدلال وهذا ظاهر جلى ولله الحمد

فصل

قد كان بعض متكلمي المعتزلة رام الطعن في هذا الكلام بأن قال قد ثبت أن القوم الذين فرض الله تعالى قتالهم بدعوة من أخبر عنه كفار خارجون عن ملة الإسلام بدلالة قوله تعالى (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) (٢).

__________________

(١) الوحى : السرعة. " الصحاح. وحى ـ ٦ : ٢٥٢ " ، وفي ب ، ح ، م : وفي أرحى.

(١) سورة الفتح ٤٨ : ١٦.

١١٧

وأهل البصرة والشام والنهروان فيما زعم لم يكونوا كفارا بل كانوا من أهل ملة الإسلام إلا أنهم فسقوا عن الدين وبغوا على الإمام فقاتلهم بقوله تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (١).

وأكد ذلك عند نفسه بسيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام فيهم ، وبخبر رواه عنه عليه‌السلام أنه سئل عنهم فقال إخواننا بغوا علينا)) (٢) ولم يخرجهم عن حكم أهل الإسلام.

قال : فثبت بذلك أن الداعي إلى قتال من سماه الله تعالى ووصفه بالبأس الشديد إنما هو أبو بكر وعمر دون أمير المؤمنين عليه‌السلام

فصل

فقلت له ما أبين غفلتك وأشد عماك أنسيت قول أصحابك في المنزلة بين المنزلتين وإجماعهم على أن من استحق التسمية بالفسق خارج بما به استحق ذلك عن الإيمان والإسلام غير سائغ تسميته بأحد هذين الاسمين في الدين على التقييد والإطلاق أم جهلت هذا من أصل الاعتزال أم تجاهلت وارتكبت العناد.

__________________

(١) سورة الحجرات ٤٩ : ٩.

(٢) قرب الاسناد : ٤٥ ، سنن البيهقي ٨ : ١٨٢ ، حياة الصحابة ٢ : ٤٩٦.

(٣) في ب ، ح ، م : والشدة.

١١٨

أولست تعلم أن المتعلق بإيجاب الإسلام على أهل البصرة والشام (١) والنهروان لا يلزمه بذلك إكفارهم ولا يمنعه من نفي الكفر عنهم بحسب ما نبهناك عليه من مقالة أصحابك في الأسماء والأحكام ، فكيف ذهب عليك هذا الوجه من الكلام وأنت تزعم أنك متحقق بعلم الحجاج فاستحى لذلك وبانت فضيحته بما كان يدافع به من الهذيان

فصل

قال بعض المرجئة وكان حاضر الكلام قد نجونا نحن من المناقضة التي وقع فيها أهل الاعتزال لأنا لا نخرج أحدا من الإسلام إلا بكفر يضاد الإيمان فيجب على هذا الأصل أن يكون الكلام بيننا في إكفار القوم على ما تذهبون إليه وإلا لزمكم معنى الآي.

فقلت له : لسنا نحتاج إلى ما ظننت من نقل الكلام على الفرع (٢) وإن كان مذهبك في الأسماء ما وصفت لأن الإسلام عندنا وعندك إنما هو الاستسلام والانقياد ولا خلاف بيننا أن الله عزوجل قد أوجب على محاربي أمير المؤمنين عليه‌السلام مفارقة ما هم عليه بذلك من العصيان وألزمهم الاستسلام له والانقياد إلى ما يدعوهم إليه من الدخول في الطاعة وكف القتال فيكون قوله تعالى (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ

__________________

(١) (والشام) ليس في ب ، ح ، م.

(٢) (على الفرع) ليس في ب ، ح ، م

١١٩

يُسْلِمُونَ) خارجا على هذا المعنى الذي ذكرناه وهو موافق لأصلك وجار على أصل اللغة التي نزل بها القرآن فلحق بالأول في الانقطاع ولم أحفظ منه إلا عبارات فارغة داخلة في باب الهذيان

فصل

على أنه يقال للمعتزلة والمرجئة والحشوية جميعا لم أنكرتم إكفار محاربي أمير المؤمنين عليه‌السلام وقد فارقوا طاعة الإمام العادل وأنكروها وردوا فرائض الله تعالى عليه وجحدوها واستحلوا دماء المؤمنين وسفكوها وعادوا أولياء الله المتقين في طاعته ووالوا أعداءه الفجرة الفاسقين في معصيته وأنتم قد أكفرتم مانعي أبي بكر الزكاة وقطعتم بخروجهم عن ملة الإسلام ومن سميناه قد شاركهم في منع أمير المؤمنين عليه‌السلام الزكاة وأضاف إليه من كبائر الذنوب ما عددناه وهل فرقكم بين الجميع في أحكام الكفر والإيمان إلا عناد في الدين وعصبية للرجال

فصل

فإن قالوا مانعو الزكاة إنما منعوها على وجه العناد ومحاربو أمير المؤمنين إنما حاربوه ومنعوه زكاتهم واستحلوا الدماء في خلافه على

__________________

(١) سورة الفتح ٤٨ : ١٦.

(٢) في ب ، م : في الاحكام.

١٢٠