دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

كان الضرر ناشئا من نفس الحكم دون متعلقه كما في المثال.

الرابع : أن يكون مدلول الجملتين نفي الضرر غير المتدارك ، ولازمه ثبوت التدارك في موارد الضرر بالأمر به في الشريعة المقدسة. ولا يخفى بعد هذا الوجه ، إذ لا موجب لتقييد الضرر بغير المتدارك إلّا ما يتوهم من أن الضرر المتدارك لا يكون ضررا حقيقة ، فالمنفي حينئذ ينحصر بغير المتدارك ، فانه الضرر حقيقة. ولكنه يرد عليه.

أولا : أن التدارك الموجب لانتفاء الضرر لو سلم يختص بالتدارك الخارجي التكويني ، فمن خسر مالا خسارة متداركة يصح أن يقال ولو بالمسامحة أنه لم يخسر ، وأما حكم الشارع بوجوب التدارك فلا يوجب ارتفاع الضرر خارجا ، فالمسروق ماله متضرر وجدانا مع حكم الشارع بوجوب رده عليه.

وثانيا : أن كل ضرر في الخارج ليس مما حكم الشارع بتداركه تكليفا أو وضعا ، فلو تضرر تاجر باستيراد تاجر آخر أموالا كثيرة لم يجب تداركه لا تكليفا ولا وضعا ، والالتزام بوجوب التدارك في أمثاله يستلزم تأسيس فقه جديد. نعم لو كان الإضرار بإتلاف المال وجب تداركه ، لا بدليل لا ضرر ، بل بدليل آخر كما هو ظاهر. وبذلك ظهر بطلان هذا الوجه ، فالأمر يدور بين الاحتمالات الثلاثة.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان الظاهر من الجملتين هو الاحتمال الثالث الّذي اختاره الشيخ قدس‌سره ، وبيانه يبتني على استقصاء موارد استعمالات الجمل المنفية بكلمة (لا) النافية للجنس في مقام التشريع ، وهي على أقسام.

فمنها : ما يكون الجملة فيه مستعملة في مقام الاخبار عن عدم تحقق المدخول في الخارج كناية عن مبغوضيته وحرمته ، كما يخبر عن ثبوت الشيء في الخارج كناية عن محبوبيته ووجوبه ، وقد مر جملة من أمثلة ذلك فيما تقدم.

ومنها : ما تكون مستعملة اخبارا عن عدم انطباق الطبيعة على المتخصص

٥٠١

بالخصوصية المذكورة في الكلام كما في قوله عليه‌السلام «لا ربا بين الوالد والولد» و «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له» (١) فان المتحصل منهما ان الشارع لا يرى الرّبا بين الوالد والولد ، ولا الغيبة لمن ألقى جلباب الحياء مصداقا لطبيعي الرّبا أو الغيبة ، فالحكم الثابت لهما شرعا يرتفع عن الموردين لا محالة. وكذلك الحال فيما إذا لم يكن الحكم الثابت للطبيعة حكما تحريميا فيرتفع عما حكم الشارع بعدم انطباقها على مورد كائنا ما كان ، كما في قوله عليه‌السلام «لا سهو في النافلة» (٢) وقوله عليه‌السلام «لا يمين للمملوك مع مولاه» (٣) وهذا هو الّذي يعبر عنه بنفي الحكم بلسان نفي موضوعه ، ولأجله يتقدم الدليل فيه على الأدلة الواقعية بالحكومة ، فيخرج مورده عن موضوعها.

وبذلك يظهر ان هذا الاستعمال لا بد فيه من ثبوت حكم إلزاميّ ، أو غير تكليفي ، أو وضعي في الشريعة المقدسة لنفس الطبيعة ، ليكون الدليل الحاكم رافعا له برفع موضوع ، هذا كله فيما إذا كان النفي حقيقا. واما إذا كان ادعائيا ، فلا يترتب عليه إلّا نفي الآثار المرغوبة ، المعبر عنه بنفي الكمال ، لا نفي الحقيقة ليترتب عليه نفي الحكم الشرعي ، ومثال ذلك كثير في الشرعيات كما في قوله عليه‌السلام «لا صلاة لجار المسجد إلّا في مسجده» (٤).

ومنها : ما تكون مستعملة اخبارا عن عدم ثبوت الموضوع في الشريعة المقدسة ، فيستفاد منها نفي الحكم الثابت له في الشرائع السابقة أو عند العقلاء ، كما في قوله عليه‌السلام «لا رهبانية في الإسلام» (٥) فان الرهبانيّة كانت مشروعة في الأمم السابقة ، لكنها غير مشروعة في الشريعة المقدسة ، فنفيها في الإسلام كناية عن نفي

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ٨ ـ ٤٦١.

(٢) مستدرك الوسائل : ٦ ـ باب ١٦ من أبواب الخلل في الصلاة ، ح ٢.

(٣) الكافي : ٥ ـ كتاب النكاح ، باب انه لا رضاع بعد فطام ، ح ٥.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ ـ باب ٢ من أبواب أحكام المساجد ، ح ١.

(٥) مستدرك الوسائل : ١٤ ـ ١٥٥.

٥٠٢

تشريعها ، ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا مناجشة في الإسلام» فان الزيادة في ثمن السلعة من غير إرادة شرائها كانت أمرا ثابتا متعارفا عند العقلاء ، لكن الشارع نفاها بنفي تشريعها ، ومثله قوله عليه‌السلام «لا قياس في الدين» (١) فانّ حجية القياس كانت مرتكزة عند العامة ، وقد نفي بنفي حجيته. وبالجملة الحكم المنفي في هذا القسم هو ما كان ثابتا للموضوع في الشرائع السابقة أو ببناء العقلاء ، من غير فرق بين كونه إلزاميا أو غير إلزاميّ ، تكليفيا أو وضعيا.

ومنها : ما تكون مستعملة في نفي نفس الحكم الشرعي ابتداء حقيقة وبلا عناية ، كما في قضية لا حرج في الدين ، فان ثبوت الحرج في الشريعة انما هو بجعل حكم حرجي ، كما أن الحرج في الخارج يكون بإيجاد الفعل الحرجي ، فنفيه في الشريعة بعد جعل حكم يلزم من امتثاله الحرج. وان شئت قلت : ان إلزام المولى بالإضافة إلى امتثال العبد المنقاد بمنزلة العلة التامة بالقياس إلى معلولها ، فإذا وقع العبد في الحرج من جهة امتثال تكليف المولى فالمولى هو الّذي أوقعه في الحرج ، فنفي الحرج في الدين عبارة عن عدم جعل حكم يستلزم امتثاله وقوع المكلف في الحرج.

إذا عرفت ذلك فنقول : اما الاحتمال الأول ، وهو كون المراد بنفي الضرر النهي عنه شرعا ، فهو وان كان في نفسه ممكنا ، إلّا انه خلاف الظاهر من وجهين.

الأول : أن بعض الروايات كانت مشتملة على زيادة قيد (في الإسلام) ومثل هذا القيد كاشف عن ان عناية المتكلم انما هو في النفي في مقام التشريع ، لا بنفي الوجود الخارجي بداعي الزجر عنه.

الثاني : ان حمل النفي على النهي يتوقف على وجود قرينة صارفة عن ظهور

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٦ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٤ وفيه «لا رأي في الدين».

٥٠٣

الجملة في كونها خبرية ، كما هي ثابتة في مثل قوله عليه‌السلام «يعيد صلاته» أو قوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(١) فانّ العلم بعدم جواز الكذب على المتكلم قرينة قطعية على إرادة النهي من الكلام. واما في المقام الممكن حمل القضية على الخبرية فلا موجب لرفع اليد عن الظهور بحمل النفي على النهي.

ثم ان الإضرار بالغير لما لم يكن جائزا في الشرائع السابقة ، ولا عند العقلاء ، فلا يمكن أن تكون هذه القضية من قبيل القسم الثالث من موارد استعمالات هذا التركيب كما في قوله عليه‌السلام «لا مناجشة في الإسلام» ، وعليه فلا وجه لما أصر عليه شيخ الشريعة الأصفهاني قدس‌سره من كون النفي فيما نحن فيه مستعملا في النهي حقيقة (٢).

وأما الاحتمال الثاني ، وهو كون القضية مسوقة لنفي الحكم بلسان نفي موضوعه ، فهو أيضا غير صحيح ، لأن المنفي في المقام بما أنه عنوان الضرر فلو كان النفي نفيا للحكم بلسان نفي موضوعه لزم أن يكون المنفي نفس الأحكام المترتبة على الضرر ، ولازمه جواز الإضرار بالغير ، لعدم كونه إضرارا تشريعا ، وهذا يؤدي إلى خلاف المقصود. مضافا إلى أن عنوان الضرر لو كان موضوعا أو جزء موضوع لحكم من الأحكام امتنع أن يكون رافعا له ، فان موضوع الحكم بمنزلة المقتضى له ، فكيف يعقل أن يكون مانعا عنه. وبالجملة نفي الحكم بلسان نفي موضوعه انما يكون فيما إذا كان عموم دليل أو إطلاق شاملا لمورد ، ليكون دليل النفي ناظرا إلى نفي شموله له بنفي انطباق موضوعه عليه. وأما فيما إذا كان المنفي مثل عنوان الضرر ، فلا معنى لنفي الحكم الثابت له بعنوانه وهو الحرمة ، لما عرفت.

فان قلت : هذا انما يتم فيما إذا كان المنفي نفس عنوان الضرر وأما إذا كان المنفي هو فعل المكلف المعنون بالضرر ، فنفيه يستتبع نفي الحكم الثابت لنفس الفعل ، فيقيد

__________________

(١) البقرة : ١٩٧.

(٢) قاعدة لا ضرر : ٢٥.

٥٠٤

به إطلاق الدليل أو عمومه المثبت لذلك الحكم ، فيتم كون القضية مسوقة لنفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

قلت : الضرر ليس عنوانا للفعل الخارجي ومما يحمل عليه بالحمل الشائع ، بل هو مسبب عنه ومترتب عليه ، فما هو موضوع الحكم لم يرد عليه النفي في القضية ، وما ورد عليه النفي يستحيل رفع حكمه كما عرفت. اللهم إلّا أن يقال : ان القضية مسوقة لنفي السبب بنفي مسببه ، وقد أريد بنفي السبب نفي حكمه ، ولكن من الواضح ان مثل هذا الاستعمال لو صح فهو خلاف الظاهر ، بل لم يعهد مثله أبدا.

فان قيل : أليس الرفع في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «رفع الخطأ والنسيان» رفعا للحكم المتعلق بالفعل الصادر حالهما ، ونفيا للحكم بلسان رفع موضوعه ، فليكن الأمر في المقام كذلك ، وعليه فالمنفي هو حكم الفعل الصادر حال الضرر بلسان نفي موضوعه.

قلت : أولا : ان الرفع المتعلق بالخطإ والنسيان في الشريعة المقدسة يمكن أن يكون من قبيل القسم الثالث من الأقسام المذكورة في استعمال هذا التركيب ، فيكون المنفي حينئذ الحكم الثابت لهما في الشرائع السابقة من التحريم المترتب عليه استحقاق العقاب ، فان الخطأ والنسيان وان لم يمكن الزجر عنهما ابتداء ، إلّا أنه يمكن الزجر عنهما بإيجاب التحفظ لأن لا يقع الإنسان فيهما ، وعليه فلا وجه لقياس النفي في المقام برفعهما في الشريعة.

وثانيا : لو سلمنا ان المرفوع في الموردين حكم الفعل الصادر عن خطاء أو نسيان ، فالالتزام به انما هو لأجل انه لا معنى لرفعهما في الشريعة إلّا ذلك ، وهذا بخلاف المقام ، إذ يمكن فيه أن يتعلق النفي بنفس الضرر ليكون مفاده نفي الحكم الضرري كما ذكرنا.

وثالثا : ان نسبة الخطأ والنسيان إلى الفعل كنسبة العلة إلى معلولها ، فيصح أن

٥٠٥

يكون النفي نفيا للمعلول بلسان نفي علته ، فالفعل الصادر في الحالين كأنه لم يصدر في الخارج ، فيرتفع عنه الحكم لا محالة. وهذا بخلاف عنوان الضرر ، فانه معلول للفعل ومترتب عليه خارجا ، ولم يعهد في الاستعمالات المتعارفة أن يكون النفي في الكلام متعلقا بالمسبب وقد أريد به نفي سببه ليترتب عليه انتفاء حكمه ، ولو سلم صحة مثل هذا الاستعمال فلا ينبغي الريب في أنه خلاف الظهور جدا ، لا يصار إليه من دون قرينة.

فتلخص من جميع ما ذكرناه أن الحق في المقام هو ما ذهب إليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره ، من أن دليل لا ضرر ناظر إلى مقام التشريع ، ودال على نفي الحكم الضرري ، سواء كان الحكم بنفسه ضرريا أم كان الضرر ناشئا من متعلقه.

الجهة الثالثة : في بيان انطباق نفي الضرر على ما ذكر في قضية سمرة : ربما يقال : ان ما ورد في قضية سمرة من نفي الضرر لا يمكن الاستدلال به في غير مورده ، وذلك لأن الضرر في تلك القضية لم يكن إلّا في دخول سمرة على الأنصاري بغير استئذان. واما بقاء عذقه في البستان فلم يكن يترتب عليه ضرر أصلا ، ومع ذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلع العذق والرمي به إليه فالكبرى المذكورة فيها لا ينطبق على موردها ، فضلا عن الاستدلال بها في غيره.

وأجاب عنه شيخنا الأنصاري رحمه‌الله ، بأن الجهل بكيفية انطباق الكبرى على موردها لا يضر بصحة الاستدلال بها فيما علم انطباقها عليه (١).

وما ذكره وان كان وجيها في نفسه ، إلّا أنه يمكن أن يقال : ان ما يستفاد من الرواية أمران : أحدهما : عدم جواز دخول سمرة على الأنصاري بغير استئذانه. الثاني : حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلع العذق والرمي به إليه ، والإشكال المزبور يبتني على أن

__________________

(١) رسائل فقهية للشيخ الأنصاري : ١١١.

٥٠٦

يكون الحكم الثاني بخصوصه أو منضما إلى الأول مستندا إلى نفي الضرر في الشريعة. واما إذا كان المستند إليه خصوص الحكم الأول ، وكان الحكم الثاني من جهة ولايته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أموال الأمة وأنفسهم دفعا لمادة الفساد ، كما ذكره المحقق النائيني (١) ، أو تأديبا له لقيامه مقام المعاندة واللجاج ، كما يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اقلعها وارم بها وجهه» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له «فاغرسها حيث شئت» فانهما ظاهران في غضبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سمرة ، وانه في مقام التأديب والتحقير ، فالإشكال مندفع من أصله.

ثم ان المحقق النائيني ذكر في المقام جوابا آخر حاصله (٢) : ان دخول سمرة على الأنصاري بغير استئذان إذا كان ضرريا فكما يرتفع هو بنفي الضرر ، كذلك ترتفع علته التي هي ثبوت حق لسمرة في إبقاء نخلته في البستان ، ونظير ذلك ما إذا كانت المقدمة ضررية ، فانه كما ينتفي بذلك وجوب المقدمة ، كذلك ينتفي به وجوب ذي المقدمة ، فلا مانع من سقوط حق سمرة لكون معلوله ضرريا.

ولا يخفى عليك ان كون المعلول ضرريا لا يوجب إلّا ارتفاع نفسه دون علته ، فانه بلا موجب ، فإذا كانت إطاعة الزوجة لزوجها ضررية لا يرتفع بذلك إلّا وجوب نفسها ، واما الزوجية التي هي علة لوجوب الإطاعة فلا مقتضى لارتفاعها أصلا. كما انه إذا اضطر أحد إلى شرب النجس ، فالمرتفع بالاضطرار انما هو حرمته دون نجاسته التي هي علة الحرمة ، والالتزام بارتفاع العلة في المثالين ونظائرهما يستلزم تأسيس فقه جديد. وقياس المقام بكون المقدمة ضررية الموجب لارتفاع وجوب ذي المقدمة قياس مع الفارق ، ضرورة ان كون المقدمة ضررية مستلزم لكون ذي المقدمة ضرريا لا محالة ، سواء قلنا بوجوب المقدمة أم لم نقل به ، فالمرتفع ابتداء انما هو وجوب ذي المقدمة ، لكونه ضرريا بنفسه ، ولا ربط له بانتفاء العلة بارتفاع معلولها.

__________________

(١ ، ٢) منية الطالب : ٢ ـ ٢٠٩.

٥٠٧

تنبيهات قاعدة لا ضرر :

وينبغي التنبيه على أمور :

التنبيه الأول : انه بناء على ما ذكرنا من كون الدليل ناظرا إلى نفي تشريع الحكم الضرري ، فكل مورد كان الترخيص فيه مستلزما لضرر الغير لم يكن مجعولا ، فيستفاد من الحديث حرمة الإضرار بالغير ، كما يستفاد منه نفي سائر الأحكام الضررية بجامع واحد من دون استلزام ذلك لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.

التنبيه الثاني : ان الضرر كسائر العناوين الكلية انما يثبت له الحكم المجعول في الشريعة عند تحقق مصداقه في الخارج ، ففي كل مورد لزم من جعل الحكم تضرر المكلف نحكم بعدمه دون غيره مما لا يلزم من جعله الضرر ، فإذا فرضنا ان الوضوء في زمان ضرري على نوع المكلفين ولم يكن ضرريا على شخص أو اشخاص معدودة لا يحكم بعدم وجوبه إلّا لمن يتضرر به دون غيره.

ومن هنا يظهر أن النزاع في ان الاعتبار في شمول لا ضرر هل هو بالضرر النوعيّ نزاع لا معنى له ، فانه لو صح القول بأن الاعتبار بالضرر النوعيّ لصح القول بأن الاعتبار في موارد رفع الخطأ والنسيان وما لا يطاق بنوعية هذه الأمور لا بشخصيتها ، وهذا مما لا يتفوه به فقيه.

فان قلت : على ما ذكرت لا يمكن الحكم بثبوت الخيار للشفيع والمغبون على الإطلاق ، فان الضرر في موردهما غالبي لا دائمي ، وبذلك يستكشف ان الاعتبار بالضرر النوعيّ دون الشخصي.

قلت : انما يصح ما ذكرت لو كان مدرك ثبوت الخيار في المقامين دليل لا ضرر ، ولكن الأمر ليس كذلك ، لما تقدم من أن الضرر في مورد الغبن وبيع الشريك لو كان فهو في نفس البيع ، فلو كان دليل لا ضرر شاملا لمثله لزم الحكم بفساد

٥٠٨

البيع ، فانه الموجب للضرر ، واما الحكم باللزوم فلا ضرر فيه بنفسه ، بل هو حكم بالالتزام بالضرر وإبقاء له ، كما أن الخيار حكم بتدارك الضرر ورفعه ، ولا يستفاد من الحديث إلّا نفي الحكم الضرري ، لا ثبوت التدارك له بعد تحققه ، بل المدرك للخيار في مورد الشفعة الروايات الخاصة الواردة فيه ، وفي مورد الغبن تخلف الشرط الارتكازي الثابت في المعاملات العقلائية من تساوي العوضين من حيث المالية ، ليكون التبديل واردا على شخصيهما مع التحفظ على المالية ، فإذا فرضنا أن المالية لم تكن محفوظة لنقصان أحدهما عن الآخر في القيمة ثبت الخيار لتخلف الشرط ، وتفصيل الكلام في محله. وقد مر أن ذكر حديث لا ضرر متصلا بقضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة في رواية عقبة ابن خالد انما هو من قبيل الجمع في الرواية لا في المروي ، ولو سلم كونه من باب التطبيق والجمع في المروي لزم الحكم بكونه من باب الحكمة دون العلة. وكيف كان لا ينبغي الشك في ان الاعتبار في غير مورد النص بالضرر الشخصي دون النوعيّ.

التنبيه الثالث : ذكر الشيخ الأنصاري قدس‌سره أن كثرة التخصيصات الواردة على قاعدة نفي الضرر موهنة للتمسك بها في غير الموارد المنصوصة ، فان الخارج من عمومها يعادل أضعاف ما بقي تحته (١) توضيح ذلك : أن الأحكام المجعولة في أبواب الحدود والدّيات والقصاص والتعزيرات والضمانات كلها ضررية ، كما أن تشريع الخمس والزكاة والحج والجهاد كذلك ، مع أنها مجعولة بالضرورة ، ومن هذا القبيل الحكم بنجاسة ملاقي النجاسة فيما كان مسقطا لماليته أو منقصا لها ، مع أنه ثابت بلا إشكال ، وعليه فلا مناص من الالتزام بكون الضرر المنفي في الشريعة ضررا خاصا غير شامل لهذه الموارد ، ولازم ذلك هو الالتزام بكون مدلول الحديث مجملا غير

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٣٧ (ط. جامعة المدرسين).

٥٠٩

قابل للاستدلال به إلّا في موارد انجباره بعمل المشهور ونحوه.

وقد أجاب الشيخ رحمه‌الله عنه بان التخصيص في هذه الموارد يمكن أن يكون بجامع واحد ، ولا قبح في التخصيص بعنوان واحد ، ولو كان أفراده أكثر من أفراد الباقي تحت العام ، وعليه فلا مانع من التمسك بالعموم في موارد الشك في التخصيص.

والتحقيق أن يقال : ان دليل العموم إذا كان ناظرا إلى الخارج وكان من قبيل القضايا الخارجية فلا فرق في قبح تخصيص الأكثر بين كونه بعنوان واحد أو بعناوين عديدة ، فإذا فرض ان علماء البلد على كثرتهم ليس فيهم إلّا هاشمي واحد ، وأراد المولى إيجاب إكرامه فقط ، فكما لا يصح التعبير عن مراده بقوله «أكرم كل عالم في البلد إلّا زيدا وعمرا وبكرا» وهكذا إلى أن يستوعب الجميع غير الهاشمي ، كذلك لا يصح التعبير عنه بقوله «أكرم علماء البلد إلّا من لم يكن هاشميا» وذلك ظاهر لمن راجع الاستعمالات المتعارفة عند أهل العرف. نعم لو كان العموم بنحو القضية الحقيقية أمكن القول بعدم الاستهجان بكثرة أفراد المخصص خارجا ، فان القضية الحقيقية قضية لم يلحظ فيها الخارج إلّا على نحو الفرض من باب التخصيص في القاعدة دون التخصص.

بيان ذلك : ان حكم الشارع في أبواب الحدود والدّيات والقصاص وان كان ضرريا ، إلّا أن دليل لا ضرر لا يتكفل برفعه ، فان نفي الحكم الضرري حكم ورد امتنانا على الأمة ، ومن الظاهر أن نفي الحكم في هذه الموارد يستلزم الإضرار لشخص آخر ، فإذا أتلف أحد مال غيره فالحكم بضمانه وان كان ضرريا بالإضافة إليه ، إلّا ان نفي الضمان يوجب تضرر المالك ، فلا يتكفل الحديث الوارد في مقام الامتنان على الأمة ذلك. واما وجوب الخمس أو الزكاة فتشريعه لا يكون ضررا على أحد ، فان الشارع لم يعتبر المالك مالكا في مقدار الزكاة والخمس ، بل اعتبره

٥١٠

شريكا مع السادة أو الفقراء ، فبابه باب قلة النّفع ، وهو أجنبي عن الضرر المفسر بالنقصان كما عرفت. نعم في موارد وجوب الزكاة فيما ملكه الإنسان سابقا ، كما إذا ملك مائتين وعشرة دراهم ومضى عليها سنة ، فأدى زكاته ، وهي خمس دراهم وربع درهم ، ثم أبقى الباقي عنده حتى مضت عليه سنة أخرى ، فوجب عليه إخراج زكاته ثانيا كان هذا الحكم ضرريا لا محالة ، لكنك ستعرف ان هذا ليس تخصيصا للقاعدة أيضا. وأما وجوب الحج أو الجهاد فهو وان كان ضرريا إلّا أن دليل لا ضرر لا يعم إلّا ما كان الحكم الشرعي ضرريا اتفاقا ، واما إذا كان الحكم في نفسه وطبعه ضرريا فهو غير مشمول له أصلا ، والشاهد على ذلك أن وجوب الحج والجهاد وغيرهما من الأحكام الضررية كانت ثابتة عند صدور هذا الكلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قضية سمرة ومع ذلك لم يعترض عليه أحد من الصحابة بجعل هذه الأحكام في الشريعة. وبذلك يظهر لك الجواب عن وجوب الزكاة وعن التعزيرات ، بل هو جار في جميع الموارد المتقدمة ، فمع الإغماض عما قدمناه من الجواب كان هذا جوابا عن الجميع. نعم لو استلزمت هذه الأحكام الضررية في أنفسها ضررا آخر مغايرا لما يقتضيه طبعها صح التمسك بحديث لا ضرر لنفي ذلك ، والوجه فيه ظاهر.

وأما الحكم بنجاسة الملاقي للنجس فيما تعذر تطهيره أو استلزم نقصا في ماليته فكونه ضرريا يتوقف على شمول عنوان الضرر للنقص في المالية أيضا ، وهو وان كان قريبا جدا إلّا أن تخصيص القاعدة بذلك كتخصيصه بوجوب شراء ماء الوضوء ولو بأضعاف قيمته ، وبوجوب غسل المريض إذا تعمد الجنابة ولو تضرر بذلك على قول ، لا يوجب تخصيص الأكثر ، المانع عن التمسك بالقاعدة في موارد الشك.

فتحصل مما ذكرناه ان ما ذكر من الموارد تخصيصا للقاعدة يدور أمره بين ما لا يكون تخصيصا وما لا يلزم من التخصيص به تخصيص الأكثر.

٥١١

التنبيه الرابع : ان النسبة بين دليل لا ضرر وبين كل واحد من الأدلة المثبتة للأحكام عموم من وجه ، مثلا إطلاق دليل وجوب الوضوء يقتضي وجوبه حتى في حال الضرر ، كما أن إطلاق دليل لا ضرر لمورد الوضوء ينفي وجوبه حال الضرر ، فالوضوء الضرري مورد للنفي والإثبات بمقتضى إطلاق الدليلين ، ومن ثم وقع الكلام في وجه تقدم دليل لا ضرر على إطلاق الدليل المثبت للحكم.

وقد ذكر في وجه التقدم وجوه.

الأول : ان الموجب للتقدم عمل المشهور به في مورد المعارضة ، فيكون الترجيح بالشهرة ، ومع قطع النّظر عن الترجيح بها فالحكم هو التساقط ، والرجوع إلى الأصل الجاري في المقام ، فيحكم بعدم وجوب ما دل الدليل على وجوبه بالإطلاق ، فتكون النتيجة نتيجة تقدم دليل لا ضرر على الدليل المعارض له.

وفيه : أنه لو فرض التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه لم تكن مطابقة أحدهما لفتوى المشهور مرجحا له ، فان الشهرة المرجحة في باب التعارض انما هي الشهرة في الرواية دون الفتوى ، وقد تقدم بيانه في بحث حجية الشهرة ، ولا معنى لادعائها في العامين من وجه. واما الحكم بالتساقط والرجوع إلى الأصل فهو وان كان مقتضى القاعدة فيما إذا كان التعارض بالعموم من وجه ، وكان العموم مستفادا من الإطلاق ومقدمات الحكمة على ما سيجيء بيانه إن شاء الله ، إلّا ان ذلك لا يترتب عليه إلّا نفي التكليف المتكفل به الدليل المعارض لقاعدة لا ضرر ، وهذا لا يكفي في إثبات حكم آخر مترتب على ترجيح القاعدة من وجوب التيمم ونحوه.

الثاني : ان دليل لا ضرر إذا لوحظ مع كل من الأدلة المثبتة للتكليف فالنسبة بينهما وان كانت عموما من وجه ، إلّا أنه إذا لوحظ مع مجموع الأدلة المثبتة للأحكام فالنسبة بينهما عموم مطلق ، فيخصص به تلك الأدلة ، ويتقدم عليها لا محالة.

٥١٢

وفيه : أنه لا موجب لفرض جميع الأدلة بمنزلة دليل واحد وملاحظة النسبة بينها وبين دليل لا ضرر ، فان المعارضة انما هي بينه وبين كل واحد منها لا مجموعها.

الثالث : ان الموجب للترجيح هو أن تقديم دليل لا ضرر على تلك الأدلة لا يستلزم إلّا التخصيص فيها ، واما تقديمها عليه بأجمعها فهو يستلزم أن لا يبقى مورد لدليل لا ضرر أصلا ، وأما تقديم بعضها عليه دون بعض فترجيح بلا مرجح.

وفيه : ان نسبة دليل نفي الضرر مع الأدلة المثبتة للأحكام في مواردها بما انها عموم من وجه ، فبناء على ما هو المختار من ان الدليلين المتعارضين بالعموم من وجه إذا كان العموم في أحدهما مستندا إلى الوضع وفي الآخر إلى مقدمات الحكمة يتقدم ما يكون عمومه بالوضع على الآخر ، وإذا كان كل منهما بالإطلاق يتساقط الظهوران ، فيرجع إلى عموم أو إطلاق غيرهما ، أو إلى أصل عملي ، فلا بد من النّظر إلى الدليل المعارض لدليل نفي الضرر ، فان كان عمومه بالإطلاق فيسقط الظهوران ويرجع إلى الأصل العملي ، فتكون النتيجة نتيجة نفي الضرر من حيث نفي الحكم الإلزامي ، واما إذا كان عموم الدليل وضعيا ، فيتقدم على دليل نفي الضرر ، وعلى ذلك فلا بد من التفكيك بين الموارد من دون لزوم الترجيح بلا مرجح.

واما بناء على ما سلكه غير واحد من الرجوع إلى المرجحات السندية في معارضة العامين من وجه مطلقا ، فلا بد من النّظر في كل واحد من الأدلة المعارضة لدليل نفي الضرر ، فما كان منها أقوى سندا منه يقدم عليه ، وما كان أضعف منه يترك العمل به ، وما كان مساويا معه يتخير بينهما ، وتمام الكلام في محله ، وعليه أيضا لا يكون الترجيح بلا مرجح. وبالجملة لو سلمت المعارضة بين دليل نفي الضرر وأدلة الأحكام لم يكن وجه لتقدمه عليه ببطلان الترجيح بلا مرجح.

الرابع : ما ذكره في الكفاية (١) من ان الجمع العرفي يقتضي تقديم دليل نفي

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٦٩.

٥١٣

الضرر المتكفل بتشريع الحكم لعنوان ثانوي ، فتحمل الأدلة المثبتة للأحكام للعناوين الأولية على بيان الأحكام الاقتضائية ، وهذا جار في كل ما تحققت المعارضة بين دليل مثبت للحكم بعنوان أولي مع دليل آخر متكفل ببيان حكم لعنوان ثانوي ، فإذا لاحظ العرف إطلاق دليل وجوب الوضوء لحال الضرر مع دليل نفي الضرر يستكشف منهما ان في الوضوء مقتضى لجعل الوجوب ، وكونه ضرريا مانع عن ذلك ، فيتحصل منهما عدم الوجوب الفعلي في مورد الضرر.

وفيه : انه ان أريد بالحكم الاقتضائي ما يكون من سنخ الحكم المجعول حقيقة ، ومع ذلك كان اقتضائيا غير مشتمل على البعث أو الزجر ، فقد ذكرنا في محله انه لا نتعقل له معنى صحيحا ، فان الأحكام المجعولة في الشريعة كلها مجعولة بنحو القضية الحقيقية ، فيستحيل عدم فعليتها مع تحقق موضوعها خارجا. هذا مضافا إلى ان تلك الأحكام ان كانت اقتضائية في غير موارد الضرر أيضا فما هو الموجب لامتثالها ، وان كانت فعلية فيها فكيف يعقل أن يكون الدليل الواحد متكفلا لبيان حكم واحد قد يكون فعليا وقد يكون اقتضائيا باختلاف موارده.

وان أريد بالحكم الاقتضائي مجرد اشتمال الفعل على الملاك ، بأن يكون إيجاب شيء مثلا في الحقيقة اخبارا عن اشتمال ذلك الفعل على المصلحة الملزمة ، فيرد عليه.

أولا : ان الجمع العرفي لا يساعد على حمل القضية الإنشائية على القضية الخبرية بالوجدان.

وثانيا : ان لازم ذلك عدم وجوب امتثال الأحكام في غير موارد الضرر ، فان وجود المصلحة الإلزامية فيها وان كان ثابتا بالدليل إلّا أنه يحتمل عدم التكليف لمانع لا نعلمه ، فالتكليف مشكوك فيه ، فما الموجب للزوم الامتثال فيها.

والتحقيق في المقام ان يقال : انه لا معارضة بين دليل نفي الضرر وأدلة

٥١٤

الأحكام ، بل هو حاكم عليها ، والدليل الحاكم يتقدم على الدليل المحكوم من دون ملاحظة النسبة بينهما ، وتوضيح ذلك يحتاج إلى بيان أمرين :

الأول : ان دليل نفي الضرر حاكم على الأدلة المثبتة بعمومها أو إطلاقها للأحكام في مورد الضرر.

الثاني : ان الدليل الحاكم يتقدم على الدليل المحكوم ولو كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، أو كان المحكوم أقوى دلالة من الحاكم.

اما الأمر الأول : فبيانه ان كل دليل إذا لوحظ بالإضافة إلى دليل آخر ، ان لم يكن بينهما تناف في المدلول وأمكن الأخذ بظاهر كل منهما فلا إشكال. وان كان بينهما تناف ، ولزم رفع اليد عن ظهور أحدهما ، فان لم يكن أحدهما ناظرا إلى الآخر ، بل كان التنافي بينهما لمجرد عدم إمكان اجتماع مدلوليهما خارجا فهما من المتعارضين ، فلا بد في مثله من الرجوع إلى قواعد التعارض ، من تقديم الأقوى منهما دلالة أو سندا ، أو التخيير ، أو التساقط على اختلاف الموارد. وأما إذا كان أحدهما ناظرا إلى الآخر بحيث لو لم يكن الآخر مجعولا أصلا كان جعله لغوا ، فهو حاكم على الدليل الآخر ومبينا للمراد منه.

ثم ان النّظر إلى الدليل الآخر قد يكون مدلولا مطابقيا للدليل الحاكم ، كما في قوله عليه‌السلام حينما سئل عن قوله «الفقيه لا يعيد الصلاة» (١) انما عنيت بذلك الشك بين الثلاث والأربع. وهذا القسم من الحكومة في الروايات نادر جدا. وقد يكون مدلولا التزاميا له ، تارة : بالتصرف في عقد الوضع وبيان المراد به سعة أو ضيقا ، كما في قوله عليه‌السلام «الطواف في البيت صلاة» (٢) وقوله عليه‌السلام «لا سهو للإمام إذا حفظ عليه من خلفه» (٣) فانهما يكشفان عن كون شرائط الصلاة عامة للطواف أيضا ، وانّ أحكام

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٥ ـ باب ١ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٥.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي : ٥ ـ ٨٧.

(٣) التهذيب : ٣ ـ ٥٤.

٥١٥

السهو خاصة بغير الإمام إذا حفظ عليه المأمور. وهذا القسم من الحكومة كثير في الروايات. وأخرى : بالتصرف في عقد الحمل ، كما في المقام ، وفي دليل نفي الحرج ، فانهما ناظران إلى أدلة الأحكام ، وان كل حكم مجعول في الشريعة قبل ورودهما أو مجعول بعدهما مختص بغير موارد الضرر أو الحرج ، فالحكم الحرجي أو الضرري غير مجعول في الشريعة المقدسة ، ولا يجعل أبدا.

وبذلك ظهر ان الميزان في الحكومة كون أحد الدليلين ناظرا إلى الدليل الآخر ومتأخرا عنه رتبة ، سواء في ذلك تأخره عنه زمانا وعدمه. ولا وجه لما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من اعتبار التأخر زمانا في الدليل الحاكم (١) كما هو ظاهر.

واما الأمر الثاني : فبيانه أن الدليل الحاكم إذا كان ناظرا إلى عقد الوضع في الدليل المحكوم فالوجه في تقدمه عليه ظاهر ، فان كل دليل مثبت للحكم على تقدير وجود موضوعه لا يكون ناظرا إلى تحقق موضوعه خارجا ، فإذا فرض دليل كان مدلوله نفي موضوع الآخر لم يكن بينهما تناف وتعارض أبدا ، مثلا لا يكون دليل حرمة الرّبا ناظرا إلى مورد تحقق الرّبا ، بل غاية مدلوله إثبات الحرمة له على فرض تحققه ، فإذا ورد انه لا ربا بين الوالد والولد فهو ينفي ما لا يثبته الدليل الأول ، فيتقدم عليه لا محالة.

وان شئت قلت : ان الحكم في الدليل الأول مجعول على نحو القضية الشرطية من دون تعرض لتحقق الشرط وعدمه ، والثابت بالدليل الثاني انتفاء الشرط ، فهو انتفاء الحكم بانتفاء شرطه ، فلا تنافي بينهما ، بل مقتضى الجمع بينهما هو اختصاص الدليل الأول بغير موارد الدليل الثاني.

واما إذا كان الدليل الحاكم ناظرا إلى عقد الحمل من المحكوم ، فالوجه في

__________________

(١) منية الطالب : ٢ ـ ٢١٤.

٥١٦

تقدمه عليه هو الوجه في تقدم كل دليل على الأصول اللفظية والعملية ، وتوضيحه : أن ثبوت الأحكام في موارد كونها ضررية أو حرجية انما هو بالإطلاق أو بأصالة العموم ، وكل منهما أخذ في موضوعه الشك في المراد ، فإذا ثبت بالدليل ان الحكم الضرري أو الحرجي غير مجعول في الشريعة ، فهو بنفسه رافع للشك في المراد ، وهذا هو السر في عدم ملاحظة النسبة بين دليلي الحاكم والمحكوم ، وفي تقدم كل قرينة على ظهور ذي القرينة ولو كان ذو القرينة أقوى ظهورا من قرينته ، كما في قضية : رأيت أسدا يرمي ، فان ظهور لفظ الأسد في الحيوان المفترس وان كان وضعيا إلّا أنه يرفع اليد عنه بظهور (يرمي) في رمي النبل ولو كان بالإطلاق ، لكون ما أتى به قرينة مبينة للمراد.

ومما ذكرناه يظهر أنه لو ورد دليل ظاهر في كونه واردا لبيان الحكم الواقعي ثم ورد دليل آخر دل على ان الحكم الأول كان لأجل التقية قدم الثاني ، ولا يعامل معهما معاملة المتعارضين ، وتمام الكلام في المقام موكول إلى محله.

التنبيه الخامس : ان لفظ الضرر الوارد في أدلة نفي الضرر موضوع للضرر الواقعي ، كما هو الحال في بقية الألفاظ الموضوعة للمعاني الواقعية ، ومقتضى ذلك أن يكون الاعتبار في نفي الحكم بكونه ضرريا في الواقع ، سواء علم المكلف به أم لم يعلم ، وهذا مما لا إشكال فيه في الجملة. إلّا أنه ربما يستشكل بذلك في موردين.

أحدهما : تقييد الفقهاء خياري العيب والغبن بما إذا جهل المغبون غبنه ، وأما مع العلم بهما فلا يحكم بالخيار ، فيسأل حينئذ عن وجه التقييد ، مع أن دليل نفي الضرر ناظر إلى الضرر الواقعي من دون فرق بين العلم والجهل به.

ثانيهما : تسالم الفقهاء ظاهرا على صحة الطهارة المائية مع جهل المكلف بكونها ضررية ، مع أن مقتضى دليل نفي الضرر عدم وجوبها على المكلف حينئذ

٥١٧

وانتقال وظيفته إلى الطهارة الترابية.

والتحقيق ان يقال : ان الإشكال في المورد الأول مبني على أن يكون دليل الخيار في موارد الغبن والعيب دليل نفي الضرر ، وقد ذكرنا في محله انه لم يثبت الخيار في شيء من موارده بدليل نفي الضرر ، بل الدليل على ثبوت خيار الغبن ما أشرنا إليه فيما تقدم من بناء العقلاء في معاملتهم على حفظ مالية أموالهم مع التبدل في أشخاصها ، وهذا شرط ضمني ارتكازي في كل معاملة غير مبنية على التسامح ، وبتخلفه يثبت الخيار ، لتخلف الشرط ، وعلى هذا يكون علم المغبون بغبنه واقدامه على المعاملة الغبنية إسقاطا منه للشرط المزبور ، فلا إشكال. وأما خيار العيب فالدليل عليه ان كان تخلف الشرط الضمني ، بتقريب : ان المعاملات العقلائية مبنية على أصالة السلامة في العوضين ، فإذا ظهر العيب فيهما ثبت الخيار لتخلف الشرط ، فالحال فيه يظهر مما تقدم. وأما إذا كان الدليل عليه الروايات الواردة فيه ، فالوجه في تقييده بحال الجهل ظاهر بعد تقييده به في نفس تلك الروايات. وعلى كل حال لا إشكال في التقييد المزبور.

وأما الإشكال في المورد الثاني ، فيدفعه أن ورود دليل نفي الضرر في مقام الامتنان قرينة قطعية على عدم شموله للمقام ، فان نفي الحكم عن الطهارة المائية الضررية الصادرة حال الجهل ، الملازم لفساد ما أتى به وللأمر بالتيمم ، بل لإعادة العبادة المشروطة بالطهارة الواقعة معها مخالف للامتنان ، فلا يشمله الدليل. ونظير ذلك قد تقدم من ان حديث الرفع الوارد في مقام الامتنان لا يرفع به صحة البيع المضطر إليه ، لكونه خلاف الامتنان.

وقد ذكر المحقق النائيني ما حاصله (١) : ان الإشكال مبني على ما ذكره في

__________________

(١) منية الطالب : ٢ ـ ٢١٥.

٥١٨

الكفاية من ان معنى الحديث هو رفع الحكم عن الموضوعات الضررية. وأما على ما اخترناه من ان معناه نفي الحكم الضرري في عالم التشريع فالإشكال مندفع من أصله ، لأن الضرر في موارد الجهل به لم ينشأ من الحكم الشرعي ليرفع بالدليل المزبور ، وانما نشأ من جهل المكلف به خارجا ، ومن ثم لو لم يكن الحكم ثابتا في الواقع لوقع في الضرر أيضا.

ويرد عليه : ان الاعتبار في دليل نفي الضرر انما هو بكون الحكم في نفسه أو بامتثاله ضرريا ، ولا ينظر في ذلك إلى الضرر المتحقق في الخارج وانه نشأ من أي سبب ، ومن الظاهر ان الطهارة المائية في المثال لو كانت واجبة في الشريعة لصدق أن الحكم الضرري مجعول فيها ، وعليه فدليل نفي الضرر ينفي وجوبه لو لا ما ذكرناه من اختصاصه بموارد الامتنان.

ثم لا يخفى ان الحكم بصحة الطهارة المائية في فرض الجهل بالضرر يبتني على أحد أمرين.

الأول : ان لا يكون الإضرار بالنفس محرما ما لم يبلغ إلى إلقائها في التهلكة ، ولم يكن مما علم مبغوضيته في الشريعة كقطع الأعضاء ونحوه.

الثاني : ان لا يكون النهي المتعلق بالعنوان التوليدي متعلقا بما يتولد منه ، فالإضرار بالنفس وان فرض حرمته مطلقا إلّا ان حرمته بناء على ذلك لا تسري إلى الطهارة المائية التي يتولد منها عنوان الإضرار ، فلا مانع من الحكم بصحتها وان كان الإضرار المتولد منه حراما بالفعل.

واما إذا لم نقل بشيء من الأمرين فالطهارة المائية وان لم يشملها دليل لا ضرر إلّا ان حرمتها الواقعية مانعة عن اتصافها بالصحّة ، ولا يكون الجهل بالحرمة موجبا للتقرب بما هو مبغوض واقعا ، ومن هنا ذكرنا في بحث اجتماع الأمر والنهي انه بناء على الامتناع وتقديم جانب الحرمة لا يحكم بصحة العبادة ولو في حال

٥١٩

الجهل.

إذا عرفت ذلك فنقول : أما الأمر الثاني ، فقد ذكر غير مرة ان الصحيح فيه التفصيل ، فان العنوان التوليدي ان كان مما ينطبق على نفس ما ينطبق عليه العنوان المتولد بنظر العرف ، كعنوان الإيذاء والهتك ونحوهما ، فالحكم المتعلق بالعنوان التوليدي يتعلق بما يتولد منه لا محالة ، لوحدة الوجود خارجا ، فلا عبرة بتعدد العنوان حينئذ. واما إذا كان العنوان التوليدي مغايرا في الوجود مع ما يتولد منه ، كالإحراق المتولد من الإلقاء ، حيث انهما موجودان بوجودين ، ضرورة ان الملاقاة مغايرة مع الاحتراق خارجا ، فإيجاد كل منهما غير إيجاد الآخر ، فان الإيجاد والوجود متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار ، فلا يسري حرمة العنوان التوليدي إلى ما يتولد منه ، وحيث ان الإضرار الّذي هو من العناوين التوليدية من قبيل القسم الأول فحرمته عبارة أخرى عن حرمة ما يتولد منه ، فالحكم بالصحّة في مفروض المقام يدور مدار إثبات الأمر الأول.

وقد اختلف في ذلك الأنظار. وذكر الشيخ رحمه‌الله في رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر (١) أن الإضرار بالنفس كالإضرار بالغير محرم بالأدلة العقلية والسمعية.

ولكن التحقيق عدم ثبوت ذلك على إطلاقه ، إذ العقل لا يرى محذورا في إضرار الإنسان بنفسه بصرف أمواله كيف ما شاء ما لم يبلغ إلى حد السرف والتبذير ، ولا بإضرار نفسه بتحمل ما يضر بصحة بدنه فيما إذا ترتب عليه غرض عقلائي ، كما في سفر التجارة أو الزيارة ونحوه ، ولم يرد في الشرع ما يدل على تحريم الإضرار بالنفس مطلقا.

__________________

(١) رسائل فقهية للشيخ الأنصاري : ١١٦.

٥٢٠