دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

الأول : المنع عن شمول أدلة الاستصحاب لمثل المقام ، بدعوى أنها لا تشمل إلّا ما كان اليقين سابقا على الشك زمانا ، والمقام ليس كذلك.

ويظهر الجواب عن ذلك بما سيجيء في بحث الاستصحاب من أن الاعتبار في جريانه إنما هو بتقدم زمان المتيقن على زمان المشكوك ، من دون فرق بين حدوث الوصفين معا وبين حدوث اليقين قبل الشك وعكسه.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره من ان جريان الاستصحاب متوقف على كون الواقع المشكوك فيه أثرا شرعيا أو ذا أثر شرعي ، فإذا لم يكن في البين أثر شرعي أو كان الأثر مترتبا على نفس الشك المحرز وجدانا فلا معنى للاستصحاب حينئذ ، والمقام من هذا القبيل ، فان الأثر المرغوب فيه هو وجوب التعلم دفعا للضرر المحتمل ، ومن الظاهر أن وجوب دفع الضرر المحتمل مترتب على نفس احتمال الابتلاء ، واما واقع الابتلاء فليس له أثر شرعي ليتمسك بالاستصحاب للحكم بعدمه.

والجواب عنه : انه لا حاجة في جريان الاستصحاب إلى كون المستصحب مجعولا شرعيا أو ذا أثر شرعي ، بناء على هو الصحيح من كون المجعول في الاستصحاب هو الطريقية ، واعتبار بقاء اليقين السابق في ظرف الشك. نعم لا بد من وجود أثر عملي لهذا التعبد ، لئلا يلزم اللغوية ، وعليه فلا مانع من إجراء الاستصحاب ، وإحراز عدم الابتلاء فيما بعد ، فلا يجب التعلم ، لارتفاع موضوعه ، وهو احتمال الضرر بحكم الشارع.

ولكن التحقيق : عدم صحة جريان الاستصحاب في المقام ، فانّ الأدلة الخاصة الدالة على وجوب التعلم مانعة عن الرجوع إلى الاستصحاب المزبور ، لاستهجان تخصيصها بموارد العلم أو الاطمئنان بالابتلاء ، فيكون وجوب التعلم عند احتمال الابتلاء ثابتا بالدليل ، ومعه لا تصل النوبة إلى جريان الأصل العملي. هذا مع أن

٤٨١

الغالب في موارد احتمال الابتلاء وجود العلم الإجمالي بابتلاء المكلف فيما بقي من عمره بما لا يعلم حكمه وخصوصياته ، فالاستصحاب في كل محتمل يعارض جريانه في غيره. وما ذكرناه لا يبتني على تنجيز العلم الإجمالي في الأمور التدريجية ، فان الابتلاء بالوقائع وان كان تدريجيا إلّا أن أثره وهو وجوب التعلم أمر فعلي لا تدرج فيه. فتحصل بما ذكرنا أنه لا فرق في وجوب التعلم بين موارد إحراز الابتلاء فيما بعد وبين احتماله.

الأمر الرابع : قد ظهر مما تقدم أن الشاك في التكليف لو ترك الفحص ، واقتحم في الشبهة ، وصادف ارتكاب الحرام أو ترك الواجب ، يستحق العقاب على مخالفته بعد ثبوت وجوب الفحص طريقيا وتنجز الواقع به. وهذا فيما إذا كان الواقع بحيث لو تفحص المكلف لظفر به في غاية الوضوح.

واما فيما إذا لم يكن كذلك ، بل كان الواقع على نحو لا يصل المكلف إليه بعد الفحص أيضا ، ففي استحقاق العقاب بمخالفة الواقع حينئذ وعدمه إشكال. وقد اختار المحقق النائيني رحمه‌الله ثبوت الاستحقاق (١) بتقريب : أن مخالفة الواقع ما لم تكن مقرونة بالمؤمن شرعا أو عقلا موجبة لاستحقاق العقاب ، والمقام كذلك ، فان أدلة البراءة الشرعية قد خصصت بما بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل ، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان لا مجال لجريانها قبل قيام المكلف بما هو وظيفة العبودية من الفحص عن أحكام المولى ، بل الأمر كذلك فيما لو تفحص لظفر بدليل يدل على عدم ثبوت الحكم في الواقع ، فان الدليل المزبور لا يكون معذرا للمكلف في مخالفة الواقع إلّا مع الاستناد إليه في مقام العمل.

ومع عدم الاستناد إليه ، بل عدم العلم بوجوده كما هو المفروض تكون المخالفة

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٣٣٣.

٤٨٢

غير مقرونة بالعذر ، فيستحق العقاب عليها.

ولكن يمكن أن يقال : بجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في المقام وان لم يكن المكلف ملتفتا إليها في مقام العمل ، فانك قد عرفت فيما مرّ ان المراد بالبيان هو جعل التكليف على نحو يتمكن المكلف من الوصول إليه بوجه ، ومع عدم إمكان الوصول إليه كما هو المفروض فالبيان من قبل الشارع غير تام وان لم يحرزه المكلف ، ومعه يستقل العقل بقبح العقاب ، لأنه بلا مقتضى ، فغاية الأمر تجرّى المكلف باقتحامه الشبهة قبل الفحص ، فلو كان عقاب هو على التجري لا علي مخالفة الواقع.

اللهم إلّا أن يقال : أن أدلة وجوب الاحتياط والتوقف بناء على استفادة الوجوب الطريقي منها واردة على القاعدة المزبورة ، وموجبة لتنجز الواقع قبل الفحص. نعم إذا تفحص المكلف ولم يصل إلى الواقع جاز له الاقتحام وترك الاحتياط على ما تقدم.

الأمر الخامس : العمل الصادر من الجاهل المقصر قبل الفحص محكوم بالبطلان ظاهرا ، بمعنى أن العقل يستقل بعدم جواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ، لعدم إحراز مطابقته للواقع ، ولا فرق في ذلك بين المعاملات والعبادات إذا تأتى منه قصد القربة ، وأما مع عدمه فلا ينبغي الشك في البطلان واقعا ، هذا فيما إذا لم يتبين الحال. وأما إذا تبين ذلك فالصور أربع.

الأولى : ان تنكشف مخالفة المأتي به للواقع بفتوى من كان يجب الرجوع إليه حين العمل ومن يجب الرجوع إليه فعلا. ولا إشكال في بطلان العمل حينئذ.

الثانية : أن تنكشف موافقة العمل للواقع على فتوى كلا المجتهدين. ولا إشكال في صحة العمل حينئذ ، بلا حاجة إلى الإعادة أو القضاء.

الثالثة : أن تنكشف موافقته لرأي المجتهد الأول ، ومخالفته لرأي المجتهد الثاني. والظاهر فيها الحكم بالبطلان ، فان العامل ان كان في عمله مستندا إلى رأي

٤٨٣

من كان يجب عليه تقليده كان عمله محكوما بالصحّة بحديث لا تعاد ، أو غيره مما دل على عدم وجوب الإعادة أو القضاء. وأما فيما إذا لم يستند إليه فلا موجب للحكم بصحته ، مع فتوى المجتهد الفعلي ببطلان ذلك العمل.

الرابعة : أن تنكشف موافقته لرأي المجتهد الفعلي ، ومخالفته لفتوى المجتهد الأول. والظاهر فيها هو الحكم بالصحّة من دون حاجة إلى الإعادة أو القضاء ، والوجه في ذلك أن المجتهد الفعلي بعد حكمه بصحة العمل المزبور جاز لمقلده أن يستند إلى رأيه في تركه الإعادة والقضاء.

نعم إذا كان العمل مخالفا للواقع في نفس الأمر صح العقاب على مخالفته فيما إذا كان الاستناد إلى رأي المجتهد الفعلي في خصوص ترك القضاء فقط ، والسر فيه أن ترك الواجب الواقعي في الوقت يوجب عقابا غير العقاب المترتب على ترك قضائه في خارج الوقت ، ومن ثم لا يكون القضاء رافعا لعقاب العصيان في الوقت بالضرورة ، وعليه فترك القضاء استنادا إلى فتوى من لا يوجبه وان كان موجبا لعدم العقاب عليه ، إلّا أنه لا يوجب عدم العقاب على ترك الأداء مع فرض عدم استناده فيه إلى الحجة. ومما ذكرناه يظهر حكم المجتهد التارك للفحص أيضا.

ثم أنه قد استثنى مما ذكرناه مسألة الجهر والإخفات ، والقصر والإتمام. فقد ذهب المشهور إلى صحة الصلاة عند الجهر في موضع الإخفات وبالعكس ، وعند الإتمام في موضع القصر إذا كان ناشئا عن الجهل ولو تقصيرا ، وكذلك الصوم في السفر إذا كان منشؤه الجهل بالحكم ولو تقصيرا ، ومع ذلك التزموا باستحقاق العقاب على ترك الواقع الناشئ عن ترك الفحص وعدم التعلم. ومن ثم وقع الإشكال في الجمع بين الأمرين ، فانه كيف يعقل الحكم بصحة المأتي به وعدم وجوب الإعادة مع بقاء الوقت ، والحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب.

وقد أجيب عن ذلك بوجهين :

٤٨٤

الأول : ما ذكره في الكفاية (١) ، ولعله المراد مما أفاده شيخنا الأنصاري قدس‌سره في المقام (٢) وحاصله : انه يمكن أن يكون المأتي به حال الجهل مشتملا على مصلحة ملزمة في نفسه ، وان يكون الواجب الواقعي مشتملا على تلك المصلحة ، وزيادة لا يمكن تداركها عند استيفاء أصل المصلحة ، فالحكم بالصحّة إنما هو لاشتمال المأتي به على المصلحة وعدم إمكان استيفاء الباقي ، والحكم باستحقاق العقاب انما هو لأجل ان فوت المصلحة الزائدة مستند إلى التقصير في ترك التعلم ، مثلا يمكن أن يكون طبيعي الصلاة عند الجهل بوجوب القصر واجدة لمقدار من الملاك الملزم ، وكان خصوص الصلاة المقصورة مشتملة على زيادة لا يمكن استيفاؤها عند استيفاء أصل المصلحة ، فإذا صلى المكلف تماما مع جهله بالحكم ، وحصل منه قصد القربة حكم بصحة صلاته ، وبعدم وجوب الإعادة ، واستحقاق العقاب على تفويت الملاك الملزم من غير عذر.

ويرد عليه : أولا : ان التضاد بين الأفعال وان كان أمرا معقولا وواقعا في الخارج بالضرورة إلّا أن التضاد في الملاكات مع إمكان الجمع بين الفعلين في الخارج بعيد ، بل يكاد أن يلحق بأنياب الأغوال.

وثانيا : أن المصلحتين المفروضتين ، القائمة إحداهما بالطبيعي ، وثانيتهما بخصوص القصر مثلا ، ان كانتا ارتباطيتين فلا وجه للحكم بصحة المأتي به مع فرض عدم حصول المصلحة الثانية. وان كانتا استقلاليتين فلازمه تعدد الواجب ، وكون القصر مثلا واجبا في واجب ، ولازمه تعدد العقاب عند ترك أصل الصلاة ، وهو مناف للضرورة ولظواهر الاخبار.

الوجه الثاني : ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس‌سره من الالتزام بالترتب في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٢٣ (ط. جامعة المدرسين).

٤٨٥

المقام بتقريب : أن الواجب على المكلف ابتداء هو صلاة القصر ، وعلى تقدير تركه فالواجب هو الصلاة تماما ، فلا منافاة بين الحكم بصحة المأتي به وثبوت العقاب على ترك الواجب الأول.

ويرد عليه : أن لازم ذلك هو الالتزام بتعدد العقاب عند ترك الصلاة رأسا ، وقد عرفت عدم إمكان هذا ، مع أن ما ورد من الروايات المتظافرة من أن الواجب على المكلف في كل يوم خمس صلوات يكفي في إبطال القول بالترتب في المقام.

وقد أورد المحقق النائيني رحمه‌الله : على هذا الوجه بما حاصله (١) ، ان الترتب بين التكليفين ، وكون أحدهما في طول الآخر وان كان أمرا معقولا ، لا بد من الالتزام به في موارده على ما شيدنا أركانه في محله ، إلّا أنه لا يمكن الالتزام به في خصوص المقام لوجوه.

أولها : أن الخطاب المترتب لا بد من أن يكون موضوعه عصيان الخطاب المترتب عليه ، كما في مسألة الصلاة والإزالة ، ومن الظاهر أنه لا يمكن ذلك في المقام ، فان المكلف إذا التفت إلى كونه عاصيا للتكليف بالقصر انقلب الموضوع ، فيخرج عن عنوان الجاهل بالحكم ، فلا يحكم بصحة ما أتى به وأن لم يلتفت إلى ذلك ، فكيف يعقل أن يكون الحكم المجعول على هذا العنوان محركا له في مقام العمل؟!

ثانيها : ان وجوب الصلاة بما أنه غير موقت بوقت خاص ، بل هو ثابت موسعا بين المبدأ والمنتهى ، فعصيانه لا يتحقق إلّا بخروج الوقت وانقضائه ، وعليه فكيف يعقل تحقق العصيان في أثناء الوقت الّذي فرض موضوعا للحكم الثاني؟

ثالثها : ان الالتزام بالترتب ولو سلم إمكانه في المقام إلّا أنه لا دليل على

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ٢٩٣.

٤٨٦

وقوعه ، فالقول به قول بغير دليل ، وهذا بخلاف الالتزام بالترتب في موارد التزاحم ، فانك قد عرفت في محله أن القول بالترتب فيه مما يقتضيه إطلاق نفس الدليل من غير حاجة إلى التماس دليل آخر.

والصحيح في المقام أن يقال : انا لو أغمضنا عما ذكرناه من فساد القول بالترتب في المقام لا يرد عليه شيء من الوجوه المذكورة.

أما الوجهان الأولان ، فلما ذكرناه في محله من ان الالتزام بالخطاب الترتبي لا يتوقف على أن يكون موضوعه عصيان التكليف الآخر ، بل يصح ذلك مع كون الموضوع في أحدهما مطلق الترك ، فصح في المقام أن يقال : أن وجوب القصر وجوب مطلق ، ووجوب التمام مشروط بترك القصر مع عدم بلوغ وجوبه ، ومن الظاهر ان كلا هذين الأمرين قابل لأن يلتفت المكلف إليه بلا انقلاب في الموضوع ، فتأمل.

واما الوجه الأخير : فيرده أن صحة العمل المأتي به مفروغ عنها في المقام وقد ورد الدليل عليها من الاخبار والكلام انما هو في تصوير ذلك وبيان إمكانه فلو أمكن القول بالترتب في المقام أمكن أن يكون وجها للصحة.

فتحصل مما ذكرنا : انه لا يمكن الالتزام بما نسب إلى المشهور من الجمع بين الحكم بصحة العمل واستحقاق العقاب على المخالفة بل الصحيح ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس‌سره من إنكار استحقاق العقاب في هذه الموارد.

وتوضيح ذلك : أن الجاهل بوجوب القصر أو الإخفات مثلا لو صلى قصرا أو إخفاتا وحصلت منه قصد القربة حال العمل فلا يخلو الحال من أن يحكم بصحة صلاته وعدم وجوب الإعادة عليه بعد ارتفاع جهله وانكشاف الحال أو يحكم بفساد ما أتى به ووجوب الإعادة ثانيا.

أما على الأول : فلا مناص من الالتزام بكون الحكم الواقعي هو التخيير بين

٤٨٧

القصر والتمام أو الجهر والإخفات وكون الإتيان بالقصر أو الإخفات مجزيا كما هو المفروض وكون الإتمام أو الجهر أيضا مجزيا كما دل على ذلك النص الوارد في كل من الفرعين مع التصريح بأنه قد تمت صلاته وعليه فلا موجب للعقاب عند الإتيان بأحد طرفي التخيير وان لم يكن المكلف ملتفتا إلى التخيير حال العمل.

واما على الثاني : فلا مناص من الالتزام بكون الصلاة تماما أو جهرا هو الواجب على التعيين في ظرف الجهل ومعه كيف يمكن الالتزام باستحقاق العقاب على ترك القصر أو الإخفات ، ودعوى الإجماع عليه مجازفة محضة مع عدم التعرض له في كلمات كثير من الأصحاب مضافا إلى ان الاستحقاق ليس من الأحكام الشرعية ليصح الاستدلال عليه بالإجماع هذا والصحيح هو الوجه الأول وأن المكلف حال الجهل بوجوب القصر أو الإخفات مثلا مخير بين القصر والتمام وبين الجهر والإخفات واقعا فيحكم بصحة الإتمام مثلا لورود النص به ويحكم بصحة القصر إذا تأتى قصد القربة بمقتضى إطلاقات الأدلة الدالة على وجوب القصر في السفر غاية الأمر أنه يرفع اليد عن ظهورها في الوجوب التعييني بما دل على صحة الإتمام فيبقى أصل الوجوب بلا معارض مضافا إلى استبعاد الحكم ببطلان ما وقع والأمر بإعادة مثله بلا زيادة ونقيصة.

الأمر الخامس : أن اشتراط الرجوع إلى الأصول العملية بالفحص انما يختص بالشبهات الحكمية ، لاختصاص دليله بها. وأما الشبهات الموضوعية فلا بأس بالرجوع إلى الأصل فيها قبل الفحص ، لإطلاق أدلتها ، وخصوص بعض الروايات الواردة في موارد خاصة ، مع أن الحكم مما تسالم عليه الفقهاء بلا خلاف. نعم ذكر بعضهم وجوب الفحص في بعض الشبهات الموضوعية ، منها : ما إذا شك المكلف في استطاعته إلى الحج. ومنها : ما إذا شك في بلوغ المال إلى حد نصاب الزكاة. ومنها : ما إذا شك في زيادة الربح على مئونة السنة. والجامع بين هذه الموارد ما إذا كان العلم

٤٨٨

بالحكم متوقفا على الفحص عادة.

وقد استدل على وجوب الفحص في هذه الموارد بأن جعل الشارع حكما يتوقف العلم به على الفحص عادة يدل بالملازمة العرفية على إيجاب الفحص أيضا ، وإلّا لم يكن فائدة لتشريعها.

ويرد على ذلك ان الكبرى المزبورة على تقدير تسليمها لا تستلزم وجوب الفحص في الأمثلة المتقدمة ، لأنها غير منطبقة عليها ، فان بلوغ المال إلى حد النصاب ، أو كفايته لفريضة الحج ، أو زيادة على مئونة السنة ، كبقية الموضوعات الخارجية ، قد يكون ظاهر التحقيق في الخارج ، كمن ورث من مورثه مالا كثيرا يعلم بكفايته للحج ، أو ربح ما يعلم زيادته على مئونة السنة ، أو ملك ما يعلم بلوغه النصاب ، وقد يكون معلوم العدم ، وقد يكون مشكوكا فيه ، فليس العلم بتحقق الموضوع في هذه الموارد متوقفا على الفحص غالبا. نعم بناء على ما هو المشهور من تعلق الخمس بالربح حين ظهوره ، وكون التأخير إلى السنة إرفاقا ، وجب عليه أداء الخمس عند الشك في الزيادة على المئونة وعدمها ، فما لم يفحص ، ولم يظهر عليه عدم الزيادة يحكم بعدم الصرف في المئونة بمقتضى الاستصحاب.

ثم ان المحقق النائيني قدس‌سره قد اعتبر في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية أن لا تكون مقدمات العلم تامة بأجمعها. واما فيما إذا تمت ، بحيث لا يحتاج حصول العلم إلّا إلى مجرد النّظر ، فلا تجري البراءة ، بل لا بد من الاحتياط أو النّظر. مثال ذلك ما إذا كان المكلف بالصوم في محل لا يتوقف علمه بطلوع الفجر إلّا على مجرد النّظر إلى الأفق ، فلا يجوز له الرجوع إلى البراءة مع تركه النّظر ، بدعوى أن مجرد النّظر لا يعد من الفحص عرفا ليحكم بعدم وجوبه (١).

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ٣٠٢.

٤٨٩

ويرد على ما أفاده أن ذلك وان لم يكن من الفحص ، لأنه مرادف للتجسس عن الشيء ، ومجرد النّظر وفتح العين من دون إعمال مقدمة أخرى لا يعد من الفحص عرفا ، إلّا أن الفحص بعنوانه لم يؤخذ في لسان دليل ليكون الاعتبار بصدقة ، بل المأخوذ في أدلة البراءة انما هو الجاهل وغير العالم ، ولا شك في أن المكلف في المثال جاهل بطلوع الفجر ، فما هو الموجب للنظر ليكون مقيدا لإطلاق الأدلة الدالة على البراءة أو الاستصحاب. فالصحيح أن الإطلاقات المزبورة محكمة.

الأمر السادس : ذكر الفاضل التوني قدس‌سره للرجوع إلى البراءة شرطين آخرين (١).

أحدهما : أن لا يكون جريانها موجبا للضرر على مسلم آخر.

ثانيهما : أن لا يكون مستلزما لثبوت حكم إلزاميّ من جهة أخرى.

أما الشرط الأول : فقد أورد عليه غير واحد بأن البراءة وان لم تكن جارية في موارد جريان قاعدة لا ضرر ، إلّا أنه لا ينبغي عده من شرائط جريانها ، فان القاعدة المزبورة تتقدم على أقوى الأمارات فكيف بالأصول العملية ، ولا سيما أصل البراءة الّذي هو في مرتبة متأخرة عن الاستصحاب. واما فيما لم يكن المورد موردا للقاعدة فلا ينبغي الشك في جريان البراءة فيه كغيره من الأصول العلمية والأدلة الاجتهادية.

ولكن الظاهر أن كلام الفاضل المزبور أجنبي عن ذلك ، بل هو ناظر إلى ما ذكرناه في أول مبحث البراءة من أن حديث الرفع وارد في مقام الامتنان والإرفاق ، فلا بد في جريانه أن لا يكون فيه مخالفة الامتنان ولو على بعض الأمة ، فلو لزم من جريانه تضرر مسلم أو من بحكمه لا يحكم به ، ولا يشمله الحديث. ومن

__________________

(١) الوافية : ١٩٣.

٤٩٠

هنا ذكرنا ان حديث الرفع لا يقيد به إطلاق قوله عليه‌السلام «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» بخلاف بقية الأدلة ، فهو وان شمل رفع الكفارة في ما إذا تحقق سببها عن خطأ أو نسيان ، إلّا انه لا يشمل رفع الضمان لو تحقق إتلاف مال الغير عن الخطأ أو نسيان ، وعلى ذلك فما أفاده متين لا يرد عليه شيء.

وأما الشرط الثاني : فتحقيق الحال فيه أن ترتب الإلزام من جهة على جريان البراءة يكون على أقسام.

الأول : أن يكون الترتب من جهة العلم الإجمالي من دون أن يكون بينهما في ذاتهما ترتب عقلا أو شرعا ، كما إذا علمنا بوجوب أحد الفعلين مثلا لشبهة حكمية أو موضوعية ، فان وجوب كل منهما وان لم يكن مترتبا على إباحة الآخر في نفسها إلّا أن العلم الإجمالي أوجب ذلك ، فإذا ثبتت الإباحة في أحدهما بدليل ترتب عليه وجوب الآخر لا محالة. واما فيما إذا كان المثبت للإباحة أصلا عمليا كالبراءة أو الاستصحاب فلا يترتب عليه ذلك إلّا على القول بحجية الأصول المثبتة. فما ذكره الفاضل قدس‌سره وان كان صحيحا في هذا القسم ، إلّا أنه لا حاجة إليه ، فان الأصل في كل منهما غير جار في نفسه للمعارضة بينهما ، فلا تصل النوبة إلى استناد عدم الجريان إلى كون الأصل مثبتا.

الثاني : أن يكون الترتب عقليا ، وهذا كترتب وجوب أحد الضدين على عدم وجوب ضده الآخر الأهم ، بناء على استحالة الترتب ، فان الموجب لرفع اليد عن إطلاق دليل وجوب المهم انما هو فعلية التكليف بالأهم وتنجزه ، الموجب لعجز المكلف عن الواجب المهم ، فإذا فرضنا ترخيص الشارع ولو ظاهرا في ترك الأعم فلا مانع من إيجاب المهم حينئذ ، فوجوب المهم مترتب عقلا على إباحة ضده. وفي هذا القسم لا بد من الحكم بالترتب ، ووجوب المهم عند الشك في وجود التكليف بالأهم ، لإطلاق دليل وجوب المهم ، فهو المثبت للإلزام حقيقة ، والبراءة انما رفعت

٤٩١

المانع ، وهو عجز المكلف ، فلا يبقى مجال فيه لاشتراط جريان البراءة بعد إثباته الحكم الإلزامي.

الثالث : أن يكون الترتب شرعيا بأن يكون جواز شيء مأخوذا في موضوع دليل الوجوب. وفي مثل ذلك قد يكون الإلزام المترتب حكما واقعيا مترتبا على خصوص الإباحة الواقعية ، وقد يكون المترتب حكما واقعيا مترتبا على مطلق الإباحة الجامع بين الواقعية والظاهرية ، وقد يكون المترتب أعم من الحكم الواقعي والظاهري ، والمترتب عليه أيضا كذلك ، فالإلزام الواقعي يترتب على الإباحة الواقعية ، كما ان الإلزام الظاهري يترتب على الإلزام الظاهري.

أما الشق الأول ، فجريان البراءة في مورده لا يكفي في فعلية الإلزام بالضرورة ، لأن أصالة البراءة غير ناظرة إلى ثبوت الإباحة في الواقع ، فلا يترتب على جريانها الحكم الإلزامي المترتب على الإباحة الواقعية. نعم إذا كان الأصل الجاري أصلا تنزيليا كالاستصحاب ، أو قامت أمارة على ثبوت الإباحة في الواقع ترتب على ذلك الحكم بفعلية الإلزام ظاهرا لإحراز موضوعه تعبدا.

وأما الشق الثاني ، فالأصل الجاري فيه تنزيليا كان أو غيره يترتب عليه الإلزام الواقعي ، لتحقق موضوعه بالوجدان.

وأما الشق الثالث ، فيكفي في فعلية الإلزام في مورده ثبوت الإباحة الظاهرية ولو بأصالة البراءة ، غاية الأمر أن الإلزام حينئذ ظاهري ، فإذا انكشف الخلاف يحكم بعدم ثبوت الإلزام من أول الأمر. وبهذا يفترق هذا الشق عن الشق الثاني ، فان كشف الخلاف فيه يستلزم ارتفاع الإلزام من حين الانكشاف ، وأما قبله فكان الحكم الواقعي ثابتا لتحقق موضوعه بالإباحة الظاهرية.

وبما ذكرناه يظهر أن أصالة البراءة في مورد جريانها لا يفرق في ترتب آثارها بين كونها إلزامية ، أو غير إلزامية فلا وجه لما ذكره الفاضل المزبور.

٤٩٢

قاعدة

لا ضرر ولا ضرار

٤٩٣
٤٩٤

حيث أن شيخنا الأنصاري قدس‌سره تعرض في المقام لقاعدة لا ضرر استطرادا ، فنحن نتبعه في ذلك ، لأنه لا يخلو من فوائد مهمة. والبحث عن كونها فقهية أو أصولية لا يترتب عليه ثمرة عملية. ويظهر الحال فيه فيما بعد.

والكلام في هذه القاعدة يقع من جهات ، الأولى : في بيان سند الرواية ومتنها.

أما من حيث السند ، فلا ينبغي التأمل فيه بعد صحة بعض طرق الحديث ، واشتهاره بين الفريقين ، حتى ادعى فخر المحققين تواتره (١) ، فلا ينبغي الريب في صدور الحديث عن المعصوم قطعا.

واما من حيث المتن ، فقد نقله علماؤنا الاعلام على ثلاثة وجوه.

أحدها : ما اقتصر فيه على قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا ضرر ولا ضرار» بلا زيادة شيء كما في حديث ابن بكير (١) عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في قضية سمرة ابن جندب ، وكما في حديث عقبة ابن خالد (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلأ وقال : «لا ضرر ولا ضرار» وما رواه عقبة ابن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة بين

__________________

(١) ذكر ذلك في الإيضاح : ٢ ـ ٤٨ ونصّ عبارة الفخر (والضرر منفي بالحديث المتواتر) ودعوى التواتر حكاها عنه النراقي في العوائد ص ٤٧ وولده في مشارق الأنوار ص ١٨٥ ومير فتاح في العناوين : ١ ـ ٣٠٦ والشيخ الأنصاري في الرسائل : ٢ ـ ٥٣٣ نعم في رسالته المعقودة لهذه القاعدة خاصة (رسائل فقهية : ١١٢) ادعى عدم عثوره على ما نسب إلى الفخر في الرهن من الإيضاح ، ولعل كتابة الرسالة كانت قبل الرسائل.

(٣،٢) وسائل الشيعة : ١٧ ـ باب ١٢ من أبواب إحياء الموات ، ح ٣.

٤٩٥

الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار» (١) وروى القاضي نعمان المصري في دعائم الإسلام خبرين عن الصادق عليه‌السلام استشهد فيهما بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا ضرر ولا ضرار» (٢).

ثانيها : ما زيد فيه على الجملتين كلمة على مؤمن كما في حديث ابن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في قضية سمرة ابن جندب ، وقد ذكر في ذيله قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسمرة «انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن» (٣).

ثالثها : ما زيد فيه على الجملتين كلمة في الإسلام كما في رواية الفقيه في باب ميراث أهل الملل وقد ذكر فيها قوله عليه‌السلام «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (٤) وقد حكى بهذه الزيادة عن تذكرة العلامة مرسلا ، وعن كتاب مجمع البحرين.

وأما العامة فرواها أحمد ابن حنبل من طريق ابن عباس ومن طريق عبادة ابن صامت (٥) بغير الزيادة. ورواها النوويّ في الأربعين عن أبي سعيد سعد ابن مالك الخزرجيّ. وذكر انّ ابن ماجة والدار قطني روايات الحديث مسندا. ورواه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلا ، ثم قال : وله طرق يقوى بعضه بعضا (٦). نعم زاد ابن الأثير في النهاية لفظ الإسلام (٧).

إذا عرفت هذا فنقول : انه لا معارضة بين الروايات في غير قضية سمرة ، لاحتمال صدور هاتين الكلمتين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجوه مختلفة في موارد عديدة.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٧ ـ باب ٥ من أبواب الشفعة ، ح ١.

(٢) دعائم الإسلام : ٢ ـ ٤٩٩ ، ٥٠٥.

(٣) وسائل الشيعة : ١٧ ـ باب ١٢ من إحياء الموات ، ح ٤.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ٤ ـ باب ميراث أهل الملل ، ح ٢.

(٥) مسند أحمد : ١ ـ ٣١٣.

(٦) لاحظ المجالس السنية في شرح الأربعين النووية للشيخ أحمد الفشني ، مجلس ٣٢.

(٧) النهاية : ٣ ـ ٨٢.

٤٩٦

نعم ان قضية سمرة قصة واحدة شخصية ، قد اختلفت فيها الروايات ، فقد رويت تارة : بلا ذكر الكلمتين أصلا كما في رواية الفقيه عن الصيقل الحذاء ، وأخرى : مع ذكرهما بلا زيادة كما في رواية ابن بكير عن زرارة المتقدمة ، وثالثة : بزيادة كلمة (على مؤمن) كما في رواية ابن مسكان عن زرارة المتقدمة.

أما عدم اشتمال رواية الصيقل على الكلمتين فلا يترتب عليه أثر ، بعد ذكرهما في رواية الكافي والفقيه ، فيحتمل أن يكون السبب في عدم اشتمال خبر الصيقل عليهما لغفلة من الراوي ، أو لعدم تعلق غرضه بنقل القضية بتمامها. واما الروايتان الأخريان فالترجيح فيهما مع رواية ابن مسكان ، لما حقق في محله من أن الترجيح عند دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة مع ما اشتمل على الزيادة ، فان احتمال الغفلة في الزيادة أبعد من احتمال الغفلة في النقيصة ، وعليه فالأخذ برواية ابن مسكان هو المتعين.

وما يقال : أن الزيادة يحتمل كونها من الراوي ، أما لأجل النقل بالمعنى ، أو من جهة استفادته لها باجتهاده ، لمناسبة الحكم والموضوع ، خلاف الظاهر ، لا يصار إليه إلّا بدليل.

فتلخص مما ذكرناه ان هاتين الكلمتين قد صدرتا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير زيادة على ما في روايات الخاصة والعامة ، كما وردتا مع زيادة (على مؤمن) في قضية سمرة على رواية ابن مسكان ، ومع زيادة (في الإسلام) كما في رواية الفقيه المتقدمة. وما يقال : انها مرسلة لم يعلم انجبارها ، فلا تكون حجة ، مدفوع بان الإرسال انما يكون فيما إذا كان التعبير بلفظ روي ونحوه ، واما إذا كان بلفظ (قال) كما في ما نحن فيه فالظاهر كون الرواية ثابتة عند الراوي ، وإلّا لم يجز له الاخبار بتا لو لا ثبوته عنده.

ثم ان الظاهر ان ذكر الكلمتين في روايتي عقبة ابن خالد منضما إلى قضائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٤٩٧

بالشفعة ، ونهيه أهل البادية عن منع فضل الماء ، ليس من باب الجمع في المروي ، بل هو من باب الجمع في الرواية ، ونقل حكمين عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجلس واحد ، كما كان هو الدأب في نقل الروايات في الأصول ، والشاهد على ذلك.

اما في الرواية الأولى لعقبة أمران :

الأول : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا ضرر ولا ضرار» لا ينطبق على مورد منع المالك فضل ماله ، فان منع المالك غيره عن الانتفاع بملكه لا يعد ضررا عليه.

الثاني : ان النهي في هذا المورد نهي تنزيهي ، فلا يندرج تحت كبرى لا ضرر ولا ضرار بجميع معانيه.

واما في الرواية الثانية ، فالشاهد أيضا امران.

أحدهما : أن تضرر الشريك ببيع شريكه حصته من غيره لا يكون ضرريا إلّا في بعض الموارد ، فبين مورد ثبوت خيار الشفعة وتضرر الشريك بالبيع عموم من وجه ، فربما يتضرر الشريك ولا يثبت له الخيار كما في فرض تعدد الشركاء ، وربما يثبت الخيار بلا ترتب ضرر عليه كما في كثير من الموارد ، فإذا لا يصح إدراج الحكم بالشفعة تحت كبرى لا ضرر ، كما هو ظاهر.

ثانيهما : ان مفاد لا ضرر على ما سيجيء بيانه انما هو رفع الحكم الضرري ، والضرر في مورد الشفعة انما أتى من قبل بيع الشريك حصته من الغير ، فلو كان ذلك موردا للقاعدة لزم الحكم بالبطلان. وأما الخيار فهو جابر للضرر على تقدير وجوده ، وليس في أدلة الضرر ما يدل على جعل حكم يرتفع به الضرر ، بل غاية مدلولها نفي الحكم الضرري. نعم لو كان الضرر ناشئا من اللزوم كان للقول بارتفاعه من جهة الضرر مجال واسع ، لكن الأمر ليس كذلك كما عرفت.

الجهة الثانية : في فقه الحديث وبيان معناه. فنقول : الضرر اسم مصدر من ضرّ يضرّ ضرا ، ويقابله المنفعة. وأما النّفع فهو مصدر لا اسم مصدر ، فلا مقابلة بينه

٤٩٨

وبين الضرر كما ذكره في الكفاية. ومادة الضرر تستعمل متعديا إذا كانت مجردة ، واما إذا كانت من باب الأفعال فتستعمل متعدية بالباء ، فيقال : أضرّ به ، ولا يقال : أضره. وأما معنى الضرر فهو النقص في المال ، أو في العرض ، أو في البدن ، وبينه وبين المنفعة واسطة ، فإذا لم يربح التاجر في تجارته ولم يخسر لا يتحقق في مورده منفعة ولا ضرر. ومن ذلك يظهر انه لا وجه لما ذكره في الكفاية (١) من أن التقابل بين الضرر والنّفع تقابل العدم والملكة.

وأما الضرار ، فيمكن أن يكون مصدرا للفعل المجرد ، كما يمكن أن يكون مصدرا من باب المفاعلة. لكن الظاهر أن المذكور في الحديث هو الثاني ، إذ لو كان مجردا لزم التكرار في الكلام بلا موجب ، مع ان ذكر كلمة «انك رجل مضار» في قضية سمرة يؤكد كونه كذلك.

ثم ان المعروف في باب المفاعلة أنه فعل الاثنين ، ولكن التتبع في موارد الاستعمالات كما نبه عليه بعض أعاظم مشايخنا المحققين قدس‌سره يفيد بطلان ذلك (٢) ، بل ان هيئة المفاعلة وضعت لإفادة قيام الفاعل مقام إيجاد المادة ، قال عزّ من قائل (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)(٣) فذكر سبحانه ان المنافقين يقومون مقام إيجاد الخديعة ، ولكنها لا تقع إلّا على أنفسهم ، ومن ثم عبر في الجملة الأولى بهيئة المفاعلة ، وفي الجملة الثانية بهيئة الفعل المجرد ، ومن تتبع موارد استعمال تلك الهيئة ولا سيما في القرآن الشريف تجد صحة ما ذكرناه. هذا كله فيما يرجع إلى معنى لفظي الضرر والضرار.

وأما من جهة دخول كلمة (لا) عليهما ، فالمحتملات فيها أمور.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٦٦.

(٢) نهاية الدراية : ٤ ـ ٤٣٧.

(٣) البقرة : ٩.

٤٩٩

الأول : أن يكون الكلام نفيا أريد به النهي ، كما في قوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا سبق إلّا في خف أو حافر أو نصل» (٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا غش بين المسلمين» و «لا عمل في الصلاة» وغير ذلك مما لا يهمنا ذكره ، والسر في صحة هذا الاستعمال ان الاخبار عن عدم شيء كالاخبار عن وجوده ، وكما يصح الاخبار عنه في مقام الأمر به ، كذلك يصح الاخبار عن عدم شيء في مقام النهي عنه.

ومما ذكر يظهر أنه لا وجه لما ذكره في الكفاية (٣) من عدم تعاهد استعمال هذا التركيب في مقام النهي مع كونه من الكثرة بمكان ، وعلى هذا فمفاد الجملتين حرمة الإضرار بالغير ، وحرمة القيام مقام الضرر.

الثاني : ما أفاده في الكفاية (٤) من كون مفاد الجملتين نفي الحكم بلسان نفي موضوعه ، كما في قوله عليه‌السلام «لا ربا بين الوالد والولد» و «لا سهو على الإمام إذا حفظ عليه من خلفه» (٥) وأمثال ذلك ، وعليه فمفاد الجملتين نفي الأحكام الثابتة لموضوعاتها إذا كانت ضررية.

الثالث : ما أفاده الشيخ قدس‌سره من أن مدلول الجملتين نفي الحكم الناشئ من قبله الضرر ، فكل حكم ضرري سواء كان الضرر ناشئا من متعلقه كما هو الغالب ، أم كان ناشئا من نفسه كلزوم البيع الغبني ، يكون مرتفعا في عالم التشريع (٦).

والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني هو أن الوجه الثاني يختص بما إذا كان متعلق الحكم ضرريا في نفسه كالوضوء الموجب للضرر ، وأما هذا الوجه فيعم ما إذا

__________________

(١) البقرة : ١٩٧.

(٢) وسائل الشيعة : ١٣ ـ باب ٣ من أحكام السبق والرماية ، ح ١.

(٣) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٦٨.

(٤) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٦٨.

(٥) التهذيب : ٣ ـ ٥٤.

(٦) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٣٤ (ط. جامعة المدرسين).

٥٠٠