دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

يشرب الخمر ، وأما ما يكون رافعا للقبح فلا بدّ فيه من أن يكون اختياريا ، وقد ذكرنا أن باب الحسن والقبح أجنبي عن المحبوبية والمبغوضية وعن المصلحة والمفسدة ، فلا يقاس أحد البابين بالآخر ، وأن المصادفة ليست من الأمور الاختيارية.

وأما الثالثة فقد عرفت انّ العقاب دائما يكون على التجري وهتك المولى حتى في المعصية الواقعية ، فالقول بتعدد العقاب ثم بالتداخل لا مجال له.

هذا تمام الكلام في التجري.

٤١
٤٢

الأمر الثالث :

تقسيم القطع

إلى الطريقي والموضوعي

والغرض من هذا التقسيم مع عدم وجود القطع الموضوعي في الأدلة ـ وعلى فرض وجوده ففي غاية القلة ـ إنما هو بيان ما ذكره بعض الأخباريين من المنع عن العمل بالقطع إذا لم يكن ناشئا من الكتاب والسنة ، وهذا هو الجهة الثالثة من الكلام في حجية القطع التي وعدنا التكلم فيه ، وحيث انّ الأخباريين جوزوا المنع عن العمل بالقطع قسم الشيخ (١) قدس‌سره ومن تأخر عنه القطع إلى ما يكون طريقا إلى متعلقه وإلى ما يكون مأخوذا في الموضوع ، وادعوا أن القطع الطريقي يستحيل المنع عن العمل به لاستلزامه تحقق التناقض أما واقعا وأما في نظر القاطع. نعم يمكن منع غير القاطع عن العمل بالقطع الحاصل لغيره كالمقلد بالقياس إلى قطع مقلّده إذا لم يكن ناشئا عن الكتاب والسنة. وذكروا أيضا أن القطع بالحكم لا يعقل أن يؤخذ في موضوع نفسه لا شرطا ولا مانعا ، وهكذا في موضوع مثله أو ضده ، لاستلزامه الدور في الأول ، واجتماع المثلين أو الضدين في الثاني ، والعقل لا يصدّق ورود حكم من الشارع مستلزم لذلك.

ولكن المحقق النائيني رحمه‌الله ذهب إلى إمكان تقييد الحكم بالقطع به من طريق

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ٥١ (ط. جامعة المدرسين).

٤٣

خاص (١) ، أو بعدم كونه مقطوعا به من طريق مخصوص ، غاية الأمر انه لا دليل على ذلك وقوعا إلّا في بعض الموارد ، مثل القطع الحاصل من القياس لرواية أبان (٢) أو الحاصل من غير الطرق المتعارفة كالجفر والرمل.

وبالجملة فالغرض من هذا التقسيم إنما هو بيان كلام بعض الأخباريين ، ومنعهم عن العمل بالقطع إذا لم يحصل عن الكتاب والسنة ، وانه هل يكون هذا ممكنا بعد ما فرضنا أن طريقية القطع وحجيته ذاتية بالمعنى المتقدم ، أو يكون ذلك مستحيلا؟

فالكلام يقع في موردين :

الأول : في بيان الصغرى ، وأنه هل ادعى أحد منهم المنع عن العمل بالقطع أم لا؟ والإنصاف ان كلمات جملة منهم وإن كانت ظاهرة في دعوى عدم حصول القطع من المقدمات العقلية ، ولا يحصل منها إلّا الظن الّذي لا دليل على اعتباره ، ولكن كلام جملة منهم بعد ما قسّم القطع إلى الحاصل من المقدمات العقلية والحاصل من الكتاب والسنة صريح في المنع عن العمل بالأول ، فإسناد المنع إليهم موجبة جزئية غير قابل للإنكار.

الثاني : في بيان الكبرى ، ظاهر كلام المحقق النائيني رحمه‌الله على ما عرفت إمكان المنع عن ذلك ، بمعنى أخذ خصوص القطع الناشئ عن سبب خاص أو لشخص خاص بالحكم في موضوعه ، وأن هذا لا يرجع إلى المنع عن العمل بالقطع حتى ينافيه حجيته الذاتيّة. وتقريب ما أفاد يكون بمقدمات (٣).

الأولى : إنا وإن لم نلتزم بما التزم به العلامة قدس‌سره من أن العلم ملازم لثبوت

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ١٣ ـ ١٤.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ ـ باب ٤٤ من أبواب ديات الأعضاء ، ح ١.

(٣) فوائد الأصول : ٣ ـ ١١ ـ ١٤.

٤٤

متعلقه واقعا ، ولكن لا مناص لنا من الالتزام بأن تعلق القطع بشيء ملازم لثبوته في نظر القاطع ، وعلى ذلك فأخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه وتقييده به يستلزم ثبوت الدور في اعتقاده ، لأن فعلية الحكم يدور مدار فعلية موضوعه ، وإذا فرضنا أن للقطع بالحكم دخلا في موضوع نفسه ، ففعلية الحكم حينئذ تتوقف على فعلية القطع به ، وتحقق القطع بالحكم مستلزم لتحقق الحكم أو متوقف عليه ، وهذا دور واضح ، فلا يكون مثل هذا الحكم قابلا للفعلية ، وإذا لم يكن قابلا للفعلية لا يكون قابلا للإنشاء ، وما يستحيل فعليته يستحيل إنشائه.

المقدمة الثانية : ان العلم بالحكم أو الجهل به يكون من الانقسامات اللاحقة للحكم فلا يمكن أخذه فيه ، لما تقدم هنا وفي بحث التعبدي والتوصلي ، وإذا استحال التقييد يستحيل الإطلاق أيضا ، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فمهما لم يكن المحل قابلا للتقييد لا يكون هناك مجال للإطلاق ، فلا إطلاق حينئذ ولا تقييد ، وهذا كقولهم لا خلأ ولا ملأ حيث لا موضوع لهما.

ونتيجة هاتين المقدمتين هو أن الأحكام الأولية لا بد وأن تكون مهملة بالقياس إلى علم المكلف وجهله بها.

المقدمة الثالثة : أن أخذ العلم بالحكم قيدا فيه إنما يكون مستحيلا فيما إذا كان مأخوذا في نفس دليله ، وبعبارة أخرى : الاستحالة إنما تكون في فرض وحدة الجعل ، وأما اعتباره فيه بنتيجة التقييد أي بجعل ثانوي يعبر عنه بمتمم الجعل فلا مانع منه ولا استحالة فيه ، وعليه فحيث ان الإهمال الثبوتي غير معقول ، ففي أمثال المقام لا بد من ثبوت جعلين ، إذ الملاك أما أن يكون في خصوص العالم بالحكم فلا بد من تقييده به ، وأما أن يكون في الأعم فلا بد من تعميمه ، فأحد الجعلين يكون جعل أصل الحكم بنحو الإهمال من حيث علم المكلف وجهله به ، والجعل الثاني يتمم هذا الجعل ويبين اختصاصه بالعالمين أو شموله للجاهلين ، ولا يكون هذا مستلزما للدور في نظر

٤٥

القاطع أصلا.

ثم أنه في كل مورد كان متمم الجعل موجبا لثبوت نتيجة التقييد وتخصيص الحكم بخصوص العالمين به ، كما في وجوب القصر لقوله عليه‌السلام : «إن كانت قرأت عليه آية التقصير وفسّرت له» (١) أو الجهر والإخفات مثلا نلتزم بالتقييد وفي غيره نقول بنتيجة الإطلاق وعدم الاختصاص ، لعموم ما دل على اشتراك العالم والجاهل في التكاليف ، ومن ذلك ما ورد من أنّ يوم القيامة يقال للعبد : هلّا عملت؟ فيقول : ما عملت ، فيقال له : هلّا تعلّمت (٢). وقد ادعى الشيخ قدس‌سره تواتر هذه الأخبار ، ولكنه قابل للمنع.

وكيف كان فان أمكن تقييد الحكم بالقطع به ولو بنتيجة التقييد فلا مانع من أن يؤخذ القطع الحاصل من سبب خاص أو لشخص مخصوص قيدا في الحكم أو مانعا عنه غايته بمتمم الجعل وحينئذ لا يكون للقطع الحاصل لغيره ، أو من غيره أثر في ثبوت الحكم ، ولا يجوز العمل به إذا حصل ، وليس هذا منعا عن العمل بالقطع وتصرفا في حجيته ، وإنما هو تصرف في المقطوع ، فالمنع عن العمل بالقطع بهذا المعنى لا يكون مستحيلا ، ولكن لا دليل على وقوعه إلّا في موارد مخصوصة ، كالقطع الحاصل من القياس على ما يظهر من رواية أبان ، أو الحاصل من بعض العلوم الغريبة كالجفر والرمل لو تم هناك إجماع على عدم جواز العمل به. وأما القطع الحاصل من المقدمات العرفية فلا دليل على المنع عن العمل به ، ولا يتم ما استدل به بعض الأخباريين على ذلك ، هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره.

ونقول : ما ذكره من كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٥ ـ باب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ، ح ٤.

(٢) أمالي الشيخ المفيد : المجلس ٢٦ ، ح ٦.

٤٦

وان كان متينا ، فانّ الإطلاق عدم التقييد فيما من شأنه ذلك ، ولكن لا يعتبر في العدم والملكة الشأنية بحسب شخص المورد ، أو شخص الصفة ، بل يكفي القابلية بحسب النوع أو الصنف ، ولذا يطلق الأعمي على العقرب مع أنه غير قابل للبصر على ما قيل ، ولا يطلق الجاهل على الجدار لعدم قابليته للعلم ولو بحسب نوعه ، ويصح أن يقال الممكن جاهل بذات الواجب ، مع أن تعلق علمه به مستحيل ، وليس ذلك إلّا من جهة كفاية الشأنية النوعية أو الصنفية في العدم والملكة ، وعلى هذا فالحكم بالقياس إلى قيد خاص وإن لم يكن قابلا للتقييد لكن حيث أنه قابل للتقييد بنوع القيود لا يضر بالملكة استحالة التقييد الخاصّ ، وعليه فيستلزم استحالة تقييد الحكم بكل قيد ضرورية الإطلاق فيه أو التقييد بضده ، كما أن استحالة القدرة على بعض الأمور يستلزم ضرورية العجز عنه.

وبالجملة عدم قابلية المورد للتقيد بوصف لخصوصية في ذلك يستلزم ضرورية عدمه ولو كان ذلك من قبيل العدم والملكة ، لا أن استحالة الوجود تستلزم استحالة عدمه أيضا ، فانه ليس في الإطلاق وعدم التقييد منشأ للاستحالة من دور وغيره ، والمحذور إنما كان في التقييد فقط. هذا مضافا إلى أن الإهمال النّفس الأمري غير معقول بالإضافة إلى الحاكم ، سواء في ذلك الشارع والعقل والموالي العرفية ، وقد تقدم بيان ذلك في بحث التعبدي والتوصلي ، فإذا فرضنا أن تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ومستلزم للدور فلا محالة يكون أحد الأمرين من إطلاقه بالقياس إليه أو تقييده بخلافه ضروريا ، وإذا لم يكن مقيدا بعدمه فلا محالة يكون مطلقا ، وإذا كان كذلك وقطع به المكلف يستحيل منعه عن العمل بقطعه لاستلزامه التناقض أو الجمع بين الضدين ، أما واقعا لو كان قطعه مصادفا للواقع ، وأما في اعتقاد القاطع لو كان مخالفا ، ويستحيل جعل حكم غير قابل لأن يصدق به المكلف ولأن يصير فعليا.

وأما ما أفاده من أخذ القطع بالحكم في موضوعه شرطا أو مانعا بمتمم الجعل

٤٧

فقد ظهر فساده أيضا ، لأنه كان متوقفا على كون الجعل الأولى بنحو الإهمال ، وقد عرفت أنه لا محالة يكون مطلقا.

وأما ما أفاده من كون العلم مأخوذا في مسألة الجهر والإخفات والقصر والإتمام فليس كما ذكره وذلك لأن غاية ما يستفاد من تلك الأدلة إنما هو اجزاء أحدهما عن الآخر عند الجهل بالحكم ، لا أن الحكم مختص بالعالم به ، ويؤيده أن العنوان المأخوذ في الرواية الإجهار فيما ينبغي الإخفات فيه أو الإخفات فيما ينبغي الإجهار به ، وهذا ظاهر في ثبوت الحكم الأولي في حق الجاهل أيضا ، ويؤيد ما ذكرناه التسالم على ثبوت العقاب على الجاهل بالحكمين عند المخالفة في بعض الصور.

وأما ما أفاده من ثبوت المنع عن العمل بالقطع الحاصل من القياس لرواية «أبان» ففيه :

أولا : أن رواية «أبان» ضعيفة السند لا يمكن الاعتماد عليها.

وثانيا : إنه لا دلالة فيها على كونه قاطعا بالحكم. نعم يظهر منها أنه كان مطمئنا به ، ولذا قال : «كنا نسمع ذلك بالكوفة ، ونقول : انّ الّذي جاء به شيطان».

وثالثا : ليس فيها إشعار بالمنع عن العمل بالقطع ، وإنما أزال الإمام عليه‌السلام قطعه ببيان أن السنة إذا قيست محق الدين ، نعم ظهورها في المنع عن الغور في المقدمات العقلية لاستنباط الأحكام الشرعية غير قابل للإنكار ، بل لا يبعد أن يقال ، إنه إذا حصل منها القطع وخالف الواقع ربما يعاقب على ذلك في بعض الوجوه.

وتلخص مما ذكر أن أخذ القطع الطريقي بالحكم في نفسه غير معقول ، وعلى تقدير إمكانه لا دليل على تقييد حكم من الأحكام به أصلا ، كما لا دليل على المنع عن العمل بالقطع مضافا إلى استحالته ، نعم أخذ العلم بالحكم بمرتبة في فعليته ممكن ،

٤٨

وسنتعرض له عن قريب إن شاء الله تعالى. هذا كله في أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه.

وأما أخذه في موضوع مثله كما لو قال : إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك الصلاة بوجوب آخر ، فقد ظهر إمكانه بما قدمناه ، لأنه يرجع الحكم الثاني إلى التأكيد ، ولا يلزم منه اجتماع المثلين أصلا ، كما إذا تعلق النذر بالإتيان بواجب أو أخذ ذلك شرطا في ضمن عقد فانه موجب للتأكد ، ولا إشكال فيه.

وأما أخذه في موضوع ضده ، كما لو قال : إذا قطعت بوجوب الصلاة يحرم عليك الصلاة مثلا فاستحالته واضحة ، لاستلزامه اجتماع الضدين واقعا لو كان قطعه مصادفا للواقع ، وفي نظر القاطع لو كان مخالفا ، فيستحيل فعلية مثل هذا الحكم ، فيستحيل إنشائه. هذا كله في أخذ القطع الطريقي في الحكم بأنحائه.

بقي الكلام في القطع الموضوعي الاصطلاحي ، وهو القطع المتعلق بالموضوع الخارجي الّذي له دخل في الحكم أو المتعلق بالحكم إذا كان مأخوذا في موضوع حكم آخر يخالفه أو يماثله لا مضاده ، والقسم المتقدم وإن كان موضوعيا بمعنى إلّا أنه غير الاصطلاحي كما هو واضح.

وليعلم أولا أن المراد من القطع الموضوعي ليس القطع المأخوذ في لسان الدليل فقط ، وإنما المراد منه القطع المأخوذ في موضوع الحكم الواقعي ، فانه ربما يؤخذ القطع في لسان الدليل مع أنه غير دخيل في الحكم ، بل يكون أخذه في لسان الدليل من جهة طريقيته للواقع وأنه أظهر أفراد الطرق وأصنافه ، فليس ذلك قطعا موضوعيا ، وأمثلته كثيرة ، منها قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ)(١) فان الحكم بوجوب الإمساك مترتب على طلوع الفجر واقعا ومع ذلك

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

٤٩

جعل انتهاء أمد الترخيص التبين من غير أن يكون له دخل في ذلك ، ومنها قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(١) بناء على أن يكون المراد المشاهدة لا حضور الشهر ، فانه ليس لمشاهدة الهلال دخل في وجوب الصوم ، ولذا يجب الصوم على من علم بدخول الشهر أو قامت عنده حجة على ذلك ولو لم يشاهد الهلال إلى غير ذلك من الأمثلة ، فالميزان في القطع الموضوعي ما ذكرناه.

والبحث في المقام يقع في جهات :

الأولى : ان الشيخ رحمه‌الله قسم القطع الموضوعي إلى قسمين : ما يكون مأخوذا في الموضوع على نحو الصفتية ، وما يكون مأخوذا فيه على نحو الطريقية والكاشفية (٢). وقسّم في الكفاية كلّا من القسمين إلى قسمين آخرين ، فالأقسام تكون أربعة (٣) : المأخوذ بنحو الصفتية جزء للموضوع وتمامه ، وبنحو الكاشفية جزء الموضوع وتمامه.

الجهة الثانية : في بيان تقسيم الشيخ وتقريبه. لا يخفى ان العقل بالملكة إذا صار عقلا بالفعل ، ومعناه أن قابلية الإدراك إذا خرجت عن القابلية وصارت إدراكا فعليا تكون من الصفات الحقيقية التعلقية ، أي ذات الإضافة والتقييد بالحقيقة احترازا عن الأمور الإضافية المحضة التي لا واقع لها في الخارج ، فانّ العلم ليس كذلك بل هو صفة حقيقية قائمة بالنفس ، وحيث انّ حقيقته الانكشاف يكون من الأوصاف التعلقية ذات الإضافة ، نظير الجهل والقدرة والعجز وأمثال ذلك من الأوصاف التي لا تتحقق إلّا متعلقة بشيء ، ففيه جهتان : جهة كونه صفة قائمة بالنفس وجهة كونه مضافا إلى ما في الخارج وانكشافا له. والأغراض العقلائية تارة : تتعلق

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

(٢) فرائد الأصول : ١ ـ ٥٢ ـ ٥٣ (ط. جامعة المدرسين).

(٣) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٨.

٥٠

به من الجهة الأولى ، كما لو فرضنا أن الوسواسي لا يحصل له القطع بصحة وضوئه أو بدخول الوقت فينذر إذا تحقق له القطع وارتفعت حيرته واضطرابه يتصدق ، فبالقطع ترتفع الحيرة والاضطراب النفسانيّ ، ولذا يسمى قطعا حيث أنه يقطعها ، فهذا الشخص ليس له غرض بالواقع ، وإنما غرضه زوال حيرته واضطرابه. وأخرى : ينعكس الأمر ويتعلق الغرض بجهة كشفه عن الواقع ، كما لو فرضنا أنه يريد القطع بدخول الوقت للإفطار أو للصلاة في أول وقتها مثلا ، فهذا الشخص يكون غرضه متعلقا بالقطع من الجهة الثانية. ويمكن دخل القطع بكل من القسمين في غرض الشارع أيضا ، فتارة : يؤخذ في الموضوع بما أنه صفة للقاطع سواء كان مطابقا للواقع أو جهلا مركبا ، وأخرى : يؤخذ من حيث كونه كاشفا ومطابقا للواقع.

وبما ذكرناه ظهر فساد ما في الكفاية من أن القطع يؤخذ في الموضوع بما أنه صفة للمقطوع (١) ، وذلك لأن أخذه صفة للمقطوع به مستلزم لأخذه كاشفا ومع قطع النّظر عن جهة كشفه لا يكون صفة للمقطوع به كما هو واضح.

وأما تقسيم الكفاية فالقطع المأخوذ على نحو الصفتية كما أفاد ينقسم إلى قسمين : تارة : تكون تلك الصفة النفسانيّة تمام الموضوع ويترتب عليها الحكم ، سواء كان متعلقه ثابتا أم لم يكن ، نظير دخل العلم بالملكية في معذورية المتصرف ، وأخرى : يؤخذ جزء للموضوع وجزئه الأخير تحقق متعلقه واقعا كما في العلم المأخوذ في الشهادة ، حيث أشار عليه‌السلام إلى الشمس وقال : «على مثلها فاشهد أو دع» (٢) فانّ ظاهره أن العلم جزء للموضوع.

وأما القطع المأخوذ بنحو الطريقية والكاشفية فأخذه جزء للموضوع في غاية

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٠.

(٢) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٢٠ من أبواب الشهادات ، ح ٣.

٥١

الصحة والوضوح ، وأما أخذه تمام الموضوع فلا يمكن ، لأنه من قبيل الجمع بين متناقضين ، فان معنى أخذه بنحو الانكشاف عن الخارج هو أن لثبوت المنكشف دخلا في تحقق الحكم ، ومعنى كونه تمام الموضوع أنه لا دخل للواقع في تحقق الحكم ، وأنه يترتب على القطع سواء كان هناك واقع أم لم يكن ، وبعبارة أخرى : الانكشاف وان كان ذاتيا للقطع ، بل كما عرفت ذاته هو الانكشاف ، ولكن الانكشاف إنما يكون في فرض ثبوت المنكشف واقعا ، وإلّا فلا انكشاف ، بل هو تخيل الانكشاف ليس إلّا. وبالجملة أخذ العلم بلحاظ كشفه عن المعلوم بالذات يرجع إلى أخذه بنحو الصفتية ، وأخذه بلحاظ كشفه عن الخارج يستلزم دخل الواقع في الحكم أيضا ، فلا معنى حينئذ لكونه تمام الموضوع.

فالتحقيق : هو تثليث الأقسام كما أفاده المحقق النائيني (١) ، وبالقطع الطريقي المحض تكون الأقسام أربعة.

مدى قيام الأمارات والأصول مقام القطع :

ثم لا كلام في أن الطرق والأمارات والأصول المحرزة تقوم مقام القطع الطريقي المحض بنفس أدلة حجيتها ، ويترتب عليها جميع الآثار المترتبة عليه من تنجيز الواقع به إذا أصاب ، وكونه عذرا إذا أخطأ ، وكون مخالفته تجريا وموجبا لاستحقاق العقاب إلى غير ذلك من الآثار المترتبة على القطع الطريقي ، مثلا إذا قامت إمارة على حرمة شيء يكون منجزا للواقع ولو كانت مخالفة للواقع ، وإذا قامت على عدم وجوب شيء يكون معذرا ولو كان في الواقع واجبا ، وجميع هذه الأمور شأن القطع الطريقي.

وإنما الخلاف في قيامها مقام القطع الموضوعي بنفس تلك الأدلة ، والأقوال

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ١٠ ـ ١١.

٥٢

فيه ثلاثة :

أحدها : قيامها مقامه بجميع أقسامه من المأخوذ بنحو الصفتية أو الكاشفية جزء للموضوع وتمام الموضوع.

ثانيها : ما يقابل هذا القول ، وهو عدم قيامها مقامه مطلقا بجميع أقسامه ، وهذا مختار صاحب الكفاية (١).

ثالثها : هو التفصيل (٢) ، والقول بقيامها مقام المأخوذ في الموضوع بنحو الكاشفية ، وعدم قيامها مقام المأخوذ على نحو الصفتية سواء كان جزء الموضوع أو تمامه ، وهذا هو مختار الشيخ قدس‌سره وتبعه في ذلك جماعة منهم المحقق النائيني قدس‌سره.

والتحقيق : أن قيامها مقام القطع المأخوذ على نحو الصفتية غير ممكن ، وذلك لأن غاية ما يستفاد من أدلة حجية الطرق والأصول المحرزة إنما هو تنزيل مؤداها منزلة الواقع وإلغاء احتمال الخلاف فيها ، والقطع وان كان ذاته انكشافا إلّا أنه بعد أخذه في الموضوع صفة لا يكون إلّا كبقية الصفات النفسانيّة من العدالة والشجاعة والسخاوة ، ومن البديهي أن دليل إلغاء احتمال الخلاف في مؤدى الطرق لا يوجب تنزيلها منزلة الصفات النفسانيّة ، وهكذا دليل الأصول المحرزة. وبالجملة ان الشارع وان كان له تنزيل كل شيء منزلة كل شيء ، كما نزل الطواف منزلة الصلاة ، والفقاع منزلة الخمر ، إلّا أنه محتاج إلى دليل ، وأدلة حجية الأمارات والأصول المحرزة لا تتكفل ذلك كما عرفت.

وأما قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الكاشفية والطريقية بتلك الأدلة فأفاد صاحب الكفاية في استحالته ما حاصله : أن تنزيل شيء منزلة شيء متوقف على لحاظ طرفي التنزيل ، ولحاظ القطع الطريقي لا بد وأن يكون آليا ، بخلاف

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٠ ـ ٢١.

(٢) فرائد الأصول : ١ ـ ٥٣ (ط. جامعة المدرسين). فوائد الأصول : ٣ ـ ٢١.

٥٣

القطع الموضوعي فانه يكون ملحوظا استقلالا ، وعلى هذا ففي مقام تنزيل الطرق والأصول المحرزة منزلة القطع الطريقي لا بد وأن يلحظ المنزل والمنزل عليه باللحاظ الآلي بأن يكون الملحوظ حقيقة هو الواقع والمؤدى ، وفي مقام تنزيلها منزلة القطع الموضوعي لا بد من لحاظها باللحاظ الاستقلالي ، فإذا أريد جعل كلا التنزيلين وإنشاؤهما بدليل واحد يلزم لحاظ كل من القطع والطرق أو الأصول في أن واحد بلحاظين ، أحدهما آلي والآخر استقلالي ، ويستحيل تعلق لحاظين في آن واحد بملحوظ واحد ، سواء كانا استقلاليين أو آليين ، أو كان أحدهما آليا والآخر استقلاليا ، وهذا المحذور إنما يجري فيما إذا كان التنزيلان في آن واحد وبدليل فارد ، بخلاف ما لو كان بدليلين ، كأن يقال صدق العادل مثلا ، ويراد به التنزيل من حيث الطريقية ، ثم يقول ثانيا صدق العادل ويقصد به التنزيل من حيث الموضوعية ، فانه لا محذور في ذلك.

ثم بعد هذا البيان أورد على نفسه بأنّ لازمه أن يكون دليل التنزيل مجملا إذا لم يعلم أن المصحح للتنزيل والجعل كان هو اللحاظ الآلي أو اللحاظ الاستقلالي ، ولا يكون لأحدهما مرجح على الآخر.

ثم أجاب عن ذلك : بأنّ تنزيل شيء منزلة القطع يكون ظاهرا عرفا في التنزيل من حيث الطريقية ، ويعرف ذلك من مراجعة العرف ، فإذا لم يكن قرينة على الموضوعية يحمل على ظهوره الأولي.

هذا حاصل ما أفاد (١).

وفيه : أولا : أنه مناف لما التزم به من أن المجعول في الطرق والأمارات هو الحجية ، أي المنجزية على تقدير موافقتها للواقع والمعذورية على تقدير المخالفة ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢١ ـ ٢٢.

٥٤

وذلك لأن ما ذكره من الجمع بين اللحاظين إنما يلزم فيما إذا كان التنزيل في المؤدى المستلزم للحاظ القطع والطريق آليا ، وأما بناء على القول بجعل المنجزية والمعذرية كما اختاره وصرح به غير مرة فلا يلزم من تنزيلها منزلة القطع بقسميه إلّا لحاظها بلحاظ واحد استقلالي من دون أن يكون هناك نظر إلى الواقع والمؤدى.

وبعبارة أخرى : بعد لحاظ كل من الطريق والقطع استقلالا كما يمكن تنزيل الأول منزلة الثاني بلحاظ خصوص الحكم العقلي المترتب على القطع تارة ومن حيث خصوص الحكم الشرعي المترتب عليه أخرى بأن يكون جهة التنزيل ما أخذ القطع في موضوعه من الحكم الشرعي ، كذلك يمكن أن يكون التنزيل من الحيثيتين معا ، فان كلّا من الحكمين مترتب على نفس القطع بما هو لا بما أنه طريق أو مأخوذ في الموضوع ، فيترتب عليها حينئذ الحكم العقلي الثابت للقطع وهو التنجيز والتعذير والحكم الشرعي المترتب عليه معا.

وثانيا : كما لا يمكن أن يكون المجعول في الطرق والأمارات هو المؤدى لاستلزامه التصويب وكون الأحكام الواقعية تابعة لقيام الأمارات ـ على أنه مستحيل في نفسه كما سيأتي تفصيله ـ كذلك لا يمكن أن يكون المجعول فيها نفس المنجزية والمعذرية لاستلزامه التخصيص في الحكم العقلي ، وتخصيص حكم العقل بعد ثبوت ملاكه خلف محال ، وذلك لأن العقل مستقل بقبح العقاب بلا بيان وعدم تنجز الأحكام الواقعية ما لم تكن واصلة بأحد أنحاء الوصول ، فتخصيص هذا الحكم العقلي بمورد دون مورد غير ممكن.

وبعبارة أخرى الشارع في مقام التنزيل أما أن يتصرف في موضوع هذا الحكم العقلي ويجعل اللابيان بيانا فبالتعبد يثبت توسعة في الوصول ، وعليه فالعقل بنفسه يستقل بالتنجيز عند قيام الأمارة ، فجعله شرعا يكون لغوا ، وإما يريد أن يتصرف في الحكم دون الموضوع ، وهذا تخصيص في حكم العقل ، وهو محال كما بين

٥٥

في محله. فعلى أي حال لا معنى لجعل المنجزية والمعذرية ابتداء ، بل المجعول في الطرق والأمارات هو الوسطية في الإثبات أو تتميم الكشف أو الطريقية ، وما شئت فعبر ، فان المراد واحد.

بيان ذلك : أن القطع فيه جهتان : إحداهما : جهة كونه صفة في النّفس رافعا للاضطراب والتحير ، وهذا أمر تكويني غير قابل للجعل والاعتبار ، ثانيهما : جهة كونه انكشافا للواقع ، والطرق والأمارات ، منزلة منزلته من هذه الجهة لا من الجهة الأولى ، ولذا يكون التحير النفسانيّ بعد التعبد وقيام الطريق أيضا باقيا على حاله ولا يزول بالتعبد ، فتأمل.

ومعنى التنزيل من الجهة الثانية أن الأمارات التي كانت لها كاشفية ناقصة ألغى الشارع نقصانها تعبدا فصارت كاشفا تاما ، وتوضيحه : هو أن المجعولات الشرعية غير منحصرة بالأحكام التكليفية الخمسة ، بل هناك قسم آخر يسمى بالأحكام الوضعيّة نظير الملكية والزوجية وأمثال ذلك ، والملكية عبارة عن السلطنة على الشيء ، وهي تارة تكون خارجية ، وأخرى اعتبارية شرعية من دون أن يكون في الخارج سلطنة ، ولذا ربما تعتبر بين شيئين أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب بحيث لا يجتمعان خارجا فضلا عن تحقق السلطنة الخارجية لأحدهما على الآخر ، ومن هذا القبيل الكاشفية والطريقية ، فالكاشف الخارجي الحقيقي هو القطع ، والكاشف الاعتباري هو الطرق والأمارات التي اعتبر لها الشارع الكاشفية التامة بعد ما كانت كاشفيتها ناقصة وجعلها كالقطع ، وبنفس هذا الاعتبار والتنزيل تترتب آثار الواقع على مؤداها ، لا من جهة جعل المؤدى ، بل لكونه محرزا تعبدا ، وتترتب آثار نفس القطع على نفسها بالأولية والأولوية ، فتكون منجزة للواقع ومعذرة عنه ، ويلتئم منها الموضوع المأخوذ فيه القطع على وجه الطريقية.

ثم لا يخفى أن إشكال التصويب لا يرد على ما ذكرناه ، فان الواقع بعد التنزيل

٥٦

أيضا باق على حاله ، سواء صادفه الطريق أم لم يصادفه من دون أن يوجب ذلك توسعة أو تضييقا فيه. نعم يكون للأمارات حكومة على الواقع حكومة ظاهرية ، أي حكومة في طريق إحرازه ، فانّ الطريق أولا كان منحصرا في القطع وبعد جعل الطرق توسعت دائرة المحرز ، فلا يترتب على الطريق بعد تتميم الكشف إلّا ما كان يترتب على القطع ، وكما يأتي انكشاف الخلاف في القطع كذلك يأتي في الطريق ، غاية الأمر يكون المكلف حينئذ معذورا كما في فرض القطع ، هذا بخلاف القول بجعل المؤدى ، فانه مستلزم للتصويب وتبعية الواقع لقيام الطريق ، إذ عليه متى قامت أمارة على خمرية الماء مثلا يكون ذلك الماء خمرا تعبدا ، ويترتب عليه حكمه ، وليس فيه كشف خلاف أصلا.

إذا عرفت ذلك تعرف أنه على المبنى الصحيح لا يلزم من تنزيل شيء منزلة القطع بكلا قسميه بتنزيل واحد محذور الجمع بين اللحاظين أصلا ، إذ لا يتوقف ذلك إلّا على لحاظ الطريق استقلالا وتتميم كشفه ، فيترتب عليه جميع آثاره من العقلية والشرعية.

وتلخص من جميع ما ذكرناه أن تنزيل شيء منزلة القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية وان كان ممكنا ولا مانع منه ، ولكن.

أولا : لم نجد موردا يكون القطع فيه مأخوذا كذلك ، وما مثل به الشيخ قدس‌سره (١) لذلك مثل القطع المأخوذ في باب الشهادة بقوله عليه‌السلام : «على مثلها فاشهد أو دع» (٢) أو المأخوذ في حفظ الأوليين من الركعات بقوله عليه‌السلام : «حتى تثبتهما» (٣) فقد ذكرنا أنه مأخوذ على وجه الكاشفية لا الصفتية ، إذ النّظر في الموردين يكون إلى الواقع لا إلى

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ٥٣ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٢٠ من أبواب الشهادات ، ح ٣.

(٣) وسائل الشيعة : ٥ ـ باب ١ من أبواب الخلل في الصلاة ، ح ١٥.

٥٧

وجود هذه الصفة النفسانيّة ، وذلك ظاهر.

وثانيا : لا دليل على تنزيل الأمارات منزلة القطع من تلك الجهة ، كما لا يستفاد ذلك من أدلة حجية الأمارات أيضا على ما عرفت.

وأما قيامها مقام القطع الطريقي المحض والمأخوذ في الموضوع بنحو الكاشفية فبناء على القول بجعل المؤدى عند قيامها على الحكم أو على موضوعه فيشكل ذلك ، لأن لازم جعل المؤدى أن يكون كل من المؤدى والواقع ملحوظا استقلالا وكل من الطريق والقطع ملحوظا آليا ، ولازم جعل الطريق منزلة القطع أن يلحظ كل منهما استقلالا ، فيلزم الجمع بين اللحاظين ، وهو محال ، ولكن هذا المبنى بمراحل عن الواقع.

أما أولا : فلأنه مستلزم للتصويب ، وهو خلاف مذهب العدلية.

وثانيا : لا دليل على جعل المؤدى أصلا ، إذ غاية ما يستفاد من الأدلة مثل قوله عليه‌السلام : «فما أدّيا إليك عني فعني يؤديان» (١) أو قوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا» (٢) إلى غير ذلك ليس إلّا التصديق بصحة أخبارهم التي كانت مشكوكة ، ولا اشعار في شيء منها إلى جعل المؤدى أصلا ، فيدور الأمر بين أن يكون المجعول هو المنجزية والمعذرية كما ذكره في الكفاية ، وقد عرفت أنه غير صحيح ، لكونه مستلزما لتخصيص حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وبين ما اخترناه من كون المجعول تتميم الكشف والوسطية في الإثبات ، وعليه فيترتب بذلك آثار الواقع على المؤدى لكونه منكشفا بالانكشاف التعبدي وآثار القطع على نفس الطريق بالأولوية.

ثم الظاهر أن اليقين المأخوذ في دليل الاستصحاب مثل قوله عليه‌السلام «لا تنقض

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة : ١ ـ باب ٥ ، ح ١.

(٢) المصدر السابق : ح ٣.

٥٨

اليقين بالشك» (١) يكون مأخوذا على وجه الطريقية والكاشفية ، لا بما انه صفة ، وإلّا لانسد باب الاستصحاب في موارد قيام الأمارة على تحقق شيء وطروء الشك في ارتفاعه ، واختل حكومة الأمارات على الاستصحاب.

ولا يخفى أنه بناء على القول بأن المجعول في الطرق والأمارات هو المنجزية والمعذرية كما هو مختار الكفاية يصعب الجواب عن هذا الإشكال ، ولو قلنا بأن اليقين في دليل الاستصحاب مأخوذ على وجه الكاشفية ، وذلك لأن الاستصحاب أيضا منجز ومعذر تعبدا كالأمارات ، ولا وجه لرفع اليد عن المنجز بمنجز آخر مثله ، وهذا بخلاف ما اخترناه من القول بأن المجعول هو الطريقية والكاشفية ، إذ عليه يرتفع الإشكال من أصله ، لأن الأمارة حينئذ تكون يقينا بالحكومة فيشمله أدلة الاستصحاب ، ويأتي تفصيل الكلام في بابه.

وكيف كان فالصحيح ان المجعول في الطرق والأمارات هو الطريقية والوسطية في الإثبات ، فتكون علما تعبدا ، ويترتب الواقع على مؤداها بما أنه محرز بالإحراز التعبدي لا بما أنه مجعول ويترتب آثار القطع عليها ، مثلا لو شك المأموم في الركعات مع حفظ الإمام لا بد له من المضي في صلاته كما لو كان عالما بالعدد ، لأن حفظ الإمام نزل منزلة علم المأموم ، وهذا هو سر تقدم الأمارات على الأصول ، وحيث أنها إحراز تعبدي يرتفع بها موضوع الأصول العملية الّذي هو الشك غايته تعبدا ، ولو لا ذلك لأشكل الجواب عن هذه الشبهة كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في قيام الطرق والأمارات مقام القطع.

وأما الأصول المحرزة وهي التي أخذ في موضوعها الشك وكانت ناظرة إلى الواقع ، مثل الاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ بناء على عدم كونها من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

٥٩

الأمارات ، فالظاهر أنها بنفس دليل حجيتها تقوم مقام القطع الطريقي المحض ، وتترتب عليها آثاره من المنجزية والمعذورية ، وذلك لأن حكم الشارع في ظرف الشك بالبناء على وفق الحالة السابقة على أنها هي الواقع يكون بيانا ويرتفع به موضوع قبح العقاب بلا بيان ، فيكون منجزا ومعذرا كما في القطع الطريقي.

وأما قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية فهناك تفصيل ، وذلك لأن في القطع جهتين بعد كونه صفة نفسانية مزيلة للتحير والتزلزل ، إحداهما : جهة كونه انكشافا للواقع ، ثانيتهما : جهة كونه اعتقادا أي موجبا للالتزام القلبي على طبقه وخضوع النّفس له ، ولهذه الحيثية قد يعبر عن القطع بالاعتقاد المشتق من العقد. وربما يحصل الانفكاك بين الجهتين ، إذ لا ملازمة بينهما ، كما يشعر إليه قوله تعالى (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)(١) فانه ليس المراد من الإنكار مجرد الإنكار باللفظ ، أي الكذب الموجب للفسق ، بل المراد الإنكار القلبي ، فربما يتيقن الإنسان وليس له عقد القلب والالتزام على وفقه ، وعليه فان كان القطع الموضوعي مأخوذا في الحكم من الجهة الأولى وبما أنه محرز فلا معنى حينئذ لقيام الأصول المحرزة مقامه ، لأنها لا تكون محرزة للواقع حتى تعبدا ، وكيف يمكن جعلها محرزة للواقع مع أن الشك في الواقع مأخوذ في موضوعها ، وربما يرجع مثل هذا الجعل إلى الجمع بين متناقضين.

وأما ان كان مأخوذا في الموضوع من الجهة الثانية ، أي من حيث كونه موجبا لعقد القلب على طبقه مقدمة للعمل على وفقه ، فتقوم الأصول المحرزة مقامه ، وذلك لأن مفاد أدلتها هو عقد القلب والبناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع ، ولا ينافي الحكم بعقد القلب والبناء العملي على ذلك مع أخذ الشك في

__________________

(١) النمل : ١٤.

٦٠