دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

بلا بيان فمن الظاهر انه غير جار في المقام ، ضرورة انه لا يحتمل العقاب على ترك خصوص ما يشك في كونه عدلا للواجب في الجملة. واما الجامع بينهما فاستحقاق العقاب على تركه معلوم ، ولا معنى معه للرجوع إلى البراءة.

وان أريد به البراءة الشرعية فالتكليف بالجامع معلوم على الفرض ، كما ان تعلقه بخصوص ما يحتمل كونه عدلا غير محتمل ، فلا معنى لجريان البراءة فيهما ، فلم يبق في البين إلّا إجراء البراءة عن جعل العدل لما علم وجوبه في الجملة الراجع إلى إجراء البراءة عن الإطلاق ، ومن الواضح عدم صحة ذلك ، لأن الإطلاق موجب للتوسعة ، فلا منة في رفعه.

وان أريد به الاستصحاب ، فاستصحاب عدم جعل العدل للواجب المعلوم في الجملة وان كان جاريا في نفسه ، بناء على جريانه في الأحكام الكلية ، إلّا أنه معارض باستصحاب عدم جعل الوجوب التعيني لما يحتمل تعيينه أولا ، وعدم ثبوت التعيين بالاستصحاب المزبور ثانيا إلّا على القول بالأصل المثبت.

الوجه الثالث : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من ان دوران الأمر بين التعيين والتخيير ان كان من جهة احتمال أخذ شيء شرطا للواجب فالحكم وان كان هو التخيير ، لأن الشرطية أمر قابل للوضع والرفع ، فيشملها حديث الرفع عند الشك فيها ، إلّا أنه إذا كان الدوران بينهما من جهة احتمال دخل خصوصية ذاتية في الواجب لا يمكن الرجوع إلى البراءة ، إذ الخصوصية انما تكون منتزعة عن نفس الخاصّ ، ولا يمكن معه الرجوع إلى البراءة ، فلا بد من الحكم بالاشتغال والتعيين في مقام الامتثال.

وفيه : ان خصوصية الخاصّ وان كانت منتزعة عن نفس الخاصّ ، وغير قابلة للوضع والرفع ، إلّا ان اعتبارها في المأمور به قابل لهما ، فإذا شك في ذلك فالمرجع هي البراءة على ما تقدم بيانه.

٤٤١

الوجه الرابع : ما ذكره المحقق النائيني أيضا من ان الوجوب التخييري يحتاج إلى مئونة زائدة في مقامي الثبوت والإثبات (١). اما في مقام الثبوت فلاحتياجه إلى ملاحظة العدل ، وتعليق التكليف بالجامع بينه وبين الطرف الآخر. واما في مقام الإثبات فلأنه محتاج إلى ذكر العدل وبيانه ، فما لم يثبت الحجة على المئونة الزائدة يحكم بعدمها ، فيثبت الوجوب التعييني.

وفيه : ان ما ذكر انما يتم فيما إذا ورد دليل لفظي على وجوب شيء من غير ذكر عدل له ، فيتمسك بإطلاقه لإثبات كون الوجوب تعيينيا. واما لو لم يثبت ذلك ، كما هو المفروض ، فلا معنى للرجوع إلى الأصل العملي على ما مر.

فتحصل من جميع ما ذكرناه أنه لا وجه للقول بالتعيين ، ولا مانع من الرجوع إلى البراءة عن الإلزام بالإتيان بخصوص ما يحتمل كونه واجبا تعيينيا.

ثم لا يخفى ان الحكم بالتخيير انما يتم فيما إذا كان المكلف متمكنا من الإتيان بما يحتمل كونه واجبا تعيينيا ، ليدور أمر الوجوب الفعلي الثابت في الجملة بين التعيين والتخيير. واما فيما لم يتمكن من ذلك فالشك في كون الوجوب المجعول في الشريعة تعيينيا أو تخييريا يستلزم الشك في الإلزام الفعلي بما يحتمل كونه عدلا ، ولا يحكم حينئذ بالتخيير ليترتب عليه الإلزام المزبور ، بل يرجع إلى البراءة عنه ، لأنه مجهول ، والعقاب على مخالفته على تقدير ثبوته عقاب بلا بيان.

اما الصورة الثانية : فقد عرفت فيما تقدم انه لا ثمرة فيها للشك في كون الوجوب تعيينيا أو تخييريا إلّا فيما إذا تعذر ما علم وجوبه في الجملة ، فانه على تقدير كون الوجوب تخييريا يتعين الطرف الآخر المعلوم كونه مسقطا للواجب ، وليس كذلك على تقدير كون الوجوب تعيينيا واشتراطه بعدم ما علم سقوطه به ، وعليه

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

٤٤٢

فالشك في التعيين والتخيير يرجع إلى الشك في الإلزام بما يحتمل كونه عدلا للواجب عند تعذره ، وقد عرفت انه مورد للبراءة. فالنتيجة في هذه الصورة نتيجة التعيين دون التخيير.

ثم ان المحقق النائيني قد استدل على كون الوجوب تعيينيا في خصوص مسألة القراءة والائتمام بما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ان (سين بلال شين) بتقريب (١) : ان الائتمام لو كان عدلا للقراءة لكان اللازم ان لا يكتفي بذلك ، ويحكم بلزوم الائتمام عليه على تقدير التمكن منه.

ويرد عليه : ان ما يتحمله الإمام من المأمور انما هي القراءة ، وليس فيها حرف الشين ليتعين الائتمام عند تعذر التلفظ به على تقدير كون الوجوب تخييريا ، فالاستدلال المزبور أجنبي عما نحن فيه بالكلية.

واما الصورة الثالثة : فلا أثر فيها للشك فيما إذا لم يتمكن المكلف إلّا من أحد الفعلين ، ضرورة وجوب الإتيان به حينئذ ، اما لكونه واجبا تعينيا ، أو عدلا لواجب تخييري تعذر بعض أطرافه. وانما تظهر الثمرة في صورة التمكن منهما جميعا ، فيدور الأمر بين وجوب الإتيان بهما وجواز الاكتفاء بأحدهما ، وقد ظهر مما ذكرنا ان الحكم هو التخيير ، لأن تعلق التكليف بالجامع أمر معلوم ، وتعلقه بخصوص كل من الفعلين مجهول ، فيرجع إلى البراءة العقلية.

واما القسم الثاني : وهو ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية والطريقية ، فالمرجع فيه هو الحكم بالتعيين ، فان ما علم حجيته المرددة بين كونها تعيينية أو تخييرية قاطع للعذر في مقام الامتثال ومبرأ للذمة في مقام الظاهر ، واما الطرف الآخر المحتمل كونه حجة تخييرا فهو محكوم بعدم الحجية عقلا وشرعا ، لما

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٢١٧ ـ ٢١٨.

٤٤٣

عرفت في محله من ان الشك في الحجية في مقام الجعل مساوق للقطع بعدم الحجية الفعلية ، فكلما شك في حجيته لشبهة حكمية أو موضوعية لا يصح الاعتماد عليه في مقام العمل ، كما لا يصح اسناد مؤداه إلى المولى ولو ظاهرا.

واما القسم الثالث : وهو ما إذا دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال لأجل التزاحم ، فالحق فيه هو الحكم بالتعيين. وتوضيح ذلك يبتني على تقديم مقدمتين.

الأولى : ان التزاحم في مقام الامتثال وان أوجب سقوط أحد التكليفين بامتثال الآخر لا محالة ، لاستحالة بقائهما على إطلاقهما ، إلّا أنه لا يوجب سقوط الملاكين عما هما عليه من حد الإلزام ، إذ المفروض ان عجز المكلف هو الّذي أوجب التزاحم ورفع اليد عن أحد الخطابين في ظرف امتثال الآخر ، وإلّا كان الواجب امتثالهما معا وعدم جواز الاكتفاء بأحدهما عن الآخر.

الثانية : قد ذكرنا في محله انّ تفويت الغرض الملزم بعد إحرازه بمنزلة مخالفة التكليف الواصل في حكم العقل بقبحه ، ولا يرتفع هذا القبح إلّا بعجز المكلف تكوينا ، أو بتعجيز المولى إياه بامره بما لا يجتمع معه في الخارج ، وما لم يتحقق شيء من الأمرين يحكم العقل بقبح التفويت واستحقاق العقاب عليه.

إذا عرفت ذلك نقول : إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين معلوم الأهمية ، فلا محالة يكون التكليف الفعلي متعلقا به ، وصارفا لقدرة المكلف نحوه ، والملاك في الطرف الآخر وان كان ملزما في نفسه إلّا ان تفويته مستند إلى تعجيز المولى ، لأمره بصرف القدرة إلى ما يضاده ، فإذا أتى المكلف بالواجب الأهم كان معذورا في تفويت الملاك الآخر بالضرورة. نعم لو عصى هذا التكليف لم يكن مانع عن التكليف بالمهم ، بناء على ما قررناه في محله من إمكان التكليف بالضدين على نحو الترتب.

٤٤٤

وان كان كل من الواجبين مساويا مع الآخر من جهة الملاك ، فحيث لا ترجيح في البين فلا يعقل التكليف الفعلي المطلق بخصوص أحدهما دون الآخر ، فلا بد من التكليف بكل منهما مشروطا بعدم الإتيان بالآخر ، أو بهما معا على نحو التخيير على الخلاف المتقدم في محله. وعلى كل من القولين لا ينبغي الإشكال في جواز الاكتفاء بأحدهما وتفويت ملاك الآخر ، لأنه أقصى ما يتمكن المكلف منه من تحصيل غرض المولى كما هو المفروض.

واما إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين محتمل الأهمية ، فالإتيان به ولو بتفويت الملاك في الآخر لا إشكال في جوازه ، لدوران الأمر بين كونه متعينا في مقام الامتثال أو مخيرا بينه وبين الطرف الآخر ، وعلى كل حال فالإتيان به خال عن المحذور. واما تفويت الغرض المحتمل أهميته مع القدرة تكوينا على تحصيله فلم يثبت جوازه ، فان الإتيان بالطرف الآخر وان كان موجبا بعجز المكلف عنه إلّا انه تعجيز اختياري ، وهو لا ينافي صحة العقاب. وبالجملة الملاك الملزم المتحقق في ما احتمل أهميته لا يجوز تفويته في حكم العقل إلّا بالعجز تكوينا أو تشريعا ، والمفروض في المقام قدرة المكلف على تحصيله ولو بتفويت الملاك الآخر ، فلا يجوز تفويته لحكم العقل بالاشتغال واستحقاق العقاب على تفويته من غير عذر.

ومما ذكرنا يظهر الفرق بين هذا القسم والقسم الأول ، فان الشك في التخيير والتعيين في القسم الأول انما كان ناشئا من الشك في كيفية الجعل ، والجهل بمتعلق تكليف المولى وما يفي به غرضه ، فلا مانع من الرجوع فيه إلى البراءة عن التكليف الزائد على المقدار المتيقن ، بخلاف الشك في هذا القسم ، فانه ناشئ من التزاحم بعد إحراز متعلق التكليف واشتمال كل من الواجبين على الملاك الملزم ، فلا مناص فيه من القول بالاشتغال ، تحصيلا للفراغ اليقيني والأمن من العقوبة.

٤٤٥
٤٤٦

تنبيهات الأقل والأكثر

وينبغي التنبيه على أمور :

الأمر الأول : إذا ثبتت شرطية شيء أو جزئيته للمأمور به في الجملة ، ودار الأمر بين كونها مطلقة ليبطل العمل بفقدانها ولو في حال النسيان ، أو مختصة بحال العمد ليختص البطلان بالترك العمدي ، فهل القاعدة تقتضي الإطلاق ما لم يثبت التقييد بدليل ، أو تقتضي الاختصاص إلّا فيما دل الدليل بالخصوص على الإطلاق؟ وجهان.

وقبل تحقيق ذلك ينبغي التكلم في إمكان تكليف الناسي بغير ما نسيه من الاجزاء والشرائط واستحالته ، فإذا ثبت صحة العمل الفاقد لبعض الاجزاء أو الشرائط نسيانا ، كما في الصلاة إذا كان المنسي من غير الأركان ، فهل يكون الحكم بالصحّة لأجل جهة وفاء المأتي به بالملاك الملزم ، وسقوط الأمر باستيفاء ملاكه؟ وهذا البحث وان لم يترتب عليه ثمرة عملية في المثال إلّا انه يترتب عليه الأثر في موارد جريان الأصل العملي كما ستعرف إن شاء الله تعالى. ذهب جماعة إلى استحالة توجيه الأمر إلى الناسي ، فاختاروا ان الصحة في مفروض المثال من جهة الوفاء بالملاك ، لا من جهة انطباق المأمور به ، على المأتي به ، نظرا إلى ان الناسي إذا التفت إلى نسيانه انقلب إلى الذاكر ، فلا يكون الحكم الثابت لعنوان الناسي فعليا في حقه ، وان لم يلتفت إلى نسيانه فلا يعقل انبعاثه عنه ، وما لم يمكن الانبعاث لا يمكن

٤٤٧

البعث بالضرورة ، فعلى كلا تقديري الالتفات وعدمه يستحيل فعلية الحكم في حقه ، ومع استحالة الفعلية يمتنع الجهل بالضرورة.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى إمكان ذلك (١) ، وأفاد في بيانه وجهين :

الأول : ان يوجه الخطاب إلى الناسي لا بعنوانه ، بل بعنوان ملازم له واقعا وان لم يكن الناسي ملتفتا إلى الملازمة ليرد المحذور.

وفيه : أن هذا مجرد فرض وهمي ، لا واقع له ، ولا سيما أن النسيان يختلف باختلاف الأزمان والأشخاص ، واختلاف متعلقه ، فقد يتعلق النسيان بالقراءة ، وقد يتعلق بالسجود أو بغير ذلك من اجزاء الصلاة وشرائطها ، فأي عنوان يفرض ملازما للنسيان أينما تحقق ، خصوص إذا اعتبر فيه ان لا يكون الناسي ملتفتا إلى الملازمة بينهما.

الثاني : أن يوجه التكليف إلى عامة المكلفين بالإتيان بما يتقوم به العمل في حالتي العمد والسهو ، واما بقية الاجزاء والشرائط فيوجه الأمر بكل منها إلى خصوص الذاكرين ، أو يخبر عن كونه جزءا أو شرطا لهم خاصة ، وعلى كل حال تختص الجزئية أو الشرطية فيها بحال الذّكر ، ولا يعم حال النسيان.

وهذا الوجه الّذي ذكره متين في مقام الثبوت ، إلّا انه يحتاج في مقام الإثبات إلى ما يدل عليه. وقد ثبت ذلك في باب الصلاة ، حيث ان الأمر بالأركان فيها مطلق لعامة المكلفين ، واما بقية الاجزاء والشرائط فالأمر بها مختص بحال الذّكر بمقتضى حديث لا تعاد وغيره من النصوص الواردة في موارد خاصة ، وعليه فالناسي لجزء وان كان غير ملتفت إلى نسيانه إلّا انه ملتفت إلى ان كلما يأتي به من الاجزاء والشرائط انما يأتي به بما هو مأمور به ، غاية الأمر أنه يتخيل ان ما يأتي به مماثل لما

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٤٠.

٤٤٨

يأتي به غيره من الذاكرين ، وان الأمر المتوجه إليه هو الأمر المتوجه إليهم ، ومن الظاهر أن ذلك لا يضر بصحة العمل بعد وجود الأمر الفعلي ومطابقة المأتي به للمأمور به وان لم يكن الآتي ملتفتا إلى خصوصية الأمر وكيفيته.

ولعل هذا هو مراد الشيخ قدس‌سره مما أفاده في المقام من إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي ، والحكم بصحة عمله وان كان مخطئا في التطبيق (١) ، فلا يرد عليه ما ذكره المحقق النائيني (٢) قدس‌سره من انّ الخطأ في التطبيق انما يعقل فيما إذا أمكن جعل كل من الحكمين في نفسه ، ولكن كان الواقع في الخارج أحدهما وتخيل المكلف انه الآخر ، كما إذ أتى المكلف بعمل معتقدا استحبابه فبان انه واجب أو بالعكس. واما في المقام فبما ان تكليف الناسي مستحيل في مقام الثبوت فلا يمكن ان يدرج ذلك في كبرى الخطأ في التطبيق.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان البحث في محل الكلام قد يكون فيما يقتضيه الأصول اللفظية ، وقد يكون فيما يقتضيه الأصول العملية. فهنا مقامان.

أما المقام الأول : فتحقيق الحال فيه ان يقال : ان دليل الجزئية أو الشرطية أما أن يكون له إطلاق يشمل حال النسيان أيضا كقوله عليه‌السلام «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (٣) أو «من لم يقم صلبه في صلاته فلا صلاة له» (٤) ، أو لا يكون له إطلاق كالاستقرار المعتبر في الصلاة ، فان عمدة دليله الإجماع ، ولا إطلاق له لغير حال العمد. وعلى كلا التقديرين اما أن يكون لدليل أصل الواجب كالصلاة في محل الكلام إطلاق لجميع الحالات ، أو لا يكون له إطلاق ، فالصور أربعة.

اما إذا فرض عدم الإطلاق لدليل الجزئية أو الشرطية ، ولدليل أصل

__________________

(١) حكاه المحقق النائيني ، راجع فوائد الأصول : ٤ ـ ٢١١.

(٢) المصدر السابق : ٢١١ ـ ٢١٢.

(٣) مستدرك الوسائل : ٤ ـ باب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٥.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ ـ باب ٩ من أبواب القبلة ، ح ٣.

٤٤٩

الواجب ، فيقع الكلام عنه في المقام الثاني.

واما إذا كان لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق ، فلا بد من الأخذ به ، والحكم بالجزئية أو الشرطية المطلقة من دون فرق بينما إذا كان لدليل الواجب إطلاق وما لم يكن ، فانه إذا لم يكن له إطلاق الأمر واضح.

واما إذا كان له إطلاق ، فلان إطلاق دليل المقيد يتقدم على إطلاق الدليل المطلق ، وعلى كلا التقديرين لا مجال للرجوع إلى البراءة ورفع الجزئية أو الشرطية في حال النسيان بحديث الرفع ، إذ الإطلاق المفروض دليل لا يجري معه البراءة.

فان قلت : كيف يعقل الإطلاق في دليل الجزئية أو الشرطية مع انها منتزعة من الأمر بالمركب أو المقيد ، ومن الظاهر أن الأمر بما هو مركب من المنسي أو مقيد به مستحيل عقلا ، لأنه تكليف بما لا يطاق ، فلا يعقل الجزئية أو الشرطية المطلقة.

قلت : ليس المراد بإطلاق دليل الجزئية أو الشرطية ثبوت الجزئية أو الشرطية حال النسيان ليستحيل ذلك ، بل المراد به ثبوتها في جميع آنات الأمر بالمركب أو بالمقيد ، فلازم الإطلاق المزبور سقوط الأمر عند نسيان الجزء أو الشرط ، لا ثبوته متعلقا بما يشتمل عليه ، وعلى ذلك فمع الإطلاق المزبور يحكم بفساد العمل الفاقد لبعض الاجزاء أو الشرائط حال النسيان.

فان قلت : ان إطلاق دليل الجزئية أو الشرطية لحال النسيان وان كان مانعا عن الرجوع إلى البراءة لإلغاء جزئية المنسي أو شرطيته ، إلّا انه لا مانع من التمسك بحديث رفع الخطأ والنسيان لإثبات ذلك ، لما عرفت فيما تقدم ان الرفع بالإضافة إلى غير ما لا يعلمون رفع واقعي ، وحاكم على إطلاقات الأدلة المثبتة للأحكام في ظرف الخطأ والنسيان وغيرهما ، وبذلك يثبت صحة المأتي به وكونه مطابقا لما امر به

٤٥٠

فعلا.

قلت : انّ رفع الخطأ والنسيان لا يترتب عليه فيما نحن فيه إلّا نفي الإلزام عما هو مركب من المنسي أو المقيد به ، ضرورة أن نفي الجزئية أو الشرطية لا يكون إلّا برفع منشأ انتزاعه من الأمر بالمركب أو المقيد ، ولا يترتب على ذلك ثبوت الأمر بغير المنسي كما هو المدعى ، على انا قد ذكرنا في بحث حديث الرفع ان نسيان جزء أو شرط في فرد من افراد الواجب لا يكون موردا لحديث الرفع أصلا فراجع. ومما ذكرنا يظهر الحال فيما إذا أكره أو اضطر المكلف إلى ترك جزء أو شرط مما اعتبر في الواجب. هذا فيما إذا لم يدل دليل بالخصوص على عدم سقوط الواجب بتعذر بعض اجزائه أو شرائطه. واما فيما دل على ذلك ، كما في باب الصلاة ، فلا ينبغي الإشكال في عدم سقوطه ، والإتيان بما يتمكن منه كما سيأتي الكلام فيه مفصلا. هذا كله فيما إذا كان لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق.

واما إذا لم يكن له إطلاق ، وكان لدليل الواجب إطلاق ، فيؤخذ به ، ويحكم بصحة العمل الفاقد للجزء أو الشرط المنسي ، من دون فرق بين موارد التكاليف الانحلالية وما إذا كانت الطبيعة متعلقة للتكليف بنحو صرف الوجود وكان النسيان متعلقا بجزء أو شرط في فرد منها في مقام الامتثال ، والوجه فيه ظاهر لا يخفى.

ثم انه ربما يقال : ان كلما ثبتت جزئية شيء أو شرطيته بالأمر به فلا إطلاق له لحال النسيان ، لاشتراط التكليف بالقدرة عقلا ، والمنسي غير مقدور بالضرورة ، فلو كان لدليل الواجب إطلاق لم يكن مانع عن التمسك به لإثبات التكليف بغير المنسي من الاجزاء والشرائط.

والجواب عنه يظهر مما ذكرناه في محله من انّ الأوامر المتعلّقة بالاجزاء والشرائط ليست بأوامر بعثية ، بل هي إرشاد إلى جزئية المأمور به أو شرطيته حسب اختلاف المقامات ، كما ان النهي عن الإتيان بشيء في الواجب إرشاد إلى

٤٥١

مانعيته لا زجر مولوي عنه ، وعليه فلا مانع من التمسك بإطلاق الأمر لإثبات الجزئية أو الشرطية المطلقة.

المقام الثاني : فيما إذا لم يكن لكل من دليل الواجب ودليل الجزئية أو الشرطية إطلاق. والكلام فيه يقع في موردين.

الأول : في موارد التكاليف الانحلالية.

الثاني : في موارد التكاليف المتعلقة بصرف وجود الطبيعة.

اما المورد الأول : فالشك في الجزئية أو الشرطية المطلقة ملازم للشك في التكليف بغير المنسي من الاجزاء والشرائط ، فإذا أمر المولى عبده بالوقوف في يوم معين من طلوع الشمس إلى الزوال ، فنسي المكلف ، فلم يقف ساعة من أول النهار ، وشك في ان جزئية الوقوف في هذه الساعة جزئية مطلقة ليترتب عليها سقوط الأمر في الساعات المتأخرة ، أو انها مقيدة بحال الذّكر ليكون الأمر به في المقدار الباقي باقيا على حاله ، فالشك لا محالة شك في التكليف ، فيرجع معه إلى البراءة فلا يجب عليه الإتيان بغير المنسي ، وهذا واضح لا يخفى.

واما المورد الثاني : فالتكليف فيه بأصل الطبيعة مفروغ عنه ، إلّا ان الشك في إطلاق الجزئية أو الشرطية واختصاصها بحال الذّكر شك في جواز الاكتفاء بما أتى به من الاجزاء والشرائط وعدمه ، فإذا نسي جزءا من الصلاة ، وذكره بعد تجاوز محله ، فان كانت الجزئية مطلقة لزمه إعادتها وعدم الاجتزاء بما أتى به ، وإذا كانت الجزئية مقيدة بحال الذّكر فالعمل المأتي به لم يكن فاقدا لشيء من الاجزاء والشرائط ، فينطبق المأمور به عليه ، بعد ما عرفت من إمكان تكليف الناسي بغير ما نسيه. وعليه فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة لنفي الجزئية أو الشرطية في حال النسيان ، بعد فرض ثبوت أصل التكليف في الجملة ، وإمكان تكليف الناسي ، وعدم الإطلاق لدليل الجزئية أو الشرطية.

٤٥٢

توضيح ذلك : انه بعد دخول الوقت نعلم بوجوب الصلاة ، كما نعلم بجزئية التشهد مثلا المردد بين الإطلاق والاختصاص بحال الذّكر ، ولازم العلمين المزبورين تردد الواجب بين أن يكون خصوص الطبيعي المشتمل على التشهد أو الجامع بينه وبين الفاقد له في حال النسيان ، فيرجع الأمر إلى العلم بالقدر الجامع والشك في اعتبار التشهد على الإطلاق ، فيرجع إلى البراءة في مورد الشك ، فلا يحكم بالجزئية إلّا في المقدار المتيقن ، وهو مورد الذّكر دون النسيان ، هذا بناء على ما هو الصحيح من إمكان شمول الأمر للناسي على ما عرفت. واما بناء على استحالته فما صدر من الناسي غير مأمور به قطعا ، فالشك في صحته وفساده يكون ناشئا عن الشك في وفائه بالغرض وعدمه ، ومعه لا بد من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، فان سقوط الأمر بغير الإتيان بالمأمور به يحتاج إلى قيام دليل ، وهو مفقود في محل الكلام على الفرض. وهذه هي الثمرة التي أشرنا إليها عند التكلم عن إمكان تكليف الناسي.

ومما ذكرناه ظهر الحال من حيث جريان البراءة وعدمه فيما إذا استند ترك الجزء إلى اضطرار أو إكراه ونحوهما.

التنبيه الثاني : في حكم الزيادة العمدية والسهوية. ولا بد قبل التكلم في ذلك من تحقيق مفهوم الزيادة ، والكلام فيه يقع من جهتين.

الأولى : في إمكان تحقق الزيادة حقيقة في المركبات الاعتبارية وعدمه.

الثانية : في اعتبار قصد الزيادة في تحققها وعدمه.

اما الجهة الأولى : فقد يقال فيها باستحالة تحقق الزيادة حقيقة وان كانت متحققة بالمسامحة العرفية ، نظرا إلى ان كل جزء أخذ في المركب ان كان مأخوذا على نحو اللابشرط ومن غير تقييد بالوجود الواحد فلا يعقل فيه تحقق الزيادة ، إذ كل ما أتى بفرد من طبيعي ذلك الجزء كان مصداقا للمأمور به ، سواء كان المأتي به فردا

٤٥٣

واحدا أو أكثر. وإن كان مأخوذا بشرط لا عن الوجود الثاني. فالإتيان به مرة ثانية مستلزم لفقدان القيد المأخوذ في الجزء المستلزم للنقيصة لا محالة ، وعلى كل حال فلا يعقل تحقق الزيادة حقيقة.

والجواب عنه : انّ اعتبار اللابشرطية لا ينافي تحقق الزيادة ، فانّ أخذ شيء جزءا للمركب لا بشرط يتصور على وجهين :

أحدهما : ان يكون طبيعي ذلك الجزء مأخوذا في المركب ، من دون نظر إلى وحدة الفرد وتعدده ، وفي مثل ذلك لا يمكن تحقق الزيادة كما مر.

وثانيهما : ان يعتبر صرف الوجود المنطبق على أول الوجودات جزءا للمركب ، سواء انضم إليه وجود ثان أم لم ينضم ، ففي مثل ذلك الانضمام وعدمه وان كانا على حد سواء في عدم دخلهما في جزئية الوجود الأول ، الّذي هو معنى أخذ لا بشرط ، إلّا انه لا يقتضي كون الوجود الثاني أيضا مصداقا للمأمور به ، وحينئذ يتحقق الزيادة مع كون الجزء مأخوذا لا بشرط بهذا النحو. على ان عدم صدق الزيادة حقيقة وبالدقة العقلية لا يترتب عليه أثر بعد كون الأحكام تابعة للصدق العرفي ، ومن الضروري صدقها عرفا ولو مع أخذ الجزء بشرط لا كما هو ظاهر. ومما ذكرنا يظهر الحال في صحة صدق الزيادة إذا كان الزائد غير مسانخ للاجزاء المأمور بها.

واما الجهة الثانية : فالظاهر اعتبار القصد في تحقق عنوان الزيادة ، والوجه في ذلك ان المركب الاعتباري كالصلاة مركب من أمور متباينة مختلفة وجودا وماهية ، والوحدة بينها متقومة بالقصد والاعتبار ، فلو أتى بشيء بقصد ذلك العمل كان جزءا له ، وإلّا فلا. هذا في غير الركوع والسجود ، واما فيهما فالظاهر تحقق الزيادة بنفس وجودهما ، وان لم يكن الإتيان بهما بعنوان الصلاة ، وذلك لما دل على ان الإتيان بسجدة التلاوة زيادة في الفريضة ، مع ان المفروض عدم الإتيان بها

٤٥٤

بعنوان الصلاة ، فبالتعبد الشرعي يجري على ذلك حكم الزيادة وان لم يكن من الزيادة حقيقة. ويلحق بالسجدة الركوع بالأولوية القطعية ، ويترتب على ذلك عدم جواز الإتيان بصلاة في أثناء صلاة أخرى في غير الموارد المنصوصة ، فان الركوع والسجود المأتي بهما بعنوان الصلاة الثانية محقق للزيادة في الصلاة الأولى الموجبة لبطلانها. وقد بينا وجها آخرا لعدم جواز ذلك في كتاب الصلاة ، ليس المقام محل ذكره.

إذا عرفت ذلك فنقول : الشك في بطلان العمل من جهة الزيادة العمدية أو السهوية يكون ناشئا من الشك في اعتبار عدمها في المأمور به لا محالة ، ومن الظاهر انه ما لم يقم عليه دليل كان مقتضى الأصل عدمه ، فلا بأس بالزيادة العمدية فضلا عن السهوية. هذا فيما إذا لم تستلزم الزيادة موجبا للبطلان من جهة أخرى ، كما إذا قصد المكلف امتثال خصوص الأمر المتعلق بما يتركب من الزائد ، فانه لا إشكال في البطلان في هذا الفرض إذا كان الواجب عباديا ، لأن الأمر المقصود امتثاله لم يكن متحققا ، وما كان متحققا لم يقصد امتثاله. نعم إذا قصد المكلف امتثال الأمر الفعلي ، وقد أتى بالزائد لاعتقاد كونه مأمورا به من جهة الخطأ في التطبيق أو التشريع فيه صح العمل ، وحصل التقرب ، لما عرفت من ان الزيادة في نفسها لا توجب البطلان ، والتشريع في التطبيق القبيح عقلا وشرعا لا ينافي التقرب بامتثال الأمر الموجود ، كما هو المفروض. هذا ما تقتضيه القاعدة على الإطلاق.

إلّا انه قد ورد الدليل على بطلان الصلاة والطواف بالزيادة فيهما. اما الطواف فلا ينبغي الشك في بطلانه بالزيادة العمدية أو السهوية. واما الصلاة فلا إشكال في بطلانها بالزيادة العمدية أيضا ، انما الكلام في الزيادة السهوية.

والتحقيق : عدم بطلانها بها إذا كان الزائد من غير الأركان ، والوجه في ذلك ان أدلة بطلانها بالزيادة على طوائف.

٤٥٥

منها : ما دل على بطلانها بها مطلقا كقوله عليه‌السلام «من زاد في صلاته فعليه الإعادة»(١).

ومنها : ما دل على بطلانها بالزيادة السهوية كقوله عليه‌السلام «إذا استيقن انه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها واستقبل صلاته استقبالا» (٢).

ومنها : ما دل على ان الإخلال السهوي زيادة ونقيصة إذا كان في الأركان فهو موجب للبطلان ، وإذا كان في غيرها مما اعتبر في الواجب جزءا أو شرطا فلا يضر بالصحّة ، كقوله عليه‌السلام «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الطهور ، الوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود» (٣). وتوهم اختصاص الرواية بالنقيصة لعدم تصور الزيادة في الوقت والقبلة والطهور واضح الدفع ، فان انحصار الإخلال فيها بالنقيصة خارجا لا يوجب إرادة خصوصها ، بعد قابلية الركوع والسجود للزيادة والنقيصة.

ومقتضى الجمع بين هذه الروايات اختصاص البطلان في الزيادة السهوية بالأركان ، فان الرواية الأولى وان كانت عامة من حيث السهو والعمد ، ومن حيث الأركان وغيرها ، إلّا انها خاصة بالزيادة ، فالنسبة بينها وبين «لا تعاد» عموم من وجه ، فان حديث «لا تعاد» الدال على عدم البطلان بالزيادة في غير الأركان سهوا وان كان خاصا من هذه الجهة إلّا انه عام من جهة الزيادة والنقيصة ، كما ان الرواية الثانية الواردة في خصوص السهو عامة من حيث الأركان وغيرها ، وخاصة بالزيادة ، فالنسبة بينها وبين حديث «لا تعاد» المختص بغير الأركان والشامل للزيادة والنقيصة أيضا عموم من وجه ، إلّا ان حديث «لا تعاد» لحكومته على أدلة الاجزاء والشرائط والموانع التي منها الروايتان المتقدمتان يتقدم عليها لا محالة ، ولا

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٥ ـ باب ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٢.

(٢) المصدر السابق : ح ١.

(٣) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٣ من أبواب الوضوء ، ح ٨.

٤٥٦

تلاحظ النسبة بينه وبينها كما هو الحال في كل حاكم ومحكوم.

فتحصل مما ذكرنا ان الزيادة العمدية موجبة لبطلان الصلاة مطلقا بمقتضى إطلاق الرواية الأولى ، وبمقتضى الأولوية القطعية في الرواية الثانية ، ولا معارض لها بعد كون حديث «لا تعاد» ظاهرا في إثبات الحكم لمن أتى بوظيفته ثم التفت إلى خلل فيه ، فلا يعم العامد. وان الزيادة السهوية موجبة للبطلان إذا كانت في الأركان ، لإطلاق كل من الروايات المتقدمة. واما الزيادة السهوية في غير الأركان فهي مورد المعارضة ، وقد عرفت انه لا بد من تقديم حديث «لا تعاد» لأجل الحكومة ، هذا في الزيادة.

واما النقيصة فلا ينبغي الشك في بطلان الصلاة بها إذا كانت عمدية. واما إذا كانت سهوية فمقتضى حديث «لا تعاد» هو البطلان فيما إذا كان المنسي من الأركان ، والصحة فيما إذا كان الناقص غيرها. وتمام الكلام في بحث الصلاة.

التنبيه الثالث : إذا تعذر الإتيان ببعض اجزاء الواجب أو شرائطه فهل القاعدة تقتضي سقوط التكليف به رأسا ، أو بقائه متعلقا بغير المتعذر من الأجزاء والشرائط؟ والتكلم في هذا البحث من جهة التمسك بالإطلاق لو كان ، أو بالأصل العملي من البراءة والاشتغال قد ظهر الحال فيه مما مر في التنبيه الأول فيما إذا نسي الجزء أو الشرط ، فلا حاجة إلى الإعادة. وقد عرفت هناك ان الواجب إذا كان انحلاليا ، ولم يتمكن المكلف من الإتيان بجميع اجزائه وشرائط لنسيان أو إكراه أو اضطرار أو غير ذلك ، ولم يكن في البين إطلاق يمكن التمسك به لإثبات وجوب المقدار الممكن ، كان مقتضى الأصل هو البراءة العقلية والنقليّة عن وجوبه ، على ما تقدم بيانه في حديث الرفع.

إلّا انه ربما يقال بوجوب المقدار الميسور من جهة الاستصحاب ، أو الأدلة الخاصة الواردة في المقام.

٤٥٧

اما الاستصحاب ، فتقريبه من وجوه.

الأول : ان يستصحب الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي المتعلق بغير المتعذر من الاجزاء والشرائط ، فان وجوبها الضمني قبل طروء التعذر في ضمن وجوب المركب كان ثابتا ، ونشك في ارتفاع أصل الوجوب بارتفاعه ، فيتمسك بالاستصحاب في الحكم ببقائه.

ويرد عليه : انه مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من استصحاب الكلي ، ولا نقول به ، فان الفرد المعلوم تحققه وهو الوجوب الضمني قد ارتفع يقينا ، والوجوب الاستقلالي مشكوك الحدوث ، فليس وجود واحد متيقن الحدوث مشكوك البقاء ليحكم ببقائه بالاستصحاب.

الثاني : ان يستصحب الوجوب الاستقلالي بنحو مفاد كان التامة ، بأن يقال : كان وجوب الصلاة مثلا قبل تعذر بعض أجزائها ثابتا في الخارج ، فيشك في ارتفاعه بعد طروء التعذر ، فيستصحب بقاؤه.

ويرد عليه : أولا : ان الوجوب لا يتحقق في الخارج إلّا متعلقا بشيء ، ومتقوما به ، وعليه فالوجوب المتيقن كان متقوما بالمركب من المتعذر وغيره ، والوجوب المشكوك بعد التعذر لو كان فهو وجوب آخر متقوم بغير ما تقوم به الوجوب الأول ، فجريان الاستصحاب فيه لإثبات جامع الوجوب مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث ، ولا نقول به.

وثانيا : ان استصحاب الوجوب بنحو مفاد كان التامة ، وهو ما إذا لوحظ نفس وجوب الوجوب مع قطع النّظر عن متعلقه لا يترتب عليه وجوب غير المتعذر من الاجزاء والشرائط إلّا على القول بالأصل المثبت ، وستعرف بطلانه ، فالمقام نظير ما إذا علمنا بوجوب إكرام زيد ، ثم علمنا بارتفاعه ، واحتملنا وجوب إكرام عمرو ، فهل يمكن إثباته باستصحاب بقاء وجوب الإكرام على نحو مفاد كان التامة؟

٤٥٨

كلا.

الثالث : ان يستصحب الوجوب الاستقلالي الثابت للصلاة مثلا فيما إذا لم يكن المتعذر من الاجزاء المقومة بان يقال : ان الصلاة الفاقدة للجزء المتعذر التي هي متحدة مع الواجدة له بنظر العرف كانت واجبة قبل طرو العذر ، فيستصحب بقاؤها على صفة الوجوب بعد التعذر أيضا. والفرق بين هذا التقريب والتقريبين الأولين هو ان جريان الاستصحاب بناء على هذا التقريب يختص بما إذا كان المتعذر غير مقوم للواجب بنظر العرف لتكون القضية المشكوكة متحدة مع المتيقنة بهذا النّظر ، وهذا بخلاف التقريبين الأولين ، فانه لو صح جريان الاستصحاب عليهما لم يختص بمورد دون مورد كما هو ظاهر.

وتمامية هذا التقريب تتوقف على أمرين.

أحدهما : صحة جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية من جهة الشك في حد المجعول الشرعي ، والمختار عندنا عدمها ، وستعرف الكلام فيه في بحث الاستصحاب.

ثانيهما : إحراز كون المتعذر غير مقوم للواجب ، ليكون الشك في وجوب غير المتعذر من الاجزاء والشرائط شكا في البقاء ، لا في الحدوث ، وعليه فربما يقال : بعدم جريان الاستصحاب في كثير من موارد الشك في وجوب غير المتعذر من اجزاء المركبات الشرعية وشرائطها ، بدعوى : ان المركب الشرعي ليس لنا طريق إلى تمييز المقوم عن غير المقوم من اجزائه وشرائطه ، فكل جزء أو شرط كان متعذرا يحتمل كونه مقوما ، ومعه لا يمكن الاستصحاب ، لعدم إحراز اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة. نعم إذا كان المركب من المركبات العرفية كان تمييز المقوم عن غير المقوم منه موكولا إلى نظر العرف ، فما يرونه مقوما لا يجري الاستصحاب عند تعذره ، كما ان ما لم يكن مقوما بنظرهم لا مانع من جريان استصحاب وجوب أصل الواجب

٤٥٩

عند تعذره.

ولكن الصحيح أن يقال : إذا ثبت من الشرع كون جزء أو شرط مقوما للمركب فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب عند تعذره. واما فيما لم يثبت على ذلك بيان من الشرع فالظاهر إيكال الأمر إلى العرف ، فإذا كانت نسبة المتعذر إلى غيره نسبة طفيفة كنسبة الواحد إلى العشرين مثلا كان الصدق العرفي متحققا ، فيجري الاستصحاب لإثبات وجوب غير المتعذر ، واما إذا كانت النسبة معتدا بها ، كما إذا كان المتعذر نصف الواجب أو ثلثه مثلا فلا يجري الاستصحاب لعدم الوحدة العرفية.

ثم لا يخفى ان جريان الاستصحاب في المقام يختص بما إذا كان التعذر حادثا في أثناء الوقت. وأما إذا كان مقارنا لأول الوقت فلا يقين بتحقق التكليف في زمان ، والمرجع حينئذ هو البراءة عن وجوب غير المتعذر من الاجزاء والشرائط. هذا وقد ذهب المحقق النائيني قدس‌سره في بحث الاستصحاب إلى جريان الاستصحاب ولو كان التعذر مقارنا لأول الوقت (١) ، بدعوى ان جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية لا يتوقف على فعلية الموضوع خارجا ، ومن ثم يتمسك الفقيه في الحكم بحرمة وطي الحائض بعد زوال حيضها قبل الاغتسال ، وفي حكمه بنجاسة الماء القليل المتنجس المتمم كرا بماء طاهر ، باستصحاب حرمة الوطء ، ونجاسة الماء ، مع عدم تحقق شيء من الموضوعين في الخارج في زمان حكمه.

والجواب عن ذلك يتوقف على بيان أمر : وهو ان جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي يتصور على وجوه.

الأول : ان يستصحب الحكم في مقام جعله ومرحلة تشريعه عند احتمال

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ٥٦٢.

٤٦٠