دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

سيجيء الكلام فيه عن قريب.

وفيه : أولا : ان عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف لا يلازم كون الشبهة غير محصورة ، فقد يتحقق ذلك مع قلة الأطراف وكون الشبهة محصورة.

وثانيا : ان عدم القدرة على المخالفة القطعية أمر يختلف باختلاف المعلوم بالإجمال ، وباختلاف الأشخاص ، وباختلاف قلة الزمان وكثرته وغير ذلك من الخصوصيات ، فليس له ضابط كلي.

وثالثا : ان عدم التمكن من المخالفة القطعية ان أريد به عدم التمكن منها دفعة فكثير من الشبهات المحصورة كذلك ، وان أريد به عدم التمكن منها ولو تدريجيا فقل شبهة تكون غير محصورة ، إذ كثير من الشبهات غير المحصورة عندهم يتمكن المكلف من ارتكاب جميع أطرافها في ضمن سنة أو أقل.

فتحصل : انه لم يظهر لنا معنى للشبهة غير المحصورة حتى يتكلم في حكمها.

فالصحيح أن يقال : ان العلم الإجمالي بالتكليف قد يتمكن المكلف معه من الموافقة والمخالفة القطعيتين ، وقد يتمكن من إحداهما دون الأخرى ، وقد لا يتمكن من شيء منهما. اما الفرض الأخير فلا إشكال في عدم تنجيز العلم الإجمالي فيه ، كما لا إشكال في تنجيزه في الفرض الأول. واما الفرض الثاني ، فان تمكن فيه المكلف من المخالفة القطعية دون موافقتها فقد عرفت ان العلم الإجمالي موجب للتنجيز بالمقدار الممكن ، وسيأتي الكلام فيه مفصلا عند الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف. وان تمكن فيه من الموافقة القطعية دون مخالفتها فقد اختار المحقق النائيني رحمه‌الله فيه عدم تنجيز العلم الإجمالي ، بدعوى : ان وجوب الموافقة القطعية متفرع على حرمة المخالفة القطعية ، فإذا لم تحرم الثانية لم تجب الأولى (١).

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ١١٩.

٣٨١

ولكنك قد عرفت سابقا انه لا ملازمة بين الأمرين ، وان الميزان في تنجيز العلم الإجمالي هو سقوط الأصول في أطرافه ، فمتى تمكن المكلف من الموافقة القطعية وجبت ، لأن احتمال التكليف يستلزم تنجيز الواقع لو لم يكن مؤمنا من العقاب على المخالفة ، فعجز المكلف عن المخالفة القطعية المستلزم لعدم حرمتها لا يوجب عدم وجوب الموافقة القطعية المفروض قدرة المكلف عليها وعدم المؤمن من المخالفة الاحتمالية. نعم لو كان عدم حرمة المخالفة القطعية مستندا إلى قصور في ناحية التكليف لا إلى عجز المكلف عنها استلزم ذلك عدم وجوب الموافقة القطعية بالضرورة ، لكنه خروج عن الفرض ، إذ المفروض ان عدم حرمة المخالفة القطعية في الشبهة غير المحصورة مستند إلى عجز المكلف وعدم تمكنه منها.

فاتضح مما ذكرناه انه لا يفرق في تنجيز العلم الإجمالي بين كثرة الأطراف وقلتها ، فلا فرق بين كون الشبهة محصورة أو غير محصورة. نعم ربما تكون كثرة الأطراف ملازمة لطروء بعض العناوين المانعة عن تنجيز العلم الإجمالي ، كالعسر والحرج والخروج عن محل الابتلاء ونحو ذلك ، إلّا ان العبرة بتلك العناوين أنفسها لا بكثرة الأطراف.

إذا عرفت ذلك فقد استدل على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة بوجوه.

الأول : ما ذكره الشيخ رحمه‌الله من عدم اعتناء العقلاء باحتمال التكليف إذا كان موهوما (١). وقد ظهر جواب ذلك مما تقدم.

الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني رحمه‌الله من ان وجوب الموافقة القطعية متفرع على حرمة المخالفة القطعية ، فإذا لم تحرم الثانية لم تجب الأولى (٢). وقد ظهر الجواب عنه بما

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٤٣٣ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) فوائد الأصول : ٤ ـ ١١٩.

٣٨٢

تقدم.

الثالث : ما ادعي من الإجماع على ذلك.

ويرده : أولا : ان هذه المسألة من المسائل المستحدثة التي لم يتعرض لها القدماء في كلماتهم ، فكيف يمكن في مثل ذلك دعوى الاتفاق من الفقهاء.

وثانيا : على فرض تحقق الاتفاق لا يكون كاشفا عن رأي المعصوم ، بل هو أمر علم استناد المفتين فيه على أحد الأمور المذكورة في كلماتهم.

الرابع : دعوى ان لزوم الاجتناب في الشبهة غير المحصورة مستلزم للحجر غالبا ، وهو منفي في الشريعة المقدسة.

ويرد عليه ان دليل نفي العسر والحرج انما يتكفل نفي الحكم عما يكون مصداقا للعسر والحرج فعلا ، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان وغير ذلك من الخصوصيات. واما ما يستلزم بنوعه الحرج وان لم يكن حراج بالإضافة إلى شخص خاص فلا دليل على رفعه ، وسيجيء تفصيل الكلام في ذلك عند التعرض لقاعدة نفي الضرر إن شاء الله.

ثم انه ربما يقال : بعدم شمول أدلة نفي العسر والحرج لأمثال المقام ، مما كان العسر في تحصيل الموافقة القطعية لا في متعلق التكليف نفسه ، بدعوى : انها ناظرة إلى أدلة الأحكام الأولية ، ومخصصة لها بما إذا لم يكن متعلقها حرجيا ، وبما ان المفروض فيما نحن فيه عدم الحرج في الإتيان بمتعلق التكليف ، وانما الحرج في تحصيل الموافقة القطعية الواجبة بحكم العقل ، فالأدلة المذكورة لا تدل على نفي وجوبه.

والجواب : عن ذلك سيأتي عند التعرض للقاعدة المزبورة.

الخامس : قوله عليه‌السلام في رواية الجبن «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين» (١) بدعوى انه ظاهر في عدم تنجيز العلم الإجمالي عند كون

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٧ ـ باب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٥.

٣٨٣

الشبهة غير محصورة.

ويرد عليه ان ظاهر الرواية ان العلم بوجود فرد محرم دار امره بين ما يكون في محل الابتلاء ، أو خارجا عنه لا يوجب وجوب الاجتناب عما هو في محل الابتلاء فهو أجنبي عن كون الشبهة غير محصورة بكثرة أطرافها.

فتحصل انه لا دلالة لشيء من الأمور التي تمسكوا بها على سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في الشبهة غير المحصورة.

إرشاد فيه أمران

الأول : لو كانت أطراف الشبهة في حد نفسها كثيرة ، وكان المعلوم في البين أيضا كثيرا ، ويعبر عنه اصطلاحا بشبهة الكثير في الكثير ، كما لو فرضنا ان أطراف الشبهة كانت ألفا ، والمعلوم بينها مائة ، فالأطراف بالنسبة إلى المعلوم لا تكون كثيرة ، فان نسبته إليها نسبة الواحد إلى العشرة ، فهل يكون العلم الإجمالي في مثل الفرض منجزا على القول بعدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة؟ وجهان.

والتحقيق : انه يختلف ذلك باختلاف المباني في عدم التنجيز ، فبناء على ما أفاده الشيخ رحمه‌الله من ان ملاك عدم تنجيز العلم في الشبهة غير المحصورة هو كون احتمال التكليف فيها موهوما ، لا يعتنى به العقلاء ، بحيث يعد الاعتناء به من الوسواس عندهم يكون العلم الإجمالي في مفروض المثال منجزا ، لأن احتمال التكليف في كل واحد من الأطراف غير موهوم على الفرض ، فانه من قبيل تردد الواحد في العشرة. واما على مبنى المحقق النائيني قدس‌سره من ان الوجه في عدم التنجيز عدم حرمة المخالفة القطعية فيها ، لعدم تمكن المكلف منها ، ووجوب الموافقة القطعية متفرع عليها ، فلا بد من الالتزام بعدم التنجيز في المقام أيضا ، فان المخالفة القطعية في المثال لا تتحقق إلّا بارتكاب تسعمائة من الأطراف ، وذلك عسر أو غير مقدور

٣٨٤

عادة.

الأمر الثاني : انه بناء على عدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة ، فهل يكون الشك في كل واحد من الأطراف كلا شك ، فلا يجري فيه قاعدة الاشتغال ، أو ان العلم يفرض فيه كعدمه ، فيجري حكم الشك على كل واحد منها؟ مثال ذلك ما لو علمنا إجمالا بوجود مائع مضاف مردد بين الف إناء ، فبناء على ان الشبهة في حكم عدمها ، صح الوضوء من إناء واحد مع احتمال كونه مائعا مضافا ، ولا يعتنى بهذا الاحتمال. واما بناء على ان العلم كلا علم ، فالشبهة في نفسها مورد لقاعدة الاشتغال ، لأن صحة الوضوء متوقفة على إحراز كون ما يتوضأ به ماء ، فنفس احتمال كونه غير ماء كاف في عدم صحة الوضوء به ولو لم يكن علم إجمالي بوجود مائع مضاف أصلا ، فلا بد حينئذ من تكرار الوضوء بمقدار يعلم معه بكون المتوضأ به ماء.

والتحقيق أن يقال : انه بناء على ما سلكه الشيخ رحمه‌الله من كون الملاك في عدم التنجيز هو كون الاحتمال موهوما بحيث لا يعتنى به العقلاء فالشبهة في مفروض المقام تكون كلا شبهة ، فلا يعتني باحتمال كون المتوضأ به مضافا مع كونه موهوما على الفرض. واما بناء على ما سلكه المحقق النائيني رحمه‌الله من ان الملاك في عدم التنجيز انما هو عدم التمكن من المخالفة القطعية ، فالعلم بوجود التكليف المردد بين أطراف غير محصورة يكون كعدمه ، وأما أصل الشبهة فهي باقية في كل واحد من الأطراف على حالها ، فإذا كان الاحتمال في نفسه موردا لقاعدة الاشتغال لا بد من الحكم فيه بذلك.

وبهذا ظهر ان ما ذكره المحقق النائيني في المثال المتقدم من ان المعلوم فيه بحكم التالف ، فيصح الوضوء بكل من الأطراف مناف لمبناه المتقدم. على انا لا نتعقل كون المعلوم كالتالف ، فهل الدرهم المغصوب إذا اشتبه بين الف درهم يعد تألفا لينتقل

٣٨٥

الضمان إلى مثله أو قيمته ، لا نظن ان يلتزم أحد بذلك ، فكيف يلتزم بمثله في المقام.

التنبيه الثامن : إذا اضطر إلى ارتكاب بعض أطراف العلم الإجمالي في الشبهة التحريمية، أو إلى ترك بعض أطرافه في الشبهة الوجوبية ، فتارة : يكون الاضطرار إلى طرف معين ، وأخرى : إلى أحد الأطراف لا بعينه ، فهنا مسألتان. وقبل التكلم في ذلك لا بد من بيان ان محل الكلام انما هو فيما كان الاضطرار رافعا للحكم المعلوم بالإجمال في الطرف المضطر إليه بالكلية ، واما فيما لم يكن كذلك ، بان كان للعلم الإجمالي أثر في الطرف المضطر إليه في الجملة ، فلا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي ، وتساقط الأصول بعد الاضطرار أيضا ، فلو اضطر إلى شرب الماء ثم علم بنجاسته أو نجاسة الخل ، فالاضطرار إلى شرب الماء انما يوجب جواز شربه ، واما ترتيب بقية آثار الطاهر عليه فلا ، فالعلم بنجاسته أو نجاسة الخل يوجب العلم بعدم جواز التطهير به أو حرمة شرب الخل ، وهذا العلم يوجب تنجيز المعلوم ، فلا يجوز التطهير بذلك الماء ولا شرب الخل.

إذا عرفت هذا فنقول : في المسألة الأولى وهي الاضطرار إلى المعين ثلاثة صور.

الصورة الأولى : ان يضطر إلى الواحد المعين بعد ثبوت العلم الإجمالي وتنجز التكليف ، كما لو علم إجمالا بنجاسة الحليب أو الخل ، ثم اضطر إلى شرب الحليب لرفع عطشه ، فهل يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز حتى في غير المضطر إليه؟ قولان. اختار الشيخ قدس‌سره بقاء التنجيز بالإضافة إلى غير المضطر إليه ، لأن التكليف على تقدير تعلقه به واقعا قد تنجز بمنجز سابق ، ولم يحدث ما يوجب سقوطه فيه (١).

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٤٢٥ (ط. جامعة المدرسين).

٣٨٦

وذهب صاحب الكفاية في المتن (١) إلى سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز حتى في غير المضطر إليه ، بدعوى ان تنجيز العلم بالتكليف يدور مدار وجوده حدوثا وبقاء ، ومع الاضطرار لا يكون العلم بالتكليف باقيا بالضرورة.

ثم أورد على نفسه بأنه لو كان بقاء العلم معتبرا في تنجيزه لزم عدم تنجيزه عند فقدان بعض الأطراف ، أو خروجه عن مورد الابتلاء أو امتثاله.

وأجاب عنه بان الاضطرار من حدود التكليف ، فالتكليف من أول حدوثه يكون مشروطا بعدمه ، وهذا بخلاف الفقدان ، فانه ليس من حدوده ، وانما يكون ارتفاع التكليف به من قبيل ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ، وكذلك الحال في فرض الامتثال والخروج عن محل الابتلاء. ثم أمر بالتأمل.

ولكنه في الهامش (٢) عدل عن ذلك ، والتزم ببقاء تنجيز العلم الإجمالي في غير الطرف المضطر إليه ، بتقريب : ان العلم الإجمالي من أول الأمر تعلق بأحد التكليفين مرددا بين القصير والطويل ، نظير ما لو علم إجمالا بوجوب الجلوس في المسجد بمقدار ساعتين أو الجلوس في الصحن بمقدار أربع ساعات ، والعلم بالتكليف المردد بين القصير والطويل يوجب تنجيزهما معا ، وسقوط التكليف القصير بانتهاء أمده لا يستلزم سقوط الآخر.

والصحيح : هو القول بالتنجيز ، لما عرفت ، ولأن الشك في التكليف في غير الطرف المضطر إليه هو بعينه الشك الّذي حكم بعدم جريان الأصل فيه ، وليس هو شكا حادثا ، فلا مؤمن في ارتكابه من العقاب ، فيجب الاجتناب عنه بحكم العقل. واما ما ذكره صاحب الكفاية أولا من ان الاضطرار من حدود التكليف بخلاف الفقدان ونحوه ، فيرفعه ما ذكرناه في مبحث الظن من ان فعلية التكليف تدور مدار

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢١٦ ـ ٢١٨.

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢١٦.

٣٨٧

فعلية موضوعه بجميع قيوده وخصوصياته ، فكما ان خصوصيات الموضوع دخيلة في فعلية التكليف ، فكذلك نفس وجوده ، والملاك في الجميع واحد ، وهو ان فعلية البعث والتحريك تتوقف على وجود الموضوع وكل ما اعتبر فيه من الخصوصيات عقلا أو شرعا.

الصورة الثانية : ان يكون الاضطرار إلى المعين بعد حدوث التكليف وقبل العلم به ، بمعنى أن يكون التكليف حادثا قبل الاضطرار ، والعلم به حادثا بعده ، كما لو علم بعد الاضطرار إلى أحد المائعين بخصوصه بوقوع نجاسة في أحدهما لا بعينه قبل حصول الاضطرار. وقد اتفقت في هذه الصورة كلمات شيخنا الأنصاري والمحقق الخراسانيّ والنائيني (١) قدس‌سره في الدورة الأخيرة على عدم تنجز العلم الإجمالي ، وهو الصحيح ، وذلك لأن التكليف قبل حصول الاضطرار لم يكن منجزا ، لعدم العلم به ، وبعد الاضطرار غير معلوم أيضا ، لاحتمال وقوع النجاسة في الطرف المضطر إليه. وبعبارة أخرى : قبل حصول الاضطرار إما لم يكن شك في التكليف ، أو كانت الأصول جارية في جميع الأطراف بلا معارضة بينها لعدم العلم الإجمالي ، وعلى كل حال لم تكن الأصول ساقطة بالمعارضة. وأما بعد الاضطرار فلا تكليف في الطرف المضطر إليه قطعا ، لأنه اما لم يكن فيه تكليف من أول الأمر ، أو انه سقط بالاضطرار ، واما الطرف الآخر فالتكليف فيه وان كان محتملا إلّا انه لا مانع من جريان الأصل فيه ، لأنه بلا معارض.

نعم في البين شبهة ، وهي ان أصالة البراءة الجارية في غير الطرف المضطر إليه وان كانت بلا معارض إلّا انها غير جارية ، لوجود أصل حاكم عليها ، وهو قاعدة الاشتغال ، أو الاستصحاب ، وتقريب ذلك : ان التكليف المنكشف بالعلم الإجمالي

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٤٢٥ (ط. جامعة المدرسين) وكفاية الأصول : ٢ ـ ٢١٦ ، فوائد الأصول : ٤ ـ ٩٤.

٣٨٨

اللاحق سابق على طروء الاضطرار ، وبعد طروه يدور أمره بين أن يكون في الطرف المضطر إليه فيقطع بارتفاعه ، أو في الطرف الآخر فيقطع ببقائه ، فيكون حاله حال الحدث المردد بين الأصغر المتيقن ارتفاعه بعد الوضوء والأكبر المقطوع بقاؤه ، وهذا الاستصحاب وان لم يترتب عليه ثبوت التكليف في غير الطرف المضطر إليه ، لأنه مثبت ، إلّا انه يكفي في جريانه بعد كون مجراه حكما شرعيا قابلا للتعبد به حكم العقل بلزوم الاحتياط في غير الطرف المضطر إليه.

والجواب عن هذه الشبهة ان الاستصحاب أو قاعدة الاشتغال انما يجريان فيما إذا كانت الأصول في جميع أطراف الشبهة ساقطة بالمعارضة ، كما في مثال الحدث المردد بين الأكبر والأصغر ، فان الأصل في كل منهما معارض به في الآخر ، فلا يقين إلّا بالحدث الجامع بين الأصغر والأكبر ، وخصوصية كل منهما مشكوكة ، فإذا توضأ المكلف أو اغتسل يشك في ارتفاع حدثه ، فيستصحب. وهذا بخلاف ما إذا كان الأصل في بعض الأطراف جاريا من دون معارض ، فانه لا مجال فيه لجريان الأصل في الكلي بعد حكم الشارع بعدم التكليف في بعض الأطراف ، وسقوطه في بعضها بالوجدان ، كما في المقام ، فان غير الطرف المضطر إليه لا حكم فيه بأصالة البراءة ، والطرف المضطر إليه يجوز ارتكابه بالوجدان ، ومن هنا كان المرجع في دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين أصالة البراءة ، مع انه بعد الإتيان بالأقل يشك في بقاء التكليف المعلوم بالإجمال لا محالة ، ولا يرجع معه إلى الاستصحاب ، وليس الوجه فيه إلّا ان منشأ الشك في بقائه ليس إلّا احتمال تعلق التكليف بالأكثر الّذي فرض جريان أصل البراءة فيه بلا معارض ، فلم يبق مجال للاستصحاب ولا لقاعدة الاشتغال.

ونظير المقام ما إذا كان بعض الأطراف موردا للأصل المثبت ، وبعضها موردا للأصل ، النافي كما لو علم إجمالا بعدم الإتيان بصلاة الصبح التي حال وقتها ، أو

٣٨٩

الظهر التي لم يخرج وقتها فانه بعد الإتيان بصلاة الظهر بمقتضى قاعدة الاشتغال وان كان يشك في بقاء التكليف المعلوم إجمالا ، إلّا ان منشأ الشك في ذلك بما انه منحصر في احتمال ثبوت التكليف بالقضاء الّذي قد جرى فيه الأصل النافي ، لا مجال فيه للاستصحاب ولا لقاعدة الاشتغال.

وبما ذكرناه في هذه الصورة ظهر الحال في الصورة الثالثة التي لم يعلم فيها التكليف كما هو ظاهر.

ثم انه يلحق بهذه الصورة ما إذا كان الاضطرار والعلم بثبوت تكليف سابق عليه متقارنين زمانا ، وذلك لأنه في فرض التقارن أيضا لا تكون الأصول الجارية في الأطراف متعارضة قبل الاضطرار ، لعدم العلم الإجمالي ، ولا بعده ، لثبوت الترخيص في الطرف المضطر إليه قطعا ، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض. ومما ذكرناه في صورة الاضطرار إلى المعين من الأطراف يظهر الحال في غيره مما يرتفع الحكم معه ، كفقدان بعض الأطراف ، أو خروجه عن محل الابتلاء أو نحو ذلك ، فيجري فيها ما ذكرناه في الاضطرار بأقسامه ، ولا حاجة معه إلى الإعادة.

المسألة الثانية : فيما كان الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه. ويجري فيه أيضا الصور الثلاثة المتقدمة ، إلّا ان الصحيح هو تنجيز العلم الإجمالي في جميعها ، حتى فيما لو كان الاضطرار قبل حدوث سبب التكليف والعلم به ، كما لو اضطر إلى شرب أحد المائعين لا بعينه ، ثم وقعت نجاسة في أحدهما من غير تعيين ، والوجه في ذلك انه لا شيء في المقام يتوهم رفعه للحرمة الثابتة لشرب النجس غير الاضطرار ، ومن الظاهر ان الاضطرار لم يتعلق بخصوص الحرام قطعا ، وانما تعلق بالجامع بينه وبين الحلال ، فلا مقتضى لسقوط الحرمة المعلومة في البين. ونظير ذلك ما لو علم نجاسة أحد المائعين معينا ، فاضطر المكلف إلى شرب أحدهما ، فهل يتوهم فيه كون الاضطرار إلى الجامع رافعا لحرمة شرب المعلوم نجاسته؟! ولا فرق بينه

٣٩٠

وبين المقام إلّا في ان الحرام معلوم فيه تفصيلا ، وفي محل الكلام إجمالا.

وببيان أوضح : ان النجس المعلوم في البين لا يحتمل اضطرار المكلف إلى شربه قطعا ، فلا موجب لارتفاع حكمه ، ومجرد اختيار المكلف رفع اضطراره به لو كان موجبا لسقوط حكمه لوجب الالتزام به فيما إذا كان الحرام متميزا عن غيره أيضا ، ومن الواضح انه لا يلتزم به أحد.

فان قلت : فرق بين المقام وما إذا علم الحرام بعينه ، فان التكليف بالاجتناب عن الحرام مع تميزه في الخارج لا مانع منه بعد إمكان رفع الاضطرار بغيره ، فلا موجب لرفع اليد عن حكمه باختيار المكلف رفع اضطراره به أو بغيره ، وهذا بخلاف المقام ، فان الحرام بعد ما لم يكن متميزا في الخارج ، وكان المكلف مضطرا إلى ارتكاب أحد الأطراف المحتمل انطباق الحرام عليه كان التكليف بالاجتناب عنه بلا فائدة ، فيكون لغوا.

قلت : يكفي في بقاء التكليف وعدم سقوطه بالاضطرار إلى الجامع بينه وبين الحلال لزوم الاجتناب عما لا يرفع اضطراره به ، إذ غاية ما يترتب على الاضطرار إلى غير المعين هو عدم وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم في البين ، واما حرمة المخالفة القطعية فلا موجب لرفع اليد عنها بعد التمكن منها كما هو المفروض.

ولتوضيح المقام نذكر أمورا :

الأول : ان الحرام المعلوم في البين يتمكن المكلف من مخالفته ، ولم يطرأ ما يوجب ارتفاعه ، لما عرفت من ان الاضطرار انما هو إلى الجامع بينه وبين الحلال ، لا إلى خصوصه ليرتفع حكمه.

الثاني : انه لا يمكن للشارع الترخيص في ارتكاب جميع الأطراف ، لاستلزامه الترخيص في المعصية ومخالفة التكليف المعلوم ، لما عرفت من حكم العقل

٣٩١

بقبحه.

الثالث : انه لا بد من رفع اليد من وجوب الموافقة القطعية ، لتوقف رفع الاضطرار على ارتكاب بعض الأطراف لا محالة ، فلا مناص من ترخيص الشارع فيه بمقدار يرتفع به الاضطرار ، وهو أول وجود يختاره المكلف في الخارج ، فان أصاب الحلال الواقعي فلا مقتضى لرفع اليد عن الحرمة الواقعية في الوجود الثاني ، لعدم الاضطرار إليه أصلا ، وان أصاب الحرام فالحرمة الواقعية الثابتة له وان لم ترتفع بذلك ، لأن اختيار المكلف له لا يكشف عن تعلق الاضطرار به ، فلا موجب لسقوط حرمته ، إلّا انه لا مناص من الترخيص فيه ظاهرا المستلزم لعدم العقاب على المخالفة الواقعية ، وكما ان الحكم الواقعي من الوجوب أو الحرمة أو الإباحة ربما يختص بأول وجود الطبيعة دون بقية وجوداتها فكذلك الحكم الظاهري ، والميزان في الاختصاص وعدمه هو قيام الدليل على الاختصاص أو على عدمه ، وحيث ان الموجب للترخيص في المقام هو اضطرار المكلف بارتكاب أحد الأطراف فهو لا يقتضي أزيد من الترخيص في أول وجود يختاره المكلف ، واما غيره من الوجودات فهو على تقدير كونه محرما في الواقع لا موجب لرفع اليد عن حكمه ، لا واقعا ولا ظاهرا. وعلى ما ذكرناه يكون المقام واسطة بين موارد الشبهات البدوية التي لم يتنجز الواقع فيها أصلا وبين موارد العلم الإجمالي فيما لم يتعلق الاضطرار بشيء من أطرافه التي تنجز فيها الواقع على كل تقدير ، فان الواقع على تقدير عدم انطباقه على ما يختاره المكلف يبقى على تنجزه ، وعلى تقدير انطباقه على ما يختاره يسقط تنجيزه ، فتكون النتيجة هو التوسط في التنجيز ، بمعنى تنجز الواقع من جهة دون جهة.

فان قلت : إذا كان المفروض ان الحكم الواقعي واحد ، والتردد انما هو في متعلقه ، فكيف يعقل أن يكون منجزا على تقدير دون تقدير.

٣٩٢

قلت : العلم الإجمالي المتعلق به بما انه أوجب سقوط الأصول في أطرافه فاحتمال التكليف في كل طرف منجز له في نفسه ، إلّا ان الاضطرار إلى بعض الأطراف أوجب رفع اليد عن ذلك في أول وجود ، ولا مقتضى معه لرفع اليد عنه في غيره من الأطراف ، فان الضرورات تقدر بقدرها.

ونظير المقام دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فان التكليف الواقعي في مورده وان كان واحدا غير متعدد إلّا ان تعلقه بالأقل معلوم ، فيتنجز بالإضافة إليه ، وتعلقه بالزائد على المتيقن مشكوك فيه ، فيجري فيه البراءة ، فكما ان وحدة التكليف فيه واقعا لا تنافي تنجزه على تقدير دون تقدير كذلك الحال في المقام.

ومما ذكرناه ظهر الفرق بين المقام وبين الاضطرار إلى المعين ، فان المعين المضطر إليه إذا كان مصادفا للحرام الواقعي ترتفع حرمته واقعا ، فلا علم معه بالتكليف الفعلي ، لاحتمال كون الحرام هو المضطر إليه فيما إذا كان الاضطرار سابقا على العلم الإجمالي ، وهذا بخلاف المقام ، فان الاضطرار كما عرفت انما تعلق بالجامع بين الحرام والحلال ، فلا يوجب ارتفاع الحرمة الواقعية ، غاية الأمر انه لا تجب الموافقة لقطعية كما عرفت.

كما انه ظهر فساد ما في الكفاية (١) من ان الترخيص في بعض الأطراف ينافي العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، فلا يبقى إلّا احتمال التكليف في غير ما يختاره المكلف ، وهو مندفع بالأصل ، وذلك لأن الترخيص في بعض الأطراف لو كان ترخيصا واقعيا كما في الاضطرار إلى المعين لكان الأمر كما ذكره ، إلّا أنه في المقام ليس كذلك ، إذ المفروض عدم الاضطرار إلى ارتكاب المحرم الواقعي ، غاية الأمر يحتمل انطباقه على ما يختاره المكلف ، وهو لا يقتضي إلّا الترخيص فيه ظاهرا ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢١٦.

٣٩٣

فالحكم الواقعي ثابت على كل تقدير ، ومعه لا وجه للرجوع إلى أصالة البراءة في الطرف الآخر.

ثم ان المحقق النائيني ذهب في المقام إلى كون ما يختاره المكلف رافعا لاضطراره مرخصا فيه واقعا (١) بدعوى : ان المضطر إليه وان كان جامعا بين الحلال والحرام إلّا انه باختياره يكون مصداقا للمضطر إليه ، فترتفع حرمته الواقعية لو كان مصداقا للحرام اتفاقا. ومع ذلك التزم بعدم جريان البراءة في الطرف الآخر ، بتقريب : ان سقوط الحرمة عما يختاره المكلف انما يكون بعد اختياره ، واما قبله فالحكم المعلوم إجمالا فعلي على كل تقدير ، وقد مر في بحث الاضطرار إلى المعين ان الرافع للتكليف إذا كان متأخرا عن العلم الإجمالي وتساقط الأصول فانما يقتصر في رفعه بمورده ، واما غيره من الأطراف فيبقى على حاله من تنجز الحكم المعلوم فيه ، وعليه فيكون حال المقام حال الاضطرار إلى أحد الأطراف معينا بعد العلم الإجمالي بالتكليف وتساقط الأصول فيها ، ونتيجة ذلك هو سقوط التكليف الواقعي على تقدير ، وعدم سقوطه على تقدير آخر ، المعبر عنه في كلامه بالتوسط في التكليف.

ويرد على ما أفاده : أولا : ما عرفت من أن اختيار المكلف أحد الأطراف لرفع اضطراره لا يوجب سقوط حكمه الواقعي. ودعوى انه بالاختيار يكون مصداقا للمضطر إليه واضحة الفساد ، فان الاضطرار إلى الجامع لا ينقلب اضطرارا إلى الفرد المعين بإرادة المكلف واختياره.

وثانيا : انه على تقدير تسليم سقوط الحرمة الواقعية عما يختاره المكلف خارجا ، كيف يعقل الحكم بحرمته إلى زمان اختيار المكلف له ، فان تحريم الشيء انما

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ١٠٦ ـ ١٠٨.

٣٩٤

هو لأن يكون رادعا للمكلف عن اختياره ، وسادا لطريقه ، فكيف يعقل أن يكون مغيا به ومرتفعا عند حصوله ، فلا مناص عن الالتزام بكون ما يختاره المكلف محكوما بالحلية من أول الأمر ، ومعه لا يبقى مجال لدعوى العلم بالتكليف على كل تقدير ، فلا بد من القول بجريان البراءة في الطرف الآخر فيما إذا كان الاضطرار إلى غير المعين سابقا على العلم الإجمالي ، كما هو الحال في الاضطرار إلى المعين.

وبالجملة الالتزام بسقوط التكليف في ما يختاره المكلف رافعا لاضطراره لا يجتمع مع القول بالتنجيز في الطرف الآخر ، فلا بد من الالتزام بعدم سقوط التكليف فيه كما اخترناه ، أو بعدم التنجيز في الطرف الآخر أيضا كما اختاره صاحب الكفاية ، وقد عرفت ان الصحيح ما ذكرناه ، هذا كله في الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف في الشبهة التحريمية.

ومنه يظهر الحال في الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف في الشبهة الوجوبية ، وانه لا موجب لرفع اليد عن الوجوب الواقعي مع عدم الاضطرار إلى تركه ، إلّا انه مع ذلك لا مناص من الترخيص في ترك بعض الأطراف ظاهرا دفعا للاضطرار ، ونتيجة ذلك هو الالتزام بالتوسط في التنجيز ، بمعنى ان الواجب الواقعي يصح العقاب على مخالفته لو تركه المكلف قطعا بتركه جميع الأطراف ، واما إذا ترك من الأطراف بمقدار يرتفع به اضطراره فلا يصح العقاب على مخالفته لو صادف الحرام الواقعي ، وعليه فاللازم هو الإتيان بأطراف الشبهة بمقدار الإمكان ، واختصاص الترخيص في الترك بالوجودات المتأخرة على خلاف ما ذكر في الشبهة التحريمية.

التنبيه التاسع : ذكر الشيخ رحمه‌الله من شرائط تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة التحريمية كون جميع أطرافه داخلة في محل الابتلاء (١) ، ليتمكن المكلف عادة من

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٤٢٠ (ط. جامعة المدرسين).

٣٩٥

ارتكاب كل منها وعدمه. وذهب إلى عدم تنجيزه فيما إذا كان بعض أطرافه خارجا عن محل الابتلاء ، وذلك لأنه يعتبر في صحة التكليف الفعلي بشيء كونه في محل الابتلاء ، وإمكان تعلق إرادة المكلف بإيجاده عادة ، وإلّا كان الزجر عنه مستهجنا ، وعليه فلو كان بعض أطراف العلم الإجمالي خارجا عن مورد الابتلاء لم يكن معه علم بتكليف فعلي ، إذ يدور أمره بين كونه فعليا أو مشروطا بشرط غير حاصل ، فيجري الأصل حينئذ في الطرف المحتمل فيه التكليف الفعلي بلا معارض.

ولم يفرق المحقق الخراسانيّ في هامش الكفاية بين الشبهة الوجوبية والتحريمية (١) بدعوى : ان ما ذكر من الملاك لصحة التكليف التحريمي وهو إمكان تعلق إرادة المكلف بالفعل عادة جار في التكليف الوجوبيّ أيضا ، إذ يعتبر في صحته إمكان تعلق إرادة المكلف بالترك عادة ، وعليه فيعتبر في تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة الوجوبية أن لا يكون بعض الأطراف مما يوجد بطبعه في الخارج.

وأورد عليه المحقق النائيني (٢) بان متعلق التكاليف الوجوبية لما كان هو الفعل ، وهو يستند إلى الاختيار حتى إذا كان مفروض التحقق عادة ، ولو لم يكن إيجاب مولوي صح تعلق التكليف به ، ولا يكون ذلك من التكليف المستهجن ، وهذا بخلاف متعلق التكاليف التحريمية ، فانه الترك ، فإذا كان حاصلا بنفسه عادة من غير دخل لاختيار المكلف فيه يكون النهي عنه مستهجنا. ثم أفاد بعد ذلك ان الميزان في صحة التكليف انما هو إمكان داعويته للمكلف أو زاجريته ، لا فعلية ذلك ، فكل فعل أو ترك يستند إلى اختيار المكلف يصح تعلق التكليف به ولو كان ذلك حاصلا عادة ،

أقول : ما أفاده المحقق النائيني من الميزان في صحة التكليف متين جدا ، وقد

__________________

(١) كفاية الأصول «المحشّى» : ٤ ـ ٢٠٣.

(٢) فوائد الأصول : ٤ ـ ٥١ ـ ٥٢.

٣٩٦

ثبت في الشريعة تحريم الزنا بالأمهات ، وتحريم أكل بعض القاذورات ونحوها مما لا يرغب فيه الإنسان بطبعه مع قطع النّظر عن تحريمه ، والسر في صحة التكليف في هذه الموارد ان الترك فيها مستند إلى اختيار المكلف ، فلا يقبح التكليف به.

وتوهم لزوم اللغوية من جعل الحكم على نحو العموم ليشمل من يكون تاركا لمتعلق النهي بنفسه وبطبعه.

مدفوع بان مصلحة جعل التحريم ليس مجرد حصول الترك في الخارج ، بل هو مع جعل الداعي إلى المكلف إمكانا ليجعل نهي المولى داعيا إلى الترك ، ويكون بذلك مطيعا له ومتقربا منه ، فيكمل بذلك نفسه ، ويرتفع به مقامه كما هو الغرض الأقصى من التشريع كله.

واما ما ذكره من قبح جعل الحرمة للشيء الخارج عن محل الابتلاء فغير تام ، لأن الشيء الخارج عن محل الابتلاء إذا صح تعلق التكليف الوجوبيّ به كما هو مفروض كلامه فلا بد وأن يكون مقدورا ، وإذا كان فعله مقدورا فلا بد وأن يكون تركه أيضا اختياريا ، ومعه يصح تعلق النهي به لا محالة.

وبعبارة أخرى : الفعل الممكن إذا كان وجوده مستندا إلى اختيار الفاعل فعدمه يستند إلى اختياره لا محالة ، وعليه فالعلم الإجمالي بالتكليف مطلقا ، وجوبيا كان أو تحريميا ، ينجز معلومه ولو كان بعض أطرافه خارجا عن محل الابتلاء ، لأنه علم بالتكليف الفعلي على كل تقدير. نعم إذا كان الخارج عن محل الابتلاء غير مقدور للمكلف عقلا ، أو كان صدوره منه ممتنعا عادة كما في كثير من الأمثلة المذكورة في المقام لم يكن العلم الإجمالي حينئذ منجزا ، لانتفاء الأمر الأول الّذي ذكره الشيخ رحمه‌الله شرطا في تنجيز العلم الإجمالي ، وهو اعتبار القدرة في جميع أطرافه ، لا من جهة الخروج عن محل الابتلاء.

وحاصل الكلام انه لا يعتبر في صحة التكليف أزيد من القدرة العقلية على

٣٩٧

متعلقه ، وكونه مستندا إلى اختياره فعلا وتركا ، فكل ما كان بعض الأطراف غير مقدور للمكلف عقلا بان كان الترك أو الفعل فيه غير مستند إلى اختيار المكلف لم يكن العلم الإجمالي فيه منجزا ، لأنه لا يكون حينئذ علما بالتكليف الفعلي. وكل ما كان جميع الأطراف تحت قدرته واختياره وان كان بعضها خارجا عن محل الابتلاء بالمعنى الّذي ذكروه كان العلم فيه منجزا ، لصحة التكليف لكل من الأطراف على الفرض ، فالعلم بالتكليف المردد بينها يكون علما بالحكم الفعلي ، الّذي قد عرفت انه معه لا يجري الأصل في شيء من الأطراف ، فكان احتمال التكليف في كل طرف ملازما لاحتمال العقاب لا محالة.

وبالجملة ان اعتبار كون الفعل في محل الابتلاء زائدا على القدرة عليه في حسن النهي عنه انما يتم في التكاليف العرفية ، التي لا يكون الغرض منها غير حصول متعلقاتها في الخارج فعلا أو تركا. واما التكاليف الشرعية فالغرض منها كما عرفت في بحث التعبدي والتوصلي انما هو تكميل النفوس البشرية بجعلها داعية إلى الفعل أو الترك ، ليحصل بذلك القرب من المولى سبحانه ، من دون فرق فيها بين التعبديات التي لا يسقط التكليف فيها بغير قصد القربة والتوصليات التي يسقط التكليف فيها بغير الامتثال أيضا ، ولو لا ما ذكرناه من الغرض في التكاليف الشرعية لم يصح الزجر عما لا يوجد الداعي إلى فعله دائما أو غالبا ، كنكاح الأمهات ، وأكل لحوم الإنسان والقاذورات ونحوهما ، فوقوع مثل هذه النواهي أقوى دليل على عدم اعتبار شيء أزيد من القدرة العقلية ، وإمكان صدور الفعل من المكلف في صحة الزجر عنه وحسنه.

ثم ان قصد القربة المعتبر في صحة العمل العبادي ، وفي تحقق الامتثال ولو في غير العبادي قد يزاحمه وجود الداعي النفسانيّ إلى الفعل أو الترك ، وقد لا يزاحمه ، فيتحقق الامتثال في الخارج ، ويتقرب العبد من المولى وان كان له داعي

٣٩٨

نفساني أيضا ، وتوضيح ذلك ان قصد القربة إذا انضم إليه الداعي النفسانيّ فهو يتصور على وجوه.

الأول : أن يكون الداعي للمكلف فعلا نحو الفعل أو الترك أمر المولى وتكليفه ، ولا يكون الداعي النفسانيّ الموجود معه إلّا مندكا فيه كالحجر في جنب الإنسان. وهذا لا إشكال في صحة العبادة معه ، وتحقق التقرب به مطلقا.

الثاني : ان ينعكس الأمر ، بان يكون الداعي الفعلي للمكلف نحو العلم مجرد ميله النفسانيّ ، وكان قصد القربة تابعا ومندكا فيه بحيث لو لم يكن في البين تكليف لأتى بالعمل أيضا. وهذا لا إشكال في فساد العبادة معه ، وفي عدم حصول التقرب مطلقا.

الثالث : أن يكون الداعي له كلا الأمرين ، ويتصور هذا على قسمين.

الأول : أن يكون لكل من الأمرين دخل في تحقق الفعل أو الترك ، بان يكون كل منهما جزء السبب. ولا إشكال معه في فساد العبادة ، وعدم حصول القربة لقوله تعالى انا خير شريك من عمل لي ولغيري جعلته لغيري.

القسم الثاني : أن يكون كل من الداعيين تام السببية ، كما لو فرضنا حرارة الهواء بحيث لو لم يكن من المولى تكليف بالغسل لكان المكلف مستعملا للماء لأجل تبريد بدنه ، ولكن لو لم يكن الهواء حار لكان مجرد أمر المولى كافيا في محركيته للعبد وخضوعه لمولاه. وقد وقع النزاع في حصول التقرب ، وصحة العمل العبادي في هذا القسم. إلّا ان الظاهر حصول التقرب فيه ، إذ العبد حينئذ لا يتمكن من أن يجعل داعيه خصوص أمر المولى ، فليس عليه إلّا ان يسند العمل إلى مولاه ، بان لا يكون في تحركه عن تحريك المولى قصور في نفسه ، وانضمام داع آخر إليه قهرا لا يضر بإضافته عمله إلى مولاه ، وكونه تام العبودية في مقام الامتثال. ولو لا ما ذكرناه لم يحكم بصحة صوم من لا يبطل صومه عند الناس بطبعه تحفظا على مقامه وشرافته ،

٣٩٩

ولو كان الأمر بالصوم كافيا في ردعه عن الابطال أيضا ، كما هو الحال في أكثر المتدينين بل جميعهم ، وهكذا الحال في غير الصوم من الواجبات الإلهية ، ومن الواضح ان الالتزام بالفساد فيها بديهي الفساد ، وإذا صح التقرب بذلك ظهر صحة النهي عما لا يكون للمكلف داعي إلى فعله غالبا أو دائما ، فانه في مثل ذلك يكون الداعي الفعلي إلى الترك كلا الأمرين من الداعي النفسانيّ والتكليف الإلهي على نحو يصلح كل منهما للداعوية مستقلا ، وقد عرفت انه يكفي في حصول التقرب من المولى الّذي هو الغاية القصوى من التكليف.

(بقي أمران) الأول : انه بناء على اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف وحسنه ، إذا شككنا في كون بعض أطراف العلم الإجمالي خارجا عن محل الابتلاء من جهة الشك في مفهومه وعدم تعين حده ، فهل يرجع فيه إلى الإطلاقات ، أو إلى أصالة البراءة في الطرف المبتلى به؟ وجهان. ذهب شيخنا الأنصاري رحمه‌الله إلى الأول (١) بدعوى انه لا بد من التمسك بالإطلاق في مقام الإثبات ما لم يثبت التقييد ، ولازم ذلك هو العلم بالتكليف الفعلي الموجب لعدم جريان الأصول في أطرافه. وذهب صاحب الكفاية إلى الثاني (٢) ، بتقريب : ان التمسك بالإطلاق في مقام الإثبات انما يتم فيما إذا صح الإطلاق ثبوتا ، ليستكشف بالإطلاق في مقام الإثبات الإطلاق في مقام الثبوت ، ومع الشك في صحة الإطلاق ثبوتا لا أثر للإطلاق إثباتا.

والتحقيق : كما ذهب إليه المحقق النائيني رحمه‌الله (٣) صحة ما أفاده الشيخ قدس‌سره والوجه فيه ان بناء العقلاء أنما هو على حجية ظاهر كلام المولى ما لم تثبت قرينة عقلية أو

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٤٢٢ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٢٣.

(٣) فوائد الأصول : ٤ ـ ٥٥ ـ ٥٧.

٤٠٠