دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

الأمر الثاني :

التجري

والبحث فيه يقع من جهات :

الجهة الأولى : الجهة الفرعية ، وهي حرمة الفعل المتجري به.

الجهة الثانية : الجهة الأصولية. والبحث عنها أيضا يكون من وجهين.

أحدهما : دعوى شمول إطلاق الأدلة لما تعلق به القطع ولو كان مخالفا للواقع.

وثانيهما : دعوى ثبوت المصلحة أو المفسدة في ما تعلق به ولو كان مخالفا للواقع ، وحيث انّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد على مسلك العدلية فمن جهة الملاك يستكشف العقل حرمة ذلك الفعل أو وجوبه شرعا.

والفرق بين الوجهين ظاهر ، فانّ الدليل على الأول يكون لفظيا وهو الإطلاق على تقدير ثبوته ، وعلى الثاني يكون حكم العقل ، ولذا يختص الأول بما إذا كانت الشبهة موضوعية ، ولا يعم الشبهة الحكمية ، بخلاف الثاني فانه تعم الشبهة الموضوعية والحكمية معا. ومرادنا من الشبهة الموضوعية في المقام ليست الشبهة الموضوعية باصطلاح الشيخ قدس‌سره بل مرادنا منها ما كان الشك فيها في الانطباق وسعة المفهوم وضيقه ، والتعبير بها غير خال عن المسامحة.

وبالجملة الوجه الثاني يجري فيما إذا كان متعلق القطع موردا للشك في الانطباق ، كما إذا تعلق القطع بموضوع الحكم أو بمتعلقه ، وفيما إذا لم يكن كذلك كما إذا

٢١

تعلق بنفس الحكم ، كالدعاء عند رؤية الهلال إذا قطع المكلف بوجوبه ولم يأت به ، وشرب التتن إذا قطع بحرمته وأتى به ، ثم تبين الخلاف في القطع وانكشف مخالفته للواقع ، بخلاف الوجه الأول فانه إنما يجري في خصوص الشك في الانطباق وثبوت إطلاق يحتمل شموله لما تعلق به القطع.

ثم لا يخفى انه لا ينبغي البحث عن الجهة الأولى ، أي عن الحكم الفرعي في قبال البحث عن الجهة الثانية أعني الأصولية ، وذلك لأن ثبوت الحكم الفرعي وعدمه يبتني على هذين الوجهين.

الجهة الثالثة : في المسألة الكلامية ، وانّ التجري هل يوجب استحقاق العقاب من جهة كشفه عن خبث سريرة المتجري ولو كان الفعل المتجري به في الواقع محبوبا للمولى أم لا يوجب ذلك؟

وليعلم انّ التجري لا يختص بمخالفة القطع المخالف للواقع ، بل يعم مخالفة كل طريق معتبر بجميع أقسامه ، بل كل منجّز ولو لم يكن طريقا شرعيا ، والجامع بينها هو قيام الحجة ، مثلا لو قامت البينة على خمرية شيء وشربه ولم يكن في الواقع خمرا يكون متجريا ، أو ثبت خمرية شيء بالاستصحاب فشربه فتبين الخلاف ، أو تنجز على المكلف حرمة شيء بحكم العقل كالاشتغال في الشبهات قبل الفحص أو بغيره من الأصول المثبتة للتكليف ، وذكر القطع من بينها انما هو لكونه أظهر أفراد الحجج والمنجزات لا لخصوصية فيه ، وقد أشار الشيخ قدس‌سره إلى ذلك في أواخر المبحث (١).

ثم ربما يتوهم أو توهم انه لا معنى للتجري في الأحكام الظاهرية ، أي في باب الطرق والأمارات والأصول العملية وجامعها الحكم الظاهري ، بدعوى : انها أحكام مجعولة في مورد الشك أو للمكلف الشاك ، فبكشف الخلاف ينتهي أمدها ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ٥٨ (ط. جامعة المدرسين).

٢٢

نظير النسخ ، لا انه يستكشف به عدم ثبوت الحكم من الأول كما في الأحكام الواقعية.

وفيه : انّ هذا إنما يتم على القول بالسببية والموضوعية ، فانه بناء على ذلك يكون في موردها أحكاما ينتهي أمدها بانكشاف الخلاف ، ولكن هذا القول فاسد لا يعبأ به وان كان منسوبا إلى بعض قدماء الأصحاب ، لاستلزامه التصويب الباطل أو المحال على بعض الوجوه.

والصحيح أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات إنما هو الطريقية وتتميم الكشف ، وجعلها طريقا تاما نظير القطع ، ولا يستفاد من أدلة اعتبارها أزيد من ذلك ، ولو سلمنا أنّ مفاد الأدلة هو جعل الحكم المماثل فالمجعول إنما هو الحكم الطريقي الناظر إلى الواقع الّذي يوجب مخالفته العقاب لو صادف الواقع لا مطلقا ، وهكذا الكلام في الاستصحاب. فالصحيح جريان التجري في موارد قيام الطرق والأمارات مطلقا.

وكيف كان فيقع الكلام في الوجه الأول من الجهة الثانية ، وهو دعوى شمول إطلاقات الأدلة لما قطع بموضوعيته للحكم أو بأنه متعلقه ، أو قام طريق أو حجة معتبرة على ذلك ، وقد عرفت انّ هذا الوجه مختص بما إذا كان هناك إطلاق وكان الخطأ في تطبيقه ، ولا يعم الموارد التي ليس الخطأ فيها من حيث التطبيق.

ويستدل لشمول الإطلاقات لذلك بمقدمات :

الأولى : انّ ما يتعلق به التكليف لا بدّ وأن يكون مقدورا للمكلف ، وإلّا لم يصح التكليف به من الحكيم ، وعليه لا بد وأن يكون موضوع الحكم ومتعلقاته خارجة عن حيز التكليف ، فلو قال المولى : «أكرم العالم» يكون وجود العالم خارجا عن حيز الطلب ، وهكذا لو قال : «لا تشرب الخمر» يكون خمرية الخمر مفروض الوجود في مقام الحكم ، فيفرض العالم ويبعث نحو إكرامه ، ويفرض وجود الخمر

٢٣

وخمريته فيزجر عن شربه ، وعلى هذه المقدمة بنى المحقق النائيني رحمه‌الله إنكار الواجب التعليقي ، وقد تقدم الكلام فيه ، إلّا أن المقدمة غير قابلة للإنكار.

الثانية : ان السبب لحركة العضلات نحو العمل والداعي لتعلق الإرادة بشيء إنما هو نفس القطع والانكشاف ، غايته بما انه طريق ومظهر للواقع لا بما انه صفة نفسانية ، وجهة كونه مطابقا للواقع أو مخالفا وجهلا مركبا أجنبية عن محركيته وباعثيته أو زاجريته وان كان الإنسان يرى انّ محركه هو الوجود الواقعي ، ولذا لو قطع الإنسان بوجود الأسد يفر ولو لم يكن هناك أسد واقعا ، وبالعكس لو كان هناك أسد وهو لا يعلم به لا يفر ولو افترسه ، وهكذا في الحركة نحو المحبوب ، فانّ العطشان لو قطع بوجود الماء في مكان يتحرك نحوه ولو كان في الواقع سرابا ، وبالعكس لو كان الماء عنده وهو لا يعلم به ربما يموت من العطش ولا يتحرك نحوه ، فالتأثير والتأثرات الروحية والإرادية ليست كالتأثرات الطبيعية المترتبة على مؤثرها قهرا نظير الإحراق المترتب على وجود النار الّذي لا يتوقف حصوله منها على قطع وإرادة أو نحو ذلك ، وإنما هي تابعة للصور العلمية ، فانّ الروح أسير الإرادة ، ومرجح الإرادة كما عرفت هو القطع واليقين موافقا كان للواقع أو مخالفا ، وهذا واضح جدا ، فما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من أن المحرك هو وجود المقطوع بما تعلق به القطع غير صحيح (١).

الثالثة : ان الإرادة التشريعية حيث تتعلق بالفعل الصادر عن إرادة المكلف واختياره لا بفعله الاضطراري فلا محالة تكون محركة لإرادته ، بمعنى أن المولى يريد تحقق اختيار المكلف في أفق النّفس ، فالمطلوب للمولى هو هذا ، وإذا فرضنا ان إرادة العبد تتبع قطعه ، فلا محالة يكون متعلق بعثه هو ما يتعلق به قطعه ، وهكذا في

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ٣٨.

٢٤

النهي ، فكأن المولى يبعث نحو ما تعلق به القطع ويزجر عما تعلق به القطع سواء كان قطعه موافقا للواقع أو مخالفا له ، ونسبة عصيان التكليف إلى من كان قطعه موافقا للواقع أو كان مخالفا تكون على حد سواء ، فانّ مطابقة القطع ومخالفته تكونان خارجتين عن تحت اختيار المكلف ، ولا معنى لإناطة العقاب على الخارج عن الاختيار.

وبالجملة حاصل المقدمة الأولى هو أنّ التكليف لا بد وأن يتعلق بالحصة الاختيارية من حيث الموضوع والمتعلق ، فما هو في حيز التكليف في قولك «لا تشرب الخمر» مثلا إنما هو شرب ما فرض خمريته لا ما هو الخمر واقعا اختيارا ، وهكذا في قولك «أكرم عالما» متعلق الطلب هو ما فرض انه إكرام العالم لا الإكرام الواقعي فانه خارج عن قدرة المكلف واختياره. وحاصل المقدمة الثانية انّ ما يكون مرجحا لاختيار العبد وداعيا لإرادته إنما هو الصور الذهنية بما انها طريق سواء كان مطابقا للواقع أو لم يكن. وحاصل المقدمة الثالثة وهي العمدة في المقام انّ متعلق غرض المولى حيث يكون الفعل الصادر عن اختيار المكلف لا محالة يكون متعلق إرادة المولى وتحريكه هو اختيار المكلف لا العمل الخارجي ، وقد عرفت بمقتضى المقدمة الثانية ان للقطع والصور الذهنية موضوعية في تحقق الاختيار ، وليس الوجود الواقعي دخيلا في ذلك.

والمتحصل من جميع المقدمات انّ متعلق تكاليف المولى في الحقيقة هو اختيار ما تعلق القطع بانطباق الموضوع أو المتعلق عليه فعلا أو تركا فقول المولى : «لا تشرب الخمر» يكون زاجرا عن اختيار شرب مقطوع الخمرية وقوله : «أكرم عالما» باعث إلى إكرام ما فرض عالميته وإيجاد ما قطع بكونه إكرام العالم ، فيشمل إطلاق الأدلة صورة مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، فكل من الشخصين اللذين صادف قطع أحدهما الواقع وخالف قطع الآخر اختار شرب ما فرض خمريته وما

٢٥

هو مبغوض المولى ، وجهة المصادفة وعدمها قد عرفت انها خارجة عن اختيار المكلف وقدرته ولم يكن في حيز الطلب ، وهذا غاية ما يمكن من توضيح المقدمات.

ونقول : في المقدمة الثالثة نقضا وحلّا.

اما نقضا ، فبالواجبات فانه إذا فرضنا ان متعلق التكليف هو الاختيار ففي قوله : «صلّ في الوقت» مثلا يكون الواجب اختيار ما قطع بكونه صلاة في الوقت ، فإذا صلى باعتقاد دخول الوقت فبان خلافه لا بد وان يلتزم بسقوط التكليف لحصول المأمور به وهو اختيار الصلاة في الوقت. وبعبارة أخرى : نسأل هذا المستدل ونقول : ان التجرّي هل يختص بالمحرّمات أو يجري في الواجبات أيضا؟ مثلا لو أفطر في يوم باعتقاد أنه من شهر رمضان ولم يكن منه في الواقع ، هل يكون متجريا بذلك أم لا؟ من الواضح انه متجر وعاص ، ولازم كونه متجريا أن يكون الواجب اختيار صوم ما قطع بكونه من رمضان ليكون تركه عصيانا ، ولازم ذلك هو الالتزام بالاجزاء في امتثال الحكم العقلي أيضا ، ولم نر أحدا من الفقهاء التزم بذلك. نعم الاجزاء في امتثال الأوامر الظاهرية مورد خلاف بينهم ، واما مورد القطع بالحكم خطأ فالظاهر انه لا خلاف بينهم في عدم الاجزاء.

واما حلّا : فالأحكام الشرعية إنما تكون تابعة للمصالح والمفاسد ، وظاهر الأدلة انّ المصلحة والمفسدة في نفس العمل ، ولازم ذلك أن يكون البعث نحو نفس العمل والزجر عن نفسه دون اختياره سواء كان اختياريا أو غير اختياري ، غاية الأمر حيث ان العقل يحكم بقبح تكليف العاجز أو أن نفس التحريك يقتضي قدرة المكلف على التحرك منه فلا محالة يخصص العقل تكاليف المولى بصورة القدرة ، هذا على مسلك القوم القائلين باعتبار القدرة في التكليف الفعلي ، واما على مسلكنا من عدم اعتبارها فيه وانّ القدرة مأخوذة في حكم العقل بالامتثال فالامر أوضح.

٢٦

والحاصل : ان الاختيار يكون مأخوذا في تكاليف المولى بنحو المعنى الحرفي أي طريقا إلى العمل الخارجي لا بنحو المعنى الاسمي والموضوعية ، وكم فرق بين القسمين. وبهذا يظهر ان صحة العقاب على تقدير المصادفة وعدمها على تقدير عدم المصادفة لا يوجب دخول الأمر الخارج عن الاختيار في حيز الطلب أصلا ، وعدم العقاب في فرض عدم المصادفة انما هو من جهة عدم تحقق المخالفة والعصيان وعدم الإتيان بما فيه المفسدة ولو كان عن غير اختيار. هذا كله في الوجه الأول.

واما الوجه الثاني فتارة يقال : انّ تعلق القطع بانطباق عنوان ذي مصلحة على شيء يوجب طروّ المصلحة في ذلك الشيء ، كما ان القطع بانطباق عنوان ذي مفسدة يوجب حدوث المفسدة فيه.

وفيه : ان المصالح والمفاسد من التأثير والتأثرات الواقعية والقطع بانطباق عنوان على شيء لا يوجب سلب آثاره التكوينية عنه ولا إيجاد أثر فيه ، مثلا إذا قطع الإنسان بأن هذا السم الخارجي ماء فشربه يترتب عليه الموت وهلاك النّفس ، ولا يتخلف عنه أثره بمجرد انكشاف مائيته ، وهكذا في العكس ، وهذا واضح وجدانا ، ثم لو سلمنا إمكان حدوث المصلحة أو المفسدة في الشيء عند القطع بطرو عنوان عليه في بعض الموارد بنحو الموجبة الجزئية فإثبات أن المورد الخاصّ من تلك الموارد محتاج إلى دليل.

وأخرى يقرب الاستدلال بنحو آخر ويقال : انّ التجري يكون كاشفا عن سوء سريرة العبد وانه في مقام الطغيان على المولى ، وهذا يوجب قبح الفعل المتجري به أو حدوث مفسدة فيه.

والجواب عن هذا أوضح من سابقه ، فان القبح الفاعلي لا يوجب القبح الفعلي ، ومجرد كون الفعل كاشفا عن سوء سريرة فاعله لا يكون من العناوين المقبحة للفعل. وبالجملة القبح الفاعلي في التجري مسلّم لكنه أجنبي عن القبح

٢٧

الفعلي.

وتحقيق الكلام في المقام يقتضي التكلم عن جهات ثلاثة.

الأولى : ان تعلق القطع بانطباق عنوان ذي مفسدة على شيء يوجب حدوث مفسدة فيه ، كما ان القطع بانطباق عنوان ذي مصلحة على شيء يوجب حدوث المصلحة فيه في باب الانقياد. وقد عرفت الجواب عنه بأن المصالح والمفاسد يكونان من قبيل الأمور التكوينية والآثار والخواصّ المترتبة على الأشياء والأدوية ، فكما لا يتغير ذلك بتعلق القطع وعدمه كذلك المصالح والمفاسد.

الثانية : ان الفعل المتجري به يكون كاشفا عن سوء سريرة العبد وانه بصدد الطغيان على مولاه فيكون فيه القبح الفاعلي ، ويسرى ذلك إلى نفس الفعل المتجري به ويوجب قبحه أيضا. والجواب عنه انّ قبح المنكشف لا يوجب قبح الكاشف ، كما انّ حسن المنكشف لا يوجب حسن الكاشف في الانقياد.

الثالثة : ان نفس الانكشاف وتعلق القطع بشيء لا يوجب تعنونه بالحسن أو القبح ، وبعبارة أخرى : عنوان القطع يكون من العناوين المحسنة والمقبّحة وان لم يكن موجبا لحدوث مصلحة أو مفسدة في متعلقه؟

والكلام في هذه الجهة أيضا يقع في نقطتين : إحداهما : في بيان ان القطع من العناوين المقبحة والمحسنة أو لا؟ ثانيتهما : في انه بعد صحة هذه الدعوى هل يستتبع ذلك حكما شرعيا لقاعدة الملازمة أم لا؟

أما الأولى : فادعى المحقق النائيني قدس‌سره ان عنوان القطع ليس موجبا لتعنون متعلقه بالحسن والقبح أصلا ، وأفاد انّ هذا وجداني ولم يستدل على مدعاه بشيء (١). ولكن المحقق الخراسانيّ قدس‌سره برهن على ذلك ، وحاصل ما أفاده : انّ العناوين

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ٤١.

٢٨

المحسنة والمقبحة لا بد وأن تكون من العناوين الاختيارية ، وعنوان القطع لا يكون كذلك ، فانّ الفاعل إنما يقصد الفعل بعنوانه الواقعي لا بعنوان انه مقطوع الحرمة أو الوجوب أو الخمرية مثلا ، وبهذا العنوان لا يكون مقصودا ، بل لا يكون غالبا ملتفتا إليه (١).

ولا يخفى ما في كلامه قدس‌سره فانه لا وجه للترقي عما ذكره من أن الفاعل إنما يقصد الفعل بعنوانه الواقعي لا بعنوان ... إلخ ، بقوله : بل لا يكون غالبا ملتفتا إليه ، وذلك لأنّ مراده من عدم كون عنوان المقطوع مقصودا لو كان عدم كونه داعيا له كما هو ظاهر كلامه فهو وان كان صحيحا ، إذ داعي شارب الخمر للشرب ليس إلّا جهة إسكاره لا عنوان كونه مقطوع الخمرية ، ولكن لا يعتبر في الجهات المحسنة أو المقبحة أن يكون داعيا في مقام العمل ، ولذا ضرب اليتيم مع الالتفات إلى انه يتألم ويتأذى يكون ظلما وقبيحا ولو لم يكن بداعي الإيلام والإيذاء ، بل كان بداعي امتحان العصا مثلا ، وان كان المراد عدم كونه ملتفتا إليه فلا وجه للترقي والاستدراك بقوله بل لا يكون ... إلخ ، لأن أحد الأمرين يرجع إلى الآخر. هذا مضافا إلى أن أصل البرهان غير تام ، وذلك لأن الالتفات إلى العناوين الموجبة للحسن أو القبح وان كان معتبرا كما أفاد ولكن عنوان المقطوعية يكون ملتفتا إليه دائما ، غاية الأمر بالالتفات الإجمالي غالبا والتفصيليّ في بعض الموارد ، بل القطع هو الملتفت إليه أولا ومتعلقه يكون ملتفتا إليه ثانيا وبالتبع ، فكيف يمكن أن يكون مغفولا عنه.

واما ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من الوجدان فالظاهر ان خلافه وجداني ، وذلك لأنّ المراد من الحسن والقبح في المقام هو العقليان منهما أي إدراك العقل حسن تحسين العقلاء وتوبيخهم فاعل الفعل ، وأن المدح والذم منهم واقع في محله ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٣.

٢٩

وملاك هذا الحكم العقلي ليس إلّا انطباق عنوان العدل أو عنوان الظلم على الفعل ، ومن الواضح ان هذا العمل المقطوع مبغوضيته بنفسه يكون تعديا على المولى وخروجا عن زي العبودية والوظيفة وظلما عليه ، كما ان العمل المقطوع وجوبه مصداقا للعدل خصوصا إذا كان عملا شاقا وتبين عدم وجوبه بعد الإتيان به.

والظاهر ان ما ذكره مبني على الخلط بين القبح العقلي والحرمة والمبغوضية الشرعية ، ولا ملازمة بين الأمرين ، وسيتضح إن شاء الله ، فانه ربما لا يكون الفعل قبيحا عقلا وهو حرام واقعا كما في موارد الجهل ، وربما ينعكس كما في المقام

وتفصيل الكلام في ذلك : هو انه اختلفت كلمات القدماء في ان حسن الأشياء وقبحها هل يكونان ذاتيين نظير خواص الأشياء وآثارها المترتبة عليها ، أو أنهما بحكم الشرع ومع قطع النّظر عن ذلك ليس في شيء حسن ولا قبح ، أو يكونان بحكم العقل ويختلفان بالوجوه والعناوين؟

والحق من الاحتمالات هو الأخير ، وذلك لأن احتمال كون الحسن والقبح ذاتيا وأمرا واقعيا نظير المصالح والمفاسد ينافي ما نراه وجدانا من اختلافهما باختلاف الوجوه والاعتبارات ، إذ الكذب لو كان منجيا يكون متصفا بالحسن ومع عدمه يكون قبيحا ، وإيلام المولى وهتكه في حد نفسه يكون قبيحا ، وأما لو كان بعنوان إنجائه من القتل يكون حسنا ويمدح عليه فاعله ، ومن الواضح انهما لو كانا ذاتيين كالخواص لم يكونا قابلين للتخلف.

وأما احتمال أن يكونا بحكم الشارع كما عليه الأشاعرة فهو مستلزم لسد باب إثبات نبوة الأنبياء ، وما أخبر الله تعالى به من الوعد والوعيد ، إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة المترتبة على إنكار الحسن والقبح العقليين التي لا يمكن الالتزام بها من عاقل ، إذ من الضروري انه لو لا قبح إجراء المعجز على يد مدعي النبوة كذبا لم يكن لإثبات نبوة من يأتي بالمعجز طريق ، إذ لا دافع لاحتمال كذبه ولو أتى بألف

٣٠

معجز خارق للعادة بعد ما فرضنا انه لا قبح في إجرائها بيد الكاذب ، وهكذا لو لم يكن الكذب وخلف الوعد قبيحا لم يكن لنا طريق إلى الجزم بتحقق وعده تعالى شأنه.

وبالجملة التوالي الفاسدة المترتبة على هذا المسلك مما يضحك الثكلى ، فلا يحتمل صحته أصلا ، فيبقى الاحتمال الثالث ، وهو أن يكونا من الأحكام العقلية العملية ، بمعنى إدراك العقل استحقاق الفاعل للمدح والثناء أو الذم واللوم ، وعلى هذا فالحسن والقبح العقليان يكونان مختصين بالأفعال الاختيارية ، ولا يجريان فيما يصدر عن غير اختيار ، إذ لا معنى لمدح العبد على إنقاذ ابن المولى في حال النوم ، كما لا معنى لحكم العقل بقبح ضرب العبد مولاه في حال الإغماء. نعم حسن الشيء وقبحه بمعنى كونه ذا منفعة أو مضرة ، أو كونه ذا مصلحة أو مفسدة ، أو كونه منافرا للطبع أو ملائما لا ينحصران بالأمور الاختيارية ، كما لا يكونان اختياريين ، ولذا تقول : مدحت اللؤلؤ على صفائها ، ولكنهما أجنبيان عن الحسن والقبح العقليين.

ولا يخفى ان حكم العقل بحسن شيء أو قبحه إنما يكون بانطباق عنوان العدل والظلم عليه ، فما يكون حسنا بحكم العقل أولا ومن دون حاجة إلى أن يدخل تحت عنوان آخر هو العدل ، وما يكون قبيحا كذلك هو الظلم ، والأول هو الحسن ذاتا كما ان الثاني هو القبيح ذاتا ، بخلاف سائر الأمور والأفعال ، فالقبيح منه لا يتصف بالقبح عقلا إلّا بعد انطباق عنوان الظلم عليه ، والحسن منه لا يتصف بالحسن إلّا بعد انطباق عنوان العدل عليه ، والعدل لغة بمعنى الاستقامة ، واستقامة كل شيء يكون بحسبه ، ومنه العادل أي من له ملكة الاستقامة وعدم الخروج عن جادة الشرع.

إذا عرفت ذلك نقول : لا فرق في نظر العقل في قبح الإتيان بما هو مقطوع الحرمة بين أن يكون مصادفا للواقع أو مخالفا له ، إذ لا تفاوت بين الصورتين في صدق عنوان الظلم وهتك المولى والجرأة عليه على ذلك الفعل ، فان الظلم والقبح لا

٣١

يدوران مدار الحرمة الواقعية ، ولذا في صورة الجهل لا يكون الفعل قبيحا مع ثبوت الحرمة واقعا ، وإنما يدوران مدار هتك حرمة المولى والجرأة عليه الثابتة في الصورتين. والّذي يشهد لما ذكرناه تسالمهم على حسن الفعل المنقاد به عقلا ومدح فاعله على ذلك من غير خلاف ولا فرق بين الانقياد والتجري في حكم العقل في الأول بالحسن وفي الثاني بالقبح. فما أفاده المحقق النائيني من عدم قبح الفعل المتجري به غير تام.

كما عرفت انّ البرهان الّذي أفاده في الكفاية أيضا غير صحيح ، وحاصل برهانه هو أن عنوان القطع غير ملتفت إليه فلا يكون اختياريا ، وأفاد انه في فرض التجري ربما لا يكون هناك فعل اختياري أصلا ، إذ ما أتى به واقعا وهو شرب الماء لم يكن مقصودا ، وما قصده واختار شربه لم يقع في الخارج.

وقد ذكرنا في جوابه انّ القطع ملتفت إليه بالالتفات الحضوري ، إذ القطع بنفسه حاضر لدى النّفس ، نعم تصور القطع والعلم به تفصيلا مفقود غالبا ، ويكفي في قبح الفعل الالتفات إلى عنوانه القبيح بهذا المقدار. ثم انه لو تم هذا البرهان فهو مختص ببعض موارد التجري وهو فرض تعلق القطع بالموضوعات ، ولا يجري في فرض تعلق القطع بالحكم ، كما لو قطع بحرمة شرب التتن فشربه ، فانّ الالتفات إلى القطع بالحكم غالبا يكون موجودا في مقام العمل. هذا كله في النقطة الأولى.

وأما الثانية : فالحق فيها أنّ قبح الفعل لا يكون ملازما لحرمته شرعا ، بل يكون على ما هو عليه واقعا ، وقضية كل ما حكم به العقل حكم به الشرع أجنبية عن حكم العقل بمعنى إدراكه قبح الفعل أو استحقاق فاعله للذم ، وإنما هي في حكم العقل بمعنى إدراكه المصالح والمفاسد المستتبعة للحكم الشرعي. وبعبارة أخرى : الحسن والقبح بالمعنى الأول يكونان في طول الحكم الشرعي ومن توابعه ، ولا يكونان مناطا له ، بخلاف الحسن والقبح بالمعنى الثاني ، فانهما يكونان ملاكا للحكم

٣٢

الشرعي ، فإذا أحرز العقل وجود المصلحة الملزمة غير المزاحمة في فعل كما في حفظ النّفس المحترمة مثلا فبالملازمة يستكشف ثبوت الحكم الشرعي بوجوبه ، ولا يبعد أن يكون مدرك وجوبه هو هذا الحكم العقلي ، إذ لم نجد ما يدل على وجوبه من الأدلة اللفظية ، وهكذا إذا أحرز وجود مفسدة ملزمة في شيء يستكشف ثبوت الحرمة فيه ، فهذه القضية المشهورة أي الملازمة لا ربط لها بالمقام ، وإنما هي في مرحلة إدراك علل الأحكام وملاكاتها لا إدراك ما في مرتبة معلولاتها كحسن الإطاعة وقبح العصيان ، فان هذا الحسن والقبح فرع ثبوت الحكم الشرعي المولوي ، وثبوت حكم شرعي مولوي في هذه المرتبة لغو لا أثر له ، إذ العقل وهو الباعث والزاجر الداخليّ يكون مستقلا بذلك ، فمعه لا حاجة إلى الحكم المولوي ، ومع عدمه لا فائدة فيه لوضوح انه لو لا حكم العقل بصحة عقاب المولى عبده على العصيان لما حصل للمكلف خوف من العقاب ولما امتثل التكاليف أصلا ، ولهذه الجهة حملوا الأوامر الواردة في مقام الإطاعة على الإرشاد دون المولوية.

هذا مضافا إلى أنه يستحيل أن يكون هذا القبح في المقام مستتبعا للحكم الشرعي ، وذلك ، لأن القبح الّذي يتوهم استتباعه للحكم الشرعي لو كان خصوص القبح الثابت لعنوان التجري أي مخالفة القطع المخالف للواقع بهذا العنوان ، ففيه.

أولا : انه لا وجه لهذا الاختصاص ، لما عرفت من انّ حكم العقل بالقبح بالقياس إلى صورة مصادفة القطع للواقع ومخالفته يكون على حد سواء ، وملاكه وهو الهتك والجرأة على المولى يكون موجودا في كلتا الصورتين.

وثانيا : لازم هذا أن يكون المحرّم مخالفة القطع بعنوان كونه مخالفا للواقع ، وهذا الحكم غير قابل للمحركية أصلا ، لأن من مبادئ قدرة المكلف على الامتثال المعتبرة عندهم في صحة التكليف هو الالتفات إلى الموضوع ، والالتفات إلى هذا العنوان يكون مساوقا لزواله نظير الالتفات إلى النسيان ، فكما لا يمكن تكليف الناسي بهذا

٣٣

العنوان كذلك لا يمكن تكليف القاطع بعنوان مخالفة قطعه للواقع ، فعلى مسلك المشهور لا يصح هذا التكليف.

واما لو كان القبح المستتبع للحكم المولوي الشرعي القبح الجامع الثابت في التجري والمعصية الواقعية فلازمه التسلسل وأن يكون هناك أحكام غير متناهية وعصيانات غير متناهية وعقوبات غير متناهية ، وذلك لأن العصيان لو كان حراما شرعا فحرمته أيضا حكم شرعي فعصيانها أيضا قبيح فلا بد وأن يكون حراما ، وهكذا إلى ما لا نهاية له ، والتجري قبيح فلا بد وأن يكون حراما ، فعصيانه أيضا كذلك وهكذا إلى أن يتسلسل ، ومن البديهي انا إذا راجعنا وجداننا لا نرى في أنفسنا إرادات أو كراهات عديدة في البعث نحو شيء واحد أو الزجر عنه. هذا مضافا إلى انه لا يبعد أن يكون ذلك مستلزما لعدم الفرق بين المعاصي من حيث العقوبة ، فانها في جميعها غير متناهية على الفرض.

ثم لا يخفى انّ هذا القبح العقلي وان لم يكن مستتبعا للحكم الشرعي لكنه يستلزم حكم العقل باستحقاق العقاب عليه كما في المعصية الواقعية ، لما بيناه في ملاك حسن الأفعال وقبحها ، ولا يبعد دعوى تساوي التجري المحض والمعصية الواقعية من حيث مقدار ما يستحقه العامل من العقاب ، فانّ ملاك ذلك وهو الهتك فيهما على حد سواء. وأما ما أفاده في الفصول (١) من الأمثلة لبيان الفرق بين التجري والعصيان في استحقاق العقاب ، فهو أجنبي عن المقام ، وإنما هو في مقام التشفي المستحيل في حقه تعالى ، نعم من حيث التشفي ربما يختلف العقاب بنظر العقلاء بينما أراد العبد قتل ابن المولى وصادفه أو أراد ذلك ولكنه صادف عدوه ، ولكن مع قطع النّظر عن التشفي لا فرق بين الصورتين من حيث الاستحقاق.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

٣٤

وبالجملة استحقاق العقاب يكون على نفس التجري أعني الفعل المتجري به ، لا على العزم والاختيار كما أفاده في الكفاية (١) ، ووقع لذلك في إشكال استلزامه استحقاق العقاب على أمر غير اختياري ، والجواب عنه بأنّ ذلك يكون من تبعات البعد عن المولى والشقاوة الذاتيّة التي هي نظير إنسانية الإنسان وحمارية الحمار ، وغير قابل للتعليل ، وقد مرّ الجواب عما ذكره في المقام في بحث الطلب والإرادة مفصلا فراجع. وبما تقدم ظهر الحال في الجهة الثالثة أيضا :

تنبيهات :

الأول : لا إشكال في أن القطع من العناوين التي يختلف بها جهات الحسن والقبح ، ويمكن أخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر. ولا إشكال أيضا في أن النسبة بين موضوعات الأحكام وبين القطع من حيث هو عموم من وجه ، فيمكن أن يكون هناك خمر ولم يتعلق به القطع ، كما يمكن أن يقطع بخمرية شيء ولم يكن في الواقع خمر ، ويمكن اجتماعهما كما هو واضح ، نظير عنوان العلم والعدالة مثلا ، ولا مانع من جعل حكمين متماثلين عليهما بأن يجعل على كل من العنوانين حكم مماثل لما جعل على الآخر.

ولكن يظهر من كلام المحقق النائيني قدس‌سره أن في خصوص عنوان القطع ونفس متعلقه لا يعقل ذلك وان كان بينهما عموما من وجه ، وذلك لاستلزامه اجتماع المثلين في نظر القاطع دائما ، لأن القاطع بخمرية شيء لا يحتمل مخالفة قطعه للواقع ، ففي نظره يكون هناك حكمان متماثلان في محل واحد ، مثلا لو كان شرب الخمر حراما وكان شرب مقطوع الخمرية أو الحرمة أيضا حراما فالحرمة الثانية المأخوذ في موضوعها عنوان القطع لا تصير فعلية إلّا بعد تحقق القطع بالخمرية أو بالحرمة ، وحيث ان

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٣ ـ ١٤.

٣٥

القاطع بذلك دائما يرى قطعه موافقا للواقع فيرى ان شربه هذا محكوم بحكمين متماثلين ، فلا يمكن جعل الحرمة لعنوان القاطع بحرمة الشرب أو بخمرية الخمر بعد جعل الحرمة على شرب الخمر الواقعي ، مضافا إلى أنه غير قابل للفعلية والباعثية (١).

هذا ملخص ما أفاده رحمه‌الله في بيان عدم استتباع قبح التجري للحكم المولوي ، ولكنه غير صحيح.

أما أولا : فلأن في القطع بالموضوع يمكن تصوير مورد الافتراق من الطرفين ، مثلا لو قال المولى ، لا تشرب الخمر «وقال أيضا : «لا تشرب معلوم الخمرية» وفرضنا ان المكلف قطع بخمرية شيء وهو غير عالم بحرمة الخمر الواقعي ولم يصل إليه دليله وإنما علم حكم مقطوع الخمرية فقط يكون حينئذ حكم مقطوع الخمرية فعليا عليه من غير أن يستلزم اجتماع المثلين حتى في نظره وهكذا عكسه ، نعم في مورد العلم بالحكمين معا يلزم ذلك ، فلا بد من الالتزام هناك بالتأكد كما في جميع موارد اجتماع العامين من وجه ، فما أفاده مختص بالقطع بالحكم.

وثانيا : لا ملزم لأن يكون بين موضوعي الحكمين المتماثلين عموما من وجه ، بل يمكن أن يكون بينهما عموم مطلق ، نظير ما إذا تعلق النذر أو الشرط في ضمن العقد اللازم بالواجبات كالصلاة المفروضة فانها حينئذ تكون واجبة من جهتين ، من جهة الأمر الصلاتي ومن جهة الأمر النذري ويكون فيها ملاكهما غاية الأمر نلتزم فيها بالتأكد في مقام الفعلية ، واما في مرحلة الإنشاء والملاك فالتعدد ثابت ، والمقام من هذا القبيل ، فانّ القطع بالحكم وان كان في نظر القاطع لا ينفك عن ثبوته واقعا ولا يمكننا تصوير مورد الافتراق من ناحية القطع بأن يكون هناك قطع بالحكم ولم يكن حكم حتى في نظر القاطع ، وإنما الافتراق يكون من طرف الحكم

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ٤٥ ـ ٤٦.

٣٦

فقط فيما إذا ثبت بغير القطع من الطرق والأمارات ، ولكن قد عرفت انه لا يعتبر أن يكون بين الموضوعين عموم من وجه ، وبالالتزام بالتأكد في أمثال المقام يندفع إشكال اجتماع المثلين.

فالوجه الصحيح لعدم الحكم المولوي هو ما ذكرناه من أن الحكم العقلي إنما يستتبع الحكم المولوي إذا تعلق بما يكون واقعا في سلسلة علل الأحكام لا معلولاتها وإلّا لتسلسل كما عرفت.

التنبيه الثاني : ربما يتمسك لحرمة التجري بالإجماع من جهة اتفاقهم على أن سلوك طريق مظنون الضرر خصوصا إذا كان الضرر مما يجب التجنب عنه كتلف النّفس يكون معصية ولو انكشف الخلاف ، وهكذا الظان بضيق الوقت يجب عليه البدار ولو لم يبادر يكون عاصيا ولو انكشف بقاء الوقت ، فليس المعصية إلّا من جهة التجري.

وفيه : ما لا يخفى ، فانّ الظاهر انّ حرمة السلوك إنما هي من جهة ان خوف الضرر له موضوعية في نظر الشارع ، ولذا ليس فيه كشف خلاف أصلا ، وكذلك الظن بضيق الوقت ، فانّ المستفاد من قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي الواردة في الظهرين : «ان كان في وقت لا يخاف فوت إحداهما فليصلّ الظهر ثم ليصلّ العصر ، وإن خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر» (١) هو أن خوف فوت الصلاة هو الموضوع لوجوب البدار ، وعليه فلا ارتباط بين المسألتين ومسألة التجري أصلا.

التنبيه الثالث : ربما يستدل لحرمة التجري بالروايات الواردة في ترتب العقاب على قصد السوء وانه يحاسب عليه (٢) ، وهناك روايات أخر دالة على عدم

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ ـ باب ٤ من أبواب المواقيت ، ح ١٨.

(٢) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٦ من أبواب مقدمة العبادات ، ح ٣.

٣٧

ترتب العقاب على القصد (١) وانّ نية السوء لا تكتب (٢) فتقع المعارضة بين الطائفتين. والشيخ قدس‌سره جمع بينهما بحمل الطائفة الأولى على القصد المستتبع للاشتغال ببعض المقدمات والثانية على القصد المجرد عن ذلك (٢) ، ولكنه لا شاهد عليه ، فيكون جمعا تبرعيا.

والصحيح ان يجمع بينهما بحمل الطائفة الثانية على القصد الّذي ارتدع الإنسان بنفسه عنه والأولى على ما إذا لم يرتدع بنفسه حتى إذا شغله شاغل خارجي ، والشاهد على هذا الجمع هو النبوي المشهور من أنه «إذا التقى المسلمان بسيفهما ، فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأنه أراد قتل صاحبه» (٣) ، فانّ ظاهر التعليل هو إرادة القتل مع عدم حصول الرادع له عن نفسه ، وانّ عدم تحقق القتل منه كان لعدم تمكنه على ذلك ، وبعبارة أخرى : حيث ان كل رواية تكون نصا في موردها ، ومورد النبوي إنما هو قصد القتل مع عدم انقداح رادع له عن نفسه فيكون نسبته مع الطائفة الثانية من الروايات نسبة الخاصّ إلى العام فبه تخصص تلك الأخبار ، وتختص بصورة تحقق الرادع له عن نفسه ، فتنقلب النسبة بينها وبين الطائفة الأولى من الروايات من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، فتخصص الطائفة الأولى بالطائفة الثانية فيخرج صورة وجود الرادع عن قصد السوء عن الروايات الدالة على المؤاخذة على القصد وتبقى الصورة الأخرى تحتها ، فالمقام من صغريات مبحث انقلاب النسبة ، ونتعرض

__________________

(١) لا يبعد أن يكون تلك الروايات ظاهرة في انّ نفس المعصية لا تكتب بمجرد قصدها ، لا انّ القصد لا يكتب ، فراجع الأخبار ، وعليه فلا تعارض أصلا.

(٢) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ٦ من أبواب مقدمة العبادات ، ح ٨.

(٣) فرائد الأصول : ١ ـ ٥٩ (ط. جامعة المدرسين).

(٤) وسائل الشيعة : ١١ ـ باب ٦٧ من أبواب جهاد العدو.

٣٨

له في محله.

وكيف كان فهذه الرواية تكون شاهدة للجمع الّذي ذكرناه ، وأما الجمع الّذي ذكره الشيخ قدس‌سره فلا شاهد عليه. ولا يخفى انه لا يحتمل في النبوي أن يكون لإرادة القتل خصوصية في الحرمة للقطع بعدم الفرق بين القتل وغيره من المعاصي من هذه الجهة ، فتأمل.

وعلى أي تقدير الاستدلال بما يدل على المؤاخذة على قصد المعصية ولو بعد الاشتغال بمقدماتها على حرمة التجري غير صحيح.

أما أولا : فلأنّ مورد النبوي المتقدم الّذي جعلناه شاهدا للجمع وخصصنا به ما دل على ثبوت المحاسبة والمؤاخذة على نية السوء من جهة كونه نصا في مورده إنما هو إرادة القتل الواقعي والاشتغال بمقدماته وعدم ارتداعه عنه بنفسه ، ولا ربط له بالحرام الخيالي أي ما يعتقده حراما.

وثانيا : لو سلمنا أن مورده أعم من ذلك ومن قصد الإتيان بما قطع بحرمته ، فليس في الروايات ما يدل على حرمة ذلك القصد ، بل غاية ما فيها انه يحاسب عليه أو يعاقب ، وهذا التعبير لا يدل على أزيد مما كان العقل مستقلا به من استحقاق المتجري للعقاب ، ولا يستفاد منها الحرمة المولوية.

التنبيه الرابع : ان صاحب الفصول (١) بعد ما سلم قبح التجري واستحقاق العقاب عليه أفاد ما حاصله : انّ قبح التجري لا يكون ذاتيا بل يختلف بالوجوه والاعتبار ، فإذا صادف الفعل المتجري به المعصية الواقعية كان فيه ملاكان للقبح ، ملاك التجري وملاك المعصية الواقعية ، فلا محالة يتداخل العقابان ، وقبح التجري في هذا الفرض يكون أشد وأكثر مما إذا كان الفعل المتجري به في الواقع مكروها ، كما انّ القبيح في هذا الفرض أيضا يكون أكثر مما إذا كان الفعل المتجري به مباحا ،

__________________

(١) الفصول الغروية : ٤٣١.

٣٩

وهكذا يكون القبيح في هذه الصورة أكثر مما إذا كان الفعل في الواقع مستحبا ، واما إذا كان الفعل في نفس الأمر واجبا فيقع التزاحم بين ملاك الوجوب وملاك قبح التجري ، فربما يتساويان ، وربما يكون ملاك الوجوب أقوى فيتقدم ، أو يكون ملاك قبح التجري أقوى فيكون قبيحا ، انتهى.

وأفاد المحقق النائيني رحمه‌الله ويظهر من كلام الشيخ أيضا (١) ان ما في الفصول مركب من دعاوى ثلاثة :

الأولى : انّ التجري بعنوانه يكون قابلا لأن يختلف قبحه بالوجوه والاعتبارات ، ويمكن اختلاف قبحه بمزاحمته مع العناوين الواقعية.

الثانية : وقوع هذا الأمر الممكن وانّ الجهات الواقعية في الفعل المتجري به يوجب اختلاف مرتبة قبح التجري أو زواله في بعض الموارد.

الثالثة : تداخل العقابين عند مصادفة الفعل المتجري به للمعصية الواقعية وللحرام الواقعي.

وجواب الجميع واضح بعد ما قدمناه ونزيده وضوحا.

أما الأولى ففيه : انّ التجري أعني الفعل الصادر بهذا العنوان يكون بنفسه مصداقا للظلم ، وحكم العقل بقبح الظلم ذاتا يكون من الأحكام العقلية العملية الضرورية ، كما انّ حكمه باستحالة اجتماع النقيضين يكون من الأحكام الضرورية النظرية ، فهو غير قابل للتخلف.

واما الثانية فبطلانها أوضح ، وذلك لأنّ الأمر غير الاختياري لا يمكن أن يكون رافعا لقبح الفعل الصادر قبيحا ، نعم الأمر غير الاختياري يمكن أن يكون مانعا عن صدور الفعل القبيح ، كما لو فرض أن نزول المطر مثلا منع الإنسان من أن

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ٥٤ ـ ٥٦ ، فرائد الأصول : ١ ـ ٥٧ ـ ٥٨ (ط. جامعة المدرسين).

٤٠