دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

واحد من أفراد المانع جاز ارتكاب بقية الافراد أيضا ، لسقوط التكليف الوحدانيّ بالاضطرار ، فلا موجب للاجتناب عن غير المضطر إليه. ويجري هذا الكلام في الاضطرار إلى الصلاة في الثوب المتنجس ونحوه.

فتحصل مما ذكر أن جريان البراءة عن مانعية اللباس المشكوك ، وجواز الصلاة فيه يتوقف على أمور ثلاثة.

الأول : أن يكون القيد المعتبر في الصلاة أمرا عدميا ، ويعبر عنها بمانعية وقوعها في غير المأكول.

الثاني : جريان البراءة عند الشك في الأقل والأكثر.

الثالث : جريان البراءة في الشبهات الموضوعية فيما إذا كان الحكم انحلاليا.

فان تمت الأمور الثلاثة صح الرجوع إلى البراءة في اللباس المشكوك فيه. وأما إذا لم يتم واحد منها فلا يمكن الرجوع إلى البراءة. وهل يمكن إثبات الجواز بأصل آخر مثل الاستصحاب؟ الظاهر ذلك ، وتوضيحه بتقديم مقدمة : وهي أن جميع الشروط والموانع المعتبرة في الصلاة وإن كانت منسوبة إلى الصلاة إلّا أن معروضها يختلف ، فتارة : يكون الشرط أو المانع وصفا للمصلي ، وأخرى : يكون وصفا للباس ، وثالثة : لنفس الصلاة. فكل وصف كان من قبيل الأول جرى فيه الاستصحاب ، لثبوت الحالة السابقة فيه ، فان لم يكن المصلي قبل لبسه اللباس المشكوك فيه لابسا لغير المأكول فيستصحب ذلك. وأما لو كان الوصف من قبيل القسمين الآخرين فلا مجال للاستصحاب ، إذ لم يكن لنفس الصلاة أو اللباس حالة سابقة متيقنة ليستصحب ذلك ، فاللباس من أول وجوده يشك في كونه من المأكول ومن غيره ، كما أن الصلاة من أول وجودها يشك في اقترانها بغير المأكول وعدمه. ومن هنا فصل بعضهم في اللباس بين ما إذا شك في كونه من المأكول من أول الأمر

٣٢١

وما إذا طرأ الشك في وقوع جزء من غير المأكول عليه. كما فصل بعضهم في الصلاة بين ما إذا شك المصلي في وقوعها في غير المأكول من حيث الشروع فيها وما إذا احتمل طرو هذا العنوان في أثناء الصلاة من جهة لبس المصلي في الأثناء ما يشك في كونه من المأكول. والوجه في هذين التفصيلين ظاهر فان التفصيل الأول ناظر إلى كون الوصف المزبور وصفا للباس ، فلا يجري الاستصحاب إلّا فيما إذا طرأ الشك في وقوع شيء من غير المأكول على اللباس. كما أن التفصيل الثاني ناظر إلى كونه وصفا للصلاة ، فلا يجري الاستصحاب إلّا فيما كانت مسبوقة بالوصف قبل الشك ، ولا يكون ذلك إلّا فيما طرأ الشك في الأثناء دون ما إذا كان من أول الأمر.

إذا عرفت هذا فاعلم أن ظاهر الأدلة كرواية ابن أبي بكير ونحوها اعتبار هذا القيد وصفا لنفس الصلاة ، لا للباس ولا للمصلي ، فإذا لا بد وأن يفرق في جريان الاستصحاب بين حدوث الشك في طرو المانع في أثناء الصلاة وما إذا كان الشك في ذلك من حين الشروع فيها ، لكن التفصيل مبني على عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية. وأما بناء على جريانه فيها كما هو المختار فيجري الاستصحاب في المقام بجميع شقوقه من غير فرق بين أقسامه ، وذلك لأن المعتبر في الصلاة أن لا تقع في غير المأكول ، والاستصحاب الموضوعي وهو استصحاب عدم كون اللباس من غير المأكول يحرز عدم كونه من غير المأكول ، فيصح الصلاة فيه ، والوجه في ذلك : أن اتصاف اللباس بكونه من غير المأكول كنفس وجوده أمر مسبوق بالعدم أزلا ، فيستصحب ، وبضمه إلى الوجدان يحرز الإتيان بالمأمور به. على أنه يمكن في المقام. إجراء استصحاب العدم النعتيّ ببيان دقيق وهو : أن أجزاء الحيوان كلها متبدلة من الأجزاء النباتية والجمادية إلى الصورة الحيوانية ، وعليه فالمادة المشتركة بين الحيوان والنبات مثلا قبل تبدلها بصورة حيوانية لم تكن من أجزاء ما لا يؤكل ، فيستصحب ذلك عند الشك والعلم بتبدلها بصورة حيوانية. ولا يتوهم معارضة هذا

٣٢٢

الاستصحاب باستصحاب عدم انقلاب المادة إلى الصورة الأخرى ، لعدم ترتب أثر شرعي عليه إلّا بنحو الأصل المثبت. ونظير المقام ما لو انقلب ماء العنب إلى مائع آخر وشك في انقلابه إلى الخمر ليحرم أو إلى غيره ليكون حلالا ، فيجري فيه استصحاب عدم تبدله بالخمر ، ولا يجري استصحاب عدم انقلابه إلى المائع الآخر ، إذ لا يترتب عليه الانقلاب إلى الخمر ، فلا أثر له.

والمتحصل من جميع ما ذكر صحة جريان البراءة عن مانعية المشكوك فيه ، وعلى تقدير عدم صحته يمكن الرجوع إلى الاستصحاب الموضوعي ، إما بإجرائه في العدم الأزلي ، وإما بإجرائه في العدم النعتيّ. ومع الإغماض عن جميع ذلك لا مانع من الرجوع إلى الاستصحاب في خصوص ما إذا كان الشك في طرو المانع بعد اليقين بعدمه.

تتميم

قد عرفت فيما تقدم أن جريان البراءة في موارد الشك في التكليف في الشبهات الموضوعية لا ينافي حسن الاحتياط عقلا وشرعا ، بل الاحتياط حسن حتى فيما قامت الأمارة على عدم التكليف في الواقع ، فان احتمال ثبوت التكليف في الواقع كاف في حسن الاحتياط وتدارك المصلحة الواقعية ، إلّا أن ذلك فيما لم يستلزم الاحتياط اختلال النظام ، وفيما استلزم ذلك كان قبيحا عقلا وشرعا ، فحسن الاحتياط من أول الأمر مقيد بعدم استلزامه اختلال النظام ، إلّا أن استلزام الاحتياط لاختلال النظام أمر يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف حالاتهم ، فرب شخص منزو في بيته منعزل عن الناس ويقل ابتلائه بالشبهات ، فلا يكون الاحتياط التام بالنسبة إليه موجبا لاختلال نظام أموره ، فيحسن الاحتياط له في جميع الشبهات ، وربما يكون الشخص مبتلى بالمعاشرة مع الناس فيختل نظامه لو

٣٢٣

احتاط في أكثر الشبهات فضلا عن جميعها.

ثم إن من الواضح أن كل فرد من أفراد الشبهة لا يكون الاحتياط فيه مستلزما لاختلال النظام ، وانما يلزم ذلك من الجمع بين المحتملات والأخذ بالاحتياط في كل شبهة منضما إلى الاحتياط في غيرها ، وعليه فما هو القبيح انما هو الجمع بين الاحتياطات ، وإلّا فكل منها منفردا أو بشرط لا عن غيره يكون باقيا على حسنه ، ويترتب على ذلك أنه لا مناص للعامل بالاحتياط من التبعيض فيه ، وله طريقان :

الأول : أن يختار الاحتياط في جميع الشبهات العرضية إلى أن ينتهي إلى حد لو احتاط بعده لزم منه الإخلال بالنظام ، فإذا انتهى إلى هذا الحد ترك الاحتياط في جميع الشبهات.

الثاني : أن يختار الاحتياط في بعض الأفراد العرضية دون بعض إلى آخر عمره ، ولذلك صورتان ظاهرتان.

الأولى : أن يحتاط في الموارد التي كان التكليف المحتمل فيها أهم في نظر الشارع من التكليف المحتمل في غيرها.

الثانية : ان يحتاط في الموارد التي كان ثبوت التكليف فيها مظنونا أو مشكوكا ، ويرفع اليد عنه في ما كان احتمال التكليف موهوما ، فان كان ذلك مخلا أيضا اكتفى في الاحتياط بالمظنونات فقط ، ويتصور للتبعيض صور أخرى لا تخفى على المتأمل.

ثم ان الأولى لمن أراد التبعيض في الاحتياط أن يسلك الطريق الثاني ، فقد ورد عنهم عليهم‌السلام أن القليل المدوم عليه خير من كثير لا تدوم عليه.

هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، أو الوجوب وغير الحرمة.

٣٢٤

أصالة التخيير

دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات

دوران الأمر بين المحذورين في التعبديات

٣٢٥
٣٢٦

المبحث الثالث :

دوران الأمر بين المحذورين

والمراد به دوران الفعل بين الوجوب والحرمة مع عدم احتمال اتصافه بغيرهما ، فانه مع احتمال ذلك يرجع فيه إلى البراءة لكونه شكا في التكليف الإلزامي ، بل هو أولى بجريان البراءة من الشبهة التحريمية أو الوجوبية المحضة ، لعدم جريان أدلة الاحتياط فيه ، لعدم إمكانه.

ثم انه يعتبر في محل النزاع ان لا يكون أحد الطرفين بخصوصه موردا للاستصحاب ، إذ عليه ينحل العلم الإجمالي ، ويجب العمل على طبق الاستصحاب بلا إشكال. وكيف كان يقع الكلام في دوران الأمر بين المحذورين في مقامين :

الأول : ما إذا كانت الواقعة واحدة غير متكررة.

الثاني : فيما إذا كانت متعددة.

والكلام في المقام الأول ، يقع تارة : فيما إذا لم يمكن المخالفة القطعية كما في التوصليات ، وأخرى : فيما إذا أمكن ذلك كما في العبادات على ما نتكلم فيه ، فالبحث يقع في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات مع وحدة الواقعة ، والأقوال فيه خمسة.

الأول : جريان البراءة عن كل منهما عقلا وشرعا.

الثاني : تقديم جانب الحرمة ، لكون دفع المفسدة أولى من جلب

٣٢٧

المنفعة.

الثالث : الحكم بالتخيير بينهما شرعا.

الرابع : ما اختاره في الكفاية (١) من الرجوع إلى أصالة الإباحة شرعا ، والتخيير بينهما عقلا ، لعدم خلو المكلف تكوينا من الفعل أو الترك.

الخامس : ما اختاره المحقق النائيني (٢) من الحكم بالتخيير بينهما عقلا فقط من دون أن يكون المورد محكوما بحكم ظاهري شرعا.

والصحيح : منها هو الأول ، لعموم أدلة البراءة ، وعدم ثبوت ما يمنع من شمولها ، ويتضح هذا ببيان ما في سائر الأقوال.

اما القول الثاني : فيرد عليه.

أولا : منع أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة مطلقا ، لعدم دليل من الشرع أو العقل على ذلك.

وثانيا : انه لو تم فانما يتم فيما إذا كانت المفسدة والمصلحة معلومتين ، واما فيما لم يعلم فيه المفسدة أصلا وكان الموجود احتمالها فلا نسلم أولوية رعاية جانب المفسدة على جانب المصلحة ، لأنك قد عرفت عدم لزوم رعاية احتمال المفسدة مع القطع بعدم وجود المصلحة ، كما إذا دار الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، فكيف يحكم بلزوم رعاية احتمال المفسدة مع احتمال المصلحة أيضا.

واما القول الثالث : وهو الحكم بالتخيير شرعا ، ففيه : انه أن أريد به التخيير في المسألة الأصولية ، أعني الأخذ بأحد الحكمين والإفتاء على طبقه ، نظير الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين فلا دليل عليه ، وقياس المقام على الخبرين المتعارضين مع الفارق ، لوجود النص هناك دون المقام ، فالقول به تشريع محرم. وأن أريد به التخيير

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٠٣.

(٢) فوائد الأصول : ٣ ـ ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

٣٢٨

في المسألة الفرعية ، أعني في مقام العمل بأن يكون الواجب على المكلف أحد الأمرين تخييرا من الفعل أو الترك كما في غير المقام من الواجبات التخييرية ، فهو أمر غير معقول ، لأن أحد المتناقضين حاصل لا محالة ، ولا يعقل طلب ما هو حاصل تكوينا ، إذ الطلب ولو كان تخييريا انما يتعلق بأمر مقدور دون غيره ، ومن هنا ذكرنا في محله انه لا يعقل التخيير بين الضدين اللذين ليس لهما ثالث ، فان أحدهما حاصل بالضرورة ، ولا يعقل تعلق الطلب بمثله.

واما القول الرابع : فيرد عليه :

أولا : ان أدلة الإباحة الشرعية مختصة بالشبهات الموضوعية كما عرفت ، فلا تجري فيما دار الأمر بين المحذورين في الشبهات الحكمية ، فالدليل أخص من المدعى.

وثانيا : ان أدلة أصالة الحل لا تجري في المقام أصلا ، لأن ثبوت الحكم الظاهري في مورد لأجل أخذ الشك في موضوعه يتوقف على احتمال موافقته للواقع لا محالة ، والمفروض في المقام العلم بثبوت الإلزام في الواقع إجمالا ، وعدم كون الفعل مباحا ، فكيف يمكن الحكم بإباحته ظاهرا.

واما القول الخامس : فعمدة دليله بحيث يكون جاريا في جميع الأصول وجهان.

الأول : ان الحكم الظاهري لا بد له من أثر شرعي وإلّا لكان لغوا ، ولا فائدة في جعل أي حكم ظاهري فيما نحن فيه ، لعدم خلو المكلف من الفعل أو الترك تكوينا.

الثاني : ان رفع الإلزام ظاهرا انما يكون في مورد قابل للوضع بإيجاب الاحتياط ، والمفروض عدم إمكانه في المقام ، فإذا لم يمكن جعل الاحتياط لا يمكن رفعه أيضا.

٣٢٩

ولا يخفى عليك إمكان جريان الأصول العملية مطلقا ، وشمول أدلة جعلها للمقام من غير فرق بين البراءة العقلية والنقليّة والاستصحاب ، وذلك لأن مورد دوران الأمر بين المحذورين قابل لثبوت التعبد الشرعي بترجيح خصوص الحرمة أو الوجوب. ودعوى المحقق النائيني قدس‌سره بان الشارع حيث لا يتمكن من وضع الإلزام في المقام بإيجاب الاحتياط لا يمكنه الرفع ، فيردها : ان القدرة على الوضع انما تلحظ بالقياس إلى كل من الحرمة والوجوب مستقلا ، لا إليهما معا ، وجعل الاحتياط بالقياس إلى كل منهما أمر ممكن ، بيان ذلك : ان القدرة على كل من الأفعال المتضادة كافية في القدرة على ترك المجموع ، ولا يعتبر فيها القدرة على فعل الجميع في عرض واحد ، ومن هنا ترى الإنسان مع عدم قدرته على إيجاد الأفعال المتضادة في آن واحد كأن يأكل وينام ويشرب يستند ترك جميعها إلى قدرته ، وليس هذا إلّا من جهة قدرته على فعل كل واحد منها بخصوصه ، والشارع فيما نحن فيه وان لم يكن متمكنا من وضع الإلزام بالفعل والترك معا لكنه يستطيع من وضع كل منهما بخصوصه ، ويكفي ذلك في قدرته على رفعهما معا ، وحينئذ لما لم يكن كل واحد من الوجوب والحرمة معلوما كان لشمول حديث الرفع له مجال ، وتكون نتيجة رفع الإلزام بكل من الفعل والترك هو الترخيص في الآخر ، فبالأخرة يكون كل من الفعل والترك مرخصا فيه.

وبذلك يظهر الجواب عما استند إليه المحقق النائيني قدس‌سره في الوجه الأول ، فان استلزام جعل الحكم الظاهري في المقام للغوية انما يكون مع انحصار الأمر فيه ، وعدم إمكان جعل آخر من الوجوب الظاهري أو الحرمة الظاهرية ، واما مع إمكانه فلا يكون جعل الترخيص في الفعل أو الترك لغوا ، مع انه لو كان دوران الأمر بين الفعل والترك موجبا للغوية الحكم الظاهري لكان جعل الإباحة الظاهرية في غير المقام أيضا لغوا ، وهو ظاهر البطلان.

٣٣٠

وبهذا البيان ظهر إمكان جريان الاستصحاب أيضا في دوران الأمر بين المحذورين ، ولا فرق في ذلك بين الأصول التنزيلية وغيرها ، كما لا فرق بين أن تكون الشبهة موضوعية أو حكمية ، مثلا لو علم بوقوع الحلف على السفر أو على تركه ، فلا مانع من استصحاب عدم الحلف على السفر ، واستصحاب عدم الحلف على تركه. وكذا لو علمنا بحرمة عمل أو وجوبه في أصل الشريعة كان استصحاب عدم جعل كل منهما جاريا ، بناء على ما هو الصحيح من جريان استصحاب عدم التشريع.

نعم يبقى الإشكال في الرجوع إلى الأصول العملية في المقام من ناحيتين.

الأولى : ان الرجوع إليها موجب للعلم الإجمالي بكون أحد الأصلين على خلاف الواقع.

والجواب عنه ان هذه مخالفة التزامية ، فلا ضير فيها. واما المخالفة القطعية فهي كالموافقة القطعية مستحيلة في المقام ، والتفكيك في الآثار في موارد جريان الأصول غير عزيز.

الثانية : ان الرجوع إلى الأصول النافية انما يصح عند الشك في أصل التكليف ، وبما انا نعلم في المقام بجنس الإلزام ، فالشك انما هو في المكلف به.

والجواب عنه ان العلم بالإلزام انما يمنع من جريان الأصول فيما إذا كان التكليف المعلوم قابلا للباعثية ، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، واما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته بعينه فالعلم بوجود الإلزام في حكم عدمه ، إذ الموافقة القطعية كالمخالفة القطعية مستحيلة ، والموافقة والمخالفة الاحتماليتان حاصلتان لا محالة ، فلا أثر للعلم بالإلزام في الجملة أصلا.

٣٣١

ومن هنا ظهر ما في الكفاية (١) من منع جريان قبح العقاب بلا بيان ، بتقريب. ان العلم بجنس الإلزام حاصل ، فالبيان تام ، وذلك لأن العلم بالتكليف غير القابل للباعثية لا يكون بيانا ، فالبراءة العقلية شاملة للمقام كالبراءة الشرعية ، فلا تصل النوبة إلى التخيير العقلي فتأمل كي تعرف ان مورد دوران الأمر بين المحذورين انما هو من قبيل الشك في التكليف لا في المكلف به.

ثم لا يخفى ان ما قويناه من جريان البراءة الشرعية والعقلية بل الاستصحاب في المقام لا ينافي ما قدمناه من المنع عن جريان أصالة الإباحة فيه ، لأن أصالة الإباحة أصل واحد مناف للعلم بالإلزام تكوينا ، وقد ذكرنا انه يعتبر في جريان الأصل عدم العلم بمخالفته للواقع ، وهذا بخلاف دليل البراءة أو الاستصحاب ، فانه يجري في كل من الوجوب والحرمة مستقلا ، غاية الأمر أن يحصل العلم الإجمالي بمخالفة أحد الأصلين للواقع مع الشك في موافقة كل منهما له في نفسه ، وليس في ذلك إلّا المخالفة الالتزامية التي قد عرفت انه لا محذور فيها.

تنبيه

بناء على ما ذكرناه من جريان الأصول النافية في موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يفرق بين أن يكون أحد الحكمين المحتملين محتمل الأهمية وعدمها ، لأن كلا من الحكمين المجهولين مورد لأصالة البراءة ومأمون من العقاب على مخالفته ، سواء كان أحدهما على تقدير ثبوته في الواقع أهم من الآخر ، أم لم يكن. واما بناء على كون الحكم فيه هو التخيير عقلا كما اختاره صاحب الكفاية والمحقق النائيني فالمقام يندرج في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وهل الحكم فيه

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٠٦.

٣٣٢

حينئذ هو التعيين أو التخيير؟ وجهان :

ذهب صاحب الكفاية (١) إلى التعيين ، لأن العقل يحكم حينئذ بتعين محتمل الأهمية كما هو الحال في جميع موارد التزاحم عند احتمال أهمية أحد الحكمين بخصوصه.

وذهب المحقق النائيني (٢) إلى الحكم بالتخيير ، على خلاف ما اختاره في باب التزاحم ، وذكر في وجهه : ان المزاحمة بين الحكمين في باب التزاحم انما تنشأ من إطلاق كل من الخطابين لحال الإتيان بمتعلق الآخر وعدمه ، فإذا لم يمكن الجمع بينهما ، لعدم القدرة عليه ، فلا مناص من سقوط أحد الإطلاقين ، فان كان أحدهما أهم من الآخر كان الساقط غيره ، وإلّا سقط الإطلاقان معا ، لبطلان الترجيح بلا مرجح. هذا فيما إذا علم كون أحدهما المعين أهم ، أو علم تساويهما.

واما فيما احتمل أهمية أحدهما بالخصوص ، فسقوط الإطلاق في غيره معلوم على كل حال ، ويشك في سقوط إطلاق محتمل الأهمية ، ومن الظاهر انه مع الشك في سقوط إطلاقه لا بد من الأخذ به ، فتكون النتيجة لزوم الأخذ بمحتمل الأهمية وترك غيره ، هذا فيما كان لكل من دليلي الحكمين إطلاق. واما فيما لم يكن لشيء منهما إطلاق ، وكان ثبوت كل من الحكمين في نفسه مع قطع النّظر عن عجز المكلف عن الجمع في الامتثال معلوم من الخارج من إجماع ونحوه ، فالوجه في تقديم محتمل الأهمية هو ان كلا من الحكمين يكشف عن اشتمال متعلقه على الملاك الملزم التام ، وعجز المكلف عن استيفائهما معا انما يقتضي جواز تفويت أحدهما تعيينا أو تخييرا ، فعند احتمال أهمية أحد الحكمين بخصوصه يقطع بجواز استيفاء ملاكه ، وتفويت ملاك الآخر على التقديرين ، واما تفويت ملاك محتمل الأهمية ولو باستيفاء

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٠٧.

(٢) فوائد الأصول : ٣ ـ ٤٥٠.

٣٣٣

ملاك الآخر فلم يثبت جوازه ، فلا مناص حينئذ من الأخذ بمحتمل الأهمية ، وتفويت ملاك غيره.

وهذا الوجه المقتضى للزوم الأخذ بالتعيين غير جار فيما نحن فيه ، إذ المفروض ان الحكم المجعول واحد مردد بين الوجوب والحرمة ، فليس في البين إطلاقان ولا ملاكان ، ونسبة العلم الإجمالي إلى كل من الحكمين على حد سواء ، فالحكم العقلي بالتخيير بمعنى اللاحرجية الناشئ من استحالة الجمع بين النقيضين باق على حاله.

وان شئت فقل : ان الأهمية المحتملة في المقام تقديرية ، بمعنى ان شيئا من الحكمين لم يعلم ثبوته في نفسه ، وانما المعلوم ثبوت الإلزام في الجملة ، غاية الأمر انه لو كان في ضمن أحدهما المعين بخصوصه احتمل أهميته ، وهذا بخلاف باب التزاحم المعلوم فيه ثبوت كل من الحكمين في نفسه ، وانما كان عدم وجوب امتثاله للعجز ، وعدم قدرة المكلف على الجمع. نعم لو كانت الأهمية بمرتبة تستوجب كشف العقل عن حكم الشارع بوجوب الاحتياط عند احتمالها فلا محالة يجب الاحتياط في المقام من جهة الحكم الشرعي ، لا من جهة حكم العقل بالتعيين ، لكن ذلك خارج عن محل البحث والكلام.

فتلخص مما ذكرناه انه بناء على عدم جريان الأصول النافية ، وكون الحكم هو التخيير في المقام ، لا يندرج مورد البحث في كبرى التزاحم ، ولا وجه لتقديم محتمل الأهمية.

المقام الثاني : فيما لو كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبديا مع وحدة الواقعة. كما إذا دار أمر المرأة بين وجوب الصلاة وحرمتها عليها من جهة احتمالها الطهر والحيض ، مع عدم إحراز أحدهما ولو بالاستصحاب ، بناء على حرمة الصلاة على الحائض ذاتا ، بمعنى حرمة نفس العمل ولو مع عدم قصد القربة وبدون إضافته إلى

٣٣٤

المولى ، ففي مثل ذلك يمكن المخالفة القطعية بإتيان العمل بغير قصد القربة ، فانها على تقدير كونها حائضا فقد أتت بالمحرم ، وإلّا فقد تركت الواجب ، ولأجل ذلك كان العلم الإجمالي منجزا لا محالة وان لم تجب الموافقة القطعية لتعذرها ، بيان ذلك : ان العلم الإجمالي على ما سنبينه إن شاء الله تعالى على أربعة أقسام :

الأول : ما يمكن فيه الموافقة القطعية والمخالفة القطعية كما هو الغالب.

الثاني : ما لا يمكن فيه الموافقة ولا المخالفة القطعيتان ، كموارد دوران الأمر بين المحذورين في ما لم يكن شيء من الحكمين المحتملين تعبديا.

الثالث : ما يمكن فيه المخالفة القطعية دون الموافقة القطعية ، كالمثال المتقدم ، وكما لو علم إجمالا بوجوب أحد الضدين اللذين لهما ثالث في آن واحد.

الرابع : عكس الثالث ، بان يمكن فيه الموافقة القطعية دون المخالفة القطعية ، كما فيما لو علم بحرمة أحد الضدين اللذين لهما ثالث في وقت واحد ، فانه يمكن فيه العلم بالموافقة بتركهما ، ولا يمكن فيه العلم بالمخالفة بفعلهما ، لاستحالة الجمع بين الضدين. وكذا الحال في جميع موارد الشبهات غير المحصورة في الشبهات التحريمية ، فانه لا يمكن فيها المخالفة القطعية ، لعدم إمكان ارتكاب جميع الأطراف ، ولكنه يتمكن من الموافقة القطعية بترك الجميع.

إذا عرفت هذا فاعلم انه لا أثر للعلم الإجمالي في القسم الثاني من الأقسام المزبورة ، فتجري الأصول في أطرافه كما مر. واما غيره من الأقسام الثلاثة ، فالأصول في أطراف العلم الجمالي في مواردها متعارضة على ما سيجيء الكلام فيه عن قريب إن شاء الله ، ويترتب على ذلك تنجيز العلم الإجمالي من حيث حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، أو إحدى الجهتين دون الأخرى. وبعبارة أخرى : إذا تساقطت الأصول في أطراف العلم الإجمالي فالحكم المعلوم بالإجمال يتنجز بالمقدار الممكن ، فان أمكن الموافقة والمخالفة القطعيتان فالتنجيز ثابت من

٣٣٥

الجهتين ، وإلّا فمن إحداهما ، وحيث ان المخالفة القطعية في مفروض الكلام ممكنة فلا مانع من تنجيز العلم الإجمالي من جهتها ، نعم حيث لا يمكن فيه الموافقة القطعية فلا محالة يحكم العقل بالتخيير بين إتيان العمل قربيا برجاء الأمر وبين تركه رأسا.

تنبيه

تعرض الشيخ قدس‌سره في المقام لدوران الأمر بين المحذورين في العبادات الضمنية ، كما إذا دار الأمر بين شرطية شيء أو جزئيته لواجب ومانعيته عنه ، مثال ذلك ما لو شك بعد النهوض للقيام في الإتيان بالسجدة الثانية وعدمه ، فانه بناء على تحقق الدخول في الغير بالنهوض كان الإتيان بالسجدة زيادة في الصلاة وموجبا لبطلانها ، وبناء على عدم تحققه بذلك كان الإتيان بها واجبا ومعتبرا في صحتها ، وظاهر كلامه قدس‌سره جريان ما تقدم من التخيير في المقام ، فيتخير المكلف بين الإتيان بما يحتمل مانعيته وشرطيته ، وبين تركه.

والتحقيق : عدم تمامية ذلك ، فان الحكم بالتخيير في باب التكاليف الاستقلالية انما كان من جهة عدم تنجيز الإلزام المردد بين الوجوب والحرمة ، لاستحالة موافقته ومخالفته القطعيتين ، وهذا بخلاف الإلزام المعلوم إجمالا في المقام ، فانه يمكن موافقته القطعية كما يمكن مخالفته القطعية ، فيكون منجزا ، ويجب فيه الاحتياط ولو بتكرار العمل ، وتوضيح المقام : ان احتمال كون شيء مانعا أو شرطا تارة : يتصور في مورد يتمكن المكلف فيه من الامتثال التفصيليّ ولو برفع اليد عما هو مشتغل به فعلا ، وذلك كالمثال المتقدم الّذي دار الأمر فيه بين جزئية السجدة المشكوكة ومانعيتها ، فانه إذا رفع المكلف يده عن هذه الصلاة وأتى بصلاة أخرى كان ممتثلا للأمر بالصلاة بلا إشكال. وأخرى : يتصور فيما إذا تمكن المكلف من الامتثال الإجمالي ، اما بتكرار الجزء ، أو بتكرار أصل العمل ، كما إذا دار امر القراءة بين وجوب الجهر بها أو

٣٣٦

الإخفات ، وكما إذا دار امر الصلاة بين كونها قصرا أو تماما ، فانه إذا كرر القراءة ، وجهر في إحداهما وأخفت في الأخرى قاصدا بذلك جزئية أحدهما الواقعية يكون الآخر قرآنا ، فقد علم بالامتثال إجمالا ، كما انه إذا قصر في إحدى الصلاتين وأتم في الأخرى كان الأمر كذلك.

اما القسم الأول ، فلا ريب في ان الواجب فيه إعادة الصلاة ، وإحراز الامتثال اليقيني ، ولا يجوز له الاكتفاء بأحد الاحتمالين ، لعدم إحرازه الامتثال بذلك ، وقاعدة الاشتغال تقتضي البراءة اليقينية ، فيجوز له رفع اليد عن هذه الصلاة وإعادتها ، كما يجوز له إتمامها على أحد الاحتمالين ثم إعادتها. وعلى كل حال فلا وجه للحكم بالتخيير وجواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ، هذا بناء على عدم حرمة إبطال صلاة الفريضة في نفسها ، أو في خصوص المقام من جهة ان دليل الحرمة قاصر الشمول له ، فان عمدة مدركه الإجماع ، والقدر المتيقن منه هو الحكم بحرمة قطع الصلاة التي يجوز للمكلف الاقتصار عليها في مقام الامتثال ، واما الصلاة المحكوم بوجوب إعادتها فلا إجماع على حرمة قطعها ، وتمام الكلام في محله.

نعم لو بنينا على حرمة قطع الفريضة حتى في مثل المقام كان الحكم بالتخيير في محله ، إلّا انه ليس من جهة دوران الأمر بين الجزئية والشرطية ، بل من جهة دوران الأمر بين حرمة الفعل وتركه حرمة نفسية. وان شئت قلت : ان لنا في المقام علمين إجماليين ، أحدهما : العلم بثبوت إلزام متعلق بطبيعي العمل المردد بين كونه منطبقا على ما يؤتى فيه بالجزء المشكوك أو على ما يكون فاقدا له ، ثانيهما : العلم بحرمة الإتيان بالجزء المشكوك لكونه مبطلا للعمل ، أو وجوبه لكون تركه موجبا لبطلانه ، والعلم الثاني وان كان ساقطا لعدم التمكن من موافقته ولا من مخالفته القطعية ، فيحكم في مورده بالتخيير ، إلّا ان العلم الإجمالي الأول يقتضي إعادة الصلاة تحصيلا للفراغ اليقيني.

٣٣٧

واما القسم الثاني ، وهو ما تمكن المكلف من الامتثال الإجمالي بتكرار الجزء ، أو بتكرار العمل فلا ريب في انه لا وجه فيه لجواز اقتصار المكلف على الامتثال الاحتمالي ، فيجب عليه إحراز الامتثال ولو إجمالا. وبالجملة الحكم بالتخيير انما يكون مع عدم التمكن من الامتثال القطعي ، واما مع التمكن منه فالاقتصار على الامتثال الاحتمالي يحتاج إلى قيام دليل خاص ، ومع عدمه كما هو المفروض في المقام يحكم العقل بلزوم الامتثال القطعي ، هذا فيما إذا أمكن التكرار. واما إذا لم يمكن ذلك ، كما إذا دار الأمر بين القصر والتمام عند ضيق الوقت ، فالتخيير بين الأمر من جهة الإتيان به في الوقت وان كان مما لا بد منه ، إلّا انه لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز من حيث لزوم الإتيان بالآخر في خارج الوقت. ونظير ذلك ما لو ترددت القبلة بين أربع جهات ، ولم يتمكن المكلف إلّا من الإتيان بصلاة واحدة ، فان استقبال كل جهة من الجهات كما يحتمل شرطيته ، لاحتمال كونه إلى القبلة ، يحتمل مانعيته ، لاحتمال كونه على خلاف القبلة ، فيحكم فيه بالتخيير بين الجهات ، لكن ذلك لا يقتضي جواز الاقتصار بها ، بل لا بد من الاحتياط بعد ذلك بالإتيان بالصلاة إلى الجهات الأخرى.

هذا ما تقتضيه القاعدة مع قطع النّظر عن الدليل الخاصّ. واما بالنظر إليه ، فقد ورد الدليل على جواز الاجتزاء بالصلاة إلى الجهة التي يظن انها القبلة ، بل قد ذكرنا في محله ان الاجتزاء بصلاة واحدة مع تردد القبلة بين أربع جهات بالنظر إلى الأدلة الخاصة هو الأظهر ، وتمام الكلام في محله.

المقام الثالث : في دوران الأمر بين المحذورين في فرض تعدد الواقعة. والتعدد تارة : يكون دفعيا من جهة تعدد الموضوع ، وأخرى : تدريجيا من حيث الأفراد الطولية لموضوع واحد.

اما القسم الأول : فهو كما لو علم إجمالا بصدور حلفين تعلق أحدهما بفعل

٣٣٨

شيء ، والآخر بترك شيء آخر ، وقد اشتبه الأمر ان في الخارج ، فالامر في كل منهما يدور بين الوجوب والحرمة لا محالة ، فقد يقال فيه بالتخيير بدعوى ان كلا من الواقعتين يكون من باب دوران الأمر بين المحذورين مع استحالة الموافقة والمخالفة القطعيتين فيه ، فيحكم بالتخيير ، وحينئذ جاز له الإتيان بكلا الفعلين ، كما جاز له تركهما معا ، ولا بأس بالعلم بالمخالفة في أحدهما بعد فرض عدم تنجز التكليف فيه ، لدورانه بين الوجوب والحرمة. ولكنه يندفع بان العلم الإجمالي في كل من الفعلين بالإلزام المردد بين الوجوب والحرمة وان لم يكن له أثر أصلا ، لاستحالة موافقته ومخالفته القطعيتين كما عرفت ، إلّا انه يتولد في المقام علمان إجماليان آخران ، تعلق أحدهما بوجوب أحد الفعلين لا بعينه ، والثاني بحرمة أحدهما كذلك ، والعلم بالوجوب المردد بينهما يقتضي وجوب الإتيان بهما تحصيلا للموافقة القطعية ، كما ان العلم بحرمة أحدهما يقتضي تركهما معا ، لعين ما ذكر ، وبما انه يستحيل الجمع بين الفعلين والتركين معا يسقط العلمان عن التنجيز من حيث وجوب الموافقة القطعية ، ولكن كلا منهما يمكن مخالفته القطعية بإيجاد الفعلين أو بتركهما ، فلا مانع من تنجيز كل من العلمين بالمقدار الممكن كما عرفت بيانه فيما تقدم ، وعليه فاللازم على المكلف هو اختيار أحد الفعلين ، وترك الآخر ، تحصيلا للموافقة الاحتمالية.

واما القسم الثاني : فهو كما إذا علم بتعلق الحلف بإيجاد فعل في زمان ، وبترك ذلك الفعل في زمان آخر ، واشتبه الزمانان ، ففي كل زمان منهما يدور امر الفعل فيه بين الوجوب والحرمة ، وهل يحكم بالتخيير في كل من الزمانين ، لأنه واقعة مستقلة دار الأمر فيها بين الوجوب والحرمة ، ولا يمكن فيها الموافقة القطعية ولا المخالفة كذلك ، أو انه يلحق بالقسم الأول ، فتحرم المخالفة القطعية لا مكانها ، فلا بد للمكلف من اختيار الفعل في أحد الزمانين ، وتركه في الزمان الآخر تحصيلا للموافقة الاحتمالية؟ وجهان.

٣٣٩

والصحيح أن يقال : انا إذا قلنا بتنجيز العلم الإجمالي في الأمور التدريجية كتنجيزه في غيرها فلا يفرق الحال بين القسمين المزبورين ، لاتحاد الملاك فيهما ، وعليه فلا بد من الالتزام بتنجيز العلم الإجمالي بالمقدار الممكن كما مر. واما إذا قلنا بعدم تنجيز العلم الإجمالي فيما إذا تعلق بالتدريجيات لم يبق في المقام سوى العلم الإجمالي المتعلق بالإلزام الجامع بين الوجوب والحرمة في كل من الزمانين ، وقد عرفت ان مثل هذا العلم لا يوجب التنجيز ، فالمكلف في كل من الزمانين يتخير بين الإتيان بالفعل وتركه بمقتضى البراءة كما تقدم. والعجب من المحقق النائيني رحمه‌الله مع ذهابه إلى تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات ذهب في المقام إلى التخيير ، بدعوى انه لا وجه لضم الوقائع بعضها إلى بعض ، بل لا بد من ملاحظة كل منها مستقلا ، وهو لا يقتضي إلّا التخيير (١).

تتميم

إذا دار الأمر بين المحذورين مع تعدد الواقعة ، واحتمل أهمية أحد الإلزامين المعلومين بالإجمال ، فهل يتقدم ما احتمل أهميته فيجب موافقته القطعية وان استلزم ذلك المخالفة القطعية للتكليف الآخر؟ وجهان. وقد اختلفت كلمات المحقق النائيني رحمه‌الله في ذلك ، فذكر في هذا المقام ما حاصله (٢). ان الحكمين المردد كل منهما بين الوجوب والحرمة وان لم يكونا من قبيل المتعارضين ، إذ لا تنافي بين ثبوت الحكمين في مقام الجعل بعد فرض ان متعلق كل منهما غير متعلق الآخر ، إلّا انهما ليسا من قبيل المتزاحمين أيضا ، إذا التزاحم بين التكليفين انما يكون بعجز المكلف عن امتثال كليهما ، والمفروض في المقام قدرته على امتثال كلا الإلزامين ، غاية الأمر ان جهله

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ٤٥٣ ـ ٤٥٤.

(٢) المصدر السابق.

٣٤٠