دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

بالعمل الفاقد له.

قلت : وجوب القضاء انما هو من آثار فوت الواجب في الوقت ، وسيجيء انه لا يرتفع بالاضطرار أو الإكراه ، ومن هنا لم يشك أحد في وجوب القضاء فيما إذا لم يؤت بالواجب في الوقت أصلا ولو كان ذلك عن إكراه أو اضطرار وعليه فسقوط القضاء في المقام انما هو من آثار الحكم بصحة المأتي به ، الفاقد لبعض ما اعتبر فيه من جهة الإكراه أو الاضطرار ، وقد عرفت ان رفع الوجوب الضمني أو الحكم الوضعي من الجزئية أو الشرطية أو المانعية لا يكون إلّا برفع الحكم عن المجموع ، وهو لا يستلزم وجوب بقية الاجزاء مما لم يطرأ عليه عنوان الإكراه أو الاضطرار.

فان قلت : انّ ما ذكر وان تم في الاجزاء والشرائط فيما إذا أسند ترك شيء منها إلى الإكراه أو الاضطرار ، إلّا انه لا يتم في الموانع ، فإذا أكره المصلي على التكلم في أثناء صلاته أمكن القول بعدم إبطاله للصلاة ، بدعوى ان ما صدر بالإكراه من الكلام ليس بكلام شرعا بحديث الرفع ، فلا يكون مبطلا.

قلت : لو كان حديث الرفع ناظرا إلى نفي الموضوع ، ورافعا لانطباقه على فرده المضطر إليه أو المكره عليه لكان الأمر كما ذكر ، لكنه ليس كذلك ، بل هو ناظر إلى نفي الحكم فقط ، ولا يترتب عليه ثبوت الحكم للباقي من اجزاء الواجب ، توضيح ذلك : ان الرفع تارة : يتعلق بالشيء بعنوانه الأولى ، فيكون لسان الدليل المتكفل للرفع عدم انطباق الطبيعي المتعلق للتكليف أو المأخوذ في موضوعه على المرفوع بنحو الحكومة ، كما في قوله عليه‌السلام «لا شك لكثير الشك» وقوله عليه‌السلام «لا ربا بين الوالد والولد» وقوله عليه‌السلام «كلما ناجيت به ربك في الصلاة فليس بكلام» (١) إلى غير ذلك ، ويترتب عليه عدم ثبوت حكم الطبيعي للفرد المرفوع في الشريعة ، فان ثبوت حكم طبيعي

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ ـ ١٩ من أبواب القنوت ، ح ٤.

٢٤١

على فرد يتوقف على كونه مصداقا ، له فإذا ارتفع ذلك بحكم الشارع لم يثبت له حكمه بالضرورة ، فالتكلم في الصلاة مع الله تعالى خارج عن موضوع الكلام بالحكومة ، فلا يكون مبطلا لها.

وأخرى : يتعلق بالعنوان الثانوي الطارئ على الشيء ، كعنوان الاضطرار والإكراه ونحوها ، وفي مثله لا يمكن ان يستفاد منه ما كان يستفاد في القسم الأول ، وذلك لأن نفي الشيء بعنوانه الثانوي الطارئ تشريعا ان أريد به تنزيل العنوان الطارئ منزلة العدم ، فكأن الفعل الصادر عن إكراه لم يقع كذلك بل وقع اختيارا ، فلازمه ترتيب آثار الاختيار عليه ، وهو خلاف المقصود ، وخلاف ظاهر الدليل. وان أريد به تنزيل ذات الفعل المضطر إليه منزلة العدم ليكون معناه ان الفعل الصادر حال الاضطرار لا يكون مصداقا لذلك الفعل في نظر الشارع ، فالتكلم الصادر بالاضطرار ليس بكلام شرعا ، فهو خلاف ظاهر الدليل ، فان ظاهر رفع المضطر إليه ، رفعه بهذا العنوان لا بعنوانه الأولي. فإذا لا مناص من الالتزام بكون المرفوع هو الفعل المعنون بأحد هذه العناوين في عالم التشريع ، بمعنى عدم كونه متعلقا لاعتبار الشارع وحكمه ، ومرجعه إلى نفي الحكم الثابت للعنوان الأولي عنه ، وليس هو فيما نحن فيه إلّا التكليف الضمني أو الحكم الوضعي ، وقد عرفت ان رفعهما لا يكون إلّا برفع الحكم المتعلق بالكل الّذي هو منشأ انتزاعه ، فبالنتيجة لا يكون المرفوع إلّا أصل التكليف المتعلق بالمجموع ، واما ثبوته في الاجزاء الباقية فيحتاج إلى دليل آخر. ومما يشهد لما ذكرناه من ان المرفوع في حديث الرفع هو الحكم دون الفعل ان الرفع كالوضع في التكاليف الوجوبية ، كما يصح اسناده إلى الحكم يصح اسناده إلى الفعل ، فصح أن يقال : رفع وجوب الصلاة عن الصبي أو رفعت الصلاة عنه ، ويقابله وضع الوجوب في الشريعة ، ووضع الفعل واعتباره في الذّمّة. واما في موارد التكاليف التحريمية أو الأحكام الوضعيّة ، فلا يصح إسنادهما إلى الفعل ، فلا

٢٤٢

يقال : رفع شرب الخمر عن المضطر ، أو وضع شربه على المختار ، كما لا يقال : رفع البيع عن المكره ، أو وضع البيع على المختار ، وانما يسندان إلى نفس الحكم ، فيقال : رفعت حرمة شرب الخمر عن المضطر ، أو لزوم البيع عن المكره ، وحيث ان المرفوع في الحديث يعم موارد التكاليف الوجوبية والتحريمية والأحكام الوضعيّة ، فلا بد وأن يكون المرفوع أمرا قابلا للانطباق على جميعها ، وليس هو إلّا موضوعية الفعل للحكم ، ومرجعه إلى نفي الحكم ، فلا يكون لحديث الرفع حكومة على الموضوعات والمتعلقات ، وانما يكون حاكما على نفس الأحكام.

فتحصل انه لا دلالة لحديث الرفع على تنزيل الفعل المضطر إليه منزلة العدم ليجتزي ببقية اجزاء الواجب في مقام الامتثال ، بل قد ورد في قصة أبي العباس السفاح قوله عليه‌السلام (أفطر يوما من شهر رمضان أحب إلي من ان يضرب عنقي) (١).

ان قلت : ان ما تقدم من البيان بعينه جار بالنسبة إلى ما لا يعلمون ، فإذا جهل جزئية شيء للصلاة أو شرطيته أو مانعيته يرتفع التكليف المتعلق بمجموع الاجزاء والشرائط ، فإثبات تكليف متعلق بالفاقد يتوقف على دليل.

قلت : ان المكلف في فرض الجهل بأحد هذه الأمور يعلم إجمالا بثبوت تكليف في ذمته ، مردد بين أن يكون متعلقا بخصوص المتيقن مما اعتبر فيه وبين ان يتعلق بالزائد عليه ، فإذا ارتفع تعلقه بالزائد تعبدا لا بد من امتثال التكليف بالمتيقن ، ولا يجوز رفع اليد عن امتثال التكليف المعلوم برفعه عن المشكوك فيه ، وهذا بخلاف صورة الاضطرار أو الإكراه المحتمل فيها عدم التكليف رأسا.

ثم انه قد ظهر مما ذكرناه ان شمول الحديث لمورد لا يترتب عليه إلّا رفع التكليف أو الوضع الثابت في ذلك المورد في نفسه ، فالإكراه على فعل محرم في نفسه

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ ـ باب ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

٢٤٣

يرفع حرمته ، كما ان الإكراه على معاملة يرفع نفوذها ، فلو فرض ان المكره عليه لا أثر له ، ولا تكليف يترتب عليه في نفسه ، فحديث الرفع لا يعمه ولا يترتب على شموله فائدة أصلا ، فإذا أكره المكلف على ترك بيع داره لا يمكن الحكم بحصول النقل والانتقال من دون بيع ، فان ما تكفله الحديث انما هو رفع الحكم التكليفي أو الوضعي عن المكره عليه لإثبات حكم له. ومن هنا يظهر انه لو أكره على تقديم القبول على الإيجاب مع القول باشتراط تقديم الإيجاب على القبول لما أمكن الحكم بصحة ما وقع في الخارج بحديث الرفع ، فان الواقع في الخارج لا حكم له في الشريعة ليرتفع بالإكراه ، وما هو موضوع الحكم بالنفوذ لم يتحقق في الخارج على الفرض ، فلا مجال لشمول حديث الرفع أصلا.

فان قلت : شرطية تقدم الإيجاب على القبول حكم شرعي يمكن القول بارتفاعه عند الإكراه على تركه.

قلت : قد عرفت ان الشرطية حكم انتزاعي لا بد في رفعه من رفع منشأ انتزاعه ، وهو في المقام ليس إلّا حكم الشارع بنفوذ البيع المقدم إيجابه على قبوله ، ومن الظاهر انه غير مرتفع في الفرض ، لعدم تعلق الإكراه به ، وانما تعلق الإكراه بتركه ، وتعلق الإكراه بترك موضوع الحكم لا أثر له كما عرفت.

فان قلت : العقد الواقع المفروض فيه تقدم القبول على الإيجاب محكوم بالبطلان في نفسه ، فيرتفع عنه هذا الحكم بحديث الرفع.

قلت : البطلان ليس حكما شرعيا قابلا للوضع أو الرفع ، وإنما هو امر تكويني منتزع من عدم انطباق موضوع الحكم على الموجود الخارجي ، واما عدم ترتب النقل والانتقال فهو من آثار عدم تحقق موضوعه ، لا من آثار تحقق غيره ، على انك قد عرفت ان ما يرتفع بحديث الرفع انما هو الحكم الشرعي المترتب على شيء لا عدمه ، وإلّا لزم الحكم بحصول النقل والانتقال عند الإكراه على ترك البيع مثلا ، وهو

٢٤٤

مما لا يلتزم به أحد. وبالجملة كل ما كان صحيحا ونافذا في نفسه من المعاملات إذا وقع مكرها عليه يرتفع عنه حكمه ، واما ما كان فاسدا في نفسه فلا يترتب عليه الصحة إذا أوقع عن إكراه ، فافهم ذلك واغتنمه.

التنبيه الرابع : ان حديث الرفع لا يرفع الحكم الثابت للشيء بالعناوين المذكورة فيه ، فوجوب سجدتي السهو المترتب على نسيان السجدة في الصلاة لا يرتفع بالحديث ، وكذلك ما رتب على عنوان الخطأ ، كما في قتل الخطأ ، والسر فيه هو ان الظاهر من الحديث كون طرو العناوين المذكورة فيه موجبا لارتفاع الحكم عن مواردها ، فيستحيل ان يعم ما إذا كانت مثبتة له.

التنبيه الخامس : يعتبر في شمول حديث الرفع بالقياس إلى الاضطرار ونحوه امران.

الأول : ان يكون الحكم المرفوع بحديث الرفع مترتبا على فعل المكلف بما هو ، فلا يعم مثل النجاسة المترتبة على عنوان الملاقاة ، فإذا لاقى بدن الإنسان حال نجاسته جسما طاهرا لا يمكن الحكم بارتفاع تنجس ذلك الجسم بحديث الرفع ، فان تنجس الملاقي لم يترتب على الملاقاة بما هو فعل المكلف ليرتفع بالحديث ، وانما هو مترتب على نفس الملاقاة ولو كانت غير اختيارية ، فلا وجه لما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من ان ذلك خارج عن حديث الرفع بالإجماع. كما انه لا يشمل وجوب قضاء الفائت من المكلف اضطرارا أو إكراها (١) ، لأن وجوب القضاء مترتب على فوت الفريضة بما انه فوت ، لا بما هو فعل للمكلف ، ومن ثم يجب القضاء فيما إذا لم يستند الفوت إلى المكلف أيضا. نعم لو كان وجوب القضاء مترتبا على عنوان الترك كان للقول بسقوطه عند الإكراه أو الاضطرار إلى الترك وجه ، إلّا انه خلاف

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ١٧٦.

٢٤٥

الواقع. والوجه فيما ذكرناه هو ان هذه العناوين المذكورة في الحديث لا تتعلق إلّا بالفعل ، فلا بد وان يراد من الموصولات المذكورة فيه ذلك.

الثاني : أن يكون في رفعه منة على العباد ، فلا يعم صحة بيع المضطر ، فان رفعها خلاف الامتنان. ويعتبر أيضا أن يكون فيه منة على الأمة ، لا على شخص دون شخص ، فلا يرتفع به ضمان الإتلاف غير الاختياري ، لأن رفعه خلاف الامتنان بالإضافة إلى المالك وان كان فيه منة على المتلف.

التنبيه السادس : ان البراءة العقلية يختص جريانها بموارد الشك في التكاليف الإلزامية ، واما التكليف المحتمل إذا لم يكن إلزاميا فالمقطوع منه لا يوجب مخالفة العقاب فكيف بمحتمله.

واما البراءة الشرعية ، ففي اختصاصها بموارد التكاليف الإلزامية خلاف بين الاعلام. والتحقيق ان يفصل بين موارد الشك في التكاليف الاستقلالية وموارد التكاليف الضمنية ، فتجري في الثانية دون الأولى ، توضيح ذلك : انك قد عرفت فيما مر ان رفع التكليف في مقام الظاهر انما يكون بعدم وضع إيجاب الاحتياط والتحفظ على الواقع في ظرف الجهل ، وهذا المعنى غير متحقق في موارد التكاليف الاستقلالية ، فإذا احتملنا استحباب شيء فرفعه في مقام الظاهر انما يكون بعدم التحفظ على الواقع بعدم جعل استحباب الاحتياط في ظرف ، ومن الظاهر ان استحباب الاحتياط مجعول قطعا ، فالتكليف المحتمل غير مرفوع في مقام الظاهر ، فلا يعمه حديث الرفع.

واما التكاليف الضمنية ، فالامر بالاحتياط في موارد الشك فيها وان كان ثابتا قطعا ، فيستحب الاحتياط بإتيان ما يحتمل كونه جزء لمستحب ، إلّا ان اشتراط المستحب به مجهول ، فلا مانع من شمول حديث الرفع لنفي ذلك ، وإثبات عدم الاشتراط في مقام الظاهر. وبعبارة أخرى : الوجوب التكليفي وان لم يكن محتملا في

٢٤٦

مورد الكلام ، إلّا ان الوجوب الشرطي المترتب عليه عدم جواز الإتيان بالفاقد للشرط بداعي الأمر مشكوك فيه لا محالة ، وهذا المقدار من الوجوب يصبح رفعه ظاهرا ، وان كان الاحتياط مستحبا شرعا.

حديث الحجب

ومما استدل به على البراءة قوله عليه‌السلام «ما حجب الله علمه عن العباد ، فهو موضوع عنهم» (١) ولا يجري فيه ما توهم في حديث الرفع من الاختصاص بالشبهة الموضوعية من جهة اتحاد السياق. نعم ربما يستشكل فيه من جهة ان إرادة الحكم والموضوع معا من الموصول مستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، فلا بد من اختصاصه بالشبهة الموضوعية أو الحكمية ، وقد تقدم جوابه في حديث الرفع.

إلّا ان الّذي يسهل الخطب ان هذا الحديث خارج عما نحن فيه ، فان المراد مما حجب الله علمه على ما هو ظاهر اسناد الحجب إلى الله تعالى خصوص ما لم يبين من الأحكام ، اما لأجل التوسعة على الأمة مع ثبوت المقتضى لبيانه ، واما لأجل المانع من البيان ، ولو كان ذلك من قبل المكلفين ، لاستلزام البيان هلاك غير النادر منهم بتركهم العمل بها ، فاقتضت المصلحة إخفاء تلك الأحكام إلى زمان ظهور حجة الله في أرضه ، ولعل هذا معنى ما ورد من انه عليه‌السلام يأتي بدين جديد ، وعلى هذا فلا يرتبط الحديث بما نحن فيه مما لم يحجبه الله وانما حجبه الظالمون لأهل البيت ، بل يكون من قبيل قوله عليه‌السلام «اسكتوا عما سكت الله عنه».

حديث الحلية

ومن الروايات موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : سمعته يقول : كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٨.

٢٤٧

مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى تستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البينة» (١). وقد تمسك بها شيخنا الأنصاري (٢) للبراءة في الشبهة الموضوعية ، ولم يذكرها في أدلة البراءة في الشبهة الحكمية ، إلّا انه ذكر فيها خبرين آخرين.

أحدهما : خبر عبد الله ابن سليمان قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن إلى أن قال : سأخبرك عن الجبن (٣) وغيره كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» (٤).

ثانيهما : خبر عبد الله ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (٥).

واما صاحب الكفاية (٥) فقد عكس الأمر ، فلم يستدل بهما على البراءة في الشبهة الحكمية ، واستدل لها بالموثقة ، ولعل الوجه في ذلك ظهور قوله عليه‌السلام فيه حلال وحرام في الخبرين في فعلية الانقسام إلى القسمين ، ولا يتحقق ذلك إلّا في موارد الشبهة الموضوعية ، إذ لا معنى لانقسام الحرام أو الواجب المجهول إلى القسمين.

__________________

(١) في القاموس الجبن بالضم وبضمتين وكعتل معروف. وفي تاج العروس بعد ان عرفه بالذي يؤكل ، قال : واللغة الفصحى الأولى ثم الثانية ثم الثالثة. وفي الصحاح بعد ذكر الجبن الّذي يؤكل والّذي هو صفة الجبان ، قال : والجبن بضم الجيم والباء لغة فيهما ، وبعضهم يقول بالضم والتشديد. وفي مصباح المنير فيه ثلاث لغات ، أجودها سكون الباء ، والثانية ضمها للاتباع ، والثالثة وهي أقلها التثقيل.

(١) وسائل الشيعة : ١٢ ـ باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.

(٢) فرائد الأصول : ١ ـ ٣٧٠ ـ ٣٧١ ، ٤٠٦ (ط. جامعة المدرسين).

(٣) الكافي : ٦ ـ ٣٣٩ ، كتاب الأطعمة ، باب الجبن ، ح ١.

(٤) وسائل الشيعة : ١٢ ـ باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١.

(٥) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٧٦.

٢٤٨

ولا يخفى عليك ان الإشكال في الاستدلال بالموثقة في المقام أقوى وأظهر من الإشكال في الاستدلال بالخبرين ، فان فيها جهات تقتضي اختصاصها بالشبهة الموضوعية.

أحدها : ظهور كلمة «بعينه» في ذلك ، وهذا الوجه مشترك فيه بين الموثقة وغيرها ، وحمل الكلمة على التأكيد خلاف الظاهر ، ولا يصار إليه بغير قرينة ، توضيح ذلك : ان العناوين الكلية مثل شرب التتن ونحوه اما ان تكون معلومة الحرمة ، أو لا تكون كذلك. وعلى الأول فهي معلومة الحرمة بعينها لا محالة ، وعلى الثاني فهي غير معلومة الحرمة أصلا ، واما العلم بكونها محرمة لا بعينها فهو لا يتحقق غالبا إلّا في موارد العلم الإجمالي بحرمة أحد الشيئين أو الأشياء ، ومن الظاهر انه لا يحكم فيها بالحلية على ما سيجيء.

واما الشبهات الموضوعية فالشك فيها لا ينفك عن العلم بالحرام لا بعينه غالبا أو دائما ، مثلا إذا احتملنا حرمة مائع خارجي لاحتمال كونه خمرا ، فذلك لا ينفك عن العلم بوجود الخمر في الخارج إجمالا ، المحتمل انطباقه على المائع المفروض ، ومعه كان الحرام معلوما لا بعينه ، أي غير متميز عن غيره ، لكن مثل هذا العلم لعدم حصر أطرافه وعدم كون جميعها محل الابتلاء لا يوجب تنجز المعلوم ، فصح أن يقال : ان ما ابتلي به من أطرافه محكوم بالحلية ما لم يعلم انه حرام بعينه ، فالإتيان بكلمة «بعينه» في الروايات الثلاث قرينة على اختصاصها بالشبهات الموضوعية.

ثانيها : ان الأمثلة المذكورة فيها من قبيل الشبهة الموضوعية ، وليست الحلية في شيء منها مستندة إلى أصالة البراءة والحل ، وانما هي في بعضها مستندة إلى اليد ، وفي بعضها إلى الاستصحاب ، وهي قرينة أو صالحة للقرينية على إرادة خصوص الشبهة الموضوعية.

ثالثها : ان قوله عليه‌السلام «أو تقوم به البينة» صالح للقرينية على الاختصاص

٢٤٩

بالشبهة الموضوعية ، وعليه فدعوى عموم الرواية للشبهات الحكمية بان يكون قوله عليه‌السلام «حتى تستبين» مختصا بالشبهة الحكمية أو أعم منها بعيدة.

رابعها : ان حصر الغاية في الاستبانة التي هي بمعنى العلم الوجداني وقيام البينة يدل على ان المراد بلفظ الأشياء في الموثقة ما يكون من قبيل المذكورات فيها من الشبهات الموضوعية ، المحكومة بالحل بحكم الأمارة أو الاستصحاب ، فان الرافع لحكم اليد أو الاستصحاب فيها منحصر بالعلم وقيام البينة. واما في الشبهات الحكمية فلا ينحصر رافع الإباحة بهما ، بل قد ترتفع باستصحاب الحرمة وخبر الواحد ونحوهما ،

واما توهم ان المراد بالاستبانة في الموثقة أعم من الاستبانة الوجدانية والتعبدية ، فيدفعه مضافا إلى انه خلاف ظاهر جعل الاستبانة عدلا لقيام البينة ، ان الرافع لحكم اليد أو الاستصحاب المستند إليهما الحلية في الأمثلة المذكورة ليس إلّا العلم الوجداني أو قيام البينة ، فملكية العبد أو الثوب مستندة إلى اليد ، كما ان حلية المرأة مستندة إلى استصحاب عدم تحقق الرضاع أو عدم تحقق النسب ، ولا رافع للحلية في أمثال ذلك إلّا العلم الوجداني أو قيام البينة. نعم ورد في بعض الاخبار اعتبار اخبار الثقة بتحقق الرضاع أو النسب ، ولكنه معارض بما دل على عدم اعتباره ، ومن ثم حمل النهي عن التزويج عند اخبار الثقة بهما على الكراهة.

فتلخص ان حصر رافع الحلية في الموثقة بالعلم وقيام البينة أقوى شاهد على اختصاصها بالشبهات الموضوعية.

لا يقال : ان حصر رافع الحلية في الموثقة في العلم الوجداني وقيام البينة لا يوجب اختصاصها بالشبهة الموضوعية إذا الحلية في الشبهة الموضوعية ، ترتفع بالإقرار وبحكم الحاكم وبالاستصحاب ، وبخبر الواحد بناء على ما هو الصحيح من حجيته في الشبهات الموضوعية أيضا ، فالحصر الحقيقي كما لا يتم في الشبهات

٢٥٠

الحكمية لا يتم في الشبهات الموضوعية. واما الحصر الإضافي فهو ممكن في كليهما.

فانه يقال : الحلية في بعض موارد الشبهات الموضوعية وان كانت ترتفع بغير العلم وقيام البينة ، إلّا انها في ما كانت الشبهة الموضوعية من قبيل المذكورات في الرواية لا ترتفع إلّا بالعلم أو قيام البينة ، توضيح ذلك : ان الحلية في الأمثلة المذكورة مستندة إلى اليد أو الاستصحاب كما عرفت ، وهي لا ترتفع في تلك الموارد بالخبر الواحد كما مر. واما الاستصحاب فهو ساقط مع اليد ، كما في مثال الثوب والعبد ، واما في غيرهما كما في مثال التزويج بالمرأة المحتمل حرمتها لرضاع أو نسب ، فهو مفيد للحلية لا رافع لها. واما الإقرار فهو وان كان رافعا للحلية ، إلّا انه خلاف الفرض في مورد الموثقة ، إذ المفروض فيها ان صاحب اليد يدعي مالكيته لما في يده ، فكيف يمكن فرض إقراره بعدم ملكيته. واما حكم الحاكم فهو أنما يكون مع الترافع ولا موضوع له في فرض الموثقة ، على ان حكم الحاكم في الغالب مستند إلى علمه واستبانته ، أو إلى قيام البينة عنده.

وبالجملة رافع الحلية في ما يكون من قبيل الأمثلة المذكورة في الموثقة منحصر في الاستبانة وقيام البينة ، وذلك قرينة على اختصاصها بالشبهات الموضوعية. هذا كله بناء على دلالة الموثقة على إباحة المشكوك حرمته ،

ويمكن أن يقال : انها أجنبية عن ذلك بالكلية ، توضيحه : ان الاحتمالات المتصورة في صدر الموثقة ثلاثة.

الأول : ان يراد بالحلية التي حكم بها فيها الحلية الظاهرية المجعولة للشاك ، المعبر عنها بأصالة الإباحة ، فيكون ذكر الأمثلة حينئذ من باب التنظير لها بالحلية الثابتة في تلك الموارد بالدليل من اليد أو الاستصحاب.

الثاني : ان يراد بها الحلية المستندة إلى دليل غير أصالة الإباحة ، مثل اليد

٢٥١

والاستصحاب ونحوهما ، وعليه تكون الأمثلة تمثيلا للحلية المحكوم بها.

الثالث : ان يراد بها معناها اللغوي ، وهو الإرسال وعدم التقييد في مقابل المنع ، وهذا ينطبق على الحلية المجعولة في مورد الشك ، أعني بها أصالة الحل ، والمستفادة من الدليل كالأمثلة المذكورة فيها.

ودلالة الموثقة على أصالة الحل مبتنية على ظهورها في الاحتمال الأول أو الثالث ، وهو مع أنه غير ثابت في نفسه ، مناف للغاية المذكورة ، فانها كما عرفت قرينة معينة للاحتمال الثاني ، فان انحصار رافع الحلية في الاستبانة الظاهرة في العلم الوجداني وفي قيام البينة كاشف عن ان المراد بالحلية فيها هي الحلية المستندة إلى اليد أو الاستصحاب ، لا مطلق الحلية المرتفعة بغيرهما أيضا ، وعلى ذلك فالموثقة أجنبية عن محلّ الكلام بالكلية.

واما الخبران الآخران المتقدمان ، فهما أيضا مختصان بالشبهة الموضوعية لوجهين.

الأول : اشتمالهما على كلمة «بعينه» فانها قرينة على ذلك كما مرّ. واسناد المعرفة إلى نفس الحرام في رواية عبد الله ابن سليمان ، الظاهر في معرفة انطباق الحرام على الموجود الخارجي يؤكد اختصاصها بالشبهة الموضوعية ، ويبعد احتمال إرادة التأكيد من كلمة «بعينه» كما لا يخفى.

الثاني : اشتمالهما على التقسيم بقوله «فيه حلال وحرام» فانه ظاهر في الانقسام الفعلي ، ووجود القسمين للمقسم بالفعل لا الترديد ، وهذا انما يختص بالشبهات الموضوعية ، فان الافراد الخارجية فيها على قسمين ، حلال واقعا وحرام كذلك ، فهي محكومة بالحلية ما لم يعلم الحرام بعينه ، واما الشبهات الحكمية فليس في مواردها حلال وحرام ، بل المشكوك فيه مردّد بين الحرام والحلال في نفسه مع قطع النّظر عن حكم غيره من المحللات والمحرمات.

٢٥٢

ثم إنه قد عبر في خبر عبد الله ابن سنان عن موضوع الحل بعنوان الشيء ، ويحتمل أن يراد به الشيء الخارجي الشخصي ، كما يحتمل أن يراد به الكلي. وعلى الأول لا مناص من الالتزام بنوع من الاستخدام ، ويكون المعنى حينئذ ان كل موجود خارجي يكون نوعه منقسما إلى حلال وحرام فهو حلال حتى تعرف الحرام من ذلك النوع بعينه ، وعلى الثاني كان معناه ان الشيء الكلي الّذي بعض مصاديقه حلال وبعضها حرام واقعا حلال ظاهرا حتى تعرف الحرام منه بشخصه ، وعلى التقديرين لا يراد من لفظ الشيء الحكم ، بل لا بد وان يراد به الموضوع لمكان التقسيم والظرفية.

واما ما أفاده المحقق النائيني (١) في المقام من ان ظاهر لفظ الشيء هو الموجود الخارجي لا المفهوم الكلي وحيث انه لا معنى لانقسامه إلى الحرام والحلال ، كان ذلك قرينة على ان المراد من التقسيم هو الترديد ، فلا يكون اشتمال الخبرين على التقسيم قرينة على اختصاصها بالشبهات الموضوعية ، فيرد عليه.

أولا : ان الشيء كما يطلق على الموجود الخارجي ، يطلق على المفهوم الكلي ، فيقال مفهوم الإنسان شيء ممكن ، وشريك الباري شيء مستحيل ، فلا وجه لدعوى ظهوره في الموجود الخارجي.

وثانيا : لو سلمنا ان المراد به الموجود الخارجي فظهور الكلام في التقسيم الفعلي خصوصا بضميمة قوله عليه‌السلام «حتى تعرف الحرام منه بعينه» الظاهر في كون كلمة من فيه تبعيضية ، قرينة على الاستخدام ، ولا ضير في الالتزام به بعد شيوعه. ثم ان التقسيم الفعلي وان كان متصورا في الشبهة الحكمية أيضا ، فاللحم مثلا فيه حلال وهو لحم الغنم وحرام وهو لحم الأرنب ومشكوك فيه وهو لحم الحمار ، إلّا ان ظاهر

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ١٨٤ ـ ١٨٥.

٢٥٣

الحديث أن يكون الانقسام دخيلا في الشك ، وليس الأمر كذلك في الشبهة

الحكمية وثالثا : ان كلمة الحرام في قوله عليه‌السلام «حتى تعرف الحرام بعينه» لا يمكن أن يراد بها الحرام المعهود ، لعدم فرض حرام في الكلام بعد حمل التقسيم على الترديد ، فلا بد وان يراد به الجنس ، وعليه يلزم أن يكون العلم بحرمة شيء ما كلحم الأرنب مثلا غاية للحكم بحلية لحم الحمار المشكوك حرمته ، وهو مما لا محصل له. نعم لو كانت الغاية المذكورة في الرواية هو العلم بحرمة ذلك الشيء لا العلم بالحرام لم يرد عليه ذلك ، لكنه خلاف ما هو الموجود فيها.

حديث السعة

ومن الروايات المستدل بها على البراءة قوله عليه‌السلام (الناس في سعة ما لا يعلموا) (١) ولفظ ما يحتمل أن يكون مصدرية زمانية ، فيكون المعنى انهم في سعة ما داموا لم يعلموا ، فمفاد الخبر حينئذ مفاد قبح العقاب بلا بيان ، وعليه فأدلة الاحتياط تكون حاكمة عليه ، لأنها بيان. ويحتمل أن تكون ما موصولة ولفظ السعة مضاف إليه ، فيكون مفاد الحديث حينئذ كون الناس في سعة من الحكم المجهول ، فيفيد ما كان يفيده حديث الرفع من التوسعة عند الجهل بالواقع ، فتقع المعارضة بينه وبين أدلة الاحتياط الدالة على كون الناس في ضيق الواقع المجهول ، لما ستعرف من ان إيجاب الاحتياط طريقي لا نفسي.

والظاهر من الحديث هو الاحتمال الثاني ، فان كلمة ما الزمانية حسب استقراء موارد استعمالها لا تدخل على الفعل المضارع ، وانما تدخل على الماضي ، فلو كان المضارع في الخبر مدخول كلمة لم لكان للاحتمال الأول وجه متين ، لكنه خلاف الواقع. ثم لو سلم دخولها على الفعل المضارع أحيانا فلا ريب في ندرته ، فلا يصار

__________________

(١) عوالي اللئالي : ١ ـ ٤٢٤ ، ح ١٠٩.

٢٥٤

إليه في غير الضرورة.

وعليه فالصحيح دلالة الحديث على البراءة الشرعية ، وبإطلاقه يشمل الشبهات الموضوعية والحكمية. ومن ذلك يظهر ان ما أفاده المحقق النائيني من ترجيح الاحتمال الأول ، وعدم صحة الاستدلال بهذا الحديث على البراءة الشرعية ، خلاف التحقيق.

حديث : كل شيء مطلق

ومن الروايات المستدل بها على البراءة قوله عليه‌السلام «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١) بتقريب : ان ظاهر الإطلاق في الحديث هو الإطلاق الشرعي المرادف للإباحة ، فلا بد وان يراد من الورود فيه الوصول على ما سنبينه ، فيكون المعنى كل ما شك في حرمته فهو مطلق شرعا ، ومحكوم بالإباحة حتى يرد فيه النهي.

ثم ان هذه الرواية بما انها واردة في خصوص الشبهة التحريمية فلا ينبغي الشك في تقدمها على اخبار الاحتياط ، لكونها أخص منها. وقد بالغ شيخنا الأنصاري (٢) في العناية بها ، حتى جعلها أظهر روايات الباب. ولكن المحققين النائيني والخراسانيّ قدس‌سره لم يرتضيا الاستدلال بها.

اما المحقق النائيني (٣) فذهب إلى ان مفاد هذه الرواية إنما هو اللاحرجية الأصلية قبل ورود الشرع والشريعة ، فمفادها ان الأشياء بعناوينها الأولية مرسلة حتى يرد من الشارع نهي ، فالإطلاق فيها بمعناه اللغوي ، وعليه فالرواية أجنبية عما هو محل البحث ، أعني به إثبات الإباحة لما شك في حرمته بعد ثبوت الشرع ، وحكمه بحرمة أشياء وحلية أشياء غيرها.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ ـ ٣١٧ ، ح ٩٣٧ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) فرائد الأصول : ١ ـ ٣٦٩ (ط. جامعة المدرسين).

(٣) فوائد الأصول : ٣ ـ ٣٦٣ ، أجود التقريرات : ٢ ـ ١٨٢.

٢٥٥

والجواب عن ذلك : ان الإطلاق وان كان بمعنى الإرسال إلّا ان حمله على اللاحرجية الأصلية خلاف الظاهر ، فان ظاهر الحكم الصادر في كلام الشارع أو من هو بمنزلته كونه حكما شرعيا مولويا ، لا حكما عقليا أو حكما شرعيا إرشاديا. هذا مضافا إلى ان بيان الإطلاق الثابت قبل ورود الشرع فيما بعد وروده ومعرفة الحلال والحرام لغو ، لا يترتب عليه فائدة ، فلا ينبغي حمل الرواية عليه.

واما المحقق الخراسانيّ (١) فقد ناقش في دلالة الرواية باحتمال أن يكون المراد من الورود صدور الحكم من الموالي لا وصوله إلى المكلفين ، ومن الواضح ان فرض عدم جعل الحكم وصدوره خارج عن محل نزاع الأخباريين والأصوليين.

لا يقال : بضميمة أصالة عدم ورود الحكم وجعله يمكن التمسك بها للبراءة.

فانه يقال : ان الدليل حينئذ يكون أخص من المدعى ، لاختصاصه بما إذا لم يعلم ورود النهي أصلا ، ولا يعم مثل ما إذا ورد النهي عن شيء في زمان والإباحة في زمان آخر وشك في المتقدم منهما.

والجواب عنه : ان الورود وان صح استعماله في الصدور أحيانا إلّا ان المراد به في الحديث خصوص الوصول ، والقرينة عليه قوله عليه‌السلام «كل شيء مطلق» إذ المراد بالإطلاق فيه بعد ما عرفت من كونه إطلاقا شرعيا مولويا إما الإباحة الواقعية واما الإباحة الظاهرية ، سواء قلنا بان القضية إخبارية أو قلنا بأنها إنشائية. ولا سبيل إلى الأول ، فان جعل النهي واقعا أو وصوله إلى المكلف لا يمكن أن يكون غاية للحكم بالإباحة الواقعية.

أما الأول : فلاستلزامه جعل أحد الضدين رافعا للآخر ، ولا معنى له ، فانه نظير أن يقال كل شيء ساكن إلى ان يتحرك ، فان الحلية والحرمة الواقعيتين ضدان

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٧٧.

٢٥٦

لا يجتمعان ، فبتحقق أحدهما يرتفع الآخر قهرا ، كما في جميع الأضداد ، وكما لا معنى للقول بان كل شيء حرام واقعا حتى يصدر فيه إباحة ، لا معنى للقول بان كل شيء مطلق واقعا حتى يصدر فيه نهي.

واما الثاني : فلأن جعل وصول النهي غاية للحكم بالإباحة مستلزم للقول بالتصويب ، المجمع على بطلانه. فتعين أن يكون المراد بالإطلاق الإباحة الظاهرية ، وعليه لا بد وأن يكون المراد بالورود الوصول ، فان صدور الحرمة الواقعية لا يكون رافعا للحكم بالإباحة الظاهرية بالضرورة ما لم يحرز ذلك ، فيكون مفاد الرواية ان كل شيء مطلق ظاهرا حتى يصل فيه نهي.

وبما ذكرناه من كون المراد بالإطلاق الإباحة الظاهرية علم ان الموضوع في القضية هو الشيء المشكوك فيه ، لا الشيء بعنوانه الواقعي ، وبإطلاقه يستدل على حكم الشبهة الموضوعية والحكمية ، فدلالة الرواية على البراءة الشرعية في غاية الظهور.

ثم لا يخفى ان في جريان أصالة عدم صدور النهي التي تمسك بها صاحب الكفاية (١) في المقام بيانا سيأتي ، وسيظهر لك أنه على تقدير جريانها لا تصل النوبة إلى جريان أدلة البراءة أصلا.

الاستدلال على البراءة بالإجماع

الثالث : من الوجوه المستدل بها للبراءة هو الإجماع. وتقريبه على أنحاء.

الأول : دعوى اتفاق الأصوليين والأخباريين على قبح العقاب من دون بيان ، وعدم استحقاق العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٧٧.

٢٥٧

وفيه : ان هذا الاتفاق وان كان ثابتا إلّا انه على امر عقلي ، فليس إجماعا تعبديا كاشفا عن رأي المعصوم ، فلا أثر لمثله.

الثاني : اتفاقهم على ان الحكم الشرعي في مورد التكاليف التي لم تصل بنفسها ولا بطريقها هو الترخيص ، كما هو مفاد قوله عليه‌السلام «الناس في سعة ما لا يعلموا» (١).

وهذه الكبرى وان كانت إجماعية إلّا انها لا تفي بإثبات الصغرى ، فان الاخباري يدعي ان الأحكام المجهولة واصلة إلى المكلفين بطريقها ، إما مطلقا كما ادعاه المحدث الأسترآبادي ، وإما في خصوص الشبهات التحريمية كما هو المعروف ، ودليلهم على ذلك الاخبار الآمرة بالاحتياط ، ففي الاقتحام في الشبهات مخالفة للحكم الطريقي الواصل.

الثالث : دعوى ثبوت الاتفاق على ان الحكم الظاهري المجعول في موارد الجهل بالواقع هو الإباحة والترخيص شرعا.

وهذا التقريب لو تم لكان دليلا على البراءة ولكنه كيف يتم مع ذهاب الأخباريين إلى ان الحكم المجعول هو وجوب الاحتياط أو التوقف.

الاستدلال على البراءة بحكم العقل

الوجه الرابع : من وجوه الأدلة الأربعة هو حكم العقل ، بتقريب : ان الانبعاث أو الانزجار انما هو من آثار التكليف الواصل ، فإذا لم يكن التكليف واصلا كان العقاب على مخالفته عقابا بلا مقتضى ، وهو قبيح ، توضيحه : أن ما يكون محركا للعبد أو زاجرا له انما هو الوجود العلمي لا الوجود الواقعي ، فقد يموت الإنسان عطشا والماء في رحله ، لجهله بذلك ، فكما ان شوق المولى إلى فعل العبد لا يحركه نحوه ما لم يصل إليه ، كذلك حكمه وان بلغ من اللزوم والتأكد ما بلغ ، فالحكم ما لم يصل إلى

__________________

(١) عوالي اللئالي : ١ ـ ٤٢٤ ، ح ١٠٩.

٢٥٨

المكلف لا يمكنه التحرك منه ، ومعه كان العقاب على مخالفته عقابا بلا مقتضى ، كما إذا لم يكن حكم من المولى أصلا.

وبعبارة أخرى : الوظيفة المولوية تقتضي جعل الأحكام وبيانها على نحو يتمكن العبد من الوصول إليها ، فإذا لم يجعل الحكم أو جعل ولم يمكن وصوله إلى العبد كان القصور في ناحية التشريع ، ومعه لا مقتضى لعقاب العبد عند مخالفته الواقع مع عدم استنادها إلى تقصيره. وهذه الكبرى مسلمة ، لم يخالف فيها أحد حتى من الأخباريين. نعم استشكل فيها بعض الأصوليين من جهة معارضتها بقاعدة أخرى ، وهي استقلال العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل.

وأجاب الشيخ (١) عن ذلك بان وجوب دفع الضرر المحتمل ليس وجوبا غيريا ليعارض به قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلو كان فهو وجوب نفسي ظاهري ، فالعقاب انما يكون على مخالفته لا على مخالفة الواقع.

وأورد عليه المحقق الخراسانيّ (٢) بأن الوجوب غير منحصر بالقسمين ، بل هناك قسم ثالث نسميه بالوجوب الطريقي ، المترتب عليه تنجز الواقع ، ووجوب دفع الضرر المحتمل انما يكون من هذا القبيل. ثم دفع التنافي بين القاعدتين بان قبح العقاب بلا بيان يرفع موضوع حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ لا يحتمل وجود الضرر حينئذ.

وأشكل عليه بإمكان العكس ، بأن يكون قاعدة دفع الضرر المحتمل رافعا لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فان كلا من القاعدتين لا يتكفل بيان موضوعه ، وكلا منهما صالح لأن يرتفع به موضوع الآخر ، ولا ترجيح في البين.

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ٣٧٦ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٧٩ ـ ١٨٠.

٢٥٩

والتحقيق في الجواب : يقتضي تقديم مقدمة : وهي ان التعارض في الأحكام الشرعية انما يكون بين دليلين ظنيين من جهة ، فقد يكون التنافي بين ظهورين وان كان سند كل منهما قطعيا ، وقد يكون بين نصين صريحين إذا كان سندهما ظنيا. واما الدليلان القطعيان سندا ودلالة وجهة فيستحيل وقوع المعارضة بينهما ، لاستلزامه التناقض ، بل لا بد في مثل ذلك من أن يكون أحد الدليلين واردا أو حاكما على الآخر ، واما الأحكام العقلية فيستحيل المعارضة فيها ، لاستلزامه حكم العقل بثبوت المتناقضين. ففيما نحن فيه لو التزمنا بالمعارضة بين القاعدتين لزم أن يكون العقل حكما باستحقاق العقاب وبعدمه في مورد واحد ، وهو محال.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان من الأمور المسلمة بين الأخباريين والأصوليين ، ولم يستشكل فيه أحد من العقلاء الملتزمين بالحسن والقبح العقليين. واما توهم معارضته بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فيدفعه ان الضرر المحتمل الواجب دفعه اما ان يراد به العقاب الأخروي ، أو يراد به الضرر الدنيوي ، أو يراد به المفسدة المقتضية لجعل الحرمة. فان كان المراد به العقاب ، فلا يخلو الحال في وجوب دفعه من أن يكون وجوبا نفسيا أو طريقيا أو إرشاديا.

أما الوجوب النفسيّ فهو على تقدير ثبوته لا يصح العقاب إلّا على نفس مخالفته ، لا على مخالفة التكاليف الواقعية المجهولة بعد فرض عدم وصولها إلى المكلف لا بنفسها ولا بطريقها ، فإذا فرضنا الواقع المجهول غير واصل إلى المكلف بوجه فقاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع احتمال العقاب على مخالفته ، فينتفي موضوع لزوم دفع الضرر المحتمل ، فيختص مورده بغير المقام مما تنجز الواقع فيه بمنجز من علم إجمالي وغيره. على ان الالتزام بالوجوب النفسيّ باطل من أصله ، لاستلزامه تعدد العقاب فيما إذا كان الاحتمال مصادفا للواقع ، ولا يلتزم به ، فان ارتكاب ما يحتمل فيه العقاب لا يزيد على ارتكاب ما يقطع بترتب العقاب عليه.

٢٦٠