دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

مباحث الأصول العملية

وقبل الخوض فيها نذكر أمورا.

الأمر الأول : ان البحث عن المسائل الأصولية يرجع إلى أقسام أربعة.

الأول : البحث عن مداليل الألفاظ بما هي كذلك ، سواء كانت واقعة في الكتاب أو السنة أو غيرهما ، كمباحث الأوامر والنواهي ، والعموم والخصوص ، والمطلق والمقيد ونحو ذلك. وتسمى هذه بمباحث الألفاظ.

الثاني : البحث عن المداليل بما هي كذلك ، سواء كان مدلول دليل لفظي أم لم يكن ، كمباحث المقدمة والضد ، واجتماع الأمر والنهي ، فان البحث فيها انما هو عن لوازم نفس الأحكام بما هي ، لا عن دلالة اللفظ كما زعمه صاحب المعالم ، حيث استدل على عدم وجوب المقدمة بعدم دلالة الأمر بذي المقدمة على وجوبها بإحدى الدلالات الثلاث. ويعبر عن هذا القسم بالمباحث العقلية ، فان الموضوع فيها وان كان حكما شرعيا ، إلّا ان المبحوث عنه حكم عقلي ، ولأجل ذلك يعبر عن مثل هذا بالحكم العقلي غير المستقل.

الثالث : البحث عن حجية شيء ودليليته على ثبوت حكم من الأحكام الواقعية الثابتة لموضوعاتها بعناوينها الواقعية مع قطع النّظر عن تعليق الجهل أو الشك بها ، كمباحث حجية الطرق والأمارات ، التي تقدم فيها الكلام. ويسمى هذا بمباحث الحجج والأدلة ، ويعبر عن دليل ذلك الحكم بالدليل الاجتهادي.

٢٢١

الرابع : البحث عن حجية الأحكام الظاهرية الثابتة لعنوان الشاك في الحكم الواقعي. وتسمى تلك المباحث بمسائل الأصول العملية ، ويعبر عن دليل ذلك الحكم بالدليل الفقاهتي ، والأصل العملي.

والمناسبة في تقييد الأول بالاجتهادي والثاني بالفقاهتي ما ذكروه في تعريف الاجتهاد من (انه استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الفرعي) ومن الواضح ان المراد من الحكم هو خصوص الواقعي ، وإلّا لم يكن وجه لأخذ الظن في التعريف ، فالحكم الواقعي مأخوذ في تعريف الاجتهاد ، ولذلك قيد الدليل الدال عليه بالاجتهادي ، وما ذكروه في تعريف الفقه من (انه العلم بالاحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية) ومرادهم من الأحكام هو الأحكام الظاهرية ، ضرورة ان الأحكام الواقعية لا طريق إلى العلم بها غالبا ، فسمي الدليل الدال على الحكم الظاهري بالدليل الفقاهتي ، لأنه مثبت للحكم المأخوذ في تعريف الفقه. هذا وقد تقدم الكلام في الثلاثة الأول من الأقسام ، والبحث فعلا انما هو في القسم الرابع.

الأمر الثاني : ان الأصول العملية التي هي المرجع في الشبهات الموضوعية والحكمية منحصرة في أربعة. لأن الشك اما أن يكون في أصل التكليف ، وإما يكون في المكلف به. وعلى الأول ان لوحظ فيه الحالة السابقة فهو مورد للاستصحاب ، وإلّا فهو مجرى للبراءة ، واما على الثاني فمع إمكان الاحتياط يكون من موارد قاعدة الاشتغال ، وإلّا فهو مورد التخيير.

واما عدم ذكر قاعدة الطهارة في علم الأصول ، وإحالتها إلى علم الفقه ، فلعدم وقوع الخلاف فيها ، كما وقع في غيرها. واما ما ذكره في الكفاية (١) من كون الوجه في ذلك عدم اطرادها في جميع أبواب الفقه ، واختصاصها بخصوص باب الطهارة ، فغير

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٦٧.

٢٢٢

تام ، لأن الميزان في كون المسألة أصولية هو وقوع نتيجتها في طريق الاستنباط ، ولا يعتبر في ذلك جريانها في جميع أبواب الفقه ، ومن الواضح ان جملة من المباحث الأصولية كمبحث دلالة النهي في العبادة على الفساد ونحوه غير مطردة في جميع الأبواب ، وانما هي مختصة ببعضها ، فلا فرق بين أصالة البراءة وقاعدة الطهارة إلّا في أن الأولى تجري عند الشك في حلية الشيء وحرمته ، والثانية تجري عند الشك في طهارة شيء ونجاسته.

وربما يوجد في بعض الكلمات وجه آخر لإسقاط البحث عن قاعدة الطهارة في علم الأصول وحاصله : ان الطهارة والنجاسة لما كانتا من الأمور الواقعية فدائما يكون الشك فيهما من الشبهة المصداقية ، ومن الواضح ان البحث عن حكم الشبهات الموضوعية لا يكون من المباحث الأصولية ، فان المسألة الأصولية لا بد وان يستنتج منها حكم كلي ، كما مر بيانه فيما تقدم.

وفيه : انه لو أريد من واقعيتهما عدم كون الحكم بهما جزافا ، وانه انما ينشأ عن المصلحة أو المفسدة ، فالشك في الحكم بنجاسة شيء وطهارته ناشئ من الشك في منشئهما الّذي هو من الأمر الواقعي ، فهو وإن كان متينا ، إلّا أنه غير مختص بالطهارة والنجاسة ، بل يجري في جميع الأحكام ، فانها كلها ناشئة من المصالح والمفاسد النّفس الأمرية ، والشك فيها يستلزم الشك في منشئها.

وإن أريد بها أنهما من قبيل الخواصّ والآثار ، كالحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة الثابتة للأدوية التي لا يعرفها إلّا العارف بخواص الأدوية من الأطباء ، فالطهارة والنجاسة أيضا من الأمور الواقعية ، وإن كان لا يعرفها إلّا الشارع العالم بالغيب ، فيرد عليه.

أولا : ان ذلك خلاف ظواهر الأدلة ، إذ الظاهر من دليلهما انهما حكمان مجعولان كسائر الأحكام الوضعيّة.

٢٢٣

وثانيا : لو سلمنا كونهما من الأمور الواقعية الثابتة في نفس الأمر ، وقد كشف الشارع عنهما ، فلا نسلم كون الشبهة فيهما مصداقية ، فان ضابط الشبهة المصداقية أن يكون المرجع فيها إلى العرف لا إلى الشارع ، ولا إشكال في أنه لا بد من الرجوع إلى الشارع عند الشك في نجاسة ما وقع الخلاف في طهارته ونجاسته ، كالعصير العنبي إذا غلا ، وعرق الجنب من الحرام وأمثالهما. وبالجملة كل ما يكون بيانه من وظائف الشارع فالشك فيه من الشبهة الحكمية ، ولا ريب أن الشك في الطهارة والنجاسة من هذا القبيل ، فلا فرق من هذه الجهة بين قاعدة الطهارة وأصالة البراءة.

فالصحيح : ما عرفت من ان قاعدة الطهارة من المسائل الأصولية ، وانما لم تذكر فيها لما بيناه ، ومع قطع النّظر عن ذلك فالأولى أن يقال : ان الشك تارة : يكون في الحكم التكليفي فيجري فيه الأقسام الأربعة المتقدمة ، وأخرى : يكون في الحكم الوضعي. وعلى الثاني فان كان المشكوك طهارة شيء ونجاسته فهو مورد لقاعدة الطهارة أو الاستصحاب ، وان كان غير ذلك فلا يجري فيه شيء من الأصول غير الاستصحاب.

ثم ان شيخنا الأنصاري (١) رحمه‌الله قسم الشك في التكليف إلى ما كان منشؤه عدم النص ، أو إجماله ، أو تعارض النصين ، أو الأمور الخارجية. وعلى كل منها فتارة : تكون الشبهة وجوبية ، وأخرى : تحريمية ، فالأقسام ثمانية ، تكون الشبهة في قسمين منها موضوعية ، وفي الباقي حكمية. والوجه في هذا التقسيم مضافا إلى ان الخلاف المعتد به قد وقع في بعضها دون بعض ، اختصاص بعضها بدليل خاص كالشبهة التحريمية الوارد فيها قوله عليه‌السلام «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (٢) وقوله عليه‌السلام «انما

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ٣٥٦ ـ ٣٥٧ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ ـ ٣١٧ ، ح ٩٣٧ (ط. جامعة المدرسين).

٢٢٤

الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، إلى أن قال : ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات» (١).

ولكن المحقق الخراسانيّ (٢) قدس‌سره قد عكس المطلب ، وجعل محط البحث مطلق الشك في التكليف ، الجامع بين الأقسام ، لاتحاد جهة البحث فيها ، وهو عدم وصول الحكم الواقعي ، وعمدة أدلة القول بالبراءة شاملة لجميع الأقسام ، واختصاص بعضها بدليل خاص لا يوجب إفراده بالبحث وتكثير الأقسام. إلّا أنه قدس‌سره أخرج عن البحث فرض تعارض النصين ، وأحاله إلى باب التعادل والتراجيح بدعوى : انه لا بد فيه من الرجوع إلى المرجحات أو إلى التخيير ، فهو خارج عن المقام.

والصحيح أن يقال : ان موضوع البحث في المقام هو الجامع بين جميع الأقسام حتى فيما كان منشأ الشك في التكليف تعارض النصين ، فان مقتضى القاعدة عند التعارض كما سيأتي إن شاء الله هو التساقط ، غاية الأمر أنه دل الدليل في خصوص تعارض الخبرين على عدم التساقط ، ولزوم الرجوع إلى المرجحات أو إلى التخيير ، ومن الظاهر انه لا ينحصر مورد تعارض الدليلين بخصوص الخبرين ، إذ قد يعارض ظاهر الكتاب غيره ، وقد يعارض الإجماع المنقول بمثله بناء على حجيته ، إلى غير ذلك مما لم يرد في علاج التعارض فيه دليل خاص ، فيحكم فيه بالتساقط ، ولا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصول العملية ، بل قد ذكرنا في محله أنه لو كان التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه ، وكان منشأ التعارض إطلاق كل من الدليلين لمورد الاجتماع كان الحكم فيه أيضا هو التساقط ، والرجوع إلى الأصل العملي ، وعلى هذا فالمناسب إدخال تعارض الدليلين أيضا في محل البحث ، غاية

__________________

(١) أصول الكافي : ١ ـ ٦٨ ، كتاب فضل العلم ، باب اختلاف الحديث ، ح ١٠.

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٦٧.

٢٢٥

الأمر يخرج منه صورة واحدة ، وهي ما إذا كان التعارض بين الخبرين ولم تكن المعارضة مستندة إلى الإطلاق.

فيقال : في تحرير عنوان البحث ، إذا شككنا في حكم إلزاميّ من المولى ، ولم يكن المورد من دوران الأمر بين المحذورين ، سواء كان منشؤه عدم النص ، أو إجماله ، أو تعارض النصين في غير الخبرين مطلقا ، وفي الخبرين المتعارضين بالعموم ، فهل المرجع هو البراءة أو الاحتياط.

الأمر الثالث : ان خلاف الأخباري مع الأصولي في الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال إنما هو في خصوص الشبهة التحريمية. واما في الشبهة الوجوبية فوافقوا الأصوليين في الرجوع إلى البراءة كما في الشبهة الموضوعية ، نعم خالف فيها المحدث الأسترآبادي ، فالتزم بالاحتياط.

إذا عرفت هذه الأمور فلنشرع في المبحث الأول.

٢٢٦

أصالة البراءة

أدلة البراءة

الأدلة التي استدل بها على لزوم الاحتياط

تنبيهات البراءة

٢٢٧
٢٢٨

المبحث الأوّل :

أدلة البراءة

قد استدل على البراءة بوجوه :

الاستدلال على البراءة بالآيات :

الأول : الآيات ، وهي كثيرة.

منها : قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) فان بعث الرسول بحسب الارتكاز والفهم العرفي كناية عن إيصال الحجة والبيان ، إذ لا أثر لذلك إذا تجرد عن البيان وإعلام العباد بوظائفهم ، وعلى هذا فالمراد من الآية نفي التعذيب والعقاب على مخالفة التكليف ما لم يصل.

وقد أورد على هذا الاستدلال بأن المراد من العذاب في الآية هو الدنيوي ، فالمستفاد منها عدم إنزال العذاب على الأمم السالفة إلّا بعد إتمام الحجة عليهم ، فهي أجنبية عن الدلالة على نفي العقاب من دون بيان.

وفيه : مضافا : إلى انه لو سلم ذلك أمكن استكشاف نفي العذاب الأخروي عند عدم تمامية البيان بالأولوية ، فان العذاب الدنيوي أهون من العذاب الأخروي ، أن جملة ما كانا أو ما كان وما شابهها من هذه المادة ظاهرة في أن الفعل غير لائق بالفاعل ، ولا يناسبه صدوره منه ، وذلك يظهر من استقراء موارد استعمالها ، كقوله

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

٢٢٩

تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ)(١) وقوله عزّ شأنه (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢) وقوله سبحانه (ما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(٣) إلى غير ذلك ، فالمعنى أن التعذيب قبل البيان لا يليق بالله تعالى ، ولا يناسبه جل شأنه ، ولا يفرق حينئذ بين العذاب الدنيوي وغيره.

وبهذا البيان يندفع الإشكال الثاني على الآية ، وهو ان المنفي فيها إنما هو فعلية العذاب لا استحقاقه ، مع ان محل الكلام بيننا وبين الأخباريين هو الثاني ، وذلك لأن لازم عدم مناسبة العذاب قبل البيان وعدم كونه لائقا ان لا يكون في العبد استحقاق لذلك أصلا ، إذ مع فرض الاستحقاق لا وجه لعدم كون التعذيب المزبور لائقا بالله سبحانه.

وبما ذكرناه ظهر عدم الحاجة إلى ما أجاب به الشيخ رحمه‌الله عن الإشكال من أن الخصم يسلم الملازمة بين نفي الفعلية والاستحقاق (٤) ، ليرد عليه الوجهان المذكوران في الكفاية (٥) من أن الاستدلال حينئذ يكون جدليا ، ولا يمكن ان يستند إليه الأصولي المنكر للملازمة ، مضافا إلى أن إثبات الملازمة بعيد جدا ، لا يلتزم به أحد ، فانه ربما ينتفي فعلية العذاب في مورد العصيان اليقيني بشفاعة أو توبة أو مغفرة مع ثبوت الاستحقاق فيها بلا إشكال ، وليس ارتكاب الشبهة بأعظم من المخالفة القطعية ، فمن أين تثبت الملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق.

ثم ان إطالة الكلام في الاستدلال بالآيات والروايات ، أو بحكم العقل بقبح

__________________

(١) التوبة : ١١٥.

(٢) آل عمران : ٧٣.

(٣) الأنفال : ١٨٠.

(٤) فرائد الأصول : ١ ـ ٣٥٩ (ط. جامعة المدرسين).

(٥) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٦٧ ـ ١٦٨.

٢٣٠

العقاب بلا بيان لإثبات عدم استحقاق العقاب في فرض عدم البيان ، مما لا وجه له ، فان ذلك مما لم ينكره أحد ، ولا خلاف فيه بين الأصوليين وغيرهم ، فالكبرى مسلمة عند الكل. وانما الخلاف في الصغرى ، حيث ذهب الأخباريون إلى تمامية البيان ، وقيام الحجة على التكاليف الواقعية المحتملة من وجهين.

الأول : العلم الإجمالي بثبوت أحكام إلزامية ، وهو يقتضي الاحتياط.

الثاني : الأخبار الواردة في التوقف عند الشبهة والآمرة بالاحتياط فيها ، فانها بيان وحجة على الواقع المشكوك فيه.

وإذا تم لنا إبطال الوجهين ، بإثبات انحلال العلم الإجمالي بما عثرنا عليه من أحكام في الأخبار ، وبما سنبينه من عدم دلالة أخبار التوقف على وجوب الاحتياط ، وافقنا الأخباري في القول بالبراءة وعدم استحقاق العقاب. فالمهم لنا البحث من ناحيتين.

الأولى : في دلالة تلك الأخبار على وجوب الاحتياط والوقوف عند الشبهة. ونتعرض لهذه الجهة عند ما نذكر أدلة الأخباريين.

الثانية : فيما ورد من الروايات الدالة على جواز الاقتحام عند الشبهة ، وانه لا تعارضها اخبار التوقف على تقدير تسليم دلالتها على وجوب الاحتياط ، وهي اخبار كثيرة.

الاستدلال على البراءة بالروايات

حديث الرفع

منها : حديث الرفع المروي في الخصال بسند صحيح عن حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع عن أمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ،

٢٣١

والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة» (١) وتقريب الاستدلال : ان الإلزام المحتمل ، وجوبا كان أو تحريما ، إذا لم تقم حجة على ثبوته كان داخلا فيما لا يعلم ، فهو مرفوع ظاهرا وان كان ثابتا واقعا ، توضيح ذلك : ان الحكم سواء كان واقعيا أو ظاهريا فأمر وضعه ورفعه بيد الشارع ، فكما ان المولى له ان يجعل الوجوب أو الحرمة واقعا ، كذلك له ان يجعل الوجوب أو الحرمة في ظرف الشك في الواقع ، فإذا لم يفعل مع وجود المقتضى له فقد رفعه. والرفع بهذا المعنى غير مستلزم للتصويب كما هو ظاهر. نعم المرفوع ذات ما لا يعلم ، أي نفس الحكم الإلزامي لا بعنوان كونه واقعيا ، والالتزام بهذا المقدار من المسامحة في الحديث مما لا بد منه ، ولا تنافي بين رفع الحكم في مقام الظاهر وثبوته في الواقع على ما مر عليك بيانه في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

وما ذكرناه هو مراد صاحب الكفاية قدس‌سره من قوله فالإلزام المجهول مما لا يعلمون ، فهو مرفوع فعلا وان كان ثابتا واقعا (٢) ، والمقصود من الفعلية في كلامه هو حال الشك في الواقع ، لا الفعلية الاصطلاحية كما فهمه بعض أعاظم مشايخنا رحمه‌الله (٣).

ثم لا يخفى ان الحكم الظاهري بعد ما عرفت من كونه قابلا للوضع والرفع بنفسه يكون مرفوعا ، وليس رفعه بعدم إيجاب الاحتياط على ما يظهر من كلام الشيخ رحمه‌الله (٤) ، نعم ان ذلك من لوازم رفع الحكم إذ لا معنى لإيجاب الاحتياط في فرض رفع الحكم ظاهرا ، فالمرفوع عند الشك في الحرمة مثلا انما هو نفس

__________________

(١) الخصال : ٢ ـ ٤١٧ ، باب التسعة ، ح ٩ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٦٨.

(٣) نهاية الدراية : ٤ ـ ٣٤ ـ ٣٥.

(٤) فرائد الأصول : ١ ـ ٣٦٤ (ط. جامعة المدرسين).

٢٣٢

الحرمة ، ويلزمه عدم إيجاب الاحتياط لا محالة.

نعم إذا شك في إيجاب الاحتياط في مورد ، ولم يقم عليه حجة كان المرفوع هو إيجاب الاحتياط ، لكنه خارج عن محط كلام الشيخ قدس‌سره في المقام.

وبالجملة المرفوع عند الشك في وجوب شيء أو حرمته هو نفس المشكوك في الظاهر ، ولازمه ثبوت الترخيص في اقتحام الشبهة وعدم وجوب الاحتياط ، فان الأحكام متضادة في مرحلة الظاهر كتضادها في مرحلة الواقع ، فكما ان عدم الإلزام في الواقع يستلزم الترخيص واقعا ، كذلك عدم الإلزام في الظاهر يستلزم الترخيص ظاهرا ، وإذا ثبت الاذن في الاقتحام لا يبقى مجال لاستحقاق العقاب ، فيكون حال الشبهة الحكمية حال الشبهة الموضوعية التي ثبت فيها الاذن بالدلالة المطابقية بقوله عليه‌السلام «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» (١) ونحو ذلك ، فيثبت بحديث الرفع أصالة الحل ، وجواز ارتكاب محتمل الحرمة ، وترك محتمل الوجوب.

ثم لا يخفى ان تمامية هذا الاستدلال مبتنية على أن يكون الموصول (فيما لا يعلمون) كناية عن نفس الحكم ، أو عما يعمه ، لا عن خصوص الفعل الخارجي ، إذ لو أريد منه خصوص الفعل لاختص الحديث بالشبهة الموضوعية ، أعني به ما إذا كان الفعل غير معلوم عنوانا ، بان لا يعلم المكلف ان شرب المائع المعين شرب خمر أو ماء ، ولا يعم الشبهات الحكمية. والوجه في ذلك ان ظاهر الوصف المأخوذ في الموضوع أن يكون من قبيل الوصف بحال نفس الموصوف لا بحال متعلقه ، فلو كان الموصول عبارة عن الفعل الخارجي اختص الحديث بما كان الفعل مجهولا بنفسه لا بحكمه ، فلا يشمل موارد الشبهات الحكمية التي لا يكون عنوان الفعل فيها مجهولا أصلا.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٢ ـ باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١.

٢٣٣

وربما يقال : بان المراد من الموصول هو الفعل ، واستشهد له بأمور.

أحدها : ان المراد منه في بقية الفقرات خصوص الفعل ، إذ لا معنى لتعلق الإكراه والاضطرار بالحكم ، فاتحاد السياق يستدعي أن يكون المراد منه فيما لا يعلمون أيضا ذلك.

وفيه : ان الموصول في جميع هذه الجمل مستعمل في معنى واحد ، وهو الشيء الّذي هو معناه الحقيقي ، والاختلاف انما هو من جهة انطباقه على مصاديقه بحسب اختلاف صلته ، فكأنه قال : رفع الشيء الّذي لا يعلم ، والشيء المضطر إليه ، والشيء المكره عليه ... إلخ ، غاية الأمر ان الشيء المضطر إليه لا ينطبق خارجا إلّا على الأفعال الخارجية ، وهكذا الشيء المكره عليه ، بخلاف الشيء المجهول ، فانه يعم الحكم المجهول أيضا ، فالسياق في الجميع واحد ، والاختلاف انما هو في الانطباق.

ثانيها : ان اسناد الرفع إلى الحكم حقيقي ، واسناده إلى الفعل مجازي ، إذ لا معنى لتعلق الرفع التشريعي بالموجود الخارجي ، لعدم كون رفعه ووضعه بيد الشارع ، فلو أريد بالموصول الفعل الخارجي في جميع الفقرات كان الإسناد في الجميع مجازيا. واما إذا أريد به الحكم في خصوص ما لا يعلمون كان الإسناد بالإضافة إليه حقيقيا ، وبالإضافة إلى سائر الفقرات مجازيا ، وهذا المقدار وان لم يكن فيه محذور في نفيه ، إذ لا مانع من الالتزام بكون الإسنادات المتعددة في الكلام الواحد مختلفة ، فكان بعضها حقيقيا وبعضها مجازيا ، إلّا ان الرفع في الحديث أسند بإسناد واحد إلى عنوان جامع بين جميع المذكورات ، وهو عنوان التسعة ، والمذكورات بعده بيان ومعرف لها ، فإذا كان الإسناد في بعضها حقيقيا وفي غيره مجازيا لزم أن يكون الإسناد الواحد حقيقيا ومجازيا بحسب اختلاف مصاديق المسند إليه ، وهو مستحيل.

وفيه : أولا : انه انما يتم لو أريد بالرفع الرفع التكويني ، فان اسناد الرفع حينئذ

٢٣٤

إلى الفعل الخارجي يكون مجازيا لا محالة. واما إذا أريد به الرفع التشريعي ، كان اسناده إلى الفعل أيضا حقيقيا ، ومعنى رفع الفعل تشريعا عدم جعله موردا للاعتبار المولوي فعلا أو تركا ، نظير قوله عليه‌السلام (لا صيام في السفر) (١) و «لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس» (٢) و «لا ربا بين الوالد والولد» فان معنى رفع هذه الأمور عدم تعلق الاعتبار الشرعي بها ، وعلى هذا يكون اسناد الرفع إلى جميع التسعة حقيقيا ، من دون فرق بين مصاديقها بإرادة الحكم أو الفعل الخارجي منها.

وثانيا : لو سلم كون الرفع تكوينيا ، فإسناد الرفع إلى المذكورات وان كان حقيقيا وإلى ما هو له ، وإلى غيره مجازيا وإلى غير ما هو له ، إلّا ان ذلك بحسب اللب وانحلال الحكم الواحد الكلامي إلى أحكام عديدة ، وأما بحسب اللفظ والإسناد الكلامي فليس الإسناد إلّا إسنادا واحدا ، فان وحدة الجملة تقتضي وحدة الإسناد ، وعليه فالإسناد إذا لم يكن إلى ما هو له كما هو المفروض كان إلى غير ما هو له.

وان شئت قلت : ان الإسناد الواحد إلى المجموع المركب مما هو له ومن غير ما هو له اسناد إلى غير ما هو له ، فإذا أسند إنبات البقل في الكلام إلى الله تعالى وإلى الربيع بإسناد واحد كان الإسناد مجازيا بالضرورة ، وهذا نظير أن يقال : من ان المركب من الداخل والخارج خارج ، وان النتيجة تابعة لأخس المقدمتين.

ثالثها : ان مفهوم الرفع يقتضي أن يكون متعلقه أمرا ثقيلا ، كما في قوله تعالى (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ)(٣) ومن الظاهر ان ما فيه الثقل هو نفس فعل الواجب أو ترك الحرام ، واما مجرد الحكم بالوجوب أو الحرمة فليس فيه ثقل ، وانما هو جعل المكلف

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٧ ـ باب ١١ من أبواب من يصح منه الصوم ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ ـ باب ٣٨ من أبواب المواقيت ، ح ١ ، ٢.

(٣) الانشراح : ٢.

٢٣٥

في الضيق بتحميل الفعل أو الترك عليه ، ومن ثم يعبر عنه بالتكليف ، وعليه فلا بدّ من ان يراد بالموصول في جميع الفقرات الفعل دون الحكم.

وفيه : ان الثقل وان كان في متعلق التكليف دون نفسه ، إلّا ان الرفع كما يصح اسناده إلى ما فيه الثقل يصح اسناده بلا مسامحة إلى السبب الموجب له ، أو الأثر المترتب عليه ، فيقال : رفع الإلزام ورفع المؤاخذة ، وعليه فلا مانع من اسناد الرفع إلى نفس الحكم.

رابعها : ان الرفع والوضع متقابلان تقابل التضاد ، أو العدم والملكة ، فهما يتواردان على مورد واحد ، ومن الظاهر ان متعلق الوضع انما هو الفعل أو الترك على ذمة المكلف ، فلا مناص من كون متعلق الرفع كذلك.

وفيه : انه انما يتم إذا كان ظرف الرفع أو الوضع ذمة المكلف : واما إذا كان ظرفه الشرع كان متعلقهما هو الحكم لا محالة ، وظاهر الحديث ان ظرف الرفع هو الإسلام ونفس الشريعة ، فيكون المرفوع هو الحكم.

خامسها : انه لا إشكال في شمول الحديث للشبهات الموضوعية ، فالموصول فيما لا يعلمون قد أريد به الفعل يقينا ، فلو أريد به الحكم أيضا لزم استعماله في معنيين ، وهو خلاف الظاهر لو لم يكن مستحيلا.

وفيه : أولا : ان الموصول كما عرفت دائما يستعمل في معنى واحد ، وهو مفهوم الشيء ، فقد ينطبق على الفعل ، وقد ينطبق على الحكم ، فالاختلاف في المصداق دون المفهوم.

وثانيا : ان شمول الحديث للشبهات الموضوعية لا يقتضي إرادة الفعل من الموصول ، لجواز إرادة الحكم منه أيضا ، فالحكم المجهول مرفوع مطلقا ، سواء كان سبب الجهل به عدم الحجة على التكليف أو اشتباه الأمور الخارجية.

فتلخص مما ذكرناه عدم تمامية شيء مما ذكروه لاختصاص الحديث

٢٣٦

بالشبهات الموضوعية ، فلا موجب لرفع اليد عن عمومه للشبهات الحكمية. كما ظهر مما ذكرناه عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ، ولا الأثر الظاهر ، ولا غير ذلك ، بعد تعلق الرفع بنفس الحكم ، وعليه فيعم الحديث الحكم الوضعي المجهول أيضا ، فإذا شك في جزئية شيء أو شرطيته أو مانعيته لجرى فيه حديث الرفع ، فان كلا منها حكم مجهول. هذا وسيأتي البحث عن معارضة الحديث مع اخبار الاحتياط.

بقي الكلام في فقه الحديث. والكلام فيه يقع في ضمن تنبيهات.

التنبيه الأول : انه ربما يشكل في الرواية بان الرفع ظاهر في إزالة الشيء الثابت ، بخلاف الدفع ، فانه عبارة عن سد باب المقتضى عن التأثير ، وعليه فكيف صح استعمال الرفع في المقام مع عدم ثبوت تلك الأحكام في زمان.

وأجاب المحقق النائيني قدس‌سره عن ذلك بان الرفع مساوق في المعنى مع الدفع دائما (١) لما بين في مبحث الضد من ان الممكن كما يحتاج إلى المؤثر في حدوثه كذلك يحتاج إليه في بقائه ، وعلة الحدوث لا تكفي في البقاء أبدا ، فالرافع دائما يزاحم المقتضى في تأثيره في الأكوان المتجددة ، وهذا هو معنى الدفع. نعم على القول بكفاية العلة المحدثة في بقاء المعلول كان الرفع مغايرا للدفع ، لكنه باطل كما عرفت في محله.

والتحقيق : ان ما أفاده وان كان صحيحا ، إلّا انه لا يستلزم اتحاد مفهوم الرفع والدفع ، لإمكان دعوى اختلافهما بوضع لفظ الرفع لخصوص المنع على تأثير المقتضى بقاء بعد فرض وجود المقتضى وحدوثه ، ووضع لفظ الدفع للمنع عن التأثير حدوثا.

فالصحيح : ان يجاب عن ذلك بأحد وجهين.

أحدهما : أن يقال : ان إطلاق الرفع في الحديث انما هو باعتبار ثبوت تلك

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ٣٣٧.

٢٣٧

الأحكام في الشرائع السابقة ولو بنحو الموجبة الجزئية ، ويستظهر ذلك من اختصاص الرفع في الحديث بالأمة المرحومة ، فلا عناية في استعمال الرفع فيها

ثانيهما : أن يقال : ان الرفع كما يصح استعماله في إزالة الشيء بعد وجوده كذلك يصح استعماله فيما إذا تحقق المقتضى القريب لوجوده فزاحمه ما يمنعه عن التأثير ، مثلا إذا تحقق سبب قتل شخص حتى أوقف تحت السيف فعفي عنه صح أن يقال عرفا ارتفع عنه البلاء ، واستعماله في الحديث يمكن أن يكون من هذا القبيل.

التنبيه الثاني : ان الرفع بالنسبة إلى ما لا يعلمون رفع ظاهري ، ولا منافاة بينه وبين ثبوت الحكم واقعا كما مر ، فلو كان في البين عموم أو إطلاق مثبت للتكليف لارتفع به الجهل ، فلا يبقى موضوع لحديث الرفع بالحكومة أو الورود. كما انه إذا عثرنا على الدليل المثبت للتكليف بعد العمل بحديث الرفع استكشف به ثبوت الحكم في الواقع من أول الأمر ، فإذا شككنا في جزئية شيء أو شرطيته للصلاة ، وبنينا على عدمها تمسكا بالحديث ، ثم بان لنا الخلاف فالاكتفاء بالفاقد المأتي به مبني على اجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي ، أو على جريان حديث لا تعاد في مثل ذلك. واما الرفع في بقية الفقرات فهو واقعي ، فلو فرض ثبوت عموم أو إطلاق مثبت للحكم في هذه الموارد لا بد من تخصيصه بحديث الرفع ، ويترتب على ذلك كون ارتفاع تلك العناوين موجبا لتبديل الحكم من حينه ، فيجزي المأتي به حال الاضطرار. وهذه ثمرة مهمة نافعة في باب الخلل وغيره.

التنبيه الثالث : لا اختصاص لحديث الرفع بالاحكام التكليفية ، بل يعم الأحكام الوضعيّة : كما لا اختصاص له بمتعلقات الأحكام ، بل يجري في الموضوعات أيضا ، بيانه : ان فعل المكلف كما يقع متعلقا للتكليف يقع موضوعا له ، فإذا اضطر المكلف أو أكره على إيجاد موضوع التكليف كالإفطار في نهار شهر رمضان الّذي هو موضوع لوجوب الكفارة ارتفع عنه حكمه ، لأنه مرفوع في عالم التشريع. واما إذا

٢٣٨

اضطر أو أكره على إيجاد المتعلق ففيه تفصيل ، بيان ذلك : ان متعلق التكليف ان كان هو الكلي الساري المعبر عنه بما أخذ فيه مطلق الوجود ، كما في المحرمات المنحلة إلى أحكام عديدة ، فطرو أحد هذه العناوين على فرد من افراد الطبيعة يسقط التكليف المتعلق بذلك الفرد ، والوجه في ذلك ظاهر. واما إذا كان المتعلق هو الكلي الطبيعي على نحو صرف الوجود كما في التكاليف الإيجابية فطرو أحد هذه العناوين على فرد من ذلك الكلي لا أثر له في ارتفاع الحكم عن متعلقه أصلا ، وذلك لأن ما طرأ عليه العنوان وهو الفرد لا حكم له على الفرض ، وما هو متعلق الحكم وهو الطبيعي لم يطرأ عليه العنوان ، فإذا اضطر المكلف إلى ترك الصلاة في جزء من الوقت لم يسقط الوجوب عن طبيعي الصلاة المأمور بها في مجموع الوقت بالضرورة ، وهذا نظير ما إذا وجب إكرام عالم ما ، فاضطر المكلف إلى ترك إكرام زيد بخصوصه ، فانه لا يوجب سقوط الوجوب عن الطبيعي المأمور به. نعم لو اضطر إلى ترك الطبيعة في تمام الوقت أو في خصوص آخره فيما إذا لم يأت به قبل ذلك كان التكليف ساقطا لا محالة. هذا كله في التكاليف الاستقلالية.

وبما بيناه ظهر الحال في التكاليف الضمنية ، فلو اضطر المكلف إلى ترك جزء أو شرط من المركب ، أو إيجاد مانع في فرد لا يرتفع به التكليف المتعلق بذلك الجزء أو الشرط أو المانع ، لما تقدم من ان متعلق التكليف لم يتعلق به الاضطرار وان ارتفع به حرمة إبطال العمل من تلك الناحية ، فالإتيان بالناقص حينئذ لا يكون مجزيا مع التمكن من إيجاد فرد تام من بقية الافراد. نعم لو كان الاضطرار مثلا مستوعبا لتمام الوقت سقط التكليف المتعلق بالمركب المشتمل على المضطر إليه. وهل يجب الإتيان بغير ما اضطر إليه مما اعتبر في الواجب؟ ربما يقال به ، نظرا إلى ان المرفوع بحديث الرفع انما هو خصوص الأمر أو النهي الضمني المتعلق بالمضطر إليه ، فيبقى الأمر بغيره على حاله.

٢٣٩

وان شئت قلت : ان المرفوع انما هو خصوص جزئية المضطر إليه أو شرطيته أو مانعيته ، واما غيره فلا موجب لرفع اليد عن وجوبه.

ولكن الصحيح : ان الأمر والنهي الضمنيين لا يرتفعان إلّا بارتفاع أصل التكليف ، لأنهما تابعان له حدوثا وبقاء ، كما ان الحكم الوضعي المنتزع عن الحكم التكليفي المتعلق بالمجموع كالجزئية أو الشرطية أو المانعية لا ترتفع إلّا بارتفاع أصل التكليف الّذي هو المنشأ لانتزاعها ، فإذا ارتفع ذلك التكليف كان إثبات التكليف ببقية الاجزاء محتاجا إلى دليل آخر ، مثلا لو اضطر إلى التكلم في الصلاة ، أو أكره على الصلاة إلى غير القبلة في تمام الوقت ، فالصلاة إلى القبلة أو الخالية عن كلام الآدمي لا تكون واجبة عليه بحديث الرفع ، واما الصلاة إلى غير القبلة أو المشتملة على كلام الآدمي فوجوبها يحتاج إلى دليل آخر ، ولا يكفي في ثبوته حديث الرفع ، لما عرفت من انه لا يترتب عليه إلّا رفع الحكم الثابت للمجموع ، واما ثبوت الحكم لغيره الفاقد لبعض القيود فحديث الرفع أجنبي عنه بالكلية. ويمكن دعوى ثبوت الدليل في خصوص الصلاة لقوله عليه‌السلام «لا تدع الصلاة على حال» (١) واما غيرها من العبادات كالصوم أو الحج ، فالحكم بوجوب الفاقد لقيد لأجل الاضطرار أو الإكراه لا بد فيه من التماس دليل خاص يدل عليه.

فان قلت : ان من آثار الإخلال ببعض ما اعتبر في الواجب وجوب قضائه بعد الوقت ، فإذا تحقق الإخلال اضطرارا كان مرفوعا بحديث الرفع ، فلا محالة يكون العمل معه صحيحا ، إذ لا نعنى بالصحّة إلّا إسقاط القضاء ، فالاضطرار إلى ترك جزء أو شرط إذا كان مستوعبا للوقت كما انه يوجب سقوط الوجوب عن المشتمل على ذلك الجزء أو الشرط بحديث الرفع ، كذلك يوجب سقوط القضاء عند الإتيان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢ ـ باب ١ من أبواب الاستحاضة ، ح ١.

٢٤٠