دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

الوجه الثالث : من الوجوه العقلية ما حكى عن صاحب الحاشية (١) ، وحاصله : انا نعلم علما قطعيا بلزوم الرجوع إلى السنة بحديث الثقلين وغيره مما دل على ذلك ، فيجب علينا العمل بما صدر من المعصومين عليهم‌السلام فان أحرز ذلك بالقطع فهو ، وإلّا فلا بد من الرجوع إلى الظن في تعيينه ، ونتيجة ذلك وجوب الأخذ بما يظن بصدور.

وفيه : ما ذكره المحقق النائيني تبعا للشيخ رحمه‌الله من رجوعه اما إلى الوجه الأول ، واما إلى دليل الانسداد (٢) فانه ان أراد بالسنة الروايات الحاكية لقول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره ، فلا دليل على وجوب العمل بها عقلا غير دعوى العلم الإجمالي بصدور جملة منها ، وهذا عين الأول. وان أريد بها نفس قول المعصوم ، أو فعله ، أو تقريره فوجوب العمل بها وان كان أمرا ضروريا لكنه لا ملازمة بينه وبين وجوب العمل بالأخبار الحاكية للسنة ، المحتمل عدم مطابقتها للواقع إلّا مع ضم بقية مقدمات الانسداد إلى دعوى العلم ببقاء التكليف ولزوم العمل بما صدر عن المعصومين واقعا.

ومن هذا يظهر فساد ما أفاده في الكفاية (٣) من عدم رجوع هذا الوجه إلى أحد الأمرين المزبورين ، وانه وجه مستقل برأسه ، زعما منه ان القائل به يدعى وجوب الرجوع إلى نفس الاخبار الحاكية مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي بصدور بعضها وعن تمامية مقدمات الانسداد ، وجه الظهور : انه لا وجه لدعوى القطع بوجوب العمل بما يحتمل مخالفته للواقع إلّا الجعل الشرعي ، المفروض عدم ثبوته في المقام ، أو العلم الظني عند عدم التمكن من القطعي ، ومع قطع النّظر عن جميع ذلك لا

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٩٨.

(٢) فوائد الأصول : ٣ ـ ٢١٢ ـ ٢١٣ ، فرائد الأصول : ١ ـ ٢١٩ (ط. جامعة المدرسين).

(٣) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٠٧.

٢٠١

موجب لدعوى القطع المزبور أصلا.

ثم لا يخفى ان في عبارة الكفاية (١) في المقام اشتباها في نقل كلام الشيخ رحمه‌الله فان المذكور في كلام الشيخ جعل الأمر مرددا بين الاحتياط والعمل بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته وبين العمل بما ظن صدوره ، وقد جعل طرف الاحتياط في عبارة الكفاية هو العمل بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته ، مع انه بنفسه عبارة أخرى عن الاحتياط ، لا شيء يقابله.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٠٥.

٢٠٢

المبحث السادس :

حجية مطلق الظن

وقد استدل عليه بوجوه أربعة ، كلها عقلية.

الأول : ما في الكفاية (١) وحاصله : ان الظن بالتكليف يستلزم الظن بالضرر في مخالفته ، وقد استقل العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ، سواء قلنا بالحسن والقبح العقليين أم لم نقل ، فان التحرز عن الضرر المظنون بل المحتمل جبلي كل عاقل ، بل فطر عليه كل ذي شعور.

وقد أجيب عنه بأجوبة. والصحيح منها : منع الصغرى في جملة من الموارد ، والكبرى في موارد أخر. فانّ الضرر ان أريد به الضرر الأخروي فالصغرى ممنوعة ، وان كانت الكبرى مسلمة ، إذ لا ملازمة بين ثبوت التكليف الواقعي واستحقاق العقوبة على مخالفته ليكون الظن بأحدهما مستلزما للظن بالآخر ، وإلّا لكان احتمال ثبوت التكليف مستلزما لاحتمال الضرر ، ودفع الضرر المحتمل أيضا لازم عقلا ، فالكبرى أوسع دائرة مما ذكره المستدل ، ولذلك وجب الاحتياط في الشبهة البدوية قبل الفحص ، وفي أطراف العلم الإجمالي ، فلو وجب رعاية التكليف المظنون وجب رعاية التكاليف المحتملة أيضا ، فلا وجه لتخصيصه بالمظنونات.

لا يقال : ان الضرر المحتمل ، أعني احتمال العقاب عند احتمال التكليف مدفوع

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ظ ١٠٧ ـ ١٠٨.

٢٠٣

بقبح العقاب بلا بيان ، بخلاف الظن بالتكليف المستلزم للظن بالعقاب.

فانه يقال : المراد من البيان كما سيأتي في محله هو قيام الحجة على التكليف ، فما لم يقم حجة عليه كان العقاب على مخالفته عقابا بلا بيان ، وبما ان الظن قد فرض في المقام عدم ثبوت حجيته ، فلا فرق بينه وبين الاحتمال المحض في ان العقاب على مخالفة الواقع في مورد كل منهما عقاب بلا بيان ، نعم لو كان العقاب من لوازم نفس الواقع لا من لوازم وصوله وتنجزه كان الظن به ظنا بالعقاب لا محالة ، إلّا ان لازمه ملازمة احتمال الواقع لاحتمال العقاب ، وهو واضح البطلان.

ومن هنا يظهر : فساد ما في الكفاية (١) من ان العقل وان لم يكن مستقلا باستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف المظنون ، ولكنه غير مستقل بعدمه أيضا ، فالعقاب حينئذ يكون في مورده محتملا ، والعقل حاكم بلزوم دفع الضرر المحتمل. وجه الظهور : انه لا معنى لتردد العقل في موضوع حكمه المستقل فيه ، بل هو في مثل الفرض يستقل بعدم استحقاق العقاب ، لكونه من آثار مخالفة التكليف المنجز ، وقد فرض عدم كون الظن حجة ومنجزا ، فكيف يحتمل العقل استحقاق العقاب على المخالفة الواقعية مع انه بلا بيان.

وان أريد بالضرر الضرر الدنيوي ، فالدليل أخص من المدعى ، لأن التكاليف الوجوبية ليس في مخالفتها إلّا تفويت المصلحة ، بناء على ما هو المعروف من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، فليس في مخالفة التكليف الوجوبيّ المظنون إلّا الظن بفوات المصلحة ، لا الظن بالضرر ، فالصغرى حينئذ ممنوعة. اللهم إلّا ان يدعى لزوم جلب المصلحة اللزومية المظنونة وقبح تفويتها عقلا ، كما يدعى لزوم دفع الضرر المظنون ، لكنها دعوى محضة لا شاهد عليها أبدا.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٠٨ ، ١١٠.

٢٠٤

واما التكاليف التحريمية ، فما يكون منها ناشئا عن المفاسد النوعية كأكل مال الغير غصبا ، وقتل النّفس ، وأمثال ذلك مما ليس في ارتكابه ضرر دنيوي على الفاعل فالصغرى فيها أيضا ممنوعة ، كما هو ظاهر. وأما ما يكون منها ناشئا عن مفسدة شخصية ، كشرب المسكرات ، وأكل السموم ونحوهما مما يكون في ارتكابه ضرر على الفاعل ، ونقص في بدنه أو عرضه أو ما له ، فالظن بالضرر وان كان موجودا عند مخالفة كل منها إذا كانت مظنونة ، إلّا انه لا دليل على وجوب دفع الضرر في هذه الموارد وغيرها مما لم يكن التكليف المظنون متنجزا بمنجز عقلي أو شرعي ، ضرورة انه لا مقتضى حينئذ لعقاب أخروي أو ذم عقلائي على ارتكاب ذلك زائدا على ما يقع فيه المرتكب من الضرر الدنيوي ، نعم ربما يكون ذلك موجبا للوم ، ولكنه غير ملازم للحرمة ، وكثيرا ما يلام الإنسان على فعل ما ليس بمحرم لا شرعا ولا عقلا.

ومما يدل على ذلك ان الظن بالضرر في أمثال هذه الموارد كثيرا ما يتحقق في موارد الشبهات الموضوعية ، مع انه لم يتوهم أحد فيها وجوب الاحتياط ، فلو كان دفع الضرر المظنون لازما لزم فيها الاحتياط لا محالة. بل يمكن أن يقال : انه لا دليل على حرمة إلقاء النّفس في الضرر الدنيوي المتيقن ، خصوصا إذا كان فيه غرض عقلائي ، فما ظنك بالضرر المظنون أو المحتمل. نعم قد ورد في الشريعة حرمة بعض أقسام الإضرار بالنفس ، كقتل الإنسان نفسه ، كما ورد حرمة ارتكاب ما يخاف ضرره في موارد خاصة لا يمكن انتزاع كبرى كلية منها ، مضافا إلى ان الاعتبار في تلك الموارد بخوف الضرر المجامع للاحتمال أيضا.

الوجه الثاني : ان الأخذ بخلاف الظن ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح ، فيتعين الأخذ بالطرف المظنون.

وفيه : انه انما يتم إذا كان التكليف منجزا ، وتردد الأمر في مقام الامتثال بين الأخذ بالظن والأخذ بخلافه ، كما لو ترددت القبلة بين جهات يظن كون بعضها قبلة ،

٢٠٥

ولم يمكن الاحتياط ، فانه يتعين حينئذ الأخذ بالطرف المظنون ، لقبح ترجيح المرجوح. وأما إذا لم يكن أصل التكليف ثابتا فلا مانع من الرجوع إلى البراءة ، وليس ذلك من ترجيح المرجوح على الراجح كما هو ظاهر.

وبالجملة تمامية هذا الوجه متوقفة على امرين أحدهما : فرض تنجز التكليف ، وثانيهما : عدم التمكن من الاحتياط. فهذا الوجه من إحدى مقدمات دليل الانسداد.

الوجه الثالث : ان العلم الإجمالي بثبوت تكاليف إلزامية وجوبية أو تحريمية يقتضي وجوب الاحتياط في جميع موارد الشبهات ، لكنه غير واجب شرعا ، لأنه عسر ، والعسر منفي في الشريعة ، فلا بد من التبعيض في الاحتياط ، والأخذ بخصوص المظنونات ، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

وفيه : ان هذا الوجه أيضا بعض مقدمات الانسداد ، ولا ينتج ما لم يضم إليه بقية المقدمات ، إذ لقائل أن يدعي انحلال هذا العلم الإجمالي بالظفر ، على ما بين في الروايات المعتبرة الواردة عن الأئمة عليهم‌السلام من الأحكام ، فلا بد من التكلم بنحو الإجمال في الوجه الرابع ، وهو المسمى بدليل الانسداد والبحث فيه تارة : يقع فيما يتألف منه ، وأخرى : في النتيجة المترتبة عليه ، وثالثة : في تمامية المقدمات.

اما ما يتألف منه دليل الانسداد فهو أربعة أمور.

الأول : العلم الإجمالي بثبوت تكاليف فعلية. والمراد بثبوت التكاليف وفعليتها عدم كوننا مهملين كالبهائم ، وان الشارع يريد منا امتثال أحكامه بوجه لا محالة ، وعلى ذلك فالعلم بفعلية التكاليف ، والعلم بعدم كوننا مهملين مرجعهما إلى امر واحد ، ولا وجه لجعل كل منهما مقدمة مستقلة كما صنعه في الكفاية (١) اللهم إلّا أن يراد من المقدمة الأولى العلم بثبوت أصل الشريعة ، لا العلم بفعلية تلك التكاليف في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١١٤ ـ ١١٥.

٢٠٦

حقنا أيضا ، ولكنها على ذلك مستغنى عنها ، وإلّا لزم أن يجعل من المقدمات إثبات الصانع وإثبات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وجوده إلى غير ذلك من المقدمات البعيدة ، التي هي مفروغ عنها في المقام.

الثاني : انسداد الطريق الموصل إلى كثير من تلك الأحكام من العلم والعملي.

الثالث : ان الاحتياط التام في جميع موارد الشبهات على تقدير إمكانه غير واجب أو غير جائز ، لاستلزامه العسر والحرج ، أو اختلال النظام ، كما ان الرجوع فيها إلى الأصول الجارية في كل مورد منها ، أو إلى القرعة ونحوها ، أو إلى فتوى من يرى انفتاح باب العلم أو العلمي غير جائز ، والوجه في جميع ذلك واضح.

الرابع : استقلال العقل بقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، فيجب الأخذ بالمظنونات ، ورفع اليد عن مراعاة احتمال التكليف في غيرها.

واما النتيجة : المترتبة على هذه المقدمات فهي تختلف باختلاف تقرير المقدمة الثالثة ، فانها تارة : تقرر كما ذكرناه من ان عدم وجوب الاحتياط مستند إلى استلزامه العسر والحرج واختلال النظام.

وأخرى : تقرر بوجه آخر بان يقال : ان الشارع لا يرضى بان يبتني أساس الدين وأكثر أحكامه على الاحتياط والامتثال الإجمالي ، والدليل عليه هو الإجماع والضرورة ، فالاحتياط وان كان حسنا في نفسه لكنه ليس على إطلاقه ، بل فيما إذا لم يستلزم ابتناء أصل الشريعة عليه ، فانه على هذا التقريب تكون نتيجة المقدمات هي الكشف ، إذ بعد فرض بقاء فعلية الأحكام ، وانسداد باب العلم والعلمي فيها ، وعدم اكتفاء الشارع في امتثالها بالامتثال الإجمالي يستكشف لا محالة ان الشارع جعل لنا حجة وطريقا توصلنا إلى تلك التكاليف الثابتة في حقنا ، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق ، وبعد حصر الطريق في الظن كما مر بيانه يستكشف حجيته ، فيكون الظن المطلق حجة كالظن الخاصّ. واما القول بعدم لزوم جعل الحجة على الشارع لاحتمال

٢٠٧

إيكاله المكلف إلى حكم العقل فلا يتم القول بالكشف فهو واضح البطلان ، لأن العقل لا شأن له سوى الإدراك ، ولا معنى لجعله ما ليس بحجة في نفسه حجة ، وقد فرضنا الحاجة إلى جعل الحجة لئلا يلزم التكليف بما لا يطاق ، فلا مناص من الالتزام بجعل الشارع الظن حجة موصلة إلى أحكامه. فظهر ان التقريب المزبور هو مبنى القول بالكشف وأساسه الوحيد.

واما لو قربنا المقدمة بالتقريب الآخر المتقدم وقلنا : بان الاحتياط التام غير جائز ، أو غير واجب لاستلزامه العسر والحرج ، أو اختلال النظام ، فلا طريق إلى كشف العقل حجية الظن من قبل الشارع بعد حكمه بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف وتركه في غيرها ، فان عدم جواز الاحتياط التام ، أو عدم وجوبه لا ينافي وجوبه في الجملة ، توضيح ذلك ان العقل الحاكم في باب الامتثال يلزم المكلف بإحرازه الإتيان بما هو الواقع أما تفصيلا ، أو إجمالا بالإتيان بجميع أطراف المحتملات ، فان تعذر ذلك فلا محالة يحكم بالتبعيض في الاحتياط ، وتضييق دائرته بالاكتفاء بالامتثال الظني بالإتيان بالمظنونات والمشكوكات ، وبه يحصل الامتثال الظني ، فان تعذر ذلك أيضا فيأتي بجميع المظنونات ، فلا محالة يكون الامتثال شكيا ، وان تعذر ذلك أيضا فيأتي ببعض المظنونات على الترتيب في مراتبها ، وهذا هو المراد بالحكومة في المقام.

واما ما تقدم نقله من الكفاية (١) من استقلال العقل بحجية الظن فهو امر مستحيل ثبوتا ، فلا مجال للبحث عنه إثباتا ، بيان ذلك : ان جعل التكاليف والأحكام من وظيفة المولى ، والعقل قد استقل بقبح مخالفتها بعد البيان ، كما انه استقل بقبح العقاب عليها بلا بيان ، والبيان امر وجداني يفهمه كل أحد ، فانه عبارة عن وجود

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١١٥.

٢٠٨

الحجة على التكليف ، وكما يكون البيان أمرا ذاتيا غير محتاج إلى الجعل كالقطع ، يكون أمرا جعليا كالأمارات وغيرها ، والجعل بيد المولى ، والعقل بمعزل عن ذلك ، إذ ليس وظيفته التشريع ، فلا معنى لجعله الظن حجة بعد عدم كونه حجة في نفسه. نعم يحكم العقل بلزوم امتثال التكليف الواصل ، ففيما نحن فيه يستقل العقل بلزوم الاحتياط التام أو الناقص. وبالجملة معنى الكشف في المقام كشف العقل عن تمامية المقدمات المزبورة حجية الظن شرعا ، ومعنى الحكومة حكمه بلزوم الامتثال الظني عن تعذر الامتثال القطعي ، وبين الأمرين بون بعيد.

فظهر بما ذكرناه ان منشأ القولين أعني الكشف والحكومة هو اختلاف التقريبين كما عرفت. والنتيجة على كلا التقديرين مهملة ، فعلى الأول لا بد من الاقتصار على المتيقن ، فلو كان الظن الاطمئناني وافيا بمعظم الفقه لم يبق مجال للرجوع إلى الظن النازل منه ، فلا يستكشف حينئذ حجية غيره إلّا إذا لم يكن الاطمئناني وافيا ، وهكذا فالترتيب في مراتب الظنون يكون من العالي إلى الداني. واما على الثاني فينعكس الأمر ، والترتيب يكون من الداني إلى العالي ، فأولا يحكم بطرح الموهومات ثم المشكوكات ثم المظنون بالظن الضعيف وهكذا.

ثم لا يخفى انه يمكن أن يكون مراد المحقق الخراسانيّ قدس‌سره من الحكومة في المقام ما أشرنا إليه ، لا ما ذكره سابقا من استقلال العقل بحجية الظن ، والشاهد عليه ما ذكره في أواخر المبحث من الكفاية (١) ، وهو عدم إمكان استكشاف حكم الشارع من الحكم العقلي في المقام بقاعدة الملازمة ، لأنه حكم في مرحلة الامتثال والتبعيض في الاحتياط ، وربما يظهر هذا من بعض كلمات الشيخ قدس‌سره.

ثم ان كشف العقل عن حجية الظن شرعا ، أو حكمه بلزوم التبعيض في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٣٧.

٢٠٩

الاحتياط انما هو في الموارد التي لم يعلم اهتمام الشارع بها ، كما في موارد الدماء والفروج بل الأموال الخطيرة. واما فيها فلا مجال للكشف المزبور ، فان العلم بعدم رضاء الشارع بالاحتياط في معظم أحكامه ، وعدم ابتناء امر الشريعة على الامتثال الاحتمالي لا ينافي وجوب الاحتياط في موارد خاصة ، كما ان العقل عند عدم التمكن من الامتثال القطعي في جميع الموارد لا يتنزل إلى الامتثال الظني مطلقا ، بل يحكم بوجوب الامتثال القطعي في الموارد المهمة ، وينزل إلى الامتثال الظني في غيرها.

هذا كله في تقريب المقدمات وبيان نتيجتها.

واما تحقيق أصل المقدمات :

فالمقدمة الأولى : بيّنة بديهية ، فان العلم الإجمالي بوجود تكاليف فعلية بعثية أو زجرية يقتضي التعرض لامتثالها ، ولا يجوز الرجوع إلى البراءة في جميعها ، حتى بناء على ما سلكه صاحب الكفاية رحمه‌الله من عدم تنجيز العلم الإجمالي فيما إذا لم يتمكن المكلف من الموافقة القطعية للاضطرار إلى بعض أطرافه (١) تركا أو فعلا ، فان ذلك انما هو فيما إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال واحدا أو اثنين ونحوهما مما لا يلزم من المخالفة في مورده محذور الخروج من الدين. واما في مثل المقام مما كان الرجوع إلى البراءة مستلزما لتجويز المخالفة في معظم الأحكام الشرعية المعبر عنها بالخروج عن الدين فلا يجوز الرجوع فيه إلى البراءة قطعا ، نعم وجوب التعرض لامتثال الأحكام في الجملة على مسلك تنجيز العلم الإجمالي حتى مع الاضطرار إلى بعض الأطراف مستند إلى قصور شمول أدلة الأصول للمقام ، واما على ما سلكه في الكفاية فهو مستند إلى استكشاف أهمية الشارع بأحكامه ، وعدم رضائه بمخالفتها كلية.

هذا وقد ذكرنا ان منشأ العلم الإجمالي بالتكاليف يكون أحد أمور ثلاثة :

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢١٦.

٢١٠

الأول : اليقين بثبوت الشريعة ، فان الشرع يستلزم أحكاما وتكاليف.

الثاني : العلم الإجمالي بمطابقة جملة من الأمارات للواقع ، إذ من المستحيل عادة كذب جميعها.

الثالث : العلم بصدور جملة من الاخبار المدونة في الكتب المعتبرة خصوصا بعد ملاحظة اهتمام مؤلفيها.

وهذه العلوم الثلاثة ينحل بعضها ببعض ، فتكون أطراف العلم الإجمالي خصوص الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة ، ويتضح لكل من تصدى للاستنباط ان الاحتياط في موارد الاخبار المذكورة لا يكون عسرا ولا حرجيا ، ولا يلزم من الرجوع في غيرها إلى الأصول العملية خروج عن الدين ، ولا مخالفة قطعية. فهذه المقدمة عقيمة.

واما المقدمة الثانية : وهي انسداد باب العلم والعلمي. فبالنسبة إلى انسداد باب العلم تامة ضرورية. وبالنسبة إلى انسداد باب العلمي فصحتها تبتني على أحد امرين على سبيل منع الخلو ، اما دعوى عدم حجية روايات الآحاد الثابتة في الكتب المعتبرة سندا ، سواء كان ذلك من جهة عدم الوثوق بها أم كان لأجل البناء على عدم حجية الخبر الموثوق ، واما دعوى عدم حجية ظواهرها ، لاختصاصها بالمقصودين بالإفهام مع عدم كوننا منهم ، فعلى كل من التقديرين ينسد علينا باب العلمي ، ولكنا أثبتنا حجيتها سندا وظهورا بالبيان المتقدم ، فلا نعيد. وهذه الاخبار وافية بمعظم الفقه ، وبها ينحل العلم الإجمالي ، فلا يتم الانسداد. ومع التنزل عن ذلك بدعوى عدم انحلال العلم الإجمالي بها لثبوته في غير موارد الاخبار من الشبهات أيضا ، فعلى مسلك المحقق الخراسانيّ قدس‌سره من سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز عند الاضطرار إلى بعض الأطراف غير المعين لا مانع من الرجوع إلى الأصول العملية في غير موارد تلك الاخبار ، لعدم استلزام ذلك الخروج عن الدين بعد وجوب العمل

٢١١

بتلك الاخبار. واما على مسلك الشيخ رحمه‌الله ومن تبعه من لزوم رعاية العلم الإجمالي في غير المقدار المضطر إليه ، فلا بد من الاحتياط ، ورعاية التكاليف الثابتة في غير موارد تلك الاخبار ، فان أمكن وإلّا فلا مناص من التنزل إلى الامتثال الظني.

واما المقدمة الثالثة : أعني بها عدم وجوب الاحتياط التام ، وبطلان الرجوع إلى التقليد أو إلى القرعة ونحوها ، وعدم جواز الرجوع إلى الأصل العملي الجاري في كل مورد من موارد الشبهات ، فتفصيل الكلام فيها : ان بطلان التقليد واضح ، بعد ما يرى القائل بالانسداد خطأ القائل بانفتاح باب العلم ، ويعتقد فساد مدركه ، فان الرجوع إليه حينئذ يكون في نظره من رجوع العالم إلى الجاهل. وكذا الرجوع إلى القرعة ونحوها ، فانها ليست من الطرق المقررة لاستنباط الأحكام بالضرورة.

واما الاحتياط في جميع الشبهات ، فان كان مخلا بالنظام فلا خلاف في قبحه عقلا ، وعدم وجوبه شرعا ، بل وعدم مشروعيته ، لأدائه إلى ترك جملة من الواجبات في كثير من الموارد. واما ان كان موجبا للعسر والحرج ، ففي نفي لزومه بها خلاف ، فظاهر الكفاية (١) هو العدم ، لمنعه حكومة قاعدة نفي الضرر والحرج على قاعدة الاحتياط ، بدعوى : ان ظاهر الآية وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا ضرر ولا ضرار» (٢) ونحو ذلك انما هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، وهذا هو محل الخلاف بينه وبين شيخنا الأنصاري قدس‌سره فانه بنى على ان مفادها نفي الحكم الّذي ينشأ من قبله الضرر أو العسر أو الحرج ابتداء (٣) فمعنى قوله عليه‌السلام «لا ضرر» ان الحكم الّذي ينشأ منه الضرر غير مجعول ، والمحقق الخراسانيّ رحمه‌الله ذهب إلى ان الحكم لا يكون ضرريا ولا حرجيا ولا عسرا وانما هي في الأفعال الخارجية ، فالنفي بحسب ظاهر الأدلة يكون

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١١٨ ـ ١٢٠.

(٢) وسائل الشيعة : ١٧ ـ باب ٧ من أبواب إحياء الموات ، ح ٢.

(٣) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٣٤ ـ ٥٣٥ (ط. جامعة المدرسين).

٢١٢

متوجها إليها ، غاية الأمر ان النفي التكويني بما انه لا معنى له فلا محالة يكون النفي تشريعيا ومتعلقا بالحكم بلسان نفي الموضوع ، نظير قوله عليه‌السلام «لا ربا بين الوالد والولد» فان المنفي فيه هو حرمة الرّبا لا نفسه ، وعلى هذا ينحصر مورد هذه الجملة بما إذا كان الفعل حرجيا أو ضرريا ، ولا يعم الحكم إذا كان ضرريا أو حرجيا بنفسه ، فهي على المسلك الأول تكون أعم موردا منها على المسلك الثاني. ويظهر الثمرة بينهما في مثل البيع الغرري ، فان الضرر فيه ناشئ من نفس حكم الشارع باللزوم ، فعلى مسلك الشيخ رحمه‌الله ينتفي اللزوم بحديث لا ضرر ، وهذا بخلاف مسلك المحقق الخراسانيّ قدس‌سره.

وكيف كان فقد ذهب صاحب الكفاية إلى عدم حكومة قاعدة نفي الحرج والضرر على الاحتياط المستلزم لهما ، بناء منه على ما أسسه من اختصاص القاعدة بما إذا كان الفعل حرجيا أو ضرريا ، وتوضيح ذلك : ان العسر أو الحرج اللازم من الاحتياط انما يكون ناشئا من الجمع بين المحتملات ، ومن الواضح انه ليس للشارع حكم بالجمع ليرتفع عند استلزامه الحرج أو الضرر ، وانما هو أمر لازم بحكم العقل ، واما ما تعلق به التكليف الشرعي واقعا المردد في أطراف الشبهة فليس حرجيا ولا ضرريا ، وعليه فلا بد من العمل بالاحتياط ولو فيما استلزم الحرج أو الضرر. نعم بناء على ما سلكه الشيخ رحمه‌الله كانت القاعدة حاكمة على وجوب الاحتياط أيضا ، فانه وان كان عقليا إلّا انه ناشئ من بقاء الحكم الواقعي على حاله وعدم سقوطه ، فما هو المنشأ للضرر أو الحرج انما هو الحكم الشرعي ، فلا محالة يكون هو المرتفع بقاعدة نفي الضرر أو الحرج ، فيرتفع وجوب الاحتياط بارتفاع موضوعه.

والتحقيق : انه لا ثمرة بين المسلكين في أمثال المقام مما كانت أطراف الشبهة فيه من التدريجيات ، فإذا فرضنا تعلق النذر بصوم يوم معين ، وتردد بين جميع أيام السنة ، وكان الاحتياط حرجيا فان الحرج في مثل الفرض لا محالة يكون في صوم

٢١٣

الأيام الأخيرة من السنة ، وليفرض ذلك الشهر الأخير ، فيعمه أدلة الرفع ، فيعلم حينئذ بعدم ثبوت التكليف به حتى على مختار صاحب الكفاية ، لأنّ التكليف في الواقع ان كان متعلقا بصوم الأيام المتقدمة فقد امتثله المكلف على الفرض ، وان كان متعلقا بالأيام الباقية فنفس متعلقه يكون حرجيا ، فيرتفع بقاعدة نفي الحرج. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان الشبهات التي يلزم من الاحتياط فيها الحرج أو الضرر لا تكون عرضية ، وانما هي طولية لا محالة ، حتى التروك في الشبهات التحريمية ، فلا محالة يكون الاحتياط فيها غير لازم ، فلا فرق بين القولين في المقام. والّذي أوقع صاحب الكفاية فيما ذهب إليه في المقام هو قياس ما كانت الأطراف فيه تدريجية بما كانت الأطراف فيه عرضية مع ان الفرق بينهما ظاهر كما عرفت.

فتحصل : من جميع ما ذكرناه عدم وجوب الاحتياط التام بالإتيان بجميع المحتملات. واما التبعيض في الاحتياط بما لا يلزم منه السعر والحرج ولا اختلال النظام ، فلا بد للقائل بعدم وجوبه ، أو بعدم جوازه من إقامة دليل على ذلك.

وقد ادعى الإجماع والتسالم من الفقهاء على عدم رضا الشارع بالامتثال الاحتمالي في معظم أحكامه ، ولكن إثبات ذلك مشكل جدا.

اما أولا : فلأنّ دعوى الاتفاق في هذه المسألة المستحدثة بين المتأخرين ممنوعة.

وثانيا : بعد تسليم تحقق الاتفاق منهم على ذلك لا يكون كاشفا عن رأي الإمامعليه‌السلام ، إذ من المحتمل قريبا أن يكون مدرك المجمعين هو اعتبار قصد الوجه ، أو التمييز في العبادات ، فلا ينفع من لا يرى وجوبها.

واما ما في هامش الرسائل مما حاصله : ان الإجماع وان لم يكن متحققا قطعا إلّا انه مظنون لا محالة ، والظن به يستلزم الظن بجعل حجة حال الانسداد ، وقد فرضنا انه هو الظن دون غيره ، وسيأتي انه لا فرق في اعتبار الظن على الانسداد بين

٢١٤

الظن بالواقع والظن بالطريق.

فيرد عليه : أولا : ان دعوى الظن بالإجماع كدعوى القطع به ممنوعة.

وثانيا : ان الظن بتحقق الإجماع وان استلزم الظن بحجية الظن شرعا إلّا ان الشأن في حجية هذا الظن. وما ذكره من عدم الفرق في الاعتبار بين الظن بالطريق والظن بالواقع وان كان صحيحا ، لكنه انما يتم بعد الفراغ عن حجية الظن ، واما إثبات حجيته بالظن فهو من قبيل إثبات حجية الشيء بنفسه ، وهو دور واضح.

فتحصل : انه لا دليل على بطلان التبعيض في الاحتياط ، وعليه لو تمت المقدمات كانت النتيجة هو التبعيض في الاحتياط لا محالة.

واما الرجوع إلى الأصول العملية فتفصيل الحال فيه : ان ما كان من الأصول مثبتا للتكليف دائما كقاعدة الاشتغال فلا مانع من جريانها في مواردها. واما الاستصحاب المثبت للتكليف ، فعلى القول بكون المانع عن جريانه في أطراف العلم الإجمالي خصوص المخالفة العملية ، كما هو مختار صاحب الكفاية (١) ، فلا مانع من جريانه ما لم يلزم منه ذلك ، نظير ما لو علم طهارة أحد الإناءين المسبوقين بالنجاسة ، فانه لا يلزم من استصحاب نجاستهما مخالفة عملية ، فكذلك المقام. واما لو قلنا بان العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد بنفسه مانع عن جريان الاستصحاب في أطرافه ، كما هو مختار الشيخ قدس‌سره ، فلا مجال للرجوع إلى استصحاب التكليف في المقام ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه في الجملة وان لم يلزم منه مخالفة عملية.

وما ذكره في الكفاية (٢) من جريانه في المقام حتى على مبنى الشيخ رحمه‌الله

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٢٠ ـ ١٢٢.

(٢) المصدر السابق.

٢١٥

بدعوى : ان تدريجية الاستنباط تستلزم عدم كون شك المستنبط فعليا بالإضافة إلى جميع الأطراف ، فانها لا تكون ملتفتا إليها دفعة ليحصل له شك فعلي بالإضافة إلى الجميع ، بل يكون التفاته إليها تدريجيا ، فكلما التفت إلى حكم كان شكه فيه فعليا فيجري فيه الاستصحاب ، واما ما لم يلتفت إليه فلا يكون موردا للاستصحاب لعدم الشك الفعلي فيه ، فلا يكون العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد مانعا عن جريان الاستصحاب في المقام ، غير تام ، لأن المجتهد وان لم يكن ملتفتا إلى جميع الشبهات التي هي مورد الاستصحاب دفعة واحدة ، إلّا انه بعد استنباط الأحكام ، وجمعها في الرسالة ليس له الإفتاء بجميع ما فيها ، لعلمه إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد التي أجرى فيها الاستصحاب ، فجريان الأصل المحرز المثبت للتكليف في المقام وغيره مبني على المسلكين.

ثم ان موارد الأصول المثبتة بضميمة المعلوم بالتفصيل ان كان وافيا بالمقدار المعلوم بالإجمال انحل بها العلم الإجمالي ، ولا مانع حينئذ من الرجوع إلى الأصول النافية فيما بقي من الأطراف. وان لم يكن وافيا به بان كان فيما عدى تلك الموارد علم بالتكليف ، فلا مانع من الرجوع فيها إلى الأصل النافي ، بناء على مسلك صاحب الكفاية من كون الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي موجبا لسقوطه عن التنجيز ، إذ المفروض في المقام ثبوت الاضطرار إلى ارتكاب بعض أطراف الشبهات. واما بناء على مختار الشيخ رحمه‌الله ومن تبعه من تنجيز العلم الإجمالي في غير المقدار المضطر إليه ، فلا يجوز الرجوع إلى الأصول النافية كما هو ظاهر ، هذا فيما إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال قليلا. واما إذا كان كثيرا بحيث لزم من الرجوع إلى الأصل النافي في أطراف العلم محذور الخروج عن الدين ، فلا يجوز الرجوع إلى الأصول النافية على المسلكين.

فتحصل : من جميع ما تقدم ان المقدمة الأولى وان كانت صحيحة ، ضرورة ان

٢١٦

كل مكلف يعلم بثبوت تكاليف فعلية بعثية أو زجرية ، إلّا ان العلم الإجمالي منحل بما عرفت. واما المقدمة الثانية وهي انسداد باب العلم والعلمي فتماميتها موقوفة على عدم حجية الاخبار ، وقد أثبتنا حجيتها سندا وظهورا. ولو سلمنا عدم انحلال العلم الإجمالي ، ولم نقل بحجية الاخبار الموثوق بها ، فلا تصل النوبة إلى حجية الظن ، لا بنحو الحكومة لما عرفت من عدم معقوليتها ، ولا بنحو الكشف لتوقفه على قيام دليل على بطلان التبعيض في الاحتياط ، ولا دليل عليه. فليست النتيجة إلّا التبعيض في الاحتياط في غير ما يكون مخلا بالنظام ، أو موجبا للحرج ، فلو فرضنا ارتفاع المحذور بإلغاء جملة من الموهومات وجب الاحتياط في بقية الأطراف حتى فيما كان التكليف فيه موهوما ، وإذا لم يرتفع المحذور بذلك ضممنا إلى الساقط بقية الموهومات بل مقدار من المشكوكات إلى حد يرتفع المحذور.

وبالجملة لا بد من الاحتياط في غير ما لزم منه المحذور ، ويختلف ذلك باختلاف الأزمان والأشخاص والموارد ، ففي الموارد التي علم اهتمام الشارع بها لا بد فيها من الاحتياط حتى في الموهومات ، وترك الاحتياط في غيرها لعدم المحذور في ذلك ، فيختص رفع اليد عن الاحتياط بغير تلك الموارد. وعلى ما ذكرناه فلا تصل النوبة إلى البحث عن ان نتيجة دليل الانسداد هل هي حجية الظن بالواقع ، أو بالطريق ، أو الأعم؟ كما لا مجال للبحث عن تقدم الظن المانع على الممنوع وعدمه ، وانه لو قام ظن على الواقع وظن آخر على عدم حجيته فهل يقدم الأول أو الثاني؟ لأن كليهما ليسا بحجة ، ولا للبحث عن خروج الظن القياسي عن موضوع الحجية الّذي هو من عويصات المقام على القول بالحكومة ، لأن تخصيص الحكم العقلي غير جائز إلى غير ذلك من المسائل المبتنية على استنتاج حجية الظن من المقدمات.

٢١٧
٢١٨

مباحث الأصول العملية

أصالة البراءة

أصالة التخيير

أصالة الاحتياط

٢١٩
٢٢٠