دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

تعبدا.

وكيف كان فالصحيح : ان الآيتين نزلتا في علماء اليهود. وقد وردت روايات في تفسير أهل الذّكر بالأئمة الطاهرين عليهم‌السلام ولا يبعد أن يقال : ان أهل الذّكر عنوان عام يشمل الجميع ، ويختلف باختلاف الموارد ، فأهل الذّكر في مقام إثبات النبوة وما وصف الله به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الكتب السماوية هم علماء اليهود والنصارى ، وفي هذا المقام لا يراد الأئمة عليهم‌السلام من أهل الذّكر ، لأن إثبات كونهم من أهل الذّكر فرع ثبوت النبوة ، فكيف يمكن إثباتها بالسؤال عنهم. نعم بعد إثبات النبوة لا بد لمن يريد القرب والزلفى من المولى سبحانه ان يسأل الأئمة عليهم‌السلام فهم أهل الذّكر في هذا المقام ، كما ان أهل الذّكر في عصر الغيبة هم الرّواة بالقياس إلى الفقهاء ، والفقهاء بالإضافة إلى عامة الناس ، فالمعنى واحد والاختلاف في المصاديق باختلاف الموارد. وعلى كل حال لا دلالة في الآية على المطلب لما تقدم.

ومنها : قوله تعالى في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيان صفته الحميدة (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)(١) فمدحه بتصديقه المؤمنين ، فلو لم يكن مطلق تصديقهم أمرا حسنا لما مدح نبيه الأقدس بذلك.

وفيه : أنه لا ملازمة بين تصديق المخبر وبين العمل على طبق قوله ، إذ قد يراد من تصديقه عدم المبادرة والمبارزة له بالتكذيب ، وهذا أمر أخلاقي دلت عليه جملة من الروايات ، كقول الصادق عليه‌السلام : «إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم» (٢) وقوله عليه‌السلام : «كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، فان شهد عندك خمسون قسامة ، وقال : «قولا

__________________

(١) البراءة : ٦١.

(٢) وسائل الشيعة : ٣١ ـ باب ٦ من أحكام الوديعة ، ح ١.

١٨١

فصدقه وكذبهم» (١) ومن الواضح عدم إرادة التصديق العملي من ذلك ، وإلّا لم يكن وجه لتقديم قول الواحد على قول خمسين ، فالمراد بتصديقه عدم المبارزة له بالتكذيب بترتيب أثر الكذب على خبره. ومما يشهد لذلك مورد نزول الآية ، ففي تفسير علي بن إبراهيم القمي انها نزلت في عبد الله بن نفيل ، فانه كان يسمع كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينقله إلى المنافقين ، حتى أوقف الله نبيه على هذه النميمة ، «فأحضره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسأله ، فحلف انه لم يكن شيء مما ينم عليه ، فقبل منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ هذا الرّجل يطعن عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : انه يقبل كل ما يسمع ، أخبره الله اني أنمّ عليه وأنقل اخباره فقبل ، وأخبرته اني لم أفعل فقبل ، فرده الله بقوله لنبيه : قل اذن خير لكم» (٢) ومن المعلوم ان تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمنافق لم يكن إلّا بعدم إظهار تكذيبه.

وقد استشهد الشيخ قدس‌سره على ما ذكرناه باختلاف السياق ، فذكر ان تعدي كلمة يؤمن في الجملة الأولى بالباء وفي الجملة الثانية باللام دليل على اختلاف ما أريد من الإيمان والتصديق (٣).

وفيه : ان الإيمان بمعنى التصديق ، فان كان التصديق متعلقا بوجود شيء فالتعدية تكون بالباء ، ومنه قوله تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ)(٤) وان كان متعلقا بقول الشخص فالتعدية تكون باللام ، ومنه قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا)(٥) وحينئذ فتعدية الإيمان باللام في الآية الكريمة بالإضافة إلى المؤمنين تدل على إرادة تصديق قولهم.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ ـ باب ١٥٧ من أحكام العشرة ، ح ٤.

(٢) تفسير القمي : ١ ـ ٣٠٠.

(٣) فرائد الأصول : ١ ـ ١٨٤ (ط. جامعة المدرسين).

(٤) البقرة : ٢٨٥.

(٥) يوسف : ١٧.

١٨٢

لا يقال : على هذا لا يناسب تعدية كلمة يؤمن في الجملة الأولى بالباء ، فان المصدق به فيها انما كان قوله عزّ شأنه.

فإنه يقال : لما كان لفظ الله عاما لذات الواجب المستجمع لجميع الصفات والكمالات فالتصديق بوجوده ملازم للتصديق بقوله ، فلهذه النكتة جعل المصدق به نفسه تعالى ، وفي ذلك إشارة إلى استلزام الإيمان بذاته الإيمان بقوله ، ولو كانت التعدية باللام لم يستفد منها إلّا الإيمان بالقول فقط. وعلى أي تقدير لا تكون الآية دالة على حجية الخبر.

الاستدلال على حجية خبر الواحد بالروايات :

الوجه الثاني : مما استدل به على حجية خبر الواحد الروايات. وقد رتبها الشيخ قدس‌سره (١) على طوائف أربع.

الأولى : الاخبار الواردة في علاج الاخبار المتعارضة ، وربما تبلغ إلى أربعة عشر خبرا. ومن الواضح ان هذه الاخبار لم ترد في الخبرين المقطوع صدورهما ، لبعد وقوع المعارضة بين مقطوعي الصدور أولا ، ولأن قول الراوي «يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان» (٢) ظاهر في السؤال عن مشكوكي الصدور ثانيا ، مضافا إلى ان المرجحات المذكور فيها لا تناسب تعارض مقطوعي الصدور ، فيظهر من هذه الروايات ان وجوب العمل بالخبر في نفسه كان مفروغا عنه عند الأئمة عليهم‌السلام وأصحابهم ، وانما توقفوا عن العمل من جهة المعارضة ، ولذا أرجعهم إلى المرجحات أو التخيير.

الطائفة الثانية : الاخبار الآمرة بالرجوع إلى اشخاص من الرّواة ، كقوله عليه‌السلام

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ١٨٥ ـ ١٩١ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) عوالي اللئالي : ٤ ـ ١٣٣ ، ح ٣٢٩.

١٨٣

«عليك بالأسدي» (١) يعني أبا بصير وقوله عليه‌السلام «إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس» (٢) مشيرا إلى زرارة وقوله عليه‌السلام «فما يمنعك من الثقفي» (٣) وهو محمد ابن مسلم وقوله عليه‌السلام «عليك بزكريا ابن آدم المأمون على الدين والدنيا» (٤) إلى غير ذلك ، ومن الظاهر ان الإرجاع إليهم لم يكن لمجرد أخذ الفتوى ، بل يعم الرجوع إليهم في الحديث ، كما صرح بذلك في بعضها.

الطائفة الثالثة : الاخبار الآمرة بالرجوع إلى ثقاتهم بهذا العنوان كقوله عليه‌السلام «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا» (٥).

الطائفة الرابعة : الاخبار الواردة بألسنة مختلفة التي يمكن استفادة المطلوب منها.

ثم لا يخفى ان الاستدلال بهذه الاخبار على حجية خبر الواحد انما يتم بعد ثبوت تواترها لتكون مقطوعة الصدور ، وإلّا فإثبات الحجية بها دوري.

فنقول : ينقسم التواتر إلى أقسام ثلاثة.

الأول : التواتر اللفظي. وهو اتفاق الناقلين الذين يمتنع اجتماعهم على الكذب عادة في نقل ألفاظ الخبر وعباراته ، كتواتر صدور ألفاظ الكتاب على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتواتر صدور قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعلي مولاه».

الثاني : التواتر المعنوي. وهو اتفاقهم على نقل مضمون واحد وان اختلفوا في نقل الألفاظ ، سواء كانت دلالة ألفاظهم على المضمون بالمطابقة أو بالتضمن أو بالالتزام ، كالاتفاق على شجاعة أمير المؤمنين عليه‌السلام فان الاخبار الحاكية لإقدامه في الحروب ومنازلته الأقران في مغازي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأيامه وان لم تكن متواترة في كل قضية بخصوصها إلّا ان المستفاد من مجموعها مطابقة والتزاما هو القطع برباطة

__________________

(١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٥ ، ١٩ ، ٢٣ ، ٢٧ ، ٤٠.

١٨٤

جأشه.

الثالث : التواتر الإجمالي. وهو ورود روايات يعلم بصدور بعضها من دون اشتمالها على مضمون واحد.

وقد أنكر المحقق النائيني قدس‌سره التواتر الإجمالي بدعوى : انا لو وضعنا اليد على كل واحد واحد من تلك الاخبار نراه محتملا للصدق والكذب ، فأين الخبر المقطوع صدوره (١).

والتحقيق : ان التواتر الإجمالي مما لا ينبغي إنكاره ، وما ذكره في احتمال الكذب في كل خبر بخصوصه غير مضر بثبوت التواتر في الجملة ، كما هو الحال في التواتر المعنوي بل اللفظي ، لأن كل واحد من الاخبار في نفسه محتمل للصدق والكذب. وبالجملة لا ريب في ان كثرة الاخبار المختلفة ، وانضمام بعضها إلى بعض ربما يصل إلى حد يقطع بصدور بعضها وان لم يميز بعينه ، والوجدان أقوى شاهد عليه ، والمثال الواضح لذلك انه لا يشك أحد في صدور جملة من الاخبار الموجودة في كتاب الوسائل إجمالا ، ولا في صدق بعض ما يتحقق في البلد الواحد في اليوم والليلة من الحكايات والاخبار.

نعم يبقى مجال السؤال عن الفائدة المترتبة على التواتر الإجمالي مع عدم الجامع بين تلك الاخبار.

والجواب عنه : بتحقق الأثر فيما إذا وجدت جهة مشتركة بينها ، كما في ما نحن فيه ، فانه لو تمت دعوى تواتر الاخبار الدالة على حجية الخبر الموثق بخصوصه معنى ، كما ذهب إليه المحقق النائيني ، وهو غير بعيد ، يثبت حجية خبر الموثق مطلقا ، وإلّا فالتواتر الإجمالي يقتضي حجية الأخص منها ، المشتمل على جميع

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ١١٣.

١٨٥

الخصوصيات المعتبرة في تلك الاخبار ، إذ بعد ثبوت تواتر أدلة الحجية إجمالا يؤخذ من كل منها الخصوصية المأخوذة فيه ، فيحكم بحجية الخبر الواجد لمجموع تلك الخصوصيات. وتوهم كون هذا من التواتر المعنوي واضح الفساد ، بعد ما فرض أن كل طائفة من الاخبار اعتبرت قيدا مغايرا لما اعتبرته الأخرى.

ثم ان المحقق النائيني (١) أفاد ان الأخص في هذه الاخبار هو ما دل على حجية الخبر الموثوق به ، فبناء على تواترها الإجمالي أيضا يثبت حجيته.

وفيه : ما لا يخفى ، إذ ظاهر جملة منها اعتبار العدالة في الراوي كقوله عليه‌السلام «زكريا ابن آدم المأمون على الدين والدنيا» وقوله عليه‌السلام «خذ بأعدلهما» وفي جملة منها ما هو ظاهر في اعتبار كونه إماميّا كقوله عليه‌السلام «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا» فان الإضافة ظاهرة في ذلك ، وفي جملة أخرى ما هو ظاهر في اعتبار الوثاقة ، وعليه فالأخص هو الجامع للعدالة وكونه إماميّا موثقا ، فبناء على التواتر الإجمالي لا يستفاد من الاخبار إلّا حجية الخبر الصحيح الأعلائي ، كما هو مختار صاحب المدارك.

ولكن الّذي يسهل الخطب ما أفاده في الكفاية (٢) وأجاد ، بأنّ المتيقن من هذه الاخبار انما هو حجية الخبر الصحيح ، وفي جملتها خبر صحيح يدل على حجية الموثق مطلقا ، فيثبت حجية خبر الموثق بواسطة واحدة. نعم لا تشمل هذه الاخبار الخبر الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب ، فان مقتضاها اعتبار وثاقة الراوي لا الخبر ، ولكنا أثبتنا حجيته بمنطوق آية النبأ.

الاستدلال على حجية خبر الواحد بالإجماع :

الوجه الثالث : مما استدل به على حجية خبر الواحد الإجماع. وتقريره من

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ١١٤.

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٩٧.

١٨٦

وجوه.

الأول : الإجماع المنقول من الشيخ الطوسي على حجية اخبار الآحاد.

الثاني : الإجماع القولي على ذلك من غير السيد المرتضى وابن إدريس وأتباعهما ، مع عدم الاعتناء بخلافهم.

الثالث : الإجماع القولي من جميع العلماء حتى المانعين ، بدعوى : انهم انما ذهبوا إلى المنع لاعتقادهم انفتاح باب العلم ، فلو كانوا في زماننا المنسد فيه باب العلم لعملوا بخبر الواحد جزما.

الرابع : الإجماع العملي من العلماء كافة ، فانهم بنوا على العمل بالأخبار التي بأيدينا ، ولم يخالف فيه أحد.

الخامس : الإجماع العملي على ذلك من المتشرعة من زمان الصحابة إلى الآن ، فيكون كاشفا عن رضا الشارع ، لكونه رئيسهم.

والإنصاف : عدم الاعتبار بشيء من هذه الوجوه ، لأن شيئا منها لا يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام فان عمل جمة من المجمعين بهذه الاخبار من جهة كونها مقطوعة الصدور عندهم ، وجملة منهم عملوا بما في الكتب الأربعة لاعتقادهم صحة جميع ما فيها ، حتى قال بعضهم ان الخدشة بضعف السند في الاخبار الموجودة فيها حرفة العاجز.

فالصحيح : ان عمل أصحاب الأئمة التابعين باخبار الآحاد الموثقات وان لم يكن قابلا للإنكار إلّا انه لا يكشف عن الحجية التعبدية ، بل من المحتمل قويا ان الوجه في عملهم بالأخبار سيرة العقلاء ، واتفاقهم على العمل بخبر الثقة ، ومن أجلها كان يحتج بعضهم على بعض من غير نكير ، والشارع المقدس بما انه رئيس العقلاء يجري على الطريقة المستمرة العقلائية ، وما لم يثبت ردعه عنها يستكشف إمضاؤه الطريقة المستمرة ، والوجه في ذلك : انه لو كان رادعا عنه لوصل إلينا ذلك ، كما وصل

١٨٧

منعه عن العمل بخبر الواحد في موارد مخصوصة ، وعن القياس ، مع انه ليس في الحجية عند العقلاء كخبر الموثق ، ولا يعمل به معشار ما يعمل بخبر الواحد ، ومع هذا بلغت الروايات المانعة عن القياس إلى خمسمائة حديث ، فلو صدر عن الأئمة عليهم‌السلام ردع عن العمل بخبر الموثق لاشتهر وشاع بين حفاظ الحديث ، وأثبته أرباب الجوامع في مؤلفاتهم.

وبالجملة هذه السيرة العقلائية وعدم الردع عنها بخصوصها غير قابلة للإنكار. وانما الإشكال في ان الإطلاقات الناهية عن العمل بغير العلم هل تصلح رادعة ومانعة عن العمل بخبر الثقة؟ فيه كلام. وقد أفاد في الكفاية ، وفيما كتبه على الهامش عدم صلاحيتها لذلك ، وذكر له وجوها.

الأول : ما في المتن (١) من استلزامه الدور ، فان رادعية العمومات عن السيرة متوقفة على ان لا تكون السيرة مخصصة لها ، وإلّا فلا تشملها ، وعدم كونها مخصصة لها متوقف على كون العمومات رادعة عنها. ثم أورد على نفسه بما حاصله : ان إثبات حجية خبر الثقة بالسيرة أيضا دوري ، فان إثبات حجية الخبر بالسيرة للعمومات ، وهو موقوف على عدم الردع ، وهذا دور. وأجاب عنه : بمنع المقدمة الأخيرة ، فان تخصيص العمومات بالسيرة غير متوقف على عدم الرادع واقعا ، بل على عدم ثبوته ، فلا يلزم الدور من تخصيص العمومات بالسيرة ، بخلاف العكس.

وفيه : أولا : انه لو كان عدم وصول الردع كافيا في تخصيص العمومات بالسيرة لكفى عدم ثبوت التخصيص في حجية العمومات وصلوحها رادعة عن السيرة بطريق أولى ، فان الدليل العام أو المطلق حجة ببناء العقلاء ما لم تثبت حجة أخرى على خلافه ، بخلاف السيرة المتوقفة حجيتها على الإمضاء ، وعليه فلا وجه

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٩٩ ـ ١٠٠.

١٨٨

لتقديم السيرة وتخصيص العمومات بها.

وثانيا : ان عدم ثبوت الردع غير كاف في تخصيص العمومات بالسيرة ، بل لا بد من إثبات الإمضاء المنكشف من ثبوته عدم الرادع ولو بدعوى ان عدم الدليل دليل العدم ، وإلّا فمجرد السيرة العقلائية من دون إمضاء شرعي لا تكون حجة في إثبات التكليف ، ولا قاطعة للعذر في إسقاطه ، وعليه فيمكن ان يقال : ان الأمر في الحقيقة على خلاف ما أفاده قدس‌سره فان تخصيص السيرة للعمومات يتوقف على ثبوت الإمضاء ، وهو متوقف على عدم رادعية الآيات المتوقف على التخصيص ، وهذا بخلاف العكس ، لما عرفت من ان حجية العموم لا تتوقف إلّا على عدم ثبوت التخصيص ، لا على ثبوت عدمه.

الوجه الثاني : ما أفاده في الهامش (١) ، وحاصله : انه بعد تسليم صلاحية كل من العمومات والسيرة لرفع اليد به عن الآخر فيتعارضان ، ويتساقطان ، أو القول بعدم صلاحية شيء منهما لذلك تصل النوبة إلى الأصل العملي وهو استصحاب الحجية الثابتة بالسيرة قبل ورود الآيات الناهية عن العمل بغير العلم.

الوجه الثالث : ان حال السيرة مع الآيات الناهية حال الخاصّ المتقدم مع العام المتأخر في دوران الأمر بين أن يكون الأول مخصصا ، أو يكون الثاني ناسخا ، والمتعين هو الأول ، وذلك لأن الخاصّ المتقدم صالح لتخصيص العام ، إذ لا إشكال في جواز تقديم القرينة على ذي القرينة ، ومع وجود ذلك لا ينعقد للعام ظهور في العموم ليكون رادعا أو ناسخا (٢).

ولا يخفى ان تمامية الوجهين الآخرين متوقفة على إحراز تمكن المولى من الردع عن السيرة قبل ورود العمومات ، فانه حينئذ يستكشف إمضاؤه لها من عدم

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٠١.

(٢) المصدر السابق : ١٠٠.

١٨٩

الردع ، فيصح الرجوع حينئذ إلى الاستصحاب بعد فرض التساقط ، كما يمكن أن يقال : ان الأمر فيه دائر بين تخصيص العمومات بالسيرة السابقة وردع العمومات عنها. واما إذا لم يحرز تمكنه من ذلك ، كما هو الصحيح ، فلا مجال لشيء من الوجهين أصلا ، إذ لم يثبت حينئذ حجية ما قامت عليه السيرة شرعا ليكون قابلة للاستصحاب ، أو يكون قرينة وبيانا للعام المتأخر ، فان السيرة انما تكون قابلة لتخصيص العمومات بعد إمضائها شرعا كما عرفت.

فالصحيح في مقام الجواب أن يقال : ان نسبة السيرة إلى العمومات نسبة الحاكم إلى المحكوم ، فان العمل في موارد السيرة بالحجج العقلائية لم يكن في نظر العقلاء عملا بغير العلم ، ولذا لا ترى أحدا توقف عن العمل بالظواهر بعد نزول هذه الآيات ، وليس ذلك إلّا لأجل انهم يرونها علما ، وإذا كانت السيرة حاكمة على العمومات فلا تعارض بينهما كما هو واضح. ثم ان السيرة العقلائية على العمل بالخبر الموثوق به لا يفرق فيها بين كون الوثوق ناشئا من العلم بوثاقة الراوي في نفسه وبين كونه ناشئا من جهات أخر ، فالخبر المنجبر بعمل المشهور مورد للسيرة العقلائية وان كان راوي الخبر ضعيفا في نفسه.

فتحصل من جميع ما ذكرناه حجية اخبار الآحاد الصحاح والحسان والموثقات كلها

الاستدلال على حجية خبر الواحد بحكم العقل :

الوجه الرابع : مما استدل به على حجية الخبر هو حكم العقل. وتقريره من وجوه.

الأول : انا نعلم إجمالا بصدور جملة من الاخبار المروية في الكتب المعتبرة عند الشيعة ، خصوصا بعد ملاحظة جهد العلماء في تهذيبها ، وإسقاط الضعاف منها ،

١٩٠

ومن هنا ادعى صاحب الحدائق (١) في مقدمة كتابه القطع بصدور جميع ما في الكتب الأربعة ، فهذا العلم الإجمالي الّذي لا شبهة فيه يوجب الاحتياط بالعمل على طبق جميعها.

وأورد الشيخ قدس‌سره على هذا الوجه بان هذا العلم الإجمالي لو كان منجزا لزم العمل على طبق جميع الأمارات غير المعتبرة ، كالشهرة والفتاوى والإجماعات المنقولة ، للعلم إجمالا بمطابقة بعضها للواقع ، فلا ينحصر أطراف الاحتياط بالأخبار المروية في الكتب المعتبرة (٢). ومن هنا يمكن أن يقال : بان لازم ذلك هو الاحتياط حتى في الاخبار المروية في الكتب غير المعتبرة من كتب الخاصة وغيرهم ، للعلم الإجمالي بمطابقة بعضها للواقع جزما ، وان في جملتها ما هو صادر قطعا ، ولم يلتزم به أحد.

وقد أجاب عنه المحقق الخراسانيّ (٣) وأجاد بما حاصله : ان للعلم الإجمالي مراتب ثلاث.

الأولى : العلم الإجمالي الكبير ، وأطرافه جميع الشبهات ، أعني به العلم بثبوت تكاليف وأحكام في الشريعة ، وهذا العلم حاصل لكل عاقل ملتفت إلى معنى الشرع والشريعة ، فانها لا تنفك عن جعل أحكام ، ولا معنى للشرع الخالي عن الحكم رأسا.

الثانية : العلم الإجمالي المتوسط ، وأطرافه موارد الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة ، ومنشؤه كثرة الأمارات ، وانضمام بعضها إلى بعض ، وعدم احتمال مخالفة جميعها للواقع عقلا.

الثالثة : العلم الإجمالي الصغير ، وأطرافه خصوص ما في الكتب المعتبرة

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ١ ـ المقدمة الثانية.

(٢) فرائد الأصول : ١ ـ ٢١٧ ـ ٢١٨ (ط. جامعة المدرسين).

(٣) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٠٣ ـ ١٠٤.

١٩١

عندنا ، فانا نعلم بمطابقة جملة مما فيها للواقع وصدورها عن الإمام عليه‌السلام ولا يحتمل كذب جميعها ، خصوصا بملاحظة القرائن المؤيدة لصدقها ، وصدورها عن الأئمة عليهم‌السلام.

إذا عرفت هذا فنقول : لا شبهة في انحلال العالم الإجمالي الأول بالثاني ، وانحلال العلم الإجمالي الثاني بالثالث ، فان الميزان في الانحلال ان لا يكون المعلوم بالإجمال في دائرة العلم الإجمالي الصغير أقل عددا من المعلوم بالإجمال في دائرة العلم الإجمالي الكبير المحتمل انطباقه عليه ، وطريق تمييز ذلك انه لو أفرزنا من أطراف العلم الإجمالي الصغير بالمقدار المتيقن لم يبق لنا علم إجمالي في بقية أطراف الشبهة ، حتى لو انضمت إليه غيرها من أطراف الشبهة في العلم الإجمالي الكبير ، وعليه فنقول : ان المعلوم بالإجمال في ضمن جميع الوقائع المشتبهة لا يزيد على المعلوم بالإجمال في ضمن المظنونات ، لأن منشأ ذلك العلم الإجمالي الكبير لم يكن إلّا استلزام الشرع لوجود أحكام فيها ، ويكفي في ذلك ما قامت عليه الأمارات من التكاليف ، فانحل العلم الإجمالي الكبير بالمتوسط. وهكذا ينحل المتوسط بالصغير ، فانه إذا أفرزنا عددا معينا من أطراف العلم الإجمالي الصغير ، أعني بها الاخبار المروية في الكتب المعتبرة بمقدار المعلوم بالإجمال الموجود فيها لم يبق لنا علم بوجود تكاليف في غيرها ، ولو مع ضم سائر الأمارات غير المعتبرة التي لم تكن موافقة لما أفرزناه من حيث المؤدي إليها ، فيكشف ذلك عن ان عدد المعلوم بالإجمال في أطراف العلم المتوسط لا يزيد على عدد المعلوم في أطراف العلم الصغير ، ولازم ذلك هو انحلال العلم الإجمالي المتوسط بالعلم الإجمالي الصغير ، فلا مانع من الرجوع في غير موارد الروايات المعتبرة إلى الأصول العملية ، فان الشك في تلك الموارد إنما يكون من الشكوك البدوية لا من المقرونة بالعلم الإجمالي. فما أورده الشيخ قدس‌سره على التقريب غير صحيح.

بقي الكلام في ان وجوب العمل بالأخبار المروية في الكتب المعتبرة من جهة

١٩٢

العلم الإجمالي بصدور كثيرها أو بعضها ، هل يترتب عليه ما يترتب على طريقيتها وحجيتها من كونها منزلة منزلة القطع ، وتقدمها على الأصول الجارية في مواردها ، عملية كانت أو لفظية ، كأصالة العموم والإطلاق ، أو ان وجوب العمل بها من باب الاحتياط لا يقتضي شيئا من ذلك؟ والكلام في ذلك يقع في مقامين.

أحدهما : في معارضة الأمارات مع الأصول العملية.

ثانيهما : في معارضتها مع الأصول اللفظية.

اما المقام الأول : فتفصيل الكلام فيه يكون ببيان الضابط في إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، فنقول : ان الأصول العملية على ما يستفاد من أدلتها تنقسم إلى تنزيلية ناظرة إلى الواقع في مقام العمل ، كالاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ ، بناء على انهما من الأصول ، وغير تنزيلية ، كالبراءة العقلية والشرعية وقاعدة الاشتغال ، فانها وظائف عملية مجعولة للشاك من دون أن يكون لها نظر إلى الواقع.

ثم ان بعض هذه الأصول يكون مثبتا للتكليف دائما ، كما ان بعضها يكون نافيا له كذلك ، وجملة منها تختلف باختلاف الموارد.

ثم ان العلم الإجمالي تارة : يكون متعلقا بحكم إلزاميّ ، وأخرى بحكم ترخيصي. فان كان متعلقه إلزاميا ، فلا تجري شيء من الأصول النافية في أطرافه ، سواء كانت محرزة في جميع الأطراف ، كما لو علمنا بوقوع نجاسة في أحد إناءين طاهرين ، فان جريان الاستصحاب فيهما معا يستلزم المخالفة القطعية ، وفي أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، أو كانت غير محرزة كذلك كالمثال بعينه فيما إذا لم يكن لهما حالة سابقة متيقنة ، فان كلا منهما حينئذ يكون موردا لقاعدة الطهارة ، إلّا انه يلزم من إجرائها فيهما المخالفة القطعية ، أو كان الجاري في بعض الأطراف محرزا وفي البعض الآخر غير محرز ، كما لو فرضنا ان أحد الإناءين كان طاهرا في السابق

١٩٣

يقينا ، ولم يعلم حالة الإناء الآخر ، ووقعت نجاسة في أحدهما لا بعينه ، فان أحدهما يكون موردا لاستصحاب الطهارة ، والآخر لقاعدتها ، ولا يجريان معا للزوم المخالفة القطعية ، ولا يجري الأصل المحرز وحده لعدم إثباته اللوازم العقلية. وأما تقدم الأصل المحرز على غير المحرز فانما هو فيما لو اجتمعا في مورد واحد لا في موردين ، كما فيما نحن فيه. هذا فيما لو كان المعلوم بالإجمال حكما إلزاميا وكان الأصل الجاري في الأطراف نافيا له.

واما لو انعكس الأمر ، بان كان المعلوم بالإجمال ترخيصيا ، وكان مفاد الأصل حكما إلزاميا ، فان كان الأصل المثبت للتكليف في الأطراف من الأصل غير المحرز كالاشتغال ، فلا إشكال في إجرائه في جميع الأطراف ، كما لو علمنا إجمالا بجواز النّظر إلى إحدى المرأتين نسبا أو مصاهرة ، فانّ الطرفين بما انهما موردان لقاعدة الاشتغال فلا مانع من الرجوع إليها في كل منهما ، إذ ليس في ذلك مخالفة قطعية للتكليف ، والأصل من جهة عدم كونه محرزا لا ينافي العلم بجواز النّظر إلى إحداهما في الواقع ، إذ لا منافاة بين أن يكون الشيء مباحا واقعا وبين الحكم بلزوم الإتيان به فعلا أو تركا ظاهرا. واما إذا كان الأصل الجاري في جميع الأطراف من الأصل المحرز كالاستصحاب ، ففي جريانه فيها مع العلم الإجمالي بمخالفته للواقع في بعض الأطراف خلاف ، فذهب الشيخ وتبعه المحقق النائيني إلى عدم الجريان ، وذهب صاحب الكفاية إلى جريانه ، وتفصيل ذلك ، وبيان الصحيح من القولين موكول إلى محله.

إذا عرفت هذا فنقول : في محل الكلام لنا علم إجمالي بوجود أحكام إلزامية وأحكام ترخيصية في ضمن الروايات المعتبرة عندنا ، فبالقياس إلى موارد الأمارات المشتملة على أحكام إلزامية لا مجال للرجوع إلى الأصول العملية مطلقا بجميع اقسامها. واما في موارد الأمارات المتكفلة لأحكام ترخيصية ، فعلى القول

١٩٤

بحجيتها لا يجري أيضا شيء من الأصول العملية ، واما بناء على ان جواز العمل بها من باب العلم الإجمالي بصدور كثيرها أو أكثرها فقاعدة الاشتغال تجري في مواردها بلا خلاف. واما الاستصحاب المثبت للتكليف فجريانه فيها مبني على الخلاف المتقدم ، فالتفرقة بين العمل بالأمارات على الحجية وبينه من جهة العلم بصدور بعضها انما يكون في موارد الأمارات النافية للتكليف على التفصيل المتقدم.

وتوضيح ذلك : أن الأمارات المعتبرة ان كانت مثبتة لتكليف إلزاميّ ، وكان الأصل الجاري في موردها أيضا مثبتا له ، فلا يفرق في لزوم العمل بالأمارة بين القول بحجيتها وبين العمل بها لأجل الاحتياط إلّا من حيث الاستناد ، فانه على الأول يكون الاستناد إلى الأمارة ، وعلى الثاني إلى العلم الإجمالي. نعم يفرق بين القولين من حيث حجية لوازم الاخبار ومثبتاتها وعدمها ، ولا كلام لنا في ذلك فعلا. واما لو كان الأصل الجاري في موردها نافيا للتكليف ، فلا ثمرة أيضا بين القولين ، إذ لا يجوز الرجوع إلى الأصل النافي على القولين ، اما بناء على الحجية فواضح ، واما على الاحتياط فللعلم الإجمالي.

واما لو كانت الأمارة نافية للتكليف ، فان كان الأصل نافيا له أيضا فلا تترتب ثمرة على القولين إلّا في الاستناد كما عرفت. واما ان كان الأصل مثبتا للتكليف مع ورود الأمارة على نفيه ، ففي موارد الاشتغال تظهر الثمرة بين القولين بلا خلاف ، فانه يجب العمل بالأصل المثبت للتكليف ولو مع قيام الأمارة على خلافه إذا لم تثبت حجيتها ، وذلك مثل العلم بوجوب الصلاة المرددة بين القصر والتمام مع قيام الأمارة على وجوب أحدهما بالخصوص.

واما موارد استصحاب التكليف ، فان بلغت من الكثرة إلى حد يعلم إجمالا بمخالفة بعضها للواقع ، فجريان الاستصحاب في تلك الموارد مبني على الكلام المتقدم ، وإلّا فتظهر الثمرة فيها أيضا بغير خلاف. مثال ذلك ما دل على جواز وطئ

١٩٥

الحائض بعد انقطاع الحيض وقبل الغسل إذا غسلت المحل ، مع ان الاستصحاب يقتضي حرمة ذلك قبل الاغتسال ، فان هذا الاستصحاب إذا كان من أطراف ما علم مخالفته للواقع إجمالا كان جريانه مبنيا على الكلام المتقدم ، وإلّا فيجري بلا خلاف.

المقام الثاني : وهو حال الأمارات مع الأصول اللفظية ، كما لو فرضنا ورد عام أو مطلق معلوم الصدور بالتواتر أو بغيره ، وكان في اخبار الآحاد ما هو خاص أو مقيد ، فبناء على القول بحجيتها يتقدم الخاصّ على العام ولو كان قطعي الصدور ، لأن الخاصّ بمنزلة القرينة على العام ، فيتقدم عليه. واما بناء على وجوب العمل بالأخبار من باب الاحتياط ، فهل تتقدم على العمومات والمطلقات القطعية الصدور وغيرها أم لا؟ ظاهر الكفاية وصريح بعض مشايخنا المحققين قدس‌سره هو الثاني (١) بدعوى : ان العام أو المطلق حجة في مدلوله ، ولا يرفع اليد عنه إلّا بحجة أقوى ، والمفروض ان كل واحد من الأمارات الخاصّ غير ثابت الحجية بالخصوص ، ومجرد العلم الإجمالي بوجود الصادر فيها لا أثر له.

والتحقيق : ان مفاد العام ولو كان عمومه بالإطلاق تارة : يكون حكما إلزاميا ، ويكون مفاد الخاصّ حكما غير إلزاميّ ، كقوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا) وقوله عليه‌السلام «لا ربا بين الوالد والولد» (٢) وأخرى : يكون مفاد العام حكما ترخيصيا ، ومفاد الخاصّ حكما إلزاميا كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٣) وقوله عليه‌السلام «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر» (٤).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٠٤ ، نهاية الدراية : ٣ ـ ٢٦٢.

(٢) وسائل الشيعة : ١٢ باب ٧ من أبواب الرّبا.

(٣) البقرة : ٢٧٥.

(٤) وسائل الشيعة : ١٢ ـ باب ٤٠ من أبواب آداب التجارة ، ح ٣.

١٩٦

ففي الصورة الأولى : يتقدم العام ، ولا يجوز العمل بالخاص بعد فرض عدم ثبوت حجيته ، لأن العلم الإجمالي بورود التخصيص على العمومات إجمالا وان أوجب سقوط أصالة العموم في كل واحد منها ، إلّا أن العلم الإجمالي بإرادة العموم من بعضها واقعا يقتضي لزوم العمل بجميع العمومات المشتملة على الأحكام الإلزامية ، ولا يعارضها العلم الإجمالي بصدور بعض المخصصات غير المشتملة على حكم إلزاميّ ، فانه لا أثر للعلم الإجمالي إذا لم يكن متعلقه حكما إلزاميا ، وعليه فيجب الأخذ بالعمومات والمطلقات من باب الاحتياط ، لا من جهة حجية أصالة العموم أو الإطلاق. نعم بناء على القول بحجية الأمارات ينحل بها العلم الإجمالي كما لا يخفى.

واما الصورة الثانية : وهي ما إذا كانت العمومات ترخيصية والخصوصات إلزامية ، فتتقدم فيها الخصوصات ولو كان وجوب العمل بها من باب الاحتياط ومن جهة العلم الإجمالي بصدور بعضها ، وذلك لأن العلم الإجمالي بصدور جملة من الأمارات الخاصة المشتملة على أحكام إلزامية يقتضي سقوط الأصول اللفظية كأصالة العموم أو الإطلاق في جميع أطرافه ، كما تسقط فيها الأصول العملية وسائر الحجج الجارية في جميع الأطراف ، فان إجراءها في جميعها يستلزم المخالفة القطعية ، وفي بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح ، وإذا لم تجر الأصول اللفظية في المقام فلا مجال لأن يقال : ان العموم أو الإطلاق حجة ، ولا يرفع اليد عنها إلّا بحجة أقوى.

وبالجملة أصالة العموم كغيرها من الأصول اللفظية والعملية وان كانت في نفسها حجة إلّا ان العلم بورود التخصيص عليها إجمالا يوجب سقوط حجيتها ، فلزوم العمل بها لا بد من ان يستند إلى امر آخر ، وهو العلم بإرادة العموم من بعضها واقعا ، إلّا ان ذلك لا يقتضي إلّا العمل بما كان مشتملا منها على حكم إلزاميّ دون غيره.

١٩٧

وبقي الكلام فيما إذا كان كل من العمومات والمخصصات المخالفة لها مشتملا على حكم إلزاميّ ، فعلى القول بحجية الأمارات لا إشكال في تقديمها على العمومات وتخصيصها بها ، واما على القول الآخر فمورد الأمارات المخالفة للعام مجمع لعلمين إجماليين متضادين ، أحدهما : العلم بصدور بعض الاخبار المحتمل انطباقه على الخبر المخالف للعام ، وثانيهما : العلم بمطابقة بعض العمومات للمراد الواقعي المحتمل انطباقه على العام المخالف للخبر ، نظير ما لو كان لرجل زوجات ثلاث كبيرة ومتوسطة وصغيرة ، وعلم إجمالا بأنه حلف على ترك الكبيرة أو المتوسطة ، وعلم إجمالا بأنه حلف على وطئ الصغيرة أو المتوسطة ، فالمتوسطة حينئذ تكون طرفا لكلا العلمين ، والحكم فيها هو التخيير ، لعدم التمكن فيها من الامتثال القطعي ، واما الامتثال الاحتمالي فهو حاصل لا محالة ، نظير دوران الأمر بين المحذورين ، وان لم يكن المقام منه حقيقة ، وذلك لعدم العلم بالإلزام فيه إجمالا ، لاحتمال كون المحلوف على ترك وطئها هي الكبيرة ، والمحلوف على وطئها هي الصغيرة واقعا ، فالمقام وان كان خارجا عن دوران الأمر بين المحذورين موضوعا إلّا انه يشترك معه في الحكم ، لوحدة الملاك فيهما. واما حكم الكبيرة والصغيرة فالظاهر بقاء كل من العلمين على تنجزه بالقياس إليهما ، وذلك لأن العلمين حيث انهما حدثا عرضا فسقطت الأصول الجارية في جميع أطرافها بسبب التعارض ، فلم يبق بعد ذلك أصل مؤمن في شيء من الأطراف ، غاية الأمر ان الزوجة المتوسطة بما انها كانت طرفا لعلمين إجماليين متنافيين لم يمكن فيها مراعاة الاحتياط ، وذلك لا يقتضي جريان الأصل في الصغيرة والكبيرة وكون الشبهة بالقياس إليهما بدوية.

فتوهم انحلالها بعدم التمكن من الاحتياط في جميع الأطراف لا وجه له. ولا يقاس هذا بصورة الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي ، حيث ذهب فيها بعضهم إلى سقوط العلم عن التنجيز حتى بالقياس إلى الطرف غير المضطر إليه ، إذ

١٩٨

المكلف في محل الكلام غير مضطر إلى ترك وطئ الصغيرة والمتوسطة ، ولا إلى وطئ المتوسطة والكبيرة ، فهو خارج عن موارد الاضطرار إلى بعض الأطراف. غاية الأمر ان المكلف غير قادر على مراعاة الاحتياط في المتوسطة بالإضافة إلى كلا العلمين ، ونتيجته التخيير فيها ، لا سقوط العلم عن التنجيز بالإضافة إلى بقية الأطراف ، على ان لنا كلاما في سقوط العلم عن التنجيز بطروء الاضطرار كما سيأتي في محله.

ثم لا يخفى ان الغرض من بيان المثال المزبور انما هو بيان كبرى كلية ، وهي عدم سقوط العلم عن التنجيز ولو كان بعض أطرافه طرفا لعلم إجمالي آخر ، ولم يمكن تنجيزه بالقياس إلى المجمع. واما المثال فليس هو من صغريات هذه الكبرى ، لأنه يتولد فيه من العلمين الإجماليين علم إجمالي ثالث يتعلق بنفس الطرفين دون المجمع ، ويكون هو المنجز فيهما ، وذلك لأنا نقطع تفصيلا بعدم تعلق حلفين بالمتوسطة ، فهنا علم إجمالي ثالث ومتعلقه وجوب وطئ الصغيرة أو حرمة وطئ الكبيرة ، ومقتضى ذلك هو الاحتياط من دون حاجة إلى إثبات تنجيز العلمين الأولين. فالمناسب ان يمثل للمقام بما إذا علم تفصيلا بتعلق حلف واحد بإحدى الزوجات الثلاث مرددا بين أن يكون متعلقا بالفعل أو بالترك ، وعلى تقدير تعلقه بالفعل يكون موضوعه مرددا بين الصغيرة والمتوسطة ، وعلى تقدير تعلقه بالترك يتردد موضوعه بين الكبيرة والمتوسطة ، ففي هذا الفرض تكون المتوسطة طرفا للعلم الإجمالي المردد متعلقه بين الفعل والترك ، ويتخير المكلف فيها. واما في غيرها من الصغيرة والكبيرة فيجب عليه الاحتياط بفعل الأولى وترك الثانية ، والوجه في ذلك ان جريان الأصول في جميع الأطراف يستلزم المخالفة القطعية ، وفي بعضها ترجيح بلا مرجح ، فلا مؤمن في ترك وطئ الصغيرة وفعل وطئ الكبيرة ، وبذلك يفترق المقام عن موارد الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي.

١٩٩

الوجه الثاني : من الوجوه العقلية التي استدل بها على حجية الخبر ما ذكره في الوافية (١) ، وحاصله : انا نعلم تفصيلا ببقاء التكليف بالصلاة والصوم ونحوهما من الضروريات ، وليس لنا علم تفصيلي باجزائها وشرائطها ، فإذا تركنا العمل بمؤديات الأمارات ، واقتصرنا على خصوص ما علمنا من الاجزاء والشرائط خرجت هذه الأمور عن حقائقها ، لأن الضرورية من الاجزاء والشرائط ليست إلّا أمورا معدودة بحيث نقطع بعدم صدق العناوين المزبورة على ما هو المتيقن دخله فيها ، فلا مناص من الرجوع إلى الاخبار المودعة في الكتب المعتبرة للشيعة.

وقد أورد عليه الشيخ رحمه‌الله.

أولا : بان العلم الإجمالي حاصل بوجود الاجزاء والشرائط بين جميع الاخبار لا خصوص المشروطة منها (٢) بما ذكره ، إلى ان قال : فاللازم حينئذ اما الاحتياط والعمل بكل خبر دل على جزئية شيء أو شرطيته ، واما العمل بكل خبر ظن صدوره مما دل على الجزئية أو الشرطية.

ولا يخفى ما فيه : فان سعة أطراف العلم الإجمالي وضيقها يتبعان علم الأشخاص ، ولعل صاحب الوافية يجد من نفسه انحلال علمه بالعمل بالأخبار المشتملة على الشرائط التي ذكرها بالبيان المتقدم.

نعم يرد على هذا الوجه ما أورده ثانيا وحاصله : رجوع ذلك إلى الوجه الأول مع تغيير في العبارة ، غير ان دائرة العلم الإجمالي فيه أضيق من أطراف العلم الإجمالي في الوجه السابق ، فلا يقتضي إلّا وجوب العمل بالأخبار المثبتة للاجزاء والشرائط ، ولا يعم الاخبار النافية التي ورد على خلافها عموم ، أو إطلاق ، أو أصل عملي ، كما هو المدعى في المقام.

__________________

(١) الوافية : ١٥٩.

(٢) فرائد الأصول : ١ ـ ٢١٩ (ط. جامعة المدرسين).

٢٠٠