دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

المبحث الثالث :

حجية الإجماع المنقول

وكان الأولى تأخيره عن بحث حجية الخبر الواحد ، لترتبه عليه ، إذ هو من شئونه ومتمماته ، فانه بعد إثبات حجية الخبر يبحث عن اختصاصها بنقل رأي الإمام عليه‌السلام بعنوان الرواية ، وعمومه للنقل بعنوان الإجماع ، أو الاتفاق ، أو نفي الخلاف. وكيف كان يقع الكلام فيها من جهات.

الجهة الأولى : أفاد الشيخ رحمه‌الله ما حاصله (١) : أن الإخبار عن الشيء تارة يكون عن حس ومشاهدة ، إما جزما وإما احتمالا.

وأخرى عن حدس قريب من الحس بحيث لا يكون له مقدمات بعيدة ، كالإخبار بأن حاصل ضرب ثلاثة في ثلاثة تسعة ، أو بغيره من نتائج الحساب والهندسة.

وثالثة يكون عن حدس كان منشؤه تام السببية في نظر المنقول إليه ، بحيث لو فرض اطلاعه على ذلك السبب لقطع بذلك الأمر الحدسي ، لعلمه بالملازمة بينهما. ورابعة : يكون الإخبار عن حدس بعيد عن الحس من دون أن يكون سببه تاما عند المنقول إليه.

إذا وضح هذا نقول : استقرت سيرة العقلاء على العمل بالخبر مطلقا في الأمور

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ١٣٥ (ط. جامعة المدرسين).

١٤١

المحسوسة وما كان قريبا من الحس ، لقلة وقوع الاشتباه فيها ، وما يرجع إلى الاخبار عن الحس كما في الفرض الثالث ، فان حكاية المسبب بعد فرض ثبوت الملازمة بينه وبين سببه حتى عند المحكي له حقيقة تكون اخبارا عن تحقق السبب ، الّذي هو امر حسي ، فان في جميع ذلك لا منشأ لتوقفهم عن العمل بخبر العادل إلّا احتمال تعمد كذبه ، وهو منفي بالعدالة والوثوق ، أو احتمال غفلته وهو منفي بأصالة عدم الغفلة. واما في غير ذلك من الأمور الحدسية فيحتمل أن يكون خطاء المخبر مستندا إلى اشتباهه ، فانه غير مأمون فيها ، وحيث لا دافع لهذا الاحتمال ، فلتوقفهم عن العمل به مجال ، ولم يثبت منهم بناء على ذلك. وعلى هذا فناقل الإجماع ان كان معتمدا في نقله على مشافهة الإمام والسماع منه فهو ينقل فتوى الإمام بعنوان الإجماع ، فلا يتوقف في الأخذ بقوله ، غير انا نقطع بعدم تحققه ، خصوصا في الإجماعات المنقولة من المتأخرين عن الغيبة الصغرى ، مع انا مأمورون بتكذيب مدعى الرؤية عملا. وان كان الناقل معتمدا على قاعدة اللطف ونحوها فالمنقول إليه ان كان يرى الملازمة بين ذاك الاتفاق وقول المعصوم أخذ به ، وإلّا فلا يكون حجة بالقياس إليه.

وقد ذهب بعض الأعاظم إلى حجية الإجماع المنقول من القدماء ، بدعوى : احتمال كون مستندهم في ذلك هو السماع من المعصوم عليه‌السلام ولو بالواسطة ، لقرب عصرهم بعصر الحضور ، ثم ضموا إليه فتاوى بقية العلماء ، ونقلوا الجميع بعنوان الإجماع.

وفيه : أولا : ان المتتبع لإجماعات القدماء كالشيخ الطوسي والسيد المرتضى وأمثالهم يقطع بعدم استنادهم في ذلك إلى ما ذكر ، فان المستند للشيخ في حجية الإجماع قاعدة اللطف ، والسيد كثيرا ما ينقل الإجماع على حكم يراه موافقا للقاعدة أو الأصل ، كدعواه الإجماع على جواز الوضوء بالمائع المضاف اتّكالا على اتفاقهم على أصل البراءة ، مع انه لا قائل به أصلا.

١٤٢

وثانيا : لو كان الأمر على ما ذكر لكان الأولى النقل عن المعصوم بعنوان الاخبار عنه ، والنقل بعنوان الإجماع يكون من قبيل الأكل من القفا.

وثالثا : ان هذا لاحتمال موهوم ملحق بالوسواس ، والّذي يكفي في حجية قول المخبر من احتمال كونه عن حس انما هو الاحتمال العقلائي لا الموهوم.

الجهة الثانية : في مدرك حجية الإجماع ، الّذي هو أحد الأدلة الأربعة ، وبيان الملازمة بين الإجماع وقول المعصوم عليه‌السلام ، أما عقلا بحيث يستحيل عدم كاشفيته عنه ، واما عادة ، واما اتفاقا عند الجميع أو عند بعض دون بعض.

وتقريب الملازمة العقلية من وجهين :

الأول : ما استند إليه الشيخ الطوسي رحمه‌الله من قاعدة اللطف ، بمعنى انه يجب على المولى سبحانه لطفا بعباده ان لا يمنعهم عن التقرب والوصول إليه ، بل عليه أن يكمل نفوسهم القابلة ، ويرشدهم إلى مناهج الصلاح ، ويحذرهم عن مساقط الهلكة ، وهذا هو السبب في لزوم بعث الرسل وإنزال الكتب ، وعليه فلو اتفقت الأمة على خلاف الواقع في حكم من الأحكام لزم على الإمام المنصوب حجة على العباد إزاحة الشبهة بإلقاء الخلاف بينهم ، فمن عدم الخلاف يستكشف موافقة رأي الإمام عليه‌السلام دائما ، ويستحيل تخلفه عنه.

وفيه : أولا : بعد تسليم صحة القاعدة ، ان اللطف انما يقتضي تبليغ الأحكام على النحو المتعارف ، وقد بينها الأئمة عليهم‌السلام للرواة المعاصرين لهم ، فإذا فرضنا ان الطبقة الثانية أو الثالثة من الرّواة اضطرها الخوف والتقية إلى ستر الأحكام ، ولم تصل إلى الطبقة اللاحقة ، فليس على الإمام عليه‌السلام إيصالها إليهم بطريق الإعجاز ، والقاعدة لا تقتضي ذلك ، وإلا كان قول فقيه واحد حجة إذا فرض انحصار العالم به في زمان ، وذلك من الفساد بمكان.

وثانيا : إلقاء الخلاف وبيان الواقع من الإمام عليه‌السلام لو كان بإظهار شخصه لهم ،

١٤٣

وتعريفهم بإمامته فهو مقطوع العدم. وان كان مع خلفاء ذلك ، فلا أثر لخلاف شخص مجهول ، فتأمل.

الوجه الثاني : لإثبات الملازمة العقلية قياس الاخبار عن حدس ، بالحكاية عن حس ، فكما لو تواترت الاخبار الحسية يحصل القطع بمؤداها كذلك في الحكايات الحدسية ، مثلا إذا اتفق فقهاء العصر على حكم فمن رأي الفقيه الأول يحصل الظن بالواقع ، ومن فتوى الفقيه الثاني يحصل الاطمئنان ، ويتأكد ذلك من آرائهم إلى أن يحصل القطع بالموافقة.

وفيه : ان القياس مع الفارق ، لأن منشأ احتمال الكذب في الاخبار الحسي اما الخطأ في الحس ، أو تعمد الكذب ، والأول بعيد للغاية ، والثاني يدفعه وثاقة المخبر ، واحتمال كلا الأمرين يضعف بكثرة الحكاية إلى أن يقطع بعدمها ، وفي ما نحن فيه حيث كان المخبرون معتمدين على الحس فمن القريب جدا اشتباههم في الاستدلال ، فان نسبة الاشتباه إلى الجميع كنسبته إلى الواحد ، ألا ترى ان اتفاق الفلاسفة جلهم أو كلهم على امر برهاني لا يوجب القطع به. نعم لو تم ما نسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا تجتمع أمتي على الخطأ) (١) ثبتت الملازمة ، إلّا انه بمعزل عن الواقع.

واما الملازمة العادية بينهما فتقريبها : ان العادة تمنع من اتفاق المرءوسين على أمر من دون متابعة رأي الرئيس فيه.

وفيه : ان ذلك انما يكون فيما إذا ثبت حضورهم معه ، وملازمتهم إياه ، وانى يثبت ذلك في عصر الغيبة.

واما الملازمة الاتفاقية ، فلا سبيل إلى إنكارها ، ولكن لا يثبت بها حجية الإجماع مطلقا ، فان استكشاف رأي الإمام عليه‌السلام منه يختلف حسب اختلاف الحاكي

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤ ـ ٣٦. وقد ورد في كنز العمال : ١ ـ ٢٠٦ (لن تجتمع أمتي على ضلالة).

١٤٤

والمحكي له ، فرب شخص لا يرى الملازمة أصلا ، وأخر لا يستكشف رأي الحجة إلّا من اتفاق العلماء في جميع الأعصار ، وثالث يحصل له اليقين من اتفاق أهل عصر واحد ، أو من اتفاق جملة منهم ، وقد شاهدنا بعض الأعاظم يدعى القطع بالحكم من اتفاق الشيخ الأنصاري والسيد الشيرازي والميرزا محمد تقي الشيرازي نور الله ضريحهم ، لاعتقاده بشدة ورعهم ، ودقة فكرهم.

الجهة الثالثة : في كشف الإجماع عن دليل معتبر عند المجمعين بحيث لو وصل إلينا لكان معتبرا عندنا. وهذا أيضا من مدارك حجية الإجماع ، وتحقيق ذلك : انه لو كان في البين أصل أو قاعدة أو إطلاق يحتمل اعتماد المجمعين عليه فليس له تلك الكاشفية ، إذ لعل استنادهم كان إلى ذلك. وان لم يوجد ما يحتمل كونه مدركا لفتواهم ، فلا محالة يكشف اتفاقهم عن وجود دليل معتبر عندهم لو وصل إلينا لاعتمدنا عليه ، اما وجود أصل الدليل ، فلأنّ عدالتهم قاضية بعدم إقدامهم على الفتوى من غير مستند صحيح ، واما اعتباره عندنا فللاطمئنان بفهمهم وفضلهم. نعم في بعض الإجماعات المنقولة من قدماء الأصحاب نحتمل أن يكون اعتمادهم على أصل أو قاعدة ، ولم يذكروها في كتبهم لأن دأبهم لم يكن على ذكر الاستدلال ، وبعد ما حدث بيان الاستدلال وضبطه في الكتب في زمن الشيخ الطوسي رحمه‌الله أخذوا بإجماعاتهم ، واتبعوهم في موارد الإجماعات ، فصارت المسألة إجماعية.

فالإنصاف ان الإجماع غير معتبر ، ولكن مع ذلك لا تصح مخالفته إلّا مع الفحص التام.

١٤٥
١٤٦

المبحث الرابع :

حجية الشهرة

لا يخفى ان الشهرة تكون على أقسام ثلاثة :

الأول : الشهرة في الرواية ، ومعناها كثرة نقل الرّواة لها ، ويقابلها الندرة والشذوذ. وهذه الشهرة من مرجحات باب التعارض ، فان كثرة الناقل عن الحس يوجب الاطمئنان.

الثاني : الشهرة في العمل ، ومفادها استناد المشهور إلى خبر في مقام الحكم. وبهذه الشهرة ينجبر ضعف سند الرواية إذا أحرز الاستناد ، فالخبر المنجبر بها يكون معتبرا بالعرض. وفي قبال هذه الشهرة الاعراض الموجب لوهن الرواية.

الثالث : الشهرة في الفتوى ، والمراد بها اشتهار الفتوى من دون أن يعلم مستندهم في ذلك ، وهذه هي محل النزاع في كونها حجة.

وقد استدل لحجيتها بوجوه.

الوجه الأول : التعليل الوارد في مقبولة عمر ابن حنظلة بعد قوله : ويترك الشاذ النادر (فان المجمع عليه لا ريب فيه) (١) بدعوى : ان المراد من المجمع عليه ليس الإجماع المصطلح ، ولذا أمر بترك الشاذ ، فلا بد وان يراد منه مجرد الشهرة ، فتعم الشهرة الفتوائية. وكذا قوله عليه‌السلام في مرفوعة زرارة (خذ بما اشتهر بين أصحابك) (٢)

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١.

(٢) عوالي اللئالي : ٤ ـ ١٣٣ ، ح ٢٢٩.

١٤٧

فان الموصول من الكنايات ، والصلة معرفة له ، وإطلاقها يشمل الشهرة في الفتوى.

وقد أورد عليه شيخنا الأنصاري (١).

أولا : ان المقصود من الشهرة في المرفوعة الشهرة اللغوية ، بمعنى الوضوح والظهور يقال : زيد شهر سيفه إذا أبرزه وأظهره ، فمعنى قوله : «خذ بما اشتهر» هو الأمر بأخذ الظاهر البين ، وكذا المراد من (المجمع عليه) في المقبولة لو فسر بالشهرة ، ويشهد له استشهاد الإمام عليه‌السلام في ذيله بالنبوي المعروف «انما الأمور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب» وهذا قرينة على انه عليه‌السلام أراد من المشهور ما هو بين الرشد عند كل أحد ، وهذا لا يتحقق إلّا في الشهرة في الرواية ، حيث انها ربما توجب الاطمئنان بالصدور حتى في الخبرين المتعارضين ، ولذا ارجع الإمام عليه‌السلام عند اشتهار الروايتين المتعارضتين إلى موافقة الكتاب ومخالفة العامة ، وهذا بخلاف الشهرة في الفتوى ، إذ ليست لها هذه المنزلة.

وثانيا : ان المعرف لما يراد من الموصول كما يمكن ان تكون صلته كذلك يمكن أن يكون شيء آخر ، وبما ان السؤال في المرفوعة عن الخبرين المتعارضين فهو شاهد على ان المراد من الموصول الخبر المتعارض المشهور رواية دون مطلق ما يكون مشهورا.

الوجه الثاني : ان حجية الخبر الواحد انما هي من باب الطريقية ، وبما ان الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية أقوى من الظن الحاصل من الخبر فتكون هي أيضا حجة بطريق أولى.

وفيه : ان هذا مبني على أن تكون حجية الخبر لأجل افادته الظن ، وعليه يلزم حجية كل ظن مساو للظن الحاصل من الخبر أو أقوى منه ، سواء حصل من

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ١٥٥ (ط. جامعة المدرسين).

١٤٨

الشهرة ، أو من فتوى الفقيه ، أو من غير ذلك. ولكن المبنى غير تام ، إذ يحتمل أن يكون ملاك حجية الخبر أغلبية مطابقته للواقع ، والشهرة في الفتوى لم يحرز كونها كذلك ، فان الفتوى اخبار عن الحدس ، فلا يقاس بالخبر الّذي هو حكاية عن الحس ، على انا نحتمل دخل خصوصية أخرى في ملاك حجية الخبر زائدة على أغلبية المطابقة.

الوجه الثالث : التعليل في ذيل آية النبأ ، وهو قوله سبحانه (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) فتعليل وجوب التبين بإصابة القوم بجهالة أي بسفاهة يدل على عدم لزوم التبين في كل مورد لا يكون العمل سفاهة ، فان العلة كما تكون مخصصة تكون معممة أيضا ، وليس الأخذ بالشهرة من السفاهة.

وفيه : ان التعليل لا يقتضي نفي الحكم عن غير مورده مما لا توجد فيه تلك العلة ، إذ ليس لها مفهوم ، فانه فرع انحصار العلة ، ولا يستفاد من التعليل ذلك ، وهذا لا ربط له بتعميم العلة وتخصيصها كما هو ظاهر ، وقد ورد في الحديث «انّ الله عزوجل لم يحرم الخمر لاسمها ، ولكن حرمها لعاقبتها ...» (٢) فمن عموم العلة فيه يستفاد حرمة كل مسكر ولو لم يكن خمرا ، ولكن لا يدل ذلك على حلية كل ما ليس بمسكر ولو من النجاسات وغيرها. نعم حيث أمرنا في الآية المباركة بالتبين عند إرادة العمل بنبإ الفاسق فإذا حصل التبين ولو كان بالاستعلام من أهل الفن ، وانكشاف استنادهم إليها يتبين صحة الرواية ، فلا يبعد استكشاف حجية الشهرة في الاستناد عن الآية الشريفة.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) وسائل الشيعة : ١٧ ـ باب ١٩ من أبواب الأشربة المحرمة.

١٤٩
١٥٠

المبحث الخامس :

حجية خبر الواحد

لا يخفى ان العلم الضروري بالاحكام الشرعية غير حاصل إلّا في أحكام كلية ، كوجوب الصلاة والصوم وأمثالهما ، والاخبار المقطوع صدورها اما للتواتر أو للقرائن القطعية قليلة جدا ، فغالب الأحكام انما تثبت باخبار الآحاد ، فالبحث عن حجيتها يكون من أهم المسائل الأصولية ، وبإثباتها ينفتح باب العلمي وينسد باب الانسداد ، وبعدمها تتم أقوى مقدماته ، فالإشكال في كون ذلك بحثا أصوليا مبنيا على حصر موضوع علم الأصول بخصوص الأدلة الأربعة في الحقيقة إشكال على حصر الموضوع بذلك ، إذ كون هذه المسألة أصولية من البديهي ، ولم يرد في بيان موضوع الأصول آية ولا رواية ، وما قيل في ذلك فروض وتصورات ، فلا بد وان يؤخذ عنوانا عاملا ليشمل جميع مسائل العلم.

وقد تصدى شيخنا الأنصاري رحمه‌الله لدفع الإشكال ، وجعل البحث عن حجية الخبر بحثا عن ثبوت السنة به ، فيكون من عوارضها.

وتقريب : ما أفاده (١) : ان العمل بالأخبار يتوقف على أمور ثلاثة : ثبوت الظهور وحجيته ، وأصل الصدور ، وجهة الصدور. اما الظهور وحجيته فقد تقدم الكلام فيه. واما جهة الصدور فتغنينا عن البحث عنه السيرة العقلائية القائمة على

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ١٥٦ (ط. جامعة المدرسين).

١٥١

عدم الاعتناء باحتمال صدور الكلام لغير بيان المراد الواقعي من تقية وسخرية ونحوهما. واما أصل الصدور فالمتكفل له هذه المسألة ، فيبحث فيها عن ان صدور السنة ، وهي قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، يثبت بخبر العادل أو لا؟

وما أفاده لا يمكن المساعدة عليه ، فان الثبوت الّذي أشار إليه لا يخلو اما أن يكون ثبوتا واقعيا أو تعبديا ، وإرادة الثبوت الواقعي منه بديهي الفساد ، ولا يمكن اسناده إليه ، سواء كان خارجيا أو ذهنيا ، اما الثبوت الخارجي فلأنّ الخبر حاك عن السنة ، وكيف يعقل أن يكون الحاكي من علل تحقق المحكي ، واما الذهني بمعنى التصديق فهو انما يتحقق فيما إذا كان الخبر قطعيا ، وخبر الواحد لا يفيد ذلك. واما الثبوت التعبدي فلا معنى له سوى تنزيل الخبر منزلة السنة في وجوب العمل به ، ومن الواضح ان البحث عن ذلك بحث يعرض على الخبر لا عن عوارض السنة إلّا بالالتزام ، ولا بد في المسائل الأصولية ان تكون بمدلولها المطابقي بحثا عن عوارض الموضوع.

وقد وجه بعض أعاظم مشايخنا قدس‌سره كلام الشيخ رحمه‌الله بما حاصله : ان كل تنزيل يستدعي وجود منزل ومنزل عليه وجهة التنزيل ، والمفروض في المقام ان المنزل هو الخبر ، والمنزل عليه هي السنة ، وجهة التنزيل وجوب العمل به ، فكما يمكن أن يبحث عن تنزيل الخبر منزلة السنة فيكون البحث عن عوارضه ، كذلك يمكن ان يبحث عن كون السنة منزلا عليها فيكون البحث عن أحوالها (١).

وفيه : أولا : ان متعلق غرض الأصولي انما هي الجهة الأولى ، واما الجهة الثانية فلا يبحث عنها الأصولي.

وثانيا : ان أصل المبنى غير تام ، لما مر من أنه لا تنزيل في باب جعل الحجج

__________________

(١) نهاية الدراية : ٣ ـ ١٩٩.

١٥٢

أصلا ، فلا الخبر منزل منزلة القطع ، ولا مؤداه منزل منزلة الواقع ، بل المجعول هو تتميم الكشف ، وهو المبحوث عنه في المقام ، وليس ذلك إلّا من عوارض الخبر.

فالحق في الجواب ان ذلك الإشكال مبني على حصر موضوع الأصول في الأدلة الأربعة ، ولا وجه له ، بل الموضوع عنوان يعم جميع مسائله ، والإشارة الإجمالية إليه تغني عن تعيينه باسمه ورسمه ، هذا بناء على اعتبار وجود الموضوع لكل علم. واما بناء على عدم اعتبار ذلك ، وانه لا يلزم ان يكون لكل علم موضوع خاص كما هو الصحيح على ما عرفت في أول الكتاب ، فالإشكال مندفع من أصله.

وكيف كان اختلف العلماء الاعلام في حجية خبر الواحد ، فجملة من قدماء الأصحاب أنكروا ذلك أشد الإنكار ، حتى ألحقها بعضهم بالقياس ، وادعى الضرورة على ذلك. وذهب المتأخرون إلى حجيته.

واستدل المانعون بوجوه :

الوجه الأول : الإجماع على ذلك.

وفيه : أولا : ان دعوى الإجماع على عدم الحجية مع مخالفة المشهور في المسألة مقطوع الكذب.

وثانيا : كيف يمكن نفي حجية خبر الواحد بنقل الإجماع مع انه من افراد المبحوث عن حجيته في المقام ، إذ من عدم حجية الخبر يثبت عدم حجية الإجماع المنقول بالأولوية.

الوجه الثاني : الروايات الناهية عن العمل بغير العلم. وهي كثيرة متواترة إجمالا (١) ، وفي جملة منها المنع عن العمل بالخبر إذا لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو من سنة نبيه ، والأمر بطرح ما خالف الكتاب ، ومن الواضح ان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

١٥٣

أغلب الروايات التي بأيدينا وهي محل البحث ليس عليها شاهد من كتاب الله ، ولا من السنة المحكمة ، وإلّا لما احتجنا إلى التمسك بالخبر والاعتماد عليه.

وفيه : انها معارضة باخبار دالة على حجية خبر الواحد في الجملة ، ونعلم أيضا بصدور اخبار لا شاهد عليها من الكتاب ولا من السنة القطعية ، بل مخالفة للكتاب بنحو العموم والخصوص ، ومع هذا كيف يمكننا الأخذ بظاهر تلك الاخبار ، فلا بد من حملها على أحد وجوه.

منها : حملها على المخالفة بالتباين لا بالعموم والخصوص ، لكثرة ورود المخصصات من الروايات على عموم القرآن ، والمقيدات على إطلاقه ، كقوله عليه‌السلام : (لا ربا بين الوالد والولد) (١) المقيد لإطلاق قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا)(٢) فالأخذ بإطلاق أدلة المنع يستلزم تخصيص الأكثر ، مع ان سياقها آب عن التخصيص ، لوضوح استهجان ان يقال : ما خالف قول ربنا لم نقله إلّا في خمسة موارد مثلا.

ولا يرد على الحمل المتقدم ما أشكل به الشيخ رحمه‌الله من ان الدساسين لم يضعوا ما ينافي الكتاب بالتباين ، لعلمهم بان ذلك لا يصدق منهم ، وذلك لأن الواضعين كانوا يدسون تلك المجعولات في كتب الثقات من أصحاب الأئمة ، ولم ينقلوها بأنفسهم ، لعدم القبول منهم ، وقد لعن الصادق عليه‌السلام المغيرة على ما روى ، لأنه دس في كتب أصحاب أبيه عليه‌السلام أحاديث كثيرة.

ومنها : حملها على ما نسب إليهم في أصول الدين مما لا توافق مذهب الشيعة ، وقد كان ذلك كثيرا ، ولكن لا يوجد منها في الكتب الأربعة ونظائرها إلّا قليل ، لأنها مهذبة.

ومنها : حملها على صورة التعارض ، وفي بعضها قرينة على ذلك ، ويستفاد منه

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٢ ـ باب ٧ من أبواب الرّبا.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

١٥٤

حجية الخبر في حد نفسه. ومضافا إلى جميع ما ذكر ان المعارضة بين بعض تلك الطائفة وبين أدلة حجية الخبر تكون بنحو الإطلاق والتقييد ، فان المنع عن الاعتماد على ما لا شاهد عليه من الكتاب مطلق ، يعم الخبر وغير الخبر ، والموثق وغير الموثق ، ودليل حجية الخبر الموثق أخص من ذلك ، فيقيدها لا محالة ، فنتيجة الجمع حرمة الأخذ بما ليس له شاهد من القرآن إلّا خبر الثقة.

الوجه الثالث : الآيات مثل قوله تعالى (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١).

وقوله سبحانه (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢).

وفيه : ان أدلة حجية الخبر حاكمة على الآيات ، نظير البينة وقول ذي اليد ، ومع التنزل عن ذلك فالمعارضة بين الآيات وأدلة حجية الخبر بالعموم والخصوص ، فان الآيات شاملة لخبر العدل وغيره ، والوارد في أصول الدين وفروعه ، بخلاف دليل حجية الخبر.

ثم ان المحقق النائيني رحمه‌الله ذكر ان في خبر الواحد اصطلاحين (٣) : أحدهما : ما قابل المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية ، وهو بهذا المعنى محل البحث ، وثانيهما : الخبر الضعيف غير الموثق. وبهذا جمع بين كلام المنكر لحجيته والمثبت لها ، وادعى ان من أنكر العمل بخبر الواحد ناظر إلى الضعيف غير الموثوق به ، واما خبر العادل فلا خلاف في حجيته. ويشهد لتعدد الاصطلاح ان الشيخ الطوسي رحمه‌الله مع انه ممن يعمل بخبر الواحد قال في مسألة تعارض الروايتين ورجحان أحدهما على الآخر ، ان المرجوح لا يعمل به ، لأنه خبر الواحد ، وعلى هذا فتكون حجية خبر الواحد إجماعيا.

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) يونس : ٣٦.

(٣) أجود التقريرات : ٢ ـ ١٠٣.

١٥٥

أدلة حجية خبر الواحد :

واستدل المثبتون بوجوه.

الاستدلال على حجية خبر الواحد بالآيات :

الوجه الأول : الاستدلال بالآيات المباركة.

منها : آية النبأ ، وهي قوله عزّ شأنه (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) وتقريب الاستدلال بها من جهات.

الأولى : مفهوم الوصف ، حيث انه سبحانه أوجب التبين عن خبر الفاسق ، فلا يجب في غيره ، ومن الواضح ان وجوب التبين عنه غيري مقدمة للعمل لا نفسي ، وعليه فمفهوم الوصف في الآية عدم لزوم التبين عن خبر غير الفاسق في مقام العمل ، فيعمل به من غير تثبت وتبين.

وفيه : انه ليس للوصف ظهور في المفهوم كما مر بيانه في بحث المفاهيم ، خصوصا في الوصف غير المعتمد على الموصوف ، فانه نظير العناوين الذاتيّة كزيدية زيد ، فكما لا مفهوم فيما علق الحكم على العنوان الذاتي مثل «أكرم زيدا» ، كذلك لو علق الحكم على الوصف غير المعتمد مثل «أكرم عالما» فان في كل من الجملتين علق الحكم على الذات ، غاية الأمر في إحداهما : بالعنوان الاشتقاقي ، وفي الأخرى : بالجامد الذاتي.

الثانية : ما أفاده شيخنا الأنصاري رحمه‌الله وحاصله (٢) : ان في خبر الفاسق حيثيتين ، حيثية ذاتية ، وهي كونه خبر واحد ، وحيثية عرضية وهي كونه خبر فاسق ، وقد علق وجوب التبين على العنوان العرضي ، ولو لم يكن علة للحكم لكان العدول عن الأمر الذاتي إلى العرضي قبيحا ، وخارجا عن طريق المحاورة ، نظير

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) فرائد الأصول : ١ ـ ١٦٤ ـ ١٦٥ (ط. جامعة المدرسين).

١٥٦

تعليل نجاسة الدم بملاقاته مع النجس ، وعليه فيستفاد انتفاء الحكم عند انتفاء العنوان العرضي.

وأورد عليه بعض الأعاظم رحمه‌الله بإيرادين.

الأول : ان الموضوع هو خبر الواحد في قبال خبر المتعدد كالمتواتر ، وكون الخبر خبر واحد سواء بنحو الإضافة أو الصفة من الأمر العرضي للخبر لا الذاتي ، فتعليق الحكم على خبر الواحد أو على خبر الفاسق من التعليق على العنوان العرضي ، فان كلا العنوانين عرضيان للموضوع ، ويحتمل دخل كليهما في الحكم.

وفيه : ان المراد بخبر الواحد هو الّذي لا يفيد القطع ، ويحتمل فيه الصدق والكذب ، في قبال المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية ، وليس مراد الشيخ قدس‌سره من ذاتية عنوان خبر الواحد للخبر الذاتي في كتاب الكليات ، بل أراد منه الذاتي في باب البرهان ، وهو ما يكفي مجرد وضع الشيء في صحة انتزاعه عنه من دون احتياج إلى لحاظ أمر خارجي معه ، كالإمكان بالإضافة إلى الإنسان ، والزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، ومن الواضح ان الخبر في ذاته يحتمل الصدق والكذب ، ويصح حمل ذلك عليه من غير حاجة إلى ضم أمر خارج إليه ، وهذا بخلاف كونه خبر فاسق ، فانه ليس ذاتيا للخبر أصلا.

الثاني : ان إضافة الخبر إلى أحد الأمرين من الفاسق أو الجامع بينه وبين العادل مما لا بد منه ، فان القائل بحجية خبر العادل يقيده بالفاسق ، والقائل بعدم الحجية يقيده بالأعم منه ومن العادل ، وذلك لأن الماهية المهملة لا يحكم عليها بشيء ، فالتقييد ضروري ، فلا يشعر بالعلية ، ولا يثبت به المفهوم.

وفيه : انه لا ملازمة بين عدم التقييد وكون الموضوع هي الطبيعة المهملة ، لإمكان كونه طبيعي الخبر بنحو الإطلاق ، وقد عرفت في محله ان الإطلاق ليس إلّا رفض القيود ، وخروج ما يفيد العلم انما هو لأجل ان العمل على طبقه في الحقيقة

١٥٧

عمل بالقطع لا بالخبر ، فالتقييد ليس ضروريا.

فالإيرادان لا يتوجهان على الشيخ قدس‌سره.

وقد أورد عليه بإشكال آخر وهو ان لازم بيانه حجية خبر غير الفاسق مطلقا ولو لم يكن عادلا ، كالصغير والوسط بين العادل والفاسق لو قلنا بالواسطة بينهما ، ولم يلتزم بذلك أحد.

لكنه مندفع.

أولا : بعدم اختصاصه بهذا التقريب.

وثانيا : انا لا نريد اعتبار العدالة في الخبر بمفهوم هذه الآية ، بل العدالة تثبت بأدلتها المخصصة لإطلاق المفهوم ، وعدم إرادة إطلاق المفهوم لا يضرّ بثبوت أصله.

والصحيح في الجواب : ان يقال : ان ذلك ليس تقريبا مستقلا في الاستدلال بالآية ، وانما هو بيان لحجية مفهوم الوصف ، وقد تقدم الكلام فيه في مبحث المفاهيم ، وذكرنا ان تقييد الموضوع بالوصف لا يفيد عليته للحكم. نعم التعبير عن الموضوع بالعنوان الاشتقاقي أو توصيفه بوصف لا بد وان يكون لنكتة يخرج بها عن اللغوية ، ومن المحتمل أن يكون السر في التعبير بالفاسق في الآية بيان فسق الوليد ، الّذي هو مورد النزول.

الثالثة : الاستدلال بمفهوم الشرط بتقريب : ان وجوب التبين عن الخبر علق على مجيء الفاسق به ، فينتفي عند انتفاء الشرط ، ولازم هذا عدم التبين عن الخبر إذا لم يكن المخبر فاسقا ، واعتبار العدالة لا بد وأن يكون بدليل آخر.

وقد أورد على ذلك بوجوه.

الأول : منع اقتضاء هذه القضية للمفهوم ، لأنها سيقت لبيان الموضوع ، نظير «ان رزقت ولدا فاختنه» فان الولد هو الموضوع لوجوب الختان ، وبانتفائه ينتفي الوجوب لانتفاء موضوعه.

١٥٨

وردّه في الكفاية (١) بان الموضوع في القضية هو النبأ ، وما علق عليه الحكم بوجوب التبين كون الآتي به فاسقا ، وهو متين. وتوضيحه ببيان أمور.

الأول : ان مناط ثبوت المفهوم رجوع القيد إلى الحكم ، فلو كان راجعا إلى الموضوع كما في قولك «زيد الجائي أكرمه» أو إلى المتعلق كما لو قال : «الصلاة في يوم الجمعة واجبة» فلا دلالة فيه على المفهوم أصلا ، وقد أثبتنا حجية مفهوم الشرط ، لما استظهرناه من ظهور أداة الشرط في تعليق مفاد جملة بجملة ، أعني به تعليق الحكم الثابت في الجزاء على الشرط ، وبهذا صرح أهل العربية والمنطق.

الأمر الثاني : ان الجزاء تارة : يكون في نفسه معلقا على الشرط عقلا ، ولا دخل للمولى فيه ، وان وجد منه تعليق فهو إرشاد إلى ذلك كما لو قال : «ان رزقت ولدا فاختنه» وأخرى : يكون التعليق بحكم الشارع فقط ، وأمثلته في الشريعة كثيرة. فما كان التعليق من قبيل الأول فالقضية في مثله مسوقة لبيان الموضوع ، ولا مفهوم له ، وأما ما كان من قبيل الثاني فالتعليق فيه يفيد المفهوم ، وهذا هو الميزان الكلي في كون القضية الشرطية ذات مفهوم وعدمه.

الأمر الثالث : الموضوع في القضية الشرطية قد يكون مركبا من جزءين ، أحدهما مما يتوقف عليه الجزاء عقلا دون الآخر ، كما إذا قيل «ان ركب الأمير ، وكان ركوبه يوم الجمعة ، فخذ بركابه» فان توقف الجزاء على أصل الركوب عقلي ، وعلى كونه في يوم الجمعة شرعي مولوي ، ففي مثل ذلك يثبت لها المفهوم بالإضافة إلى خصوص الجزء الّذي لا يتوقف عليه تحقق الجزاء عقلا ، ولا يكون لها مفهوم بالإضافة إلى الجزء الآخر ، والوجه في ذلك يظهر مما تقدم.

ثم ان تمييز الجزء الّذي أخذ موضوعا في مقام الإثبات عن الجزء الآخر

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٨٣.

١٥٩

المعلق عليه ثبوت الحكم انما يكون بالاستظهار من سياق اللفظ والتعبير ، فالظاهر من مثل قضية «ان جاءك زيد فأكرمه» ان الموضوع فيها هو زيد ، ومجيئه شرط لوجوب إكرامه ، وينعكس الأمر فيما لو قيل «الجائي ان كان زيدا فأكرمه».

إذا عرفت هذه الأمور فنقول : الشرط في الآية المباركة مركب من جزءين ، النبأ وكون الآتي به فاسقا ، وما يتوقف عليه الجزاء منهما عقلا وتكون القضية بالإضافة إليه مسوقة لبيان الموضوع هو النبأ ، وما هو قيد الحكم بحسب ظاهر العبارة كون المخبر به فاسقا ، فينتفي عند انتفائه.

وتوهم : ان الموضوع في الآية انما هو نبأ الفاسق على نحو التقييد ، فليس للقضية مفهوم ، إذ لو كان الموضوع طبيعي النبأ وكان مجيء الفاسق به شرطا للحكم لزم التبين عن كل نبأ حتى نبأ العادل فيما إذا تحقق في الخارج نبأ الفاسق ، إذ المفروض ان وجوب التبين ثابت لطبيعي النبأ على تقدير تحقق نبأ الفاسق ، وبما ان ذلك باطل قطعا يتعين الأول ، فلا يبقى للقضية مفهوم.

مدفوع : بان ما ذكرناه من اختلاف القيود في رجوع بعضها إلى الموضوع وبعضها إلى الحكم انما هو في مقام الإثبات والتعبير ، فان القيد تارة : بحسب ظاهر القضية يرجع إلى الموضوع كما في موارد التوصيف ، وأخرى : يرجع إليه بحكم العقل ، كما في موارد توقف الحكم عليه عقلا كالمثال المتقدم ، وثالثة : لا يكون شيء من الأمرين ، فيرجع القيد إلى الحكم إثباتا ، ويثبت به المفهوم. واما في مقام الثبوت فالقيود بأجمعها لا بد وان ترجع إلى الموضوع ، لاستحالة ثبوت الحكم المقيد على الموضوع المطلق ، وهذا معنى ما قيل من ان قيود الحكم ترجع إلى قيود الموضوع لا محالة ، وعليه فالحكم بوجوب التبين عن النبأ معلقا على كون الجائي به فاسقا لا يقتضي وجوب التبين عن خبر العادل ، ونظير ذلك قولهم عليهم‌السلام «إذا كان الماء قدر كرّ

١٦٠