دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

والإلزام بالترك ناشئ عن كراهة الفعل أو ثبوت مفسدة فيه ، واجتماع الأمرين مستحيل كما هو واضح ، فتقع المضادة بين التكليفين بواسطة المبدأ ، وكذلك بواسطة المنتهى ، فان المكلف بعد وصول كلا التكليفين إليه لا يمكنه امتثالهما معا ، وهكذا الكلام فيما إذا تعلق تكليف إلزامي وتكليف ترخيصي بشيء واحد. وهذا التضاد العرضي إنما يلزم فيما إذا كان الحكمان كلاهما واقعيين ، أو كلاهما ظاهريين.

واما فيما إذا كان أحد التكليفين واقعيا والآخر ظاهريا فلا مضادة بينهما. أما من ناحية المبدأ فلما أفاده في الكفاية (١) من أن الأحكام الظاهرية ناشئة عن مصالح في جعلها ، والأحكام الواقعية ناشئة عن المصلحة في متعلقاتها ، سواء كانت راجعة إلى المكلف ـ بالكسر ـ فيما أمكن ذلك ، أو إلى المكلف ـ بالفتح ـ كما في الأحكام الشرعية ، فلا يلزم من اجتماعهما وجود المصلحة والمفسدة أو وجود المصلحة أو المفسدة وعدمه في شيء واحد ، وهكذا الشوق والكراهة ، ففي الأحكام الواقعية يكون الشوق أو الكراهة متعلقا بنفس المتعلق ، وفي الأحكام الظاهرية بنفس الجعل ، كما في إيجاب الاحتياط حفظا للواقع ، أو جعل البراءة تسهيلا على المكلفين.

واما من ناحية المنتهى ، فلأنه لا يعقل وصولها معا إلى المكلف ، إذ عند وصول الحكم الواقعي لا يبقى موضوع للحكم الظاهري ، وما لم يصل الحكم الواقعي يكون الواصل هو الحكم الظاهري فقط ، فأين وصولهما عرضا ليبقى المكلف متحيرا في مقام الامتثال؟! ولعل ما ذكرناه من اختلاف الحكمين سنخا هو مراد بعض الأعلام من توجيه الإشكال باختلاف المحمول.

هذا كله في إمكان التعبد بغير العلم.

المقام الثاني : وقوع التعبد بالأمارات الظنية.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٥٠.

١٢١

واما وقوعه : فالبحث فيه يقع من جهات :

الأولى : فيما يقتضيه الأصل مطلقا عند الشك في حجية شيء.

الثانية : في صحة ردع الشارع عن العمل بما لم يعلم حجيته.

الثالثة : في صحة التمسك بالعمومات في ذلك.

الرابعة : في إمكان التمسك باستصحاب عدم الحجية.

الخامسة : في ما وقع التعبد بحجيته.

اما الجهة الأولى : فقد أفاد الشيخ رحمه‌الله ان الأصل حرمة التعبد بما لم يحرز حجيته من قبل الشارع ، لأنه من التشريع (١). ويدل على حرمته قوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٢) ، إلى غير ذلك.

وأورد عليه في الكفاية (٣) بما حاصله : أن التعبد بحجية شيء غير ملازم للتشريع ، فان اسناد مؤدى الحجة إلى المولى ليس من الآثار المترتبة على حجيته ، إذ يمكن أن يكون شيء حجة ولا يصح اسناد مؤداه إلى الشارع ، كالظن على الحكومة ، وهكذا العكس ، إلّا أنه مجرد فرض لا واقع له.

وفيه : أن إطلاق الحجة على الظن على الحكومة مسامحة ، إذ الحجة ما يقع وسطا في مقام الإثبات ، ومعنى حجية الظن على الحكومة ليست إلّا حكم العقل بالتبعيض في الاحتياط بعد تمامية تلك المقدمات بالأخذ بالمظنونات دون الموهومات ، فالحجية الحقيقية التي هي محل الكلام ملازمة لصحة الاستناد واسناد المؤدى إلى المولى ، بل هي من آثارها كما في العلم الوجداني ، وعليه فالشك في الحجية يلازم القطع بعدمها ، لا بمعنى أن الشك في إنشاء الحجية ملازم للقطع بعدم

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ٩٦ ، ٩٩ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) يونس : ٥٩.

(٣) كفاية الأصول : ٢ ـ ٥٥ ـ ٥٨.

١٢٢

إنشائها ، فان ذلك واضح الفساد ، إذ الشيء بوجوده لا ينقلب إلى ضده أو إلى نقيضه ، والشك في الوجود مع القطع بالعدم ضدان لا يجتمعان ، بل بمعنى أن الشك في الحجية جعلا ملازم للقطع بعدم الحجية فعلا وعدم ترتب الآثار المرغوبة منها.

والأثر المرغوب منها أمران.

أحدهما : صحة الاستناد إليها في مقام العمل ، والاكتفاء بمؤداها.

ثانيهما : صحة اسناد مؤداها إلى الشارع ، مثلا بعد إحراز كبرى حجية خبر الثقة إذا أخبر الثقة عن وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة يكتفي بها في مقام الامتثال عن الاحتياط اللازم بمقتضى العلم الإجمالي ، ويصح اسناد مؤداه إلى الشارع.

وهذان الأثران لا يترتبان على الحجية بوجودها الواقعي ، بل على إحرازها صغرى وكبرى ، لا لتوهم أخذ العلم في موضوعها واختصاصها بالعالمين ، فانه مستلزم للدور ، ومخالف لما دل على اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل ، بل لأنهما من الآثار العقلية المترتبة على الحجة الواصلة. واما تنجيز الواقع فلا يرتبط بالحجية ، لأنه ثابت بمجرد الاحتمال قبل الفحص أو بالعلم الإجمالي. وبالجملة لا فرق بين الحجية وسائر الأحكام الواقعية من حيث عدم اشتراطها بالعلم. نعم في سائر الأحكام ربما يترتب الأثر عليها بوجودها الواقعي ولو لم تصل ، بخلاف الحجية ، فانه لا يترتب عليها أثر إلّا بعد إحرازها ووصولها ، ولذا يقال : أن الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها ، فإسناد مؤدى مشكوك الحجية والاستناد إليه يكون تشريعا محرما.

الجهة الثانية : بعد حكم العقل بعدم حجية ما لم يحرز التعبد بحجيته يصح للشارع المنع عن العمل به ، ولا يلزم منه اللغوية ، وذلك لأن موضوع حكم العقل إنما هو الشك في حجية الشيء ، وبالتعبد بالمنع يقطع بعدم الحجية ، فيخرج عن موضوع حكم العقل ، ولذا ورد الردع عن العمل بالقياس ، فالحكم لا يمنع عن التعبد المولوي.

١٢٣

الجهة الثالثة : في بيان صحة التمسك بعمومات الأدلة المانعة عن العمل بغير العلم لإثبات حرمة العمل بمشكوك الحجية ، وتقريبه : على ما يظهر من كلام الشيخ قدس‌سره هو أن نسبة أدلة الحجية إلى الأدلة المانعة نسبة المخصص إلى العام ، فالشك في حجية شيء يكون شكا في التخصيص ، والمحكم فيه عموم العام.

وأورد عليه المحقق النائيني (١) بأن أدلة حجية الأمارات حاكمة على الأدلة المانعة ، فان دليل حجية خبر الثقة مثلا يخرجه عن موضوع دليل المنع أعني به غير العلم ، فيكون ذلك علما تعبدا ، فعند الشك في حجية شيء تكون الشبهة مصداقية ، ولا يجوز التمسك فيها بالعموم.

وفيه : أولا : ان الحجية كما عرفت لا أثر لها ما لم تصل ، فالحكومة إنما هي بعد الوصول ، فان خبر الثقة إنما يكون علما تعبديا بعد إحراز حجيته.

وثانيا : انه على ذلك لا يمكن التمسك بعمومات أدلة الأصول العملية عند احتمال وجود حجة على خلافها ، سواء كان احتمال وجود الحجة من قبيل الشبهات الحكمية أو الموضوعية ، فلو أخبر العدل الواحد برؤية المطر على ما كان معلوم النجاسة لم يجز التمسك باستصحاب بقاء نجاسته ، لاحتمال أن يكون خبر الواحد حجة في الموضوعات ، كما انه عليه لو احتملنا قيام حجة واقعا على ثبوت حكم إلزامي في موارد الشبهة البدوية لا يمكننا إجراء البراءة ، وذلك واضح البطلان.

وثالثا : لو لم يمكن التمسك بها عند الشك في حجية شيء لكان صدورها بكثرتها لغوا محضا ، فان من الواضح خروج ما يقطع بحجيتها من مورد العمومات ، ولا فائدة في اختصاصها بما يقطع بعدم حجيتها ، فإذا لم تشمل مشكوك الحجية كان صدورها لغوا. وتوهم كونها صادرة للإرشاد إلى ما حكم به العقل ، يدفعه ما بيناه من

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٨٧.

١٢٤

أن موضوع حكم العقل ، إنما هو مشكوك الحجية ، واما العمومات فهي ناظرة إلى الواقع.

الجهة الرابعة : في إمكان التمسك بالأصل العملي ، وهو استصحاب عدم الحجية. وهذا البحث مبني على الفراغ عن جريان الاستصحاب في عدم التكليف في نفسه كما هو المختار عندنا ، واما بناء على عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإنشائية مطلقا فلا معنى للبحث عنه في خصوص المقام ، فان الأمر في جميع موارد الشك في الجعل من واد واحد.

وقد منع المحقق النائيني قدس‌سره عن جريانه في خصوص المقام بدعوى (١) انه لا بد في جريان الاستصحاب من أن يكون للمستصحب ـ أعني المتيقن السابق ـ أثر عملي يبقى الشاك متحيرا فيه ، ليكون البناء على بقائه عملا هو الغاية من الاستصحاب ، من غير فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية ، فلو فرض في مورد عدم ترتب الأثر على الواقع ، اما لترتبه على خصوص الجهل بالواقع ، واما لكونه أثرا مشتركا بين الواقع والجهل به ، فلا مجال لجريان الاستصحاب ، ولا يشمله أدلته ، لأنه لغو وتحصيل للحاصل. والمقام من هذا القبيل ، فان الأثر المترتب على عدم الحجية اما عدم صحة الاستناد ، واما عدم صحة اسناد المؤدى إلى المولى ، وكلاهما يترتبان بمجرد الشك في الحجية ، اما الأول فلاستقلال العقل بعدم جواز الاستناد إلى ما لم يحرز حجيته من قبل المولى ، واما الثاني فلأنه تشريع محرم ، سواء فسرناه بإدخال ما لم يعلم انه من الدين في الدين ، وعليه يكون ذلك أثرا لخصوص الجهل ، أو فسرناه بالأعم منه ومن إدخال ما علم انه ليس من الدين ، في الدين وعليه يكون ذلك أثرا مشتركا بينه وبين الواقع.

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ١٢٨ ـ ١٢٩ ، أجود التقريرات : ٢ ـ ٨٧.

١٢٥

والحاصل : الحجية الفعلية بالمعنى المتقدم مقطوعة العدم بمجرد الشك فيها ، فالتعبد بعدمها يكون من أردأ أنحاء تحصيل الحاصل ، انتهى. وبهذا وجه كلام الشيخ قدس‌سره في المنع عن التمسك بالاستصحاب في أمثال المقام.

ونقول : ان ما يحكم به العقل بمجرد الشك في الحجية إنما هو عدم الحجية الفعلية ، وما هو مورد الاستصحاب عدم إنشاء الحجية ، فما هو حاصل بالوجدان غير ما يحصل بالتعبد ، فلا وجه للقول بكون التمسك بالاستصحاب في المقام من تحصيل الحاصل.

واما لغوية التعبد لدوران الأثر مدار الحجة الفعلية وجودا وعدما ، فالجواب عنه.

أولا : بالنقض بالروايات الدالة على المنع بالعمل ببعض الأمارات كالقياس ، وما دل على البراءة شرعا كحديث الرفع ، مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان.

وثانيا : بالحل ، وهو أنه متى كان حكم العقل في طول الحكم الشرعي؟! وفي فرض الشك فيه يصح للشارع أن يتصرف في موضوع الحكم العقلي ، ولا يكون ذلك لغوا ، فان الأثر الّذي كان يترتب على الشك والجهل بحكم العقل لو لا التعبد يترتب حينئذ على التعبد الشرعي ، ففي المقام العقل وان كان مستقلا بعدم جواز الاستناد إلى مشكوك الحجية ، وعدم جواز اسناد مؤداه إلى المولى ، ولكن ترتب ذلك عقلا على مشكوك الحجية كان منوطا بعدم التعبد الشرعي ، فإذا ثبت كان الأثر مترتبا عليه. فعلى التقديرين العقل في ذلك مستقل بعدم الحجية ، لكن على الأول بما انه مشكوك الحجية ، وعلى الثاني بما انه مقطوع العدم بلحاظ التعبد ، فلا يتجه إشكال اللغوية أيضا. فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدم الحجية.

الجهة الخامسة : ما وقع التعبد به من الأمارات أمور. وتفصيل الكلام في ذلك يقع في مباحث :

١٢٦

المبحث الأوّل :

حجية الظهورات

غير خفي ان حجية الظواهر مما تسالم عليها العقلاء في محاوراتهم ، وبنوا عليها في جميع أمورهم ، وحيث لم يكن للشارع طريق خاص في محاوراته ، بل كان يتكلم بلسان القوم ، ولم يردع عنها ، فهي ممضاة عنده أيضا ، وهذا واضح ، ولذا لم يعثر على خلاف فيه. وإنما وقع الخلاف في أمور ثلاثة :

الأول : في اشتراط حجية الظهور بالظن بالوفاق ، أو بعدم الظن بالخلاف.

الثاني : في اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه ، وعدم حجيته لغيره ولو كان مشتركا معه في التكليف.

الثالث : في حجية ظواهر الكتاب وعدمها إلّا بضميمة الروايات.

اما الأول : فالحق عدم اعتبار الظن بالوفاق في حجية الظهور ، كما لا يضر بها قيام الظن غير المعتبر على الخلاف. واما قيام الظن المعتبر على خلافه فلا ريب في كونه قرينة على المراد ، وهو خارج عن محل. الكلام ومنشأ توهم اعتبار ذلك ما يشاهد من أن العقلاء لا يقنعون في أمورهم المهمة ، كما في الأموال والاعراض والنفوس بمجرد الظهور ، إلّا إذا حصل لهم الظن أو الاطمئنان بالواقع ، فإذا احتملوا إرادة خلاف الظاهر في كلام الطبيب لا يعملون به بلا إشكال ، وهذا وان كان مسلما في الجملة إلّا أنه يختص بما إذا كان المطلوب فيه تحصيل الواقع. واما فيما كان المطلوب فيه الخروج عن عهدة التكليف ، وتحصيل الأمن من العقاب ، فلا ريب ان ديدنهم

١٢٧

جرى فيه على العمل بالظهورات مطلقا ، ألا ترى انهم لا يعذرون العبد إذا اعتذر عن مخالفة ظاهر كلام مولاه بعدم حصول الظن له بالوفاق ، أو بحصول الظن له بالخلاف. والتوهم المزبور إنما نشأ من الخلط بين المقامين.

واما الثاني : فقد ذهب صاحب القوانين (١) إلى اختصاص حجية الظهور بمن قصد إفهامه ، وعليه رتب انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام. واستدل عليه بوجوه.

منها : ان المنشأ في أصالة الظهور أصالة عدم الغفلة ، فانه إذا كان المتكلم في مقام البيان ، والسامع في مقام الاستماع وفهم المراد ، ولم يظهر له قرينة على الخلاف ، فاحتمال إرادة خلاف الظاهر حينئذ لا يتصور له منشأ إلّا أحد أمرين.

الأول : تعمد المتكلم في عدم إتيانه بالقرينة ، وهو خلاف الفرض.

الثاني : غفلة المتكلم عن نصب القرينة ، أو السامع عن الالتفات إليها ، والأصل عدم الغفلة في كل منهما. وهذا هو الأصل في حجية الظاهر ، وعليه فمن لم يقصد إفهامه حيث لا يجري في حقه أصالة عدم الغفلة ، فلا يمكنه التمسك بظواهر الكلام.

وفيه : ان أصالة عدم الغفلة ولو لم تكن جارية في حق من لم يقصد إفهامه إلّا أنها ليست أصلا لأصالة الظهور ، بل كل منهما أصل برأسه ، وبينهما عموم من وجه ، فتفترق أصالة عدم الغفلة عن أصالة الظهور في فعل البالغ العاقل إذا احتمل صدوره منه غفلة ، وتفترق أصالة الظهور عنها في كلام النبي والإمام ، إذ لا يحتمل الغفلة فيه أصلا ، ويجتمعان في كلمات أهل العرف في محاوراته ، فأصالة الظهور بنفسها أصل عقلائي تجري بالقياس إلى من قصد إفهامه ومن لم يقصد ، كان حاضرا مجلس

__________________

(١) القوانين : ١ ـ ٣٩٨ ، ٤٠٣.

١٢٨

الخطاب أو لم يكن. والشاهد على ذلك ما نرى من أخذ أهل العرف والعقلاء في باب الإقرار بظاهر كلام المقر ولو كان إقراره عند شخص أجنبي عن القاضي وعن المقر له ، ولم يكونا مقصودين بالإفهام وحاضرين مجلس الخطاب إلى غير ذلك.

ومنها : انا نحتمل بعد وقوع التقطيع في الاخبار وجود القرينة على خلاف الظاهر في الصدر أو الذيل المتقطع ، ومعه كيف يصح التمسك بالظهور؟!

وفيه : انه إنما يتم لو كان المقطع للاخبار غير ثقة ، أو غير عارف بخواص الكلام ، واما شيخنا الكليني قدس‌سره وأمثاله ممن ثبت تورعهم في الدين ، ولهم الخبرة بمزايا الكلام ، وقد مارسوا لحن أهل البيت عليهم‌السلام فمن البعيد جدا خفاء القرينة عليهم ، فإذا نقلوا ما هو خال عن القرينة نطمئن بعدمها ، بل ربما يحصل القطع بأن التقطيع كان في جمل الرواية الأجنبي بعضها عن بعض ، ولقد كانت عادة الرّواة عند تشرفهم بحضرة الإمام عليه‌السلام السؤال عن عدة مسائل لا ربط لإحداها بالأخرى ، كما هو المتعارف في الاستفتاءات في زماننا هذا ، وقد أتعب العلماء الأعلام أنفسهم في إرجاع المسائل إلى أبوابها المناسبة لها مع الدقة وجهد النّظر.

فالإنصاف ان مثل هذا التقطيع غير مانع عن حجية الظهور. ثم لو سلمنا اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه فالصغرى ممنوعة ، أي لا نسلم كون الروايات بالنسبة إلينا كذلك ، فان راوي الحديث من نفس الإمام عليه‌السلام مقصود بالإفهام قطعا ، وكذا كل لاحق من الرّواة مقصود بالإفهام من السابق إلى أن تنتهي السلسلة إلى أصحاب الجوامع كالكافي ونظرائه ، ومن الواضح ان المقصود بالإفهام بالقياس إلى الكتب كل من نظر فيها ، فيكون ظاهرها حجة كما في النقل بالمعنى. وعليه فلا يترتب على القول باختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه انسداد باب العلمي كما توهم.

وأما الثالث : أعني به عدم حجية ظواهر الكتاب فوقع الكلام فيه تارة : في

١٢٩

منع أصل الظهور ، وأخرى : في المنع عن حجيته.

واستدل للأول بوجوه :

الأول : ان المقصود من الكتاب انما هو ألفاظه دون معانيه ، كفواتح بعض السور التي هي كنايات عن أشياء لا يعرفها إلّا النبي وأوصياؤه صلوات الله عليهم ، ويدل عليه الروايات ، فالقرآن من قبيل الرموز.

الثاني : ان بعض الروايات دلت على حصر فهم ظهوره بأهل البيت عليهم‌السلام ففي بعضها الرادع لأبي حنيفة «ما ورثك الله من كتابه حرفا» (١) «وكذلك لقتادة انما يعرف القرآن من خوطب به» (٢) فيعلم من ذلك أن القرآن لغموض معانية ، وعلو مطالبه ، بحيث يشتمل على علم ما كان وما يكون بحجمه الصغير لا يصل إليه فكر البشر إلّا الراسخون في العلم.

الثالث : أن القرآن في حد ذاته وان كان له ظهور لكن العلم الإجمالي بوجود القرائن المنفصلة ، الدالة على إرادة خلاف الظاهر منه كثيرا ، من مخصصات ومقيدات وقرائن على المجاز أسقط جواز العمل بظهوراته ، فان العلم الإجمالي يمنع من جريان الأصول اللفظية كما يمنع عن جريان الأصول العملية.

الرابع : دلت الروايات على وقوع التحريف فيه ، ومن المحتمل وجود القرينة في القسم المحرف.

وهذه الوجوه الأربعة تمنع أصل الظهور ، اما ذاتا كالأولين ، واما عرضا بسبب العلم الإجمالي أو التحريف كالأخيرين.

واستدل للثاني ، أعني به عدم حجية ظهور القرآن بدليلين.

أحدهما : نهى الشارع عن اتباع المتشابهات بقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ٦ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٧.

(٢) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٥.

١٣٠

قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ)(١) بتقريب : ان المتشابه هو ما يحتمل فيه وجهان ، أو وجوه يشبه بعضها بعضا في احتمال إرادته من اللفظ ، فهو مقابل الصريح الّذي لا يحتمل فيه الخلاف ، فيعم الظواهر ، ولا أقل من احتماله ، فيكون مجملا ، ويسري إجماله إلى جميع الآيات لكونه من قبيل القرينة المتصلة ، فعلى التقديرين لا يصح التمسك بظواهر القرآن بعد ذلك.

ثانيهما : الروايات الكثيرة الواردة في المنع عن تفسير القرآن ، وقد عدها في الوسائل (٢) إلى مائتين وخمسين حديثا.

هذه جميع الوجوه التي استدل بها للأخباريين المانعين عن العمل بالكتاب. ولا يعبأ بشيء منها.

اما دعوى كونه من قبيل الرموز ، فهي منافية لكونه معجزة خالدة ، يرشد الخلق إلى نهج الحق ، ويستضيئوا بمعارفه وعظته وأمثاله من غير اختصاص لذلك بزمان دون زمان ، وانما هو هاد للأجيال المتعاقبة ، فلو لم يكن له ظهور يعرفه أهل اللسان لاختل إعجازه. نعم يختلف فهم الناظرين منه لاختلاف إدراكهم ، على انه ورد الأمر من الأئمة عليهم‌السلام بالرجوع إلى الكتاب عند اختلاف الأحاديث وتعارضها بل مطلقا ، فلو كان من قبيل الرموز لما كان معنى للإرجاع إليه.

واما دعوى اشتماله على المطالب العالية فهي وان كانت صحيحة ، إلّا ان بيانه غير مخل بالمقصود ، لا من جهة الإيجاز ، ولا من ناحية الإغلاق ، بل هو متناسب مع أذواق أهل العصور ، فعلوّ مطالبه ودقة معانيه وبعد مرماه لا ينقص من ظهور ألفاظه شيئا ، فيعرفه العارف باللغة. واما الباطن فلا يقف عليه إلّا الراسخون في العلم ، وعلى ذلك يحمل ما ورد من اختصاص فهم القرآن بأهل البيت سلام الله عليهم.

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ١٣ من أبواب صفات القاضي.

١٣١

وأما العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر ، فهو انما يوجب الفحص ، لا سقوط الظواهر عن الحجية بالكلية ، وإلّا لم يجز العمل بالروايات أيضا لوجود العلم الإجمالي فيها كما في القرآن.

واما دعوى التحريف ، فأولا : نمنع وقوعه ، ولم يقل به إلّا بعض العامة ، وتبعه نفر من الخاصة ، فان القرآن بلغ من الأهمية عند المسلمين في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى حفظته الصدور مضافا إلى الكتابة ، ولم يكن أمرا خفيا عن الناس ليمكن تحريفه حتى عن الصدور الحافظة له كلا أو بعضا. اما ما نقل من الأخبار على تحريف القرآن فالمراد منها على فرض صحتها التحريف من حيث التقديم والتأخير ، أو التأويل ، أو غير ذلك كما بيناه في مقدمة التفسير.

وثانيا : ان التحريف ولو سلم وقوعه إلّا ان الروايات الآمرة بالرجوع إلى الكتاب بما انها واردة عن الصادقين عليهما‌السلام بعد التحريف ، فيعلم من ذلك ان التحريف على فرض وقوعه فهو غير مخل بظهور ما بقي.

واما دعوى وجود روايات ناهية عن تفسير القرآن بالرأي فهي معارضة بروايات متواترة واردة في أبواب مختلفة ، دلت على الرجوع إلى الكتاب ، وطرح ما خالفه ، واستشهاد الأئمة عليهم‌السلام بظواهره ، فلا بد حينئذ من حمل الأخبار الناهية اما على الاستقلال في الاستفادة من الكتاب ، كما كان دأب العامة ، وقد قال الرّجل : حسبنا كتاب الله ، ويشهد لهذا المعنى بعض الأخبار ، وأما على تأويله بما يطابق القياس بالاستحسانات. هذا مضافا إلى ان التفسير في حد نفسه لا يعم الترجمة ، لأنه بمعنى كشف القناع ، لا بيان المعنى الظاهر الّذي لا خفاء فيه والعمل على طبقه.

واما ورود المنع عن اتباع المتشابه في الكتاب ، فهو أجنبي عن محل الكلام ، لأن المتشابه هو اللفظ المحتمل لمعنيين في عرض واحد بحيث يكون كل منهما عدلا للآخر ، وأين ذلك من اللفظ البارز في معناه ، على انا لو سلمنا إجمال المتشابه

١٣٢

فالروايات الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب وطرح ما خالفه مبينة لإجماله ، ويظهر منها ان المراد من المتشابه في الآية هو المجمل دون ما له ظاهر ، فانه الّذي ربما يكون الخبر مخالفا له فلا يعتنى به ، واما الصريح فلا توجد رواية مخالفة له ليكون موردا للطرح.

فتحصل : ان الكتاب العزيز له ظاهر ، وظاهره حجة ما لم يحصل الصارف عنه.

تنبيه :

إذا أحرز مراد المتكلم من ظاهر كلامه ، فلا ريب في الأخذ به. واما إذا شك في المراد ، فمنشؤه أحد امرين : أما عدم انعقاد الظهور للفظ أصلا ، أو احتمال أن لا يكون الظاهر مرادا. وسبب الأول تارة : يكون عدم إحراز الموضوع له وما يفهم من اللفظ عرفا بما له من القرائن والخصوصيات ، ونعبر عن ذلك بعدم إحراز المقتضى ، وأخرى : احتمال قرينية الموجود ، وثالثة : احتمال وجود القرينة. والسبب في الثاني أيضا أحد أمور ثلاثة : احتمال غفلة المتكلم عن نصب القرينة أو تركه لذلك عمدا لمصلحة فيه أو لمفسدة في نصبه أو اتكاله على قرينة منفصلة حالية أو مقالية ، متقدمة أو متأخرة لم نظفر عليها بعد الفحص.

اما فيما إذا كان الشك في المراد من قبيل الثاني ، أي بعد تحقق الظهور ، فالعقلاء لا يعتنون بالاحتمالات الثلاثة المتقدمة ، ويأخذون بظاهر الكلام ، واعتمادهم عليه انما هو لأصالة الظهور ، التي هي بنفسها أصل وجودي ثابت ببناء العقلاء وعدم ردع الشارع عنه ، لا لأصالة عدم القرينة كما يستشعر من كلام شيخنا الأنصاري (١) ، ولعل غرضه رحمه‌الله التمسك بها فيما إذا شك في أصل الظهور لاحتمال وجود القرينة ، لا فيما

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ١٠١ (ط. جامعة المدرسين).

١٣٣

إذا كان الظهور متحققا وشك في المراد ، فان منشأ الشك فيه ليس احتمال وجود القرينة المتصلة المانعة عن الظهور أصلا ، لأنه مقطوع العدم في جميع صوره ، ووجود القرينة المنفصلة وان كان محتملا في بعض الصور وهو المنشأ للشك فيه إلّا انه لا تمنع من انعقاد الظهور ، وانما يمنع وصولها عن حجية الظهور ، فأي حاجة إلى التمسك بأصالة عدم القرينة لنفي ذلك ، وقد مر تفصيله في مبحث العام والخاصّ.

واما الفرض الأول ، وهو ما إذا شك في المراد لأجل الشك في أصل الظهور الفعلي ، فان كان ذلك ناشئا من إجمال اللفظ ، كما في لفظ الصعيد في الآية ، المردد بين التراب ومطلق وجه الأرض ، فالمرجع فيه الأصل العملي. وان كان ناشئا من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، كما في الأمر الواقع في مورد توهم الحظر كقوله تعالى (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١) وكما في الضمير الراجع إلى بعض افراد العام ، والاستثناء المتعقب لجمل عديدة ، فان قلنا : بان أصالة الحقيقة بنفسها أصل عقلائي كما نسب إلى السيد المرتضى رحمه‌الله فبها يحرز الظهور ، ويؤخذ به ، ولكنه لم يثبت ذلك ، واما إذا قلنا : بان بناء العقلاء انما هو على العمل بالظهور الكاشف نوعا عن المراد كما هو الصحيح ، فلا ظهور في المقام ليؤخذ به. وان كان الشك ناشئا من احتمال وجود المانع فهو على قسمين : إذ المانع المحتمل تارة : يكون امرا داخليا ، كما إذا احتمل غفلة المخاطب عن استماع القرينة ، وأخرى : يكون امرا خارجيا كما إذا احتمل سقوط القرينة عن الكلام لأجل التقطيع ، أو كثرة الوسائط في الأخبار.

اما في الأول ، فلا ريب في بناء العقلاء على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال. نعم وقع الخلاف في ان بنائهم على ذلك هل هو ابتدائي كما ذهب إليه في الكفاية (٢) ، أو هو

__________________

(١) المائدة : ٢.

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٦٥.

١٣٤

بعد إجراء أصالة عدم الغفلة أو عدم القرينة كما ذهب إليه الشيخ (١) رحمه‌الله؟ والحق هو الثاني ، لما ذكرنا ان مورد بناء العقلاء انما هو الظهور ، وعملهم على الأخذ بالظاهر ، فلا بد من إثباته أولا بإجراء أصالة عدم القرينة ، ثم الحكم ثانيا بحجيته ، وعلى هذا يحمل ما أفاده الشيخ قدس‌سره من إرجاع الأصول اللفظية إلى الأصول العدمية كما أشرنا إليه.

واما في الثاني ، وهو ما إذا كان المانع المحتمل امرا خارجيا ، فالمشهور فيه أيضا الرجوع إلى أصالة عدم القرينة ، ولم يفرقوا بين هذه الصورة وسابقتها. ولكن المحقق القمي فرق بينهما ، وذهب إلى عدم ثبوت بناء من العقلاء في مثل ذلك ، وعليه بنى انسداد باب العلمي في الأحكام.

وما أفاده من الكبرى الكلية وان كان متينا ، وشاهدها ان العقلاء إذا وصل إليهم كتاب قطع بعضه وبقي بعضه لا يعملون بظاهر الباقي إذا احتملوا في المقطوع قرينة صارفة لظهور الجمل الباقية ، وهكذا لو اعترى العبد سنة حين تكلم المولى معه ، ليس له العمل بظاهر ما سمعه من الكلام إذا احتمل فوات قرينة صارفة ، ولا يدفع ذلك بالأصل ، وهكذا فيما يوجد من السجلات والإسناد ، إلّا ان تطبيقها على المقام غير صحيح ، لما ذكرناه آنفا من أن المقطعين للأخبار بلغوا الغاية في الفضل والتقى ، ومعرفة لحن القول ، فلا تخفى عليهم القرائن لو كانت موجودة ، فاحتمال خفائها عليهم موهون جدا ، وليس هذا تمسكا بفهمهم واستنباطهم كي يقال : انه غير حجة بالنسبة إلينا ، بل تمسك بروايتهم للأحاديث الخالية عن القرائن كما في النقل بالمعنى ، وهذا ثابت في المرتكزات والأمور العرفية أيضا.

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ١٠١ (ط. جامعة المدرسين).

١٣٥
١٣٦

المبحث الثاني :

حجية قول اللغوي

استدل على حجية قول اللغوي في تعيين معاني الألفاظ بوجوه :

الأول : انه من أهل الخبرة لتعيين الموضوع له ، فالرجوع إليه من قبيل الرجوع إلى المهندس في تقويم الدار ، أو الرجوع إلى الفقيه في بيان الأحكام ، وقد بنى العقلاء على العمل بقول أهل الخبرة من دون اعتبار العدالة ، ولا التعدد فيها. واما اعتبار ذلك في المجتهد فهو بدليل خاص خارجي.

وفيه : ان الرجوع إلى أهل الخبرة انما هو في الأمور الحدسية التي يحتاج استخراجها إلى إعمال رأي ونظر ، واللغوي ليس من أهل تعيين المعاني الحقيقية ، فان غاية ما يترتب على اطلاعه واستقرائه بيان موارد استعمال اللفظ في معنى أو معاني ، وذلك غير محتاج إلى حدس واجتهاد ، بل هو من الإخبار عن الحس فيكون بابه باب الشهادة ، والرجوع إليه من قبيل الرجوع إلى الشاهد ، فنعتبر فيه كلما يعتبر في الشاهد من العدالة ، والتعدد أيضا على قول. على انا لو سلمنا ان اللغوي من أهل خبرة ذلك إلّا ان الكتب الموضوعة في اللغة لم. توضع لبيان ذلك ، وانما وضعت لبيان موارد الاستعمال ، وإلّا كانت جميع اللغات العربية إلّا النادر مجازا ، وهو مقطوع البطلان.

الثاني : دعوى الإجماع على العمل بقول اللغوي ، فان العلماء خلفا عن سلف يراجعون كتب اللغة ، ويعملون بها.

١٣٧

وفيه : أولا : ان تحصيل الإجماع على ذلك مشكل بعد ما لم يتعرض جملة من الفقهاء لهذا البحث أصلا ، ولعل عملهم بقول اللغويين كان لأجل حصول الاطمئنان لهم من اتفاقهم على معنى واحد ، ووثوقهم بذلك.

وثانيا : لو سلم تحقق الإجماع فليس تعبديا كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، لاحتمال أن يكون مستند المجمعين أحد الوجوه التي يستدل بها في المسألة.

الثالث : إجراء انسداد صغير في خصوص اللغات ، فان معاني غالب الألفاظ مجهولة ، اما أصلا واما سعة وضيقا.

وفيه : ان انسداد باب العلم في اللغة ان رجع إلى انسداد باب العلم في الأحكام ، فالنتيجة بعد ضم بقية المقدمات هو حجية الظن بالحكم مطلقا ، سواء في ذلك حصوله من قول اللغوي أو من الرجالي أو غيره ، وسواء كان باب العلم في غالب الألفاظ منسدا أو لم يكن. وان لم يرجع إلى ذلك ، وكان باب العلم بالاحكام مفتوحا فلا أثر لانسداد باب العلم باللغة.

ثم ان بعض الأعاظم وجه الاستدلال بالانسداد بتقريب آخر : وهو ان من جملة مقدمات الانسداد عدم جواز الرجوع إلى البراءة اما للزوم الخروج عن الدين ، أو للزوم المخالفة القطعية ، وعند انسداد باب العلم باللغة وان لم يلزم من الرجوع إلى البراءة في الأحكام المجهولة من هذه الجهة خروج عن الدين ، إلّا انه يلزم منه المخالفة القطعية قطعا ، لأن غالب الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة معانيها مجهولة ، فلا بد من التنزل فيها إلى العمل بالظن الحاصل من قول اللغوي.

وفيه : أولا : منع الصغرى ، إذ لا نسلم كون الجهل بالاحكام لأجل الجهل باللغة بمثابة يستلزم الرجوع فيها إلى البراءة المخالفة القطعية ، فانه ليس في ألفاظ الكتاب والسنة ألفاظا مجهولة المعنى إلّا القليل سيما في الألفاظ المستعملة في موارد الأحكام الإلزامية ، بل لم نجد فيها إلّا ألفاظا معدودة ، نعم الغالب في مجموع ألفاظ

١٣٨

اللغة ذلك.

وثانيا : ان مقدمات الانسداد غير منحصر بعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، بل من جملتها عدم إمكان الاحتياط ، أو عدم وجوبه ، للعسر والحرج ، أو لكونه مخلا بالنظام ، وفي المقام لا يلزم من الرجوع إلى الاحتياط شيء من ذلك.

فالمتحصل : مما ذكرناه انه لا دليل على حجية قول اللغوي ، بل يدخل في باب الشهادة ، فيعتبر فيه العدالة بلا خلاف ، والتعدد على القول به ، وسيأتي الكلام فيه عند التعرض لمفهوم آية النبأ

١٣٩
١٤٠