دراسات في علم الأصول - ج ٣

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٧

مباحث الظن

التعبد بالأمارات الظنية

حجية الظهورات

حجية قول اللغوي

حجية الإجماع المنقول

حجية الشهرة

حجية خبر الواحد

حجية مطلق الظن

١٠١
١٠٢

مقدمة

في التعبد بالأمارات الظنية

والبحث يقع في مقامين :

المقام الأول : في إمكان التعبد بالأمارات الظنية.

ذكر في الكفاية انه لا ريب في أن الأمارة غير العلمية ليست كالقطع في كون الحجية من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلية بل مطلقا أي بحيث لا تكون قابلة للمنع عن العمل بها ، أو بنحو الاقتضاء بحيث يمكن المنع عن العمل بها ، وان ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجية عقلا بناء على تقدير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة ، وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجية بدون ذلك ثبوتا بلا خلاف ولا سقوطا ، وان كان ربما يظهر من بعض المحققين الخلاف والاكتفاء بالظن بالفراغ ، ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل فتأمل ، انتهى (١).

أقول : الأمر بالتأمل إشارة إلى أن ما ذهب إليه هذا القائل وهو صاحب الحاشية يختص بصورة عدم التمكن من الامتثال العلمي ، فكفاية الامتثال الظني إنما تكون في فرض الانسداد ، وإلّا فهو بديهي البطلان.

ولا يتم التوجيه المتقدم عنه قدس‌سره فانه يرد عليه.

أولا : أن ذلك يستلزم جواز الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي أيضا ، ولا يلتزم به

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ٤٢.

١٠٣

القائل ولا غيره.

وثانيا : أن ما وقع الخلاف في لزوم دفعه إنما هو الضرر الدنيوي لا الأخروي ، ومن ثم لم يخالف أحد في لزوم الفحص في موارد الشبهات الحكمية مع أنه ليس هناك إلّا احتمال العقاب ، فتحصل أن الظن كما لا يكون حجة ثبوتا لا يكون حجة سقوطا.

ثم أن ما أفاده قدس‌سره من حجية الظن عقلا بثبوت مقدمات طروء حالات قد ظهر فساده مما قدمناه آنفا ، فان تقرير الانسداد بنحو الحكومة لا يقتضي حجية الظن أصلا ، وإنما يوجب تضييق دائرة الاحتياط في مقام الامتثال ، فطروء الحالات لا يوجب حجية ما لم يكن حجة في نفسه ، بل يوجب تضييق دائرة الاحتياط في المظنونات ورفع اليد عنه في المشكوكات والموهومات ، فحجية الظن منحصرة بالجعل الشرعي واعتباره سواء كان الكاشف عنه الدليل الخاصّ أو تمامية مقدمات الانسداد على الكشف. ومن ذلك يظهر أن في التعبير بالحجة عن الظن الانسدادي على الحكومة مسامحة واضحة.

ثم إنك بعد ما عرفت أن الظن لا يكون حجة ذاتا نتكلم في إمكان التعبد به أولا ، ثم في وقوعه. وليعلم قبل ذلك أن مرادهم من الإمكان في المقام ليس الاحتمال الّذي هو المراد من قولهم (كلما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه ساطع البرهان) لوضوح أن الاحتمال أمر تكويني غير قابل للنزاع. وهكذا ليس المراد منه الإمكان الذاتي في مقابل الاستحالة الذاتيّة ، لوضوح أن التعبد بالظن ليس من الأمور التي يحكم العقل باستحالته بمجرد لحاظه وتصوره كاجتماع الضدين ، وإنما المراد من الإمكان هو الإمكان الوقوعي في قبال الاستحالة الوقوعية ، فالنزاع في أنه هل يلزم من وقوع التعبد بالظن محال مطلقا كاجتماع الضدين أو النقيضين ، أو بالقياس إلى خصوص الحكيم كتحليل الحرام أو بالعكس أم لا؟ ظاهر الشيخ قدس‌سره هو الإمكان ، بدعوى : أن بناء العقلاء إنما هو على الحكم بإمكان الشيء ما لم يجدوا

١٠٤

ما يوجب استحالته (١). وقد أشكل عليه صاحب الكفاية والمحقق النائيني رحمه‌الله.

اما ما أورده في الكفاية فوجوه (٢).

أولا : أنه ما الدليل على أن بناء العقلاء على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه.

وثانيا : لو سلمنا ذلك فما الدليل على حجية بنائهم شرعا؟! وغاية ما هناك أنه يوجب الظن ، والكلام إنما هو في إمكان حجيته بالتعبد فكيف يثبت به الإمكان.

وثالثا : لو سلمنا ذلك أيضا فأي فائدة تترتب على هذا البحث؟! ومن الواضح أن بحثنا ليس بحثا فلسفيا لنبحث عن إمكان الأشياء واستحالتها ، وإنما هو بحث أصولي لا بد وأن يترتب على مسائله ثمر فرعي ، والبحث عن إمكان التعبد بالظن مع قطع النّظر عما دل على وقوعه لا يترتب عليه ثمر فرعي ، ومع لحاظ ما دل على ذلك لا أثر للبحث عن الإمكان ، فان الوقوع أخص منه فإذا ثبت الوقوع يثبت الإمكان لا محالة.

واما ما أورده المحقق النائيني رحمه‌الله فهو أن بناء العقلاء على الإمكان على تقدير ثبوته انما هو في ما يرجع إلى عالم التكوين لا فيما يرجع إلى عالم التشريع أي في الإمكان التكويني دون التشريعي (٣).

هذا حاصل ما أورداه على الشيخ قدس‌سره.

والحق : أن ما أفاده الشيخ صحيح ، ولا يرد عليه شيء من المذكورات.

أما ما أورده المحقق النائيني ، ففيه : أن الإمكان أو الاستحالة من الأمور الواقعية التي يدركها العقل ، وليس للإمكان قسمان إمكان تكويني وإمكان تشريعي ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ٨٧ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٤٣.

(٣) فوائد الأصول : ٣ ـ ٨٨.

١٠٥

بل الإمكان دائما تكويني ، غاية الأمر أن معروضه تارة يكون من الأمر التكويني ، وأخرى من الأمر التشريعي ، فيقال : الحكم الكذائي أو التعبد الكذائي ممكن أو مستحيل.

واما ما أورده في الكفاية من الوجوه الثلاثة فكلها مبتنية على أن يكون مراد الشيخ قدس‌سره من بناء العقلاء على الإمكان بناءهم على ذلك مطلقا ، ولكن المحتمل بل المطمئن به أن يكون مراده هو البناء على ذلك عند قيام دليل ظني معتبر عليه ، فإذا اقتضى ظهور كلام المولى حجية ظن وشككنا في إمكان ذلك فالعقلاء لا يعتنون باحتمال الاستحالة في رفع اليد عن العمل بالظهور ، فما لم يثبت استحالة شيء كان ظهور كلام المولى حجة فيه ، وهذا نظير ما إذا أمر المولى بوجوب إكرام العلماء وشككنا في أن إكرام العالم الفاسق ذو مصلحة ليكون الحكم بوجوبه ممكنا من الشارع الحكيم ، أو أنه ليس فيه مصلحة ليكون ذلك مستحيلا ، فهل يشك أحد في لزوم الأخذ بظهور كلام المولى حينئذ وعدم الاعتناء باحتمال الاستحالة؟! وهذا الّذي ذكرناه في بيان كلام الشيخ هو المناسب للبحث عنه في المقام ، فانه هو الّذي يترتب عليه الأثر العملي ، وعلى ذلك فلا يرد شيء مما أورد عليه في الكفاية.

ثم إن تحقيق أصل المسألة يتوقف على بيان ما يتوهم لزومه من التعبد بغير العلم من المحاذير أولا ، ثم تعقيب ذلك بما يظهر منه فساده.

وحاصل ما يستفاد من كلام ابن قبة بضميمة ما أفاده المتأخرون في توضيحه أن المانع من التعبد بالظن أمران.

أحدهما : من ناحية التكليف.

وثانيهما : من ناحية الملاك.

أما ما يلزم من ناحية التكليف ، فهو أن الأمارة التي يتعبد بحجيتها ان كانت موافقة مع الحكم الواقعي المشكوك فيه فيلزم من حجيتها اجتماع المثلين ، وان كانت

١٠٦

مخالفة له يلزم منها اجتماع الضدين ، وكلاهما محال ، فلا يمكن التعبد بغير العلم.

وأما ما يلزم : من ناحية الملاك ، فهو أن الأمارة التي اعتبرت شرعا ربما تقوم على وجوب ما هو مباح واقعا أو على حرمته ، ولازم ذلك هو الإلزام بشيء من دون أن يكون فيه مصلحة إلزامية ، مع أنا نقول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، وهذا هو المراد من تحريم الحلال. وربما تقوم على إباحة شيء والترخيص فيه مع أن حكمه في الواقع هو الإلزام بالفعل أو الترك ، ولازمه تفويت المصلحة الواقعية أو الإلقاء في المفسدة ، وهذا هو المراد من تحليل الحرام ، وكل ذلك محال بالإضافة إلى الحكيم.

إذا عرفت ذلك نقول : أما الإشكال الثاني فله طرفان.

أحدهما : الإلزام بما هو مباح واقعا فعلا أو تركا.

ثانيهما : الترخيص في ما هو واجب أو محرم واقعا ، وهناك شق ثالث نتعرض له في طي الكلام.

أما الأول : وهو الإلزام بالمباح الواقعي فليس فيه كثير إشكال ، وذلك لأن للشارع جعل الحكم بنحو العموم فيما إذا لم يتمكن من الوصول إلى غرضه المتعلق ببعض الموارد إلّا بذلك ، كما لو علم المولى بأن أحدا يريد قتله في يوم معين ولم يعرفه بشخصه فيأمر عبيده بأن لا يأذنوا لأحد في الدخول عليه في ذلك اليوم تحفظا على عدم دخول من يريد قتله ، ونظير ذلك تشريع العدة بنحو العموم لأجل التحفظ على عدم اختلاط المياه.

وبالجملة لا يرى العقل مانعا من إلزام المولى بفعل مباح تحفظا على غرضه المهم ، وليس في ذلك محذور حتى بناء على تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد ، إذ اللازم على ذلك وجود المصلحة في متعلق الأمر ولو بنحو الموجبة الجزئية فيما لم يتميز واجد المصلحة من غيره.

وان شئت قلت : أن المصلحة الأولية وان اختص بها بعض الأفراد إلّا أن

١٠٧

المصلحة الثانوية أعني بها التحفظ على تلك المصلحة عامة لجميع الأفراد لا محالة. ولا فرق فيما ذكرناه بين صورتي انفتاح باب العلم وانسداده.

وأما الثاني : وهو لزوم الترخيص في فعل الحرام أو في ترك الواجب الواقعي فتوضيح الحال فيه : أنه يفرض تارة في فرض انسداد باب العلم ، وأخرى في فرض انفتاحه.

أما لو فرضنا انسداد باب العلم وأن الاحتياط غير ممكن أو غير واجب ، للإجماع أو لاستلزام اختلال النظام أو العسر والحرج ، فلا إشكال ، لأن الأمر حينئذ يدور بين أن يهمل المولى عبيده ويحيلهم على رسلهم فيما يفعلون ويتركون ، أو يقيم لهم طريقا يوصلهم إلى الواقع كثيرا وإذا خالف الواقع في مورد وكان مفاده ترخيصا ظاهريا كان ذلك كتخلف القطع عن الواقع ، وحيث لم يكن من المولى إلزام بالفعل ولا بالترك وإنما كان منه الترخيص فاختيار أحد الأمرين يكون مستندا إلى العبد ، إذ كان له أن يفعل وأن لا يفعل ، ولا يكون ذلك مستندا إلى المولى.

وبعبارة أخرى : بعد فرض عدم تنجز الواقع على المكلف ، وعدم كونه ملزما بالفعل أو الترك في مرحلة الظاهر كيف يمكن أن ينسب الإيقاع في المفسدة أو تفويت المصلحة إلى المولى ، مع أن كل ذلك مستند إلى اختيار المكلف بحيث لو لم تكن الأمارة حجة كان ذلك متحققا أيضا ، ولا يبعد أن يكون هذا الفرض خارجا عن محل كلام ابن قبة.

نعم لو دلت الأمارة على وجوب ما كان حراما واقعا ، أو حرمة ما كان واجبا واقعا كان تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة مستندا إلى المولى لإلزامه بذلك ، لكنه لا قبح في ذلك مطلقا ، بل لا بد من ملاحظة ما يترتب على حجية الأمارة من التحفظ على الواقع ، فان كان ذلك أولى بالمراعاة للأقوائية أو الأكثرية كان التعبد بالأمارة حسنا وان أوجب فوات الواقع في بعض الموارد.

١٠٨

وبالجملة المورد من صغريات كبرى تزاحم الملاكين ، فإذا فرض تقدم ملاك التحفظ على الواقع في موارد إصابة الأمارة كان التعبد بها حسنا وان استلزم تفويت الملاك الواقعي في بعض الموارد. هذا كله في فرض انسداد باب العلم.

وأما إذا فرضنا انفتاحه وإمكان الوصول إلى الواقع ولو بسؤال الإمام عليه‌السلام ، فالمكلف مع تمكنه من إحراز الواقع قد يعتمد على اطمئنانه ، أو يحصل له القطع من مقدمات خارجية فلا يصل إلى الواقع ، وقد لا يكون كذلك ، فالشارع العالم بالواقعيات ان علم بعدم وصول المكلف إلى الواقع خارجا لا مانع له من التعبد بغير العلم فيما إذا علم كونه أكثر مطابقة للواقع من القطع أو الاطمئنان الحاصل للمكلف.

وهذا الفرض ملحق حكما بصورة انسداد باب العلم ، فان مجرد إمكان الوصول إلى الواقع من دون وقوعه في الخارج لا أثر له في المنع عن التعبد بغير العلم.

واما فيما إذا فرض وصول المكلف إلى الواقع على تقدير عدم حجية الأمارة ، فاما نلتزم بكون حجية الأمارة من باب السببية والموضوعية ، أو نلتزم بكونها من باب الطريقية المحضة.

أما على الأول : فلا ينبغي الإشكال في جواز التعبد بالأمارة غير العلمية ، وتوضيح ذلك : أن السببية تتصور على ثلاثة أقسام :

الأول : السببية على مسلك الأشعري ، وهي أن لا يكون مع قطع النّظر عن قيام الطرق حكم أصلا ، بل يكون قيامها سببا لحدوث مصلحة في المؤدى مستتبعة لثبوت الحكم على طبقها. وعلى هذا يرتفع الإشكال على نحو السالبة بانتفاء الموضوع ، إذ عليه ليس في الواقع حكم ليلزم تفويته على المكلف.

ولكن السببية بهذا المعنى غير معقولة في نفسها ، لاستلزامه الدور ، إذ قيام الأمارة على الحكم فرع ثبوته ، فكيف يتوقف على قيامها على ثبوته ، ومخالف للإجماع والروايات الدالة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، ومن قامت

١٠٩

عنده الأمارة أو لم تقم.

الثاني : السببية على زعم المعتزلي ، بأن يكون قيام الحجة من قبيل طروّ العناوين الثانوية كالحرج والضرر موجبا لحدوث مصلحة في المؤدى أقوى من مصلحة الواقع ، وإذا انكشف الخلاف كان ذلك من قبيل تبدل الموضوع. وعلى هذا لا مجال للإشكال المزبور ، لأنه في فرض قيام الحجة على الخلاف يكون الحكم الواقعي المشتمل على المصلحة الأهم هو مؤداها ، فلا يلزم تحليل حرام ولا تفويت مصلحة أو إلقاء في المفسدة. إلّا أن السببية بهذا المعنى وان كان أمرا معقولا ، وليست كالسببية بالمعنى الأول لكنها أيضا باطلة ، لورود الروايات والإجماع على أن الواقع لا يتغير عما هو عليه بقيام الحجة على خلافه.

الثالث : السببية التي ذهب إليها بعض العدلية ، وهي الالتزام بالمصلحة السلوكية ، بمعنى أن يكون قيام الحجة سببا لحدوث مصلحة في نفس السلوك بلا تأثير على المصلحة الواقعية أو استلزامه تبدل الموضوع ، فما يفوت من المصلحة الواقعية بسبب سلوك الطريق عند المخالفة يكون متداركا بمصلحة السلوك ، مثلا لو قامت الأمارة عند المكلف على عدم وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة فتركها ، فان لم ينكشف له الخلاف أصلا كان المتدارك بالمصلحة السلوكية مصلحة أصل الصلاة ، وان انكشف الخلاف بعد انقضاء وقت الفضيلة فيتدارك بها ما فات من فضل الوقت ، وان انكشف بعد تمام الوقت يتدارك بها مصلحة الوقت ، هذا فيما إذا كان الترك مستندا إلى قيام الحجة. واما إذا لم يكن الترك مستندا إليه ، كالترك بعد انكشاف الخلاف ، فيكون طغيانه مفوتا لمصلحة الواقع ، فليس هناك سلوك ليتدارك به ما فات من مصلحة الواقع ، ومن ثم لو سئل عن وجه عدم إعادة الصلاة بعد ما انكشف الخلاف لا يمكنه الاستناد في ذلك إلى قيام الحجة ، بخلاف ما إذا سئل عنه قبل انكشاف الخلاف فانه يستند فيه إلى الحجة ، والسر في جميع ذلك أن المصلحة

١١٠

على الفرض إنما هي في السلوك فيدور مداره ، وقد تقدم الكلام في هذا الباب مفصلا في بحث الأجزاء.

وبالجملة السببية بهذا المعنى وان كانت معقولة في نفسها ، ولا يخالفها شيء من الإجماع والروايات ، ويندفع بها الإشكال ، إلّا أنه لا دليل عليها ، ولكنه مع ذلك يكفي احتمالها في رد دعوى الامتناع المنقولة عن ابن قبة.

وأما على الثاني : أعني القول بالطريقية المحضة ، فالصحيح في الجواب عن الإشكال أن يقال : إنا وإن فرضنا انفتاح باب العلم وإمكان وقوعه خارجا ولكن إلزام المكلفين بتحصيل العلم عسر على نوع العباد ، ومناف لسهولة الشريعة وسماحتها ، فمصلحة التسهيل على النوع في التعبد بالأمارات غير العلمية تزاحم الملاك الواقعي ، فللشارع أن يقدم المصلحة النوعية العامة على المصالح الشخصية تسهيلا للدور وحفظا للمصلحة العامة ، ولا قبح في ذلك ، ونظير هذا ثبوت حق الشفعة بنحو العموم للشريك السابق ، لأنه ربما يتضرر من اشتراكه مع الشريك اللاحق ، ومن هذا القبيل طهارة الحديد ، وعدم وجوب السواك إلى غير ذلك ، فلا يكون تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة أحيانا موجبا لامتناع التعبد بالأمارة إذا كان فيه مصلحة نوعية ، على أن الالتزام بامتناع ذلك في خصوص الفرض لا يترتب عليه أثر عملي.

هذا مضافا إلى أن غالب الأمارات بل كلها طرق عقلائية ، وليس شيء منها تأسيسا من الشارع ، ومن الواضح ان ردع العقلاء عما استقر عليه بناءهم في معاشرتهم لا بد وأن يكون عن مصلحة ملزمة ، كما إذا كان الطريق غالب المخالفة للواقع نظير القياس. واما لو لم تكن هناك مصلحة ملزمة في الردع ، كما إذا كانت مخالفة الطريق للواقع قليلة بحيث تندك في قبال مصلحة التسهيل فلا وجه للردع أصلا.

١١١

فتحصل : انه لا مانع من التعبد بغير العلم من ناحية الملاك على القول بالسببية أو الطريقية.

واما الإشكال الأول : وهو توهم استحالته من ناحية الخطاب ، بتخيل ان التعبد بالأمارة غير العلمية تستلزم اجتماع المثلين أو الضدين ، فيمتنع على الحكيم وغيره ، فتوضيح الحال في دفعه ان يقال : ان الحكم الظاهري إذا طابق الواقع فلا يستلزم اجتماع المثلين ، لأن التعبد بالحكم الظاهري المماثل للحكم الواقعي ان كان ناشئا عن نفس مصلحة الحكم الواقعي وملاكه فلا يكون في البين إلّا مصلحة واحدة وحكم واحد ، وإنما التعدد يكون في مرحلة الإنشاء وطريق إيصاله ، نظير ما لو فرضنا ان المولى أراد أن يأمر عبده بإكرام زيد فقال له : (أكرم زيدا) فلم يصل إليه ذلك فقال : (أكرم أخا عمر) فلم يصل إليه أيضا فأشار بيده وقال : (أكرم هذا) فان الحكم في مثل ذلك واحد وان كان إنشاؤه في الخارج متعددا ، وعلى هذا فليس في المقام حكمان ليلزم اجتماع المثلين ، بل الحكم واحد ، غاية الأمر ان طريق إيصاله متعدد ، فالحكم الواحد أنشأ تارة بعنوانه ، وأخرى بعنوان جعل الطريق والأمارة بقوله صدق العادل مثلا ، وأما إذا فرض أن الحكم الظاهري ناشئ عن ملاك آخر غير ملاك الواقع فلا محالة يكون هناك حكمان بعنوانين ، كما في سائر موارد اجتماع العامين من وجه ، فكما لا يلزم من اجتماع الحكمين المتوافقين في غير المقام من سائر موارد اجتماع العامين من وجه اجتماع المثلين فكذلك في المقام ، وقد تقدم تحقيق ذلك في بحث اجتماع الأمر والنهي.

نعم إذا كان الحكم الظاهري مخالفا للواقع كان لتوهم اجتماع الضدين مجال ، فإذا فرض ان صلاة الجمعة واجبة في الواقع ومع ذلك قامت الأمارة على حرمتها كانت الصلاة واجبة ومحرمة من دون كسر وانكسار في البين.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه.

١١٢

منها : ما أفاده الشيخ في الرسائل في أول بحث البراءة (١) بما حاصله : انه يعتبر في التضاد كل ما يعتبر في التناقض من الوحدات ، إذ استحالة التضاد إنما هي من جهة رجوعه إلى التناقض ، فان وجود كل من الضدين يلازم عدم الضد الآخر ، فبانتفاء إحدى الوحدات ينتفي التناقض والتضاد ، ومن الوحدات المعتبرة في التناقض وحدة الموضوع ، فلا مضادة بين القيام والقعود إذا كانا في موضوعين ، وعلى هذا فلا تضاد بين الحكم الظاهري والواقعي لتعدد موضوعيها ، فان موضوع الحكم الواقعي هو الأفعال بعناوينها الأولية ، وموضوع الحكم الظاهري هو الأشياء بعناوينها الثانوية أي بما أنها مشكوكة الحكم ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه ، اما أولا : فلأنه على فرض تماميته يختص بموارد الأصول ولا يجري في الأمارات ، لأن الشك لم يؤخذ في موضوعها ، وإنما الشك مورد لها ، ومن الواضح ان اختلاف الحال لا يرفع التضاد. وبعبارة أخرى : الحكم الظاهري في باب الأمارات وان كان ثابتا بعنوان قيام الأمارة إلّا أنه واسطة في الثبوت فقط ، وموضوع الحكم إنما هو ذات الشيء بما هو لا مقيدا بهذا العنوان أو بعنوان الشك.

وثانيا : لو سلمنا ان موضوع الحكم الظاهري مطلقا مقيد بالشك ، ولكنا ذكرنا ان الإهمال في الواقع غير معقول ، فالواقع بالإضافة إلى طرو هذا الحال لا بد من أن يكون مطلقا أو مقيدا ، فان كان مطلقا اما بالإطلاق اللحاظي كما هو الصحيح واما بنتيجة الإطلاق لزم المحذور المزبور ، وان كان مقيدا بعدمه لزم التصويب الباطل.

ومنها : ما ذكره في الكفاية (٢) وحاشية الرسائل (٣) ، وحاصله : أن المجعول في

__________________

(١) فرائد الأصول : ١ ـ ٣٥٣ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٤٤ ـ ٥٠.

(٣) درر الفوائد في حاشية الفرائد : ٦٨ ـ ٧١.

١١٣

باب الطرق والأمارات ان كان نفس الحجية من دون أن تستتبع حكما تكليفيا فلا يلزم اجتماع الحكمين أصلا. واما بناء على أن تكون مستتبعة لذلك ، أو يكون المجعول فيها حقيقة هو الحكم التكليفي والحجية منتزعة عنه فاجتماع الحكمين حينئذ وان كان لازما إلّا أنه لا يلزم منه اجتماع المثلين ولا الضدين أصلا.

ثم أنه قدس‌سره عبر في وجه ذلك تعبيرات مختلفة ، فذكر تارة : ان الحكم الواقعي شأني والحكم الظاهري فعلي ، والتزم أخرى : بأن الحكم الواقعي إنشائي ومؤدى الطرق والأمارات أحكام فعلية ، وعبّر ثالثة : بأن الحكم الواقعي فعلي من بعض الجهات والحكم الظاهري فعلي من جميع الجهات ، والمضادة إنما تكون بين حكمين فعليين من تمام الجهات ، فإذا لم يكن أحد الحكمين فعليا كذلك فلا يلزم من اجتماعهما اجتماع المثلين إذا كانا متفقين ولا الضدين إذا كانا مختلفين ، انتهى.

والجواب عنه : انه ان أراد من الشأنية مجرد ثبوت مقتضى الحكم الواقعي من دون استتباع حكم لقيام الأمارة على الخلاف ، فلو قامت البينة مثلا على عدم خمرية ما هو خمر في الواقع تكون المفسدة الواقعية بحالها من دون وجود حكم على طبقها.

ففيه : ان لازمه أن لا يكون للجاهل حكم واقعي غير مؤدى الطرق والأمارة ، وهذا هو التصويب الأشعري الباطل.

وان أراد منها أن الحكم الواقعي ثابت للأشياء بعناوينها الأولية في طبعها على طبق مقتضياتها ، ولا مانع في جعل حكم كذلك ، ومن هنا ذكروا في باب الصلاة في غير المأكول ان المراد منه ما يحرم أكله في حد نفسه ، وهكذا المراد مما يحل أكله الحلية في حد ذاته وان حرم بالعارض ، فلا ينافيه طرو عنوان يوجب تبدله وهو قيام الأمارة على الخلاف ، كما يتبدل الحكم بسبب عروض الاضطرار والإكراه.

ففيه : ان هذا تصويب معتزلي ، وهو وان لم يكن في الفساد بمرتبة سابقه لكنه أيضا باطل بالإجماع والروايات.

١١٤

وان أراد منها كون الحكم الواقعي ثابتا لذات الشيء مع قطع النّظر عن طرو العوارض من قيام الأمارة أو الأصل على الخلاف على أن يكون المجعول مهملا في نفس الأمر.

ففيه : انا قد ذكرنا في الواجب المشروط ان الإهمال النّفس الأمري غير معقول مطلقا ، وعليه فلا مناص من جعل الحكم الواقعي مطلقا وغير مقيد بعدم قيام الأمارة على الخلاف ، فيلزم محذور اجتماع الضدين ، أو جعله مقيدا بعدم قيامها على الخلاف ، فيلزم التصويب. هذا فيما يحتمل في الحكم الشأني.

واما الحكم الإنشائي ، فان أراد منه الإنشاء المجرد عن داعي البعث أو الزجر ، كما في موارد التكاليف الامتحانية وأمثالها.

ففيه أولا : ان لازم الالتزام بذلك في الأحكام الواقعية هو نفي الحكم حقيقة ، فان الإنشاء إذا لم يكن ناشئا عن البعث أو الزجر لا يكون حكما ، وإنما يكون مصداقا لما كان داعيا على الإنشاء من الامتحان والسخرية والاستهزاء ، وعليه فالتصويب باق على حاله.

وثانيا : إذا لم يكن الحكم الواقعي حكما حقيقة ولم يكن بداعي البعث أو الزجر فلا يلزم موافقته ، ولا يحرم مخالفته ، بل ليس هناك شيء يجب الفحص عنه ، مع أن وجوب الفحص عن الأحكام مما لا ريب فيه.

وان أراد منه الفعلي من بعض الجهات ، بمعنى انه لو علم به يكون فعليا كما ذكرهقدس‌سره.

ففيه : ان فعلية الحكم وعدمها أجنبية عن المولى بالكلية ، وإنما تتحقق بتحقق الموضوع بجميع قيوده ، فإذا امر المولى المستطيع بالحج ففعليته تكون بتحقق الاستطاعة ، ومع فعلية الموضوع يستحيل عدم فعلية الحكم ، فانه بمنزلة تخلف المعلول عن العلة ، وعلى هذا فلو لم يكن الحكم الواقعي مقيدا بعدم قيام الحجة على

١١٥

الخلاف فلا محالة عند قيامها يجتمع الحكمان الفعليان ، فيلزم اجتماع الضدين. واما لو كان مقيدا بذلك فلا محالة عند قيامها لا يكون الحكم الواقعي ثابتا ، لا الفعلي منه بعدم تحقق قيود الموضوع ولا الإنشائي فانه إنما يثبت لمن يكون الحكم بالنسبة إليه فعليا ، وحينئذ يلزم التصويب. وبالجملة لا بد وأن يكون الحكم الواقعي حكما حقيقيا مولويا بعثا أو زجرا ، فلا يرتفع التضاد بين الحكمين بهذا التصوير.

ومنها : ما ذكره المحقق النائيني رحمه‌الله (١) وقد فرق بين موارد الأمارات التي لم يؤخذ الشك فيها ، وموارد الأصول المحرزة التي أخذ فيها الشك وكانت ناظرة إلى الواقع بإلغاء جهة الشك ، وموارد الأصول غير المحرزة التي هي وظائف عملية للشاك ، اما تنجيزا للواقع كالاحتياط ، واما مؤمنا عنه كالبراءة.

وأجاب عن كل مورد من الموارد الثلاثة بخصوصه. اما باب الطرق والأمارات فذكر ان المجعول فيها إنما هو مجرد الوسطية وتتميم الكشف ، إذ ليست الأحكام الوضعيّة منتزعة من الأحكام التكليفية كما قيل ، بل هي مما تنالها يد الجعل ابتداء ، وربما يكون الحكم التكليفي من آثارها المترتبة عليها ، نظير حلية التصرف المترتبة على الملك ، فللشارع أن يعتبر الكاشف الناقص قطعا ، فكأنه يخلق بالتعبد صنفا آخر للقطع ، فيكون هناك قطع حقيقي وقطع تعبدي ، ويترتب على الثاني كلما هو مترتب على الأول من الآثار من لزوم متابعته عقلا بالمعنى المتقدم وغير ذلك ، وعليه تكون مخالفة الطريق للواقع كمخالفة القطع له ، فكما لا يتوهم لزوم التضاد فيه لا يتوهم في المقام أيضا. وبالجملة ليس في موارد الطرق والأمارة حكم تكليفي حتى بعنوان وجوب موافقتها ليلزم اجتماع الحكمين.

وليعلم ان مجرد إمكان كون المجعول فيها ذلك كاف في دفع الشبهة من غير

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ١٠٥ ـ ١١٢.

١١٦

حاجة إلى إثبات وقوعه ، مع وجود الدليل على الوقوع أيضا ، وذلك لأن جميع الطرق المعتبرة شرعا طرق عقلائية ، بنوا على العمل بها ، وعاملوها معاملة القطع ، والشارع أمضى بنائهم ، وليس شيء منها تأسيسا من الشارع ، وهذا ظاهر من مراجعة العرف في معاشرتهم ، فلا يعذر عندهم العبد المخالف لظاهر كلام مولاه مثلا معتذرا بعدم حصول القطع له بالمراد من الظاهر ، بل يرونه مستحقا للعقوبة ، وعليه فلا بد وأن يكون المجعول الشرعي في موردها بعينه ما تعلق به بناء العقلاء ، ومن الواضح انهم لم يبنوا على جعل حكم تكليفي في موارد قيام الأمارة ، وإنما بناؤهم على المعاملة معها معاملة القطع الوجداني ، والشارع أمضى ذلك البناء ، فليس المجعول فيها إلّا المحرزية والوسطية في الإثبات.

وبهذا ظهر ما في كلام المحقق الخراسانيّ حيث ذهب إلى أن المجعول في الطرق هو المنجزية والمعذرية. وقد ذكرنا فيما تقدم ان قبح العقاب بلا بيان وحسنه مع البيان من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص ، فالتصرف فيه لا بد وأن يكون في الموضوع ، فبعد ما اعتبر الشارع صفة الطريقية لشيء يترتب عليه التنجيز والتعذير لا محالة.

وبما بيناه ظهر الحال في موارد الأصول المحرزة ، إذ المجعول فيها أيضا هو الطريقية في الإثبات لكن لا من تمام الجهات كما كان في الأمارات ، بل من حيث الجري العملي فقط ، فهي قطع من تلك الناحية ، فاختلافهما يكون ببعض الآثار ، ولا ينافي ذلك كون الشك مأخوذا في موضوعها. نعم هذا المقدار من الاختلاف يوجب حكومة الأمارات عليها ، ويدل على ما ذكر مضافا إلى ظاهر أدلتها ، وانه لا يستفاد منها ثبوت الحكم التكليفي ، انها أيضا طرق عقلائية أمضاها الشارع ، غاية الأمر انه تصرف فيها بتصرفات ، واعتبر فيها أمورا لم يعتبرها العقلاء ، فإشكال اجتماع الضدين في مواردها أيضا يكون من السالبة بانتفاء الموضوع.

١١٧

وإنما الإشكال في الأصول غير المحرزة عند قيامها على خلاف الواقع ، وحاصل ما أفاده في دفعه هو : أن الأحكام بوجوداتها الواقعية لا تكون محركة للعبد بلغت ما بلغت من التأكد ، بل لا بد في ذلك من وصولها إلى المكلف ، وهذه المرتبة مرتبة التنجيز والتعذير ، ومن الواضح انها من الأحكام العقلية المتأخرة عن مرتبة ثبوت الحكم الواقعي الواقعة في طولها ، ولا ملزم للشارع بالتصرف في هذه المرتبة ، لأن وظيفته جعل الأحكام الواقعية على طبق ملاكاتها النّفس الأمرية ، واما المرتبة المتأخرة عن ذلك فهي موكولة إلى حكم العقل. نعم له أن يتصرف فيها أيضا بإيصال التكليف في ظرف الشك ولو بمتمم الجعل وجعل المنجز ، كما في الشبهات الموضوعية في الموارد المهمة كالدماء والفروج تارة ، وجعل المعذر أخرى كما في مورد قاعدة التجاوز والفراغ مع أن الشك فيها يكون شكا في الامتثال ، والعقل يحكم فيه بالتنجيز والاشتغال ، وعليه فإذا جعل الشارع حكما في هذه المرتبة وكان مغايرا للحكم الواقعي لا يلزم منه اجتماع الضدين لاختلاف مرتبتهما.

وتوضيح ذلك : ان الملاك الواقعي تارة : يكون من الأهمية في نظر الشارع بمرتبة لا يرضى بفواته حتى في فرض عدم وصوله إلى المكلف ، فيوجب عليه الاحتياط ، فكأن الحكم على تقدير وجوده وأصلا بطريقه ، والحكم بوجوب الاحتياط حينئذ إلزامي ناشئ من مصلحة الحكم الواقعي ، فهو نظير حكم العقل بذلك من جهة دفع الضرر المحتمل. وأخرى : لا يكون الملاك بتلك المثابة من الأهمية ، فله أن يرخص في الفعل والترك في ناحية الامتثال ، وذلك نظير حكم العقل بالترخيص لقبح العقاب بلا بيان.

والمتحصل من ذلك ان الحكمين الظاهري والواقعي حيث انهما طوليان فلا مضادة بينهما ، اما إيجاب الاحتياط فهو وجوب طريقي لحفظ الحكم الواقعي ، فان صادف الواقع فلا محذور ، وعند مخالفته له لا وجوب للاحتياط واقعا ، بل تخيل

١١٨

وجوب وصورته ، واما الإذن والترخيص فهو في مرتبة متأخرة عن مرتبة الحكم الواقعي أعني به مرتبة الامتثال ، انتهى.

وفيما أفاده في كلا طرفي الحكم بالاحتياط والبراءة نظر.

اما في طرف الحكم بوجوب الاحتياط ، فيرد عليه.

أولا : أن تقيد وجوب الاحتياط بصورة موافقته للواقع لا تساعد عليه الأدلة ، فان الظاهر من قوله عليه‌السلام «وقفوا عند الشبهة ... فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (١) أن نفس الشبهة من دون تقييد بموافقة الاحتمال للواقع موضوع للوجوب.

وثانيا : ان إيجاب الاحتياط في خصوص صورة المصادفة غير معقول من الحكيم ، لأنه لغو لا أثر له ، لعدم قابليته للوصول ، والمفروض أن الغرض منه التحفظ على الواقع غير الواصل ، فان المكلف لا يمكنه إحراز موافقته للواقع إلّا بعد إحرازه ثبوت التكليف الواقعي.

واما في طرف الحكم بالبراءة ، فيرد عليه : ان اختلاف المرتبة لا يرفع التضاد بين الحكمين ، ولذا يستحيل أن يأمر المولى بصلاة الجمعة ثم يرخص في تركه إذا علم بوجوبه ، مع أن الترخيص متأخر عن الوجوب بمرتبتين ، والسر فيه هو أنّ المضادة إنما هي بين حكمين فعليين في زمان واحد ، سواء كانا في مرتبة واحدة أو في مرتبتين ، ولا يقاس الترخيص الشرعي بالترخيص العقلي ، لتعدد الحاكم في المقيس عليه ووحدته في المقيس ، على أن العقل ليس له حكم تكليفي أصلا ، وإنما يدرك عدم استحقاق العقاب في موارد عدم البيان ، وهذا بخلاف الترخيص الشرعي الّذي هو حكم تكليفي.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٤ ـ باب ١٥٧ من أبواب مقدمات النكاح ، ح ٢.

١١٩

ثم أنه ذكر أن الشك فيه جهتان ، جهة كونه صفة نفسانية ، وجهة كونه موجبا لتحير الشاك ، وهو مأخوذ في موضوعات الأحكام الظاهرية من الجهة الثانية ، ويمكن أن لا يكون للأحكام الواقعية إطلاق بالقياس إلى الشك من هذه الجهة (١).

وفيه : ان الإهمال النّفس الأمري كما اعترف به قدس‌سره غير معقول ، فان كان الحكم الواقعي بالقياس إلى طرو الشك فيه مطلقا لزم التضاد ، وان كان مقيدا بعدمه لزم التصويب ، من غير فرق بين أن يكون المأخوذ في موضوع الأحكام الظاهرية الشك بما أنه صفة نفسانية ، أو بما أنه موجب للتحير.

هذا ما أفيد من الأجوبة في دفع إشكال التضاد ، وقد عرفت المناقشة فيها.

فالتحقيق أن يقال : أنه وإن وقع الخلاف في حقيقة الأحكام التكليفية وانها ما هي ، لكنا ذكرنا أنها عبارة عن اعتبار المولى أمرا على ذمة المكلف ، كاعتبار الدين على ذمة المديون عقلا وشرعا ، ولذا عبّر عن الأحكام الإلهية في بعض الروايات بالدين ، كما ورد في باب قضاء الصلاة الفائتة «أن دين الله أحق أن يقضى» فليس الحكم إلّا اعتبار الشيء على رقبة المكلف فعلا أو تركا ، ومن الواضح أن الاعتبار خفيف المئونة ، فلا مضادة بين اعتبارين ذاتا.

نعم الاعتبار في باب التكاليف الواقعية يكون مسبوقا بالشوق أو الكراهة والمصلحة أو المفسدة ، كما أنه ملحوق بأمرين ، إنشاؤه في الخارج ، ووصوله الموجب لتحريك العبد في مقام الامتثال ، فهو وسط بين أمور أربعة ، فمضادة الاعتبارين لا بد وأن يكون بالعرض ، اما من ناحية المبدأ ، واما من ناحية المنتهى ، فالتكليفان الإلزاميان أحدهما بفعل شيء والآخر بتركه وان كانا اعتبارين ، ولا مضادة بينهما ذاتا ، ولكن حيث أن الإلزام بالفعل ناشئ عن الشوق به أو ثبوت مصلحة فيه ،

__________________

(١) فوائد الأصول : ٣ ـ ١١٥.

١٢٠