دراسات في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

فنقول : ذهب الميرزا قدس‌سره إلى القول بانتقاض تيممهما معا وان لم يكن المكلف بالطهارة المائية فعلا إلّا أحدهما.

إلّا انّ الصحيح : ثبوت الملازمة بين الحكمين ، ففي كل مورد ثبت الحكم التكليفي الفعلي بالوضوء ينتقض التيمم أيضا ، وإلّا فلا لاتحاد موضوعهما ، فانّ الوجدان مأخوذ في كل من انتقاض التيمم ومن وجوب الوضوء بمقتضى التفصيل الّذي هو قاطع للشركة.

وعليه فلا بدّ ان يفصل بين ما إذا لم يكن كل منهما مانعا عن الآخر في تصرفه في ذلك الماء ، ولم يكن بينهما ممانعة أصلا ، فيحكم حينئذ بانتقاض تيمم كليهما ، ووجوب الوضوء على كل منهما تكليفا ، وذلك لتمكن كل منهما في نفسه على استعمال ذلك الماء ، وكفايته لوضوئه ، وعدم وجود مزاحم على الفرض ، فلو فرضنا حينئذ انهما لم يتوضأ إلى ان فقدا الماء يجب التيمم على كل منهما ، لانتقاض تيممهما السابق.

وامّا لو كان بينهما تزاحم وتمانع فيقع التزاحم بين طلبيهما لا محالة ، فكل من استولى على الماء وحازه قبل صاحبه يكون واجدا للماء ومتمكنا منه ، فينتقض تيممه وتجب عليه الطهارة المائية من الغسل أو الوضوء ، وامّا الآخر الّذي لم يقدر على حيازة الماء فيستكشف عدم كونه واجدا. للماء ومتمكنا منه من الأول ، فلا ينتقض تيممه ، كما لا يكلف بالوضوء أيضا.

وبالجملة مدعانا ثبوت الملازمة بين انتقاض التيمم من جهة وجدان الماء وبين وجوب الطهارة المائية ، فلا يمكن التفكيك بينهما.

هذا كله في الوجوب الكفائي.

٨١

فصل : في بيان الواجب الموسع والمضيق

يقسم الواجب إلى موقت ، إذ يمكن ان يقيد الواجب بالزمان كما يقيد بالمكان كأفعال الحج ، وغير موقت.

وكل منهما ينقسم إلى قسمين.

امّا الغير المؤقت أي ما لم يعين له في الشرع وقت ولم يقيد به ، فتارة يكون فوريا كأداء الدين المطالب ، وأخرى لا يكون فوريا كقضاء الفوائت وصلاة الزلزلة على قول.

واما المؤقت فقد يكون مضيقا بمعنى انّ الوقت المعين له لا يكون أطول من ظرف وقوعه خارجا كالصوم ، فانّ وقت وجوبه من طلوع الفجر إلى الغروب وظرف العمل أيضا ذلك من دون زيادة ، وقد يكون موسعا كالصلوات اليومية ، فانّ ما يحتاج إليه كل منها من الزمان أقصر من زمان الإتيان به بكثير ، بل زمان فضيلة كل منها أيضا أطول من زمان فعله كما هو واضح.

وهذه الأقسام الأربعة بأجمعها واقعة في الشرع والعرف ، إلّا انه قد استشكل في تصوير كل من الواجب المضيق والموسع.

امّا في المضيق ، فبأنّ فعلية البعث لا بدّ وان تكون سابقة على الانبعاث ، لأنه انما يكون بعد وصول البعث إلى المكلف وتصوره إياه ولعاقبة عصيانه وامتثاله ، ثم بعد ذلك ينقدح في نفسه الداعي على الامتثال ، فلا مناص من وجود البعث الفعلي سابقا على زمان العمل ولو بهذا المقدار ، فكيف يعقل ان لا يزيد الوقت في المضيق على زمان الإتيان بالعمل.

٨٢

والجواب عنه يظهر مما قدمناه في الترتب ، فانّ تأخر الانبعاث عن البعث كما عرفت ليس تأخرا زمانيا ، بل هو تأخر رتبي ، فاذن لا مانع من ثبوت الأمر الفعلي في الآن الأول من الوقت وفي نفس ذلك الآن يتحقق الانبعاث أيضا من دون فصل زماني بينهما.

نعم لا كلام لنا في علم المكلف بالأمر وانه لا بدّ وان يكون عالما بالتكليف وكونه فعليا في الزمان الخاصّ. كما انّ الكلام ليس في الإنشاء ولزوم كونه قبل مجيء الوقت كما في وجوب الصوم الّذي هو منشأ قبل الف سنة وأكثر ، بل كلامنا في خصوص فعلية البعث ، ونريد أن نقول : انّ الفعلية لا يلزم ان تتحقق قبل زمان العمل كما عرفت.

وامّا الموسع ، فربما يستشكل فيه بما استشكل به في الواجب التخييري من انه كيف يعقل انّ إتيان الفعل في زمان واجبا ومع ذلك يجوز تركه ولو إلى بدل ، وقد عممنا هذا الإشكال إلى التخيير بين الافراد العرضية أيضا كالتخيير بين افراد الطبيعي كالإتيان بالصلاة في الدار أو السجن أو المسجد ونحوه ، فكيف يعقل ان يكون كل منها واجبا ويجوز تركه؟!

والجواب عنه أيضا تقدم وهو : انّ الواجب انما هو الجهة الجامعة المشتركة بين الافراد الطولية أو العرضية ، ومن الواضح عدم جواز تركه ، فلا إشكال في الواجب الموسع ولا المضيق.

بقي الكلام في فروع :

الأول : انّ الواجب الموسع هل هو من قبيل تعدد المطلوب ، بحيث يدل دليله على لزوم الإتيان به بعد الوقت إذا لم يؤت به في الوقت ، ومن صغرياته تبعية القضاء للأداء ، أو انه يكون بأمر جديد؟

٨٣

فصّل صاحب الكفاية (١) بين ما إذا كان تقييد الواجب بالوقت بدليل متصل ، فلا دلالة له على وجوب العمل بعد مضي وقته ، وما إذا كان التقييد بقرينة منفصلة.

وأورد عليه الميرزا قدس‌سره بما حاصله (٢) : انه لا فرق بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة ، فانّ كلا منهما تدل على انّ مراد المولى كان مقيدا من أول الأمر ، فلا فرق في النتيجة بين ان يقول المولى «صل في الوقت» أو يقول : «صل» ثم يقول : «ائت بها في الوقت» كما لا فرق من هذه الجهة بين الصورتين في غير الزمان من أنحاء القيود ، فعلى ما ذكره يلزمه الالتزام بهذا التفصيل في بقية المقيدات أيضا.

هذا ونقول : الظاهر انّ مراد الآخوند قدس‌سره ليس ما استظهره قدس‌سره ، بل هو امر دقيق صحيح جار في جميع المقيدات المنفصلة ، وهو انه إذا ثبت وجوب شيء ثم دل دليل مقيد لذلك الواجب ، فتارة : يكون لكل من الدليلين إطلاق لحال تعذر ذلك القيد وعدمه ، وأخرى : لا يكون لشيء منهما إطلاق ، وثالثة : يكون لأحدهما إطلاق دون الآخر ، فالصور أربع.

امّا ان كان للدليل المقيد إطلاق كما في قوله «صل عن طهارة» أو «لا صلاة إلّا بطهور» فإنّ إطلاقه يعم صورة تعذره وعدمه ، من غير فرق بينهما ، ولا وجه لما ذكره المحقق القمي قدس‌سره من انّ المقيد إذا كان بصيغة الأمر لا يتم له إطلاق ، ولا يعم صورة عجز المكلف ، إذ يستحيل تكليف العاجز ، وذلك لما ذكرناه في محله من انّ هذه الأوامر ليست تكليفية ، وانما هي إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية.

وبالجملة إذا كان للمقيد إطلاق يؤخذ به من غير فرق بين ما إذا كان لدليل الواجب أيضا إطلاق أم لم يكن ، فانّ إطلاق المقيد يتقدم على إطلاق المطلق فيثبت القيدية المطلقة ، ولازمه ان لا يبقى امر بالواجب عند تعذر ذلك القيد.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ ج ١ ـ ص ٢٣٠ (ط قديم).

(٢) أجود التقريرات ـ ج ١ ـ ص ١٩١.

٨٤

وامّا إذا لم يكن للدليل المقيد إطلاق كما في دليل اعتبار الطمأنينة في الصلاة الّذي هو الإجماع ، فان كان لدليل الواجب إطلاق يؤخذ به ، فيثبت به وجوب العمل عند تعذر القيد أيضا ، فيجب الصلاة بغير طمأنينة إذا تعذرت الطمأنينة. وهذا المعنى هو الّذي طبقه الآخوند على تقييد الواجب بالزمان ، ففي هذه الصورة يستفاد وجوب العمل بعد الوقت من نفس إطلاق دليل الواجب ، إلّا انّ تسميته حينئذ بالقضاء غير خالية عن المسامحة ، ومن الواضح عدم جريان ذلك في التقييد بالقرينة المتصلة.

ثم انه إذا شككنا في وجوب القضاء لشبهة حكمية ، فان كان لدليل الواجب إطلاق يثبت به وجوب الإتيان به في خارج الوقت فهو ، وإلّا فان ثبت ذلك بدليل اجتهادي كما ورد النص على وجوب قضاء الصوم المعين المنذور يؤخذ به ، وإلا فهل يمكن إثبات وجوبه بعد الوقت بالاستصحاب أم لا؟

الظاهر هو الثاني ، وذلك لأنّ الشاك في البقاء تارة : يعلم بأنّ الواجب في الوقت كان بنحو وحدة المطلوب إلّا انه يحتمل حدوث تكليف آخر بعد سقوطه ، وأخرى : يحتمل ان يكون نفس التكليف الأول باقيا لاحتمال كونه من قبيل تعدد المطلوب. واما الاستصحاب على الأول فهو من الكلي القسم الثالث ، وهو غير جار على ما بين في محله ، وامّا على الأول فحيث لم يحرز فيه اتحاد القضية المتيقنة مع المشكوكة ، لأنّ المستصحب متحد مع المتيقن لو كان الواجب في الوقت بنحو تعدد المطلوب ، واما لو كان بنحو وحدة المطلوب فهو أمر حادث مغاير له ولا يجري الاستصحاب ما لم يحرز الاتحاد.

وهذا نظير ما لو علم وجوب إكرام زيد ولكن شككنا في انّ وجوبه هل هو من قبيل تعدد المطلوب بان يكون الواجب إكرام العالم من دون دخل لخصوصية الزيدية فيه ، غايته انّ إكرام خصوص زيد بما هو زيد واجب آخر ، فإذا تعذر

٨٥

إكرامه هل يمكن ان يتوهم أحد جريان استصحاب وجوب إكرام العالم؟! كلا.

وبالجملة فالاستصحاب لا يجري على التقديرين ، فالمرجع هو البراءة.

وامّا لو شككنا في وجوب القضاء لشبهة موضوعية بعد العلم به من حيث الشبهة الحكمية بان لم نعلم اننا أتينا بالواجب في الوقت أم لم نأت به ، فهل يمكن إثبات وجوب القضاء باستصحاب عدم الإتيان في الوقت مع قطع النّظر عن قاعدة الحيلولة أم لا يمكن؟

الظاهر هو الثاني ، وذلك لأنّ وجوب القضاء انما هو مترتب على عنوان الفوت ، وهو أمر وجودي ملازم للترك وعدم الإتيان بالعمل في الوقت لا نفسه ، ويعبر عنه في الفارسي (با زكية رفتن) فيقال تركت السرعة ففاتني البحث مثلا ، فيترتب الفوت على الترك ، وعلى تقدير كونه عدميا فهو من قبيل عدم الملكة بخلاف الترك فتأمل.

ويشهد لتغايرهما انّ الترك حاصل من أول الوقت ولا يصدق عنوان الفوت ، وهكذا في أثناء الوقت إلى ان يبقى من الوقت مقدار لا يسع الإتيان بالعمل خارجا ، وعلى هذا فاستصحاب عدم الإتيان بالواجب في الوقت لا يثبت عنوان الفوت ، فانه مثبت. ولو شككنا في ذلك ولم نعلم انّ الفوت عين الترك وعدم الفعل في الوقت أو انه لازمه لا يجري الاستصحاب أيضا ، وذلك لاختصاص دليل حجية الاستصحاب كقوله عليه‌السلام «لا ينقض اليقين بالشك» بما إذا كان المتيقن ذا أثر شرعي ، وإلّا فالاستصحاب غير جار ، فلا بدّ من إحراز ذلك في اجزائه ، وإلّا فالتمسك به يكون من قبيل التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

وفي المقام لم نحرز ذلك ، إذ نحتمل ان لا يكون موضوع الحكم أعني الفوت متحدا مع المستصحب ، بل يكون في فرض اتصال القرينة والمخصص لا انفصاله كما هو واضح.

٨٦

فتحصل : عدم إمكان إثبات وجوب الإتيان بالموقت في خارج الوقت بالاستصحاب لا في الشبهة الحكمية ولا الموضوعية. هذا كله في الموسع.

٨٧

فصل : هل الأمر بالأمر أمر أم لا؟

يتصور ذلك على أنحاء ثلاثة : فإنّ غرض الآمر تارة : مترتب على مجرد أمر الواسطة ويكون لأمره موضوعية في نظر المولى ، وأخرى : يكون أمره طريقيا محضا وواسطة للإيصال ، وثالثة : يكون وسطا بين القسمين بان يكون المطلوب حصول المأمور به في الخارج لكن لا تعينه ، بل بما أمر به الواسطة ، كما يتفق ذلك في الملوك وأبنائهم ، فيأمر الملك ابنه بان يأمر العسكر بالحركة إلى جانب خاص ، ويكون غرضه ان يأتمر العسكر بامره ويتحركون إلى تلك الجهة بعد أمره ليظهر عندهم آمريته وعظمته.

امّا في القسم الأول ، فليس الأمر أمرا بالعمل أصلا ، لعدم تعلق الغرض به ، فلا يجب الإتيان به على الفاعل ، سواء أمره الواسطة أم لم يأمر فيما إذا لم تكن الواسطة بنفسها واجب الإطاعة ، بل كان شخصا عاديا. كما لا إشكال في لزوم العمل على الفاعل في القسم الثاني ولو لم يأمره الواسطة ، بل علم بغرض المولى من طريق آخر. واما في القسم الثالث فيفصل بين ما إذا أمر الواسطة فيجب ، وإلّا فلا ، لأنّ الغرض لم يكن مترتبا على ذات العمل ، وانما كان مترتبا عليه بما أمر به الواسطة ، فلو لم يأمر لا يكون ذا مصلحة أصلا. هذا كله في الأقسام المتصورة.

إلّا انّ ظاهر الأمر بالأمر بحسب الفهم العرفي هو الثاني ، أعني الطريقية المحضة ، ولذا لو أمر المولى ابنه وقال : «مر الخادم بان يشتري اللحم» ولم يفعل الولد ولكن الخادم بنفسه سمع صوت المولى ومع ذلك لم يفعل يعد معاقبا عند العقلاء ، وليس له ان يتعذر بأنّ الابن لم يأمرني بذلك ، وهذا واضح.

٨٨

ويترتب على هذا البحث ثمر مهم في مسألة مشروعية عبادات الصبي وكونها تمرينية محضة ، التي هي معركة الآراء ، إذ ليس عليها دليل سوى ما ورد في الاخبار من خطاب أولياء الأطفال بان يأمروا صبيانهم بالصلاة والصيام ، وتظهر الثمرة فيما إذا حال بين المأموم والإمام صبيانهم ولكنهم كانوا مؤتمين أيضا ، وفيما إذا انحصر المأموم بطفل مميز وشك الإمام وحفظ الطفل ، فهل يرجع الإمام إليه أم لا؟ إلى غير ذلك ، وكلها مبتنية على مشروعية عبادة الصبي المبتنية على هذا البحث ، وقد عرفت ما هو الصحيح فيه.

٨٩

فصل : الأمر بالشيء بعد الأمر به

الأمر بالشيء بعد الأمر به يتصور على وجوه ، فإنه تارة : يكون كل منهما معلقا على سبب مغاير لما علق عليه الآخر ، مثلا يقول المولى : «ان ظاهرت فأعتق رقبة» ثم يقول : «ان أفطرت صوم شهر رمضان متعمدا فأعتق رقبة» ولا إشكال في هذا القسم في تعدد التكليف ، وانّ هناك خطابان : أحدهما مترتب على الظهار ، والآخر مسبب عن الإفطار ، فإذا فعلهما المكلف يكون الاكتفاء بعتق واحد وعدمه مبنيا على القول بتداخل الأسباب وعدمه ، وهذا خارج عن محل الكلام ، وسيأتي البحث عنه إن شاء الله في مفهوم الشرط.

فيبقى قسمان آخران وهما مورد البحث.

أحدهما : ما إذا اتحد السبب ، أي علق كل من الأمرين على سبب واحد.

ثانيهما : ما إذا لم يذكر المسبب أصلا ، كما لو قال : «أعط لزيد درهم» ثم قال ثانيا : «أعط لزيد درهما» فهل يكون الظاهر منهما تعدد التكليف أو يكون الثاني تأكيدا للأمر الأول؟

فنقول : ظاهر الأمر وان كان هو التأسيس ، والتأكيد في نفسه خلاف الأصل ، إلّا انّ ذلك انما يكون فيما إذا لم يكن الأمر مسبوقا بأمر آخر ، وإلّا فالتحفظ على إطلاق مادته يقتضي الالتزام بالتأكيد دون التأسيس ، وذلك لأنّ الطبيعي الواحد لا يعقل تعلق الأمرين به تأسيسا ، فلا بدّ من تقييد إطلاق مادة الأمر الثاني بعنوان كعنوان الآخر مثلا ، ففي مثال الأمر الثاني بالإعطاء لا بدّ وأن يقيد «أعط لزيد درهما» بعنوان الآخر ، فيكون المراد أعطه درهما آخر ، وهو خلاف الظاهر.

٩٠

مبحث النواهي

معنى النهي ودلالاته.

اجتماع الأمر والنهي.

دلالة النهي على الفساد.

٩١
٩٢

النواهي

ذكروا انّ النهي هو طلب ترك الفعل ، وذكر بعض آخر انه بمعنى الكف عن الفعل ، وهو أمر وجودي بتخيل انّ الترك وعدم الفعل خارج عن قدرة المكلف ، فانه أزلي ، فيستحيل تعلق الطلب به. إلّا انه غير صحيح ، فانّ العدم الأزلي وان لم يكن مقدورا للمكلف ولذا كان متحققا قبل وجوده إلّا انّ إبقاء العدم واستمراره أمر مقدور له ، وإلّا لما كان الفعل أيضا مقدورا ، فانّ المقدور ما كان طرفاه تحت قدرة المكلف وإلّا لكان الفعل ضروريا كما في المعالم ، وهذا ظاهر.

إلّا انّ الصحيح : انّ النهي كالزجر متعلقه نفس الفعل ، لا الترك ولا الكف ، غايته انّ الأمر هو البعث نحو الفعل لمصلحة فيه تكون هي الباعث للمولى ، والنهي زجر عنه لمفسدة فيه تكون هي الزاجر ، ففي الأمر يعتبر المولى لا بدّية الفعل على ذمة المكلف ، وفي النهي يعتبر حرمانه عن الفعل ، نظير البعث والزجر الخارجين.

نعم قد يستعمل النهي في موارد محبوبية الترك واشتماله على المصلحة ، كما في تروك الإحرام وترك المفطرات في الصوم ، إلّا انّ إطلاق النهي فيها مسامحة ، ولذا قد ذكر الأصحاب تروك الإحرام في الواجبات دون المحرمات ، وهذا يكون كإطلاق المبغوضية على ترك الواجبات.

ثم طلب الترك يتصور على أقسام ثلاثة : لأنه تارة يكون من قبيل العام الاستغراقي بان يكون كل فرد من أفراد الترك واجبا مستقلا ، له إطاعة وعصيان مستقل.

وأخرى : يكون الترك مطلوبا بنحو العام المجموعي الّذي نعبر عنه بخلو صفحة

٩٣

الوجود ، مثلا لو أراد المولى أن ينام فقال : «لا يدخل عليّ أحد» يكون مقصوده ترك الدخول بنحو العام المجموعي وخلو الدار عنهم.

وثالثة : يكون متعلق الغرض عنوان بسيط منتزع من التروك.

ويختلف الحال في هذه الأقسام من حيث جريان البراءة والاشتغال فيما إذا شك فيها لشبهة موضوعية ، مثلا ورد في باب الصلاة «لا تصل فيما لا يؤكل لحمه» (١) فلو شككنا في لباس انه من غير المأكول فلو كان المطلوب ترك لبس كل فرد من أفراد غير المأكول بنحو العموم الاستغراقي تجري البراءة عن حرمة المشكوك لا محالة ، لأنه من الشك في الأقل والأكثر الغير الارتباطي في الشبهة الموضوعية الوجوبية التي لم يخالف في جريان البراءة فيها الأخباريون أيضا.

وامّا لو كان بنحو العام المجموعي فيكون من الأقل والأكثر الارتباطي ، فمن يقول بالبراءة هناك يقول به في المقام ، ومن يقول بالاشتغال فكذلك.

وامّا على الثالث أي لو كان المطلوب عنوانا بسيطا متحصلا من التروك فلا ينبغي الريب في جريان قاعدة الاشتغال ، لأنه من الشك في المحصل.

ثم انك بعد ما عرفت من انّ التكليف في كل من الأمر والنهي انما هو الفعل ، غايته في باب الأوامر يبعث نحو الفعل ، وفي باب النواهي يزجر عن الفعل اعتبارا كالبعث والزجر الخارجيين وانّ طلب الترك ليس نهيا يقع الكلام في أمور.

الأمر الأول : انا قد ذكرنا مرارا انّ الطبيعة المهملة المعبر عنها باللابشرط القسمي يستحيل تعلق التكليف بها ، بل لا بدّ وان يكون متعلق الأمر أو النهي هو اللابشرط القسمي أي الطبيعة المطلقة السارية في جميع الأفراد ، أو المقيدة بقيد خاص ، فانّ الإهمال غير معقول. وعلى هذا فمتعلق كل من الأمر أو النهي يكون

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ ـ ٢٥٠ الباب الثاني من أبواب لباس المصلي.

٩٤

الطبيعة المطلقة أعني السارية ، فما هو السر في انّ امتثال البعث يتحقق بصرف وجود الطبيعي أي بأول وجوده ، وفي النواهي لا يتحقق الانزجار إلّا بترك جميع أفراد الطبيعي مع انّ المتعلق في كليهما هو الطبيعي بنحو السريان في الأفراد؟

والجواب المعروف عن هذا هو : انّ وجود الطبيعي يتحقق بأول وجود منه بخلاف عدم الطبيعة فانه لا يكون إلّا بترك جميع أفرادها.

وهذا الجواب غير تام عندنا ، وذلك لأنّ متعلق التكليف في كل من الأمر والنهي انما هو الطبيعة السارية لا المهملة ، ومن الواضح انها لا توجد في ضمن وجود فرد واحد من أفرادها ، بل كل حصة منها موجودة في ضمن فرد ، فإذا أوجد المكلف بعض أفرادها دون بعض يصدق انّ حصة منها موجودة ، والحصة الأخرى منها معدومة من غير فرق في ذلك بين كون الطبيعة متعلقة للأمر وكونها متعلقة للنهي.

وليعلم أولا ـ انّ محل كلامنا انما هو متعلق التكليف لا موضوعه ، فانّ الوجوب أيضا قد يكون انحلاليا بحسب أفراد موضوعه كما في قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) فانّ ظاهره وجوب الوفاء بكل عقد لا بصرف وجود العقد ، بل مورد البحث هو المتعلق كالضرب والإكرام ونحوه ، مثلا لو قال المولى «اضرب زيدا» يمتثل بضرب واحد ، ولو قال : «لا تضرب زيدا» لا يتحقق الانزجار إلّا بترك كل ما يفرض للضرب من الأفراد مع انّ متعلق التكليف هو طبيعي الضرب بنحو السريان في كلا الموردين ، فما هو الفارق؟

والجواب الصحيح عن ذلك هو انّ الباعث على الأمر انما هو وجود المصلحة في المتعلق أو وجود غرض للمولى فيه يكون باعثا وداعيا له على ان يأمر ، وهو

__________________

(١) المائدة : ٢.

٩٥

بحسب الغالب متعلق بصرف وجود الطبيعة المنطبق على أول الوجود ، وتطبيقه على الأفراد يكون بيد المكلف ، وقد يتفق نادرا تعلق غرضه بمطلق وجود الطبيعي إلّا انه لا بدّ من التنبيه عليه بان يقول : «اضرب زيدا مرتين أو أكثر» وإلّا فنفس الغلبة تكون قرينة لظهور الأمر في القسم الأول.

وامّا الداعي للمولى على الزجر فانما هو وجود المفسدة في الطبيعي ، وبحسب الغالب تكون المفسدة أو ما ينافر طبع المولى الموجب لنهيه متحققا في كل فرد من أفراد الطبيعة ، وربما يتفق نادرا كون المفسدة في صرف وجود الطبيعة المنطبق على أول وجودها ، كما في المثال المتقدم أعني ما إذا أراد المولى ان ينام ونهى عن الدخول عليه ، فإنّ المنافر لطبعه حينئذ أول وجود الدخول لا مطلقه ، إلّا انّ ذلك يحتاج إلى قرينة ، وإلّا فنفس الغلبة توجب ظهور النهي في القسم الأول.

وبالجملة فالفرق بين الأوامر والنواهي من حيث تحقق امتثال الأول بصرف وجود الطبيعي وعدم امتثال الثاني إلّا بترك جميع أفراده انما هو من ناحية الغرض ، وانه في الأول متعلق بصرف الوجود ، وفي الثاني بمطلقه بحسب الغالب ، وهذه الغلبة قرينة على ذلك في الموردين إلّا ان تقوم قرينة على خلافها.

وبالجملة الطبيعي في مقام تعلق الأمر به أو النهي لا بدّ وان يكون ملحوظا امّا مقيدا بالإضافة إلى كل قيد وانقسام يتصور له ، وامّا ساريا ومطلقا بالقياس إلى ذلك ونعبر عنه باللابشرط القسمي.

فإذا فرضنا انه مطلق ، فما هو السر في حصول امتثاله في باب الأوامر بإيجاد أول فرد منه ، وفي النواهي لا يتحقق الامتثال إلّا بترك جميع الأفراد؟

والوجه الصحيح لذلك هو انّ الطبيعي في الأوامر ملحوظ بنحو صرف الوجود ، وفي النواهي بنحو مطلق الوجود والقرينة على ذلك أمران.

أحدهما : ما تقدم من انّ الغرض والمصلحة بحسب الغالب مترتب على صرف

٩٦

وجود الطبيعة ، والمنافر للطبع أو المفسدة مترتبة على مطلق وجودها ، وهذه الغلبة إحدى القرينتين على كون متعلق الأمر صرف وجود الطبيعي ومتعلق النهي مطلق وجوده.

ثانيهما : وهو العمدة ولا اختصاص له بالقضايا الإنشائية بل هو جار في الجملة الخبرية أيضا ، فانّ الإشكال غير مختص بالإنشائيات ، بل يجري في الإخبارات أيضا ، فإنه لو قال المتكلم «عندي درهم» لا يستفاد منه إلّا تحقق صرف وجوده عنده ، ولو قال «ليس عندي درهم ، أو لا درهم عندي» يستفاد منه انتفاء جميع أفراده ، وهذا هو الكلام المعروف من انّ النكرة في سياق النفي يفيد العموم.

فالإشكال جار في كل قضية موجبة وسالبة ، سواء كانت خبرية أو إنشائية ، وهذه القرينة الثانية على إرادة صرف الوجود في الإيجابية ، ومطلق الوجود في السلبية موجودة في القضايا الخبرية والإنشائية وهي : انه لا إشكال في انّ وجود جميع أفراد طبيعة واحدة عند شخص واحد يكون مستحيلا عادة ، كما انّ إيجادها بالإضافة إليه كذلك ، بل ربما يكون مستحيلا عقلا ، إذ ربما تكون الحصص متقابلة ، مثلا لو قال المولى «بع دارك لزيد» يستحيل ان يبيعه المكلف بالفارسي وبالعربي وبالبيع اللازم والبيع الخياري إلى غير ذلك ، وعلى هذا ففي القضايا الإيجابية إذا أخبر عن وجود الطبيعي عنده أو طلب إيجاده لا بدّ وان يكون المطلوب أو المخبر به هو صرف وجود الطبيعي لهذه القرينة.

واما في القضايا السلبية فبما انّ انتفاء صرف وجود الطبيعي أمر ضروري لا بدّ منه عادة فلا يكون قابلا لأن يخبر عنه أو لأن يطلب ، فلا معنى لأن يقول المتكلم «ليس عندي درهم» ويريد به نفي طبيعي الدرهم بنحو صرف الوجود ، أي يزجر عن شرب الخمر بنحو صرف الوجود ، وهذه قرينة على انه إذا تعلق النهي أو

٩٧

النفي بالطبيعة المطلقة فهي ملحوظة بنحو مطلق الوجود المنطبق على جميع الأفراد وإلّا :

فان قلت : انّ هذه القرينة انما تكون قرينة على انّ المراد من الطبيعي في القضية الموجبة الأفراد الممكنة بحسب العادة لا صرف وجود الطبيعة ، وهكذا في القضايا السالبة يمكن ان يكون ذلك قرينة على تعلق السلب بصرف وجود الأفراد الممكنة عادة من الطبيعي بالقياس إلى هذا الشخص ، مثلا لو قال : «اشتريت كتابا» لا بدّ وان يراد به شراء الكتب الممكنة ولو بأجمعها لا خصوص صرف وجودها ، ولو قال : «ما اشتريت كتابا» يراد به نفي شراء الكتاب بنحو صرف الوجود بالقياس إلى ما أمكن عادة شراؤه له من الكتب.

قلت : هذا وان كان صحيحا إلّا انّ الإنسان يقطع من الخارج بعدم وجود جميع الأفراد الممكنة عادة عند الشخص ، فانّ من يمكنه بحسب العادة ان يشتري الف كتاب إذا قال : «ما اشتريت اليوم كتابا» لا يمكن حمله على النفي بنحو صرف الوجود ، إذ يعلم من الخارج انه مع تمكنه لا يشتري في اليوم الواحد الف كتاب ، فتأمل.

وامّا نفي المقدار الخاصّ فهو مناف للإطلاق وينافيه التقييد بحد مخصوص. هذا كله في الأفراد العرضية.

الأمر الثاني : في انّ النهي عن الطبيعي هل يستفاد منه الاستمرار والزجر عن الأفراد الطولية أيضا؟ الظاهر ذلك ، وقد ذكر الميرزا (١) قدس‌سره له وجها وحاصله : انّ ترك الطبيعي آناً ما حاصل لكل أحد ، فطلبه لغو محض ، فلا بدّ وان يراد منه الاستمرار.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٣٣٠.

٩٨

وفيه : انّ اللغوية ترتفع بتقييده بأزيد من المقدار الضروري ، مثلا يراد من «لا تشرب الخمر» الزجر عنه في نصف عمره مثلا فانّ به يرتفع محذور اللغوية.

فالوجه الصحيح للاستمرار وعدم سقوط النهي بترك الأفراد العرضية آناً ما هو إطلاق المادة ، وانه بعد ما أثبتنا انّ الزجر لا بدّ وان يتعلق بالطبيعي بنحو مطلق الوجود والسريان فلا محالة تكون الأفراد الطولية أيضا متعلقة للنهي كالأفراد العرضية من غير حاجة إلى التمسك باللغوية فتأمل.

الأمر الثالث : لو فرضنا انّ المكلف عصى النهي وأتى ببعض أفراد الطبيعي المنهي عنه ، فهل يقتضي النهي الزجر عن الأفراد الأخر أم لا؟

ذكر المحقق الخراسانيّ (١) انّ إطلاق النهي من سائر الجهات لا يكفي إطلاقه من هذه الجهة ، فلا بدّ في ذلك من إطلاق آخر ، أو دليل على بقاء النهي.

ولكن الصحيح : انّ ما أفاده انما يتم في النهي الشخصي كما في النهي عن المفطرات في الصوم ، فانه لا يقتضي الزجر عن إتيان المفطر بعد العصيان ، وقد دل الدليل على ذلك من الخارج. وامّا في ما كان النهي من قبيل القضايا الحقيقية فنفس الإطلاق الأول وسريان الطبيعي إلى الأفراد العرضية والطولية يقتضي انحلال التكليف ، فعصيانه في بعض الأفراد لا يستلزم سقوطه في غيره من الأفراد.

وبالجملة جميع هذه الأمور الثلاثة مبنية على ان يكون متعلق النهي هو مطلق وجود الطبيعة لا صرف وجودها ، وقد عرفت القرينتين على ذلك.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٣٣.

٩٩
١٠٠