دراسات في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

متعلق النذر في نفسه مع قطع النّظر عن وجوب الوفاء به مستلزما لتحليل الحرام أو تحريم الحلال ، كما ورد ذلك في الوفاء بالشرط بقوله عليه‌السلام : «المؤمنون عند شروطهم إلّا ما أحل حراما أو حلل حراما» وفي المقام متعلق النذر مستلزم لترك الحج الواجب واقعا ، لأنّ الحج مع قطع النّظر عن وجوب الوفاء بالنذر واجب فعلي على الفرض ، فلا ينعقد مثل هذا النذر أصلا.

الثاني : انّ القدرة المأخوذة شرعا في الحج ليست إلّا القدرة من حيث الزاد والراحلة وخلو السرب كما يستفاد ذلك من تقييد الاستطاعة بقوله «سبيلا» أي من حيث الطريق ، ويدل على ذلك الروايات أيضا ، فالقدرة من بقية الجهات فيه عقلية وغير دخيلة في ملاكه ، فيكون المثال من قبيل القسم الأول ، وقد عرفت بتقدم ما لم يعتبر فيه القدرة شرعا على ما اعتبرت فيه كذلك ، فيتقدم الحج على الوفاء بالنذر ، لأنه ذو ملاك بعد حصول الزاد والراحلة وخلو السرب ، بخلاف الوفاء فانه عند مزاحمته بالحج لا ملاك فيه أصلا.

هذا مضافا إلى انّ النذر لو تقدم على الحج لانسد باب الحج كلية ، فانّ كل أحد قبل استطاعته ينذر ان يصلي في يوم عرفة في مسجد بلده ركعتين ، فيكون معجزا له عن الحج ، ولا يمكن الالتزام به.

ثم أنّه وقع الكلام استطرادا في فرعين :

الأول : نذر الإحرام قبل الميقات ، فإنّه غير جائز قبل النذر ، فكيف يتعلق النذر به؟!

الثاني : نذر الصوم في السفر.

فهل يكون خروجهما عن دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بالتخصيص ، لاعتبار الرجحان في متعلق النذر في نفسه ، أو يكون من قبيل التخصص بدعوى انه يعتبر في متعلق النذر ان يكون راجحا سواء كان رجحانه في

٢١

نفسه ، أو بعد تعلق الالتزام النذري به ، لا تعلق الوجوب به ليكون دورا ، إذ ربما لا يكون الفعل في نفسه راجحا إلّا انه يكون راجحا عند تعلق الوعد به كما هو واضح. وبالجملة على هذا يكون خروج الموردين بالتخصص ، كما ذهب إليه السيد في العروة ، وأشكل عليه المحقق النائيني في حاشيته بأنه عليه يلزم تحليل كل حرام بالنذر ، إذ بعد تعلق النذر به يكون راجحا ، فلا بدّ وان يثاب عليه أيضا.

والتحقيق : انّ السيد قدس‌سره ملتفت إلى هذا النقض ، وقد أشار إليه ، وهو غير وارد ، وذلك لأنّ إطلاق دليل حرمة الشيء أو إباحته يكون شاملا لحال النذر أيضا ، ومقتضاه عدم ثبوت الرجحان له بالنذر أيضا ، فلا بدّ من رفع اليد عنه من ورود مخصص على ذلك ، ولم يثبت المخصص إلّا في الموردين كما هو ظاهر.

وبالجملة فلا يستفاد من دليل اعتبار الرجحان في النذر مثل قوله عليه‌السلام «لا نذر إلّا في طاعة الله ، أو لا نذر في معصية الله» إلّا الرجحان بعد النذر لا قبله ، وعليه فبعد تخصيص دليل حرمة الإحرام قبل الميقات أو الصوم في السفر بغير مورد النذر يخرج الموردين عن ما دل على عدم انعقاد النذر في غير الراجح بالتخصص. وامّا على مسلك الميرزا ومن حذا حذوه فيخصص ذلك الدليل به لا محالة ، ومن ثم ذكرنا انّ النزاع بين المسلكين علمي محض.

فتلخص من جميع ما تقدم انه لو كانت القدرة معتبرة في المتزاحمين شرعا ، فلو كان أحدهما مقدما على الآخر زمانا يتقدم عليه ، ولو كانا متقارنين فإن كان أحد الملاكين أهم يتقدم على غيره خلافا للميرزا ، وان كانا متساويين يتخير المكلف بينهما شرعا. وقد عرفت الحال في نذر زيارة الحسين عليه‌السلام يوم عرفة ، وفي الفرعين الآخرين.

وأما القسم الثالث : وهو ما إذا لم تكن القدرة مأخوذة في شيء منهما شرعا ، بل كان اعتبارها في التكليفين بحكم العقل ، فان كان أحدهما أهم من الآخر بمقدار

٢٢

ملزم فلا ريب في تقدمه على غيره عقلا وشرعا ، إذ ليس للشارع ولا لغيره تفويت الملاك الملزم ، فيتعين ذلك من غير فرق بين كونه متقدما على المهم زمانا أو متقارنا معه أو متأخرا عنه ، اما في الأولين فواضح ، وامّا في الأخير فلما تقدم في المقدمات المفوتة من انّ العقل مستقل بحفظ القدرة على استيفاء الملاك الملزم فيما بعد ، وفي المقام وان لم يكن الحكم على طبق الملاك الملزم في طرفه فعليا من أول الأمر بناء على إنكار الواجب التعليقي إلّا انّ ثبوت الملاك الملزم في ظرفه كاف في حكم العقل بلزوم حفظ القدرة عليه ، أو حكم الشارع بوجوبها طريقيا على مسلك الميرزا قدس‌سره مثال ذلك ما لو كان عنده مقدار من الماء لا يفي إلّا لشرب شخص واحد والآن عنده رجل يموت من العطش ولكن يعلم بأنّ غدا يبتلى بنبي يموت عطشا لو لم يحفظ هذا الماء من الآن.

وأما لو كانا متساويين من حيث الأهمية ، فحيث انّ الترجيح بلا مرجح قبيح ، والأمر بهما معا غير معقول ، فلا مناص من ثبوت التخيير ، وهو واضح ، إلّا انّ الإشكال في انّ هذا التخيير هل هو تخيير شرعي كما في القسم الثاني ، أو انه عقلي بمعنى التخيير في النتيجة؟

فمن ذهب إلى الأول ادعى أنّه بعد استحالة بقاء التكليفين معا ، وكون ترجيح أحدهما المعين بلا مرجح يسقطان معا لا محالة ، وحيث انّ الملاك ثابت والمفروض تمكن المكلف من استيفاء أحدهما وليس للشارع تفويته ، فيستكشف العقل بنحو اللم حدوث خطاب تخييري متعلق بالجامع بينهما كعنوان أحدهما لا محالة.

ومن ذهب إلى الثاني نظر إلى انّ التزاحم انما نشأ من إطلاق الخطابين لا من أصلهما ، فلا يرفع اليد إلّا عن إطلاقهما ، لأنّ الضرورات تتقدر بقدرها ، فيقيد العقل إطلاق كل منهما بصورة عدم الإتيان بمتعلق الآخر ، فيكون هناك وجوبان تعيينيان كل منهما مشروط بترك متعلق الآخر.

٢٣

ثم انّ في المقام إشكال ذكر في مبحث الترتب والأمر بالمهم مشروطا بترك الأهم ، نشير إليه وإلى جوابه هنا ، وتفصيل القول فيه موكول إلى محله.

وحاصل الإشكال : انه لو ثبت الأمر بكل من الواجبين مشروطا بترك الآخر ، فعند تركهما معا يكون التكليفان كلاهما فعليا ، ونتيجته طلب الضدين ، وهو محال.

والجواب عنه : انّ نتيجة الخطابين المشروطين ليس إلّا عدم الرضا بالجمع في الترك لا طلب الجمع في الفعل ، ومن الواضح انّ أحد الأمرين ليس نقيضا للآخر ، فإنّ نقيض الجمع في الفعل عدم الجمع في الفعل ، بل يتحقق ترك الجمع في الترك بإتيان أحد الفعلين ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في بحث الترتب.

والحاصل : انّ هذا التخيير من فروع الترتب ، بل هو ترتب من طرفين ، بخلاف الترتب في الأهم والمهم فانّه ترتب من طرف واحد ، فلو صححنا الترتب يصح ذلك أيضا.

فيقع الكلام في ثمرة القولين ، وقد ذكر الميرزا وجوها.

منها : تعدد العقاب عند تركهما معا على الثاني ، فإنه عصيان لتكليفين فعليين كما هو ظاهر ، ووحدته على الأول ، لأنه بتركهما معا يتحقق عصيان التكليف الواحد التخييري.

ومنها : ما ذكره الميرزا قدس‌سره أيضا فيما إذا احتمل أهمية أحد الوجوبين ، فإنّه على الأول يكون من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي ، فيجري فيه الخلاف المعروف من الرجوع فيه إلى البراءة أو إلى الاشتغال ، وعلى الثاني لا بدّ من القول بالتعيين لأنّ إطلاق خطاب ما لا يحتمل أهميته قد قيد على التقديرين ، بخلاف خطاب ما يحتمل أهميته فإنّ تقيده غير معلوم ، والعقل يستقل فيه بالاشتغال.

٢٤

ونقول : الظاهر عدم صحة هذه الثمرة ، وذلك لأنه لا بدّ من القول بالتعيين حتى بناء على التخيير الشرعي أيضا ، والسر فيه يظهر مما تقدم ، فانّ الرجوع إلى البراءة عن التعيين انما هو فيما إذا شك في التعيين والتخيير في مرحلة الجعل والتشريع ولم تكن كيفية التكليف معلومة ، واما إذا كان الدوران في مقام الفعلية وبعد ثبوت جعل الحكمين بنحو التعيين وثبوت ملاك كل منهما كذلك ، فالعقل يحكم بالتعيين ، وذلك لأنّ المكلف لو صرف قدرته فيما يحتمل أهميته يكون معذورا على كل تقدير ، وهذا بخلاف ما لو فوت محتمل الأهمية باستيفاء غيره ، فانه لو كان الفائت أهم في الواقع ليس له عذر في ذلك أصلا ، فالاشتغال العقلي يعينه لا محالة.

وبعبارة أخرى : انما اخترنا التخيير فيما إذا دار الأمر بينه وبين التعيين لأجل أنّ تعلق التكليف بالجامع متيقن وتعلقه بالخصوصية مجهول ، فيرجع فيه إلى البراءة ، ولا يجري هذا البيان في المقام ، وذلك لأنّ تعلق التكليف التعييني بمحتمل الأهمية كان متيقنا قبل وقوع التزاحم بينه وبين غيره ، وبعد التزاحم يشك في سقوط وجوبه التعييني ، فلا بدّ من الاشتغال ، بخلاف الخطاب المتعلق بغير محتمل الأهمية فإنّه ساقط قطعا.

ومنها : انه لو كان ظرف أحد الواجبين المتزاحمين سابقا على الآخر زمانا ، فبناء على التخيير الشرعي يكون المكلف مخيرا بين الإتيان بأيّ منهما شاء كما هو الشأن في جميع موارد التخيير الشرعي ، وامّا بناء على التخيير العقلي فحيث انّ المكلف في ظرف الواجب الأول قادر على الإتيان به عقلا وشرعا يكون وجوبه فعليا ، فليس له تفويته ، فإذا فعله يكون عاجزا عن الإتيان بالواجب الثاني في ظرفه وجدانا.

هذا ونقول : اما ما ذكره قدس‌سره من ثبوت التخيير على الأول فهو واضح ، كالتخيير بين الإتيان بصلاة الظهر مثلا في أول الوقت أو في آخره ، ولكنه ثابت بناء

٢٥

على التخيير العقلي أيضا ، وذلك لأنه بعد ما فرضنا انّ كلا من الواجبين مشتمل على الملاك الملزم في نفسه ، والمكلف غير قادر إلّا على استيفاء أحدهما فلا وجه لأن يقيد بحكم العقل خصوص إطلاق الخطاب الثاني دون الأول ، لأنه بلا مرجح ، بل يقيد كل من الإطلاقين كما في المتقارنين زمانا ، غاية الأمر الشرط في الأول من قبيل الشرط المتأخر وفي الثاني من قبيل الشرط المتقدم ، وما ذكرناه واضح ، وعلى القول بالوجوب التعليقي وفعلية كلا الوجوبين يكون أوضح.

وببيان آخر : بعد ما فرضنا انّ الواجب اللاحق مشتمل على الملاك الملزم في ظرفه ، فيجب حفظ القدرة على استيفائه ، اما عقلا وأما شرعا ، فلا محالة تقع المزاحمة بين وجوب التحفظ وبين وجوب الإتيان بالواجب الأول ، فيثبت التخيير ، فهذه الثمرة أيضا ساقطة.

بقي الكلام فيما إذا تعذر بعض أجزاء المركب ودار الأمر بين ترك بعضها دون بعض ، كالمثال الّذي قدمناه. وقد ذكر الميرزا في المقام كليات ، وانه كلما دار الأمر بين الجزء والشرط فالجزء يتقدم ، وكلما دار الأمر بين الركن وغيره فالركن يتقدم ، وكلما دار الأمر بين السابق واللاحق فالسابق يتقدم ، وكلما دار الأمر بين أصل الشرط وقيده فالشرط يتقدم إلى غير ذلك ، فهل يمكننا المساعدة على هذه الكليات أم لا؟

الظاهر هو الثاني ، وذلك لما بيناه من انّ الجزئية أو الشرطية منتزعة من الأمر بالمركب أو بالمقيد ، فليس الجزء أو الشرط مأمورا به مستقلا ، فإذا تعذر بعض الاجزاء أو الشرائط يسقط الأمر المتعلق بالمركب منه لا محالة ، غاية الأمر في خصوص الصلاة ورد الدليل على عدم سقوطها بحال ، فان كان المتعذر امرا معينا يجب الإتيان بالباقي ، وان كان مرددا فلا محالة يكون المكلف به مرددا ، فيقع التعارض بين دليلي الجزءين أو الشرطين أو الجزء والشرط.

٢٦

فتلخص من جميع ما تقدم انه لو تعذر بعض أجزاء المركب معينا أو مرددا فمقتضى القاعدة سقوط الأمر به ، وإذا ثبت بدليل وجوب الإتيان ببقية أجزائه فهو تكليف حادث جديد ، ولو كان المتعذر مرددا يكون ذلك التكليف الجديد الواحد مرددا. ولذا ذكرنا انه خارج عن باب التزاحم ، فإنّ التزاحم لا بدّ وان يكون بين حكمين ، وفي المقام ليس إلّا حكم واحد مردد ، فيكون من باب التعارض ، إذ لا يعتبر في التعارض ان لا يكون منشأ العلم بكذب أحد الدليلين أو الحكمين عجز المكلف ، كما لا يعتبر فيه تعدد الدليل ، بل يجري التعارض في الدليل الواحد بلحاظ افراده.

وإذا عرفت ذلك فنقول : تارة يكون دليل اعتبار الجزءين المتعذر أحدهما دليلا واحدا ، كما لو تعذر على المصلّي القيام في أحد الركعتين ، فانّ ما دل على اعتباره في جميع الركعات امر واحد ، وأخرى : يكونان مدلولي دليلين ، كما لو دار الأمر بين ترك القيام والإتيان بالسجدتين أو الإتيان بهما إيماء عن قيام ، فانّ لكل من الأمرين دليل مستقل.

أما على الأول فيقع التعارض بين نفس ذلك الدليل الواحد بلحاظ افراده ، وليس السبق واللحوق مرجحا للسابق على اللاحق بعد كون نسبة دليل اعتبار ذلك الجزء أو الشرط إليها على حد سواء ، فلا محالة يثبت التخيير ، إلّا ان يستفاد تقدم السابق من نفس دليل اعتبراه ، كما لا يبعد ذلك في دليل القيام ، أعني قوله عليه‌السلام «وإذا قوى فليقم» (١).

واما على الثاني ، فلا محالة يقع التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه ، فإنّ مقتضى إطلاق كل منهما ثبوت جزئية مؤداه حتى في فرض تعذر أحدهما ، ومن المعلوم كذب اعتبارهما حينئذ ، وعليه فان كان أحد الدليلين لبيا والآخر لفظيا

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ ـ ١٦٩.

٢٧

يتقدم اللفظي ، إذ ليس للإجماع ونحوه إطلاق يعم ذلك المورد ، وإلّا فان كان عموم أحدهما بمقدمات الحكمة وعموم الآخر بالوضع فلا محالة يتقدم العموم الوضعي ، لما بينا في محله من انّ الظهور الوضعي مقدم على الظهور الإطلاقي. وان كان كليهما بمقدمات الحكمة فمقتضى القاعدة في تعارض الإطلاقين هو التساقط ، وحيث يعلم من الخارج بوجوب الإتيان بالمركب الواجد لأحد الجزءين أو الشرطين في الجملة وانّ الساقط أحدهما كذلك ، فيرجع إلى البراءة في وجوب خصوصية كل منهما معينا كما هو الشأن في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل ، فيثبت التخيير. وامّا ان كانا معا من العموم الوضعي ، فلا بدّ فيه من الرجوع إلى مرجحات السند من الشهرة ومخالفة العامة وموافقة الكتاب ، وبالآخرة إلى التخيير. وامّا الترجيح بالأهمية فلا وجه له لما عرفت.

وملخص الكلام في المقام : انه بعد وضوح كون الأوامر المتعلقة بالاجزاء أو الشرائط كلها إرشاد إلى الجزئية ، أو الشرطية فمقتضى إطلاقها ثبوت الجزئية لها حتى في فرض التعذر ، ولازمه سقوط الأمر بالمركب من المتعذر وغيره ، إذ لا معنى لبقاء الأمر بالمركب مع فرض بقاء كلا الإطلاقين ، لاستلزامه التكليف بما لا يطاق ، كما لا يمكن تقييد كل من الإطلاقين بصورة عدم الإتيان بالجزء الآخر ، فإنّ لازمه ثبوت الجزئية لهما معا عند تركهما ، وهو محال ، غاية الأمر في الصلاة نعلم ببقاء التكليف بغير ما تعذر من الاجزاء ، ولهذا قلنا بخروج ذلك عن باب التزاحم بالكلية.

ويمكن إخراج المقام عن باب التزاحم من ناحية مقام الثبوت بان يقال : انه تارة : يكون كلا الجزءين أو الشرطين المتعذر أحدهما دخيلا في ملاك وجوب المركب ، وأخرى : لا يكون شيء منهما دخيلا في ملاكه ، وثالثة : يكون الجامع بينهما أي عنوان أحدهما دخيلا في ملاكه.

٢٨

امّا الأول فلازمه عدم ثبوت التكليف بعد تعذر أحدهما ، والمفروض ثبوته.

وأما الثاني فلازمه أن لا يؤمر بهما حتى مع التمكن منهما ، وهما واضحا الفساد ، فيتعين الثالث ، وهو كون الجامع بينهما دخيلا في الملاك ، فليس لهما ملاكان ليكونا من المتزاحمين ، بل هناك ملاك واحد قائم بالجامع.

هذا واما احتمال دخل خصوصية أحدهما المعين في الملاك أو كل منهما عند عدم الإتيان بالآخر فلا بد فيه من الرجوع إلى دليل الجزئية ، فان ثبت ذلك فهو ، وإلّا يدفع بالأصل على ما هو الحال في جميع موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

فنقول : ان كان دليل اعتبار الجزءين امر واحد وكان لبيا فلا ينعقد له إطلاق لصورة تعذر أحدهما أصلا ، وان كان لفظيا فلا يعم مثل ذلك قطعا ، فيسقط لا محالة ، وحيث انّ المستفاد عرفا من قوله : «الصلاة لا تسقط بحال» لزوم الإتيان بكل ما هو مقدور من الاجزاء ، وأحدهما مقدور على الفرض ، فلا بدّ من الإتيان به ، واحتمال دخل خصوصية كل منهما أو إحدى الخصوصيّتين يدفع بالأصل.

واما ان كانا مدلولي دليلين ، فان كان أحدهما لبيا والآخر لفظيا يتقدم اللفظي ، وان كانا معا لبيين لا يكون لهما إطلاق أصلا ، فيرجع في احتمال دخل الخصوصيّتين إلى الأصل ، وان كانا لفظيين ، فان كان أحدهما عمومه وضعيا والآخر بمقدمات الإطلاق يتقدم الأول على الثاني ، وان كان عمومهما معا مستفادا من الإطلاق يسقطان معا ، أي يكونان خارجين عن المتعارضين ، لعدم انعقاد الإطلاق لشيء منهما على ما بيناه في محله ، فيرجع إلى البراءة في نفي احتمال دخل الخصوصية ، وان كانا معا عموما وضعيا يرجع فيه إلى المرجحات من الشهرة ومخالفة العامة وموافقة الكتاب ، ثم يتخير. هذا كله فيما إذا لم يعلم اعتبار إحدى الخصوصيّتين ، وإلّا فلا بدّ من الاحتياط ولو بتكرار الصلاة كما ذكره في العروة.

٢٩

تنبيه : لا يخفى انّ التزاحم المبحوث عنه في المقام انما هو التزاحم في مرحلة الفعلية الناشئ من عجز المكلف عن الامتثال بعدم ثبوت كل من الحكمين في نفسه ، واما التزاحم في الملاك كما لو فرضنا ثبوت المصلحة والمفسدة في فعل واحد ، فيقع التزاحم في الملاكين لا محالة فهو خارج عن محل الكلام. وفي هذا الفرض ان أحرز الآمر أهمية أحد الملاكين من الآخر بمقدار ملزم ، فيحكم على طبقه إلزاما ، وإذا أحرز أهميته بمقدار غير ملزم فيحكم باستحباب العمل أو كراهته ، كما انه لو أحرز تساوي الملاكين يحكم بالإباحة لا محالة.

ثم انّ المحقق النائيني (١) قدس‌سره قسم التزاحم إلى أقسام ستة ، والمختار انقسامه إلى ثلاثة أقسام ، لرجوع بعض الأقسام الستة إلى الثلاثة وعدم كون بعضها من باب التزاحم ، فنتعرض لما ذكره المحقق المزبور ونشير إلى ما عندنا.

القسم الأول : ان يكون منشأ التزاحم عدم قدرة المكلف اتفاقا على الإتيان بالواجبين الطوليين ، كما لو عجز المكلف عن الإتيان بصلاة الظهر والعصر معا مع الطهارة المائية ، أو عن القيام فيهما معا اتفاقا مع تمكن غيره من ذلك وتمكنه أيضا في غيره من الموارد ، فهذا معنى العجز الاتفاقي.

القسم الثاني : ان يكون منشأ التزاحم عدم قدرة المكلف على الجمع بين الواجبين عرضا لتضادهما الاتفاقي ، كما في إنقاذ الغريقين عرضا ، فإنّه ربما يكون غيره قادرا على ذلك ، فالتضاد بينهما اتفاقي ، بخلاف التضاد بين البياض والسواد فإنه دائمي ، ولذا يستحيل اجتماعهما مطلقا.

وفيه : انّ التضاد من أوصاف الماهية ، فإنّ معناه استحالة اجتماع الماهيتين في الوجود ، فلا معنى للتضاد الاتفاقي.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٢٨٤.

وراجع فوائد الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٢٠.

٣٠

وبعبارة أخرى : امتناع اجتماع الضدين كاجتماع النقيضين ذاتي ، فلا يعقل ان يكون ممتنعا بالغير لعدم تحقق علّته من عدم المقتضى أو الشرط أو وجود المانع ، ومن الواضح انّ امتناع الجمع بين الإنقاذين انما هو من جهة عدم تحقق الشرط ، وهو قدرة المكلف ، وليس امتناعا ذاتيا ، فالمنشأ للتزاحم في هذا القسم أيضا ليس إلّا عدم قدرة المكلف اتفاقا ، غاية الأمر في القسم الأول كان عدم القدرة في الجمع بين الواجبين طولا ، وفي هذا القسم في الجمع بينهما عرضا أو طولا وعرضا.

القسم الثالث : ان يكون منشأ التزاحم توقف الواجب على مقدمة محرمة اتفاقا لا دائما ، فإنّه لو كان توقفه عليه دائميا لخرجا عن باب التزاحم ودخلا في المتعارضين ، للعلم بعدم جعل أحدهما حينئذ ، كما لو توقف إنقاذ الغريق على الدخول في الأرض المغصوبة اتفاقا ، فإنّ المكلف حينئذ لا يقدر على امتثال كلا الحكمين.

القسم الرابع : موارد التلازم الاتفاقي فيما إذا كان أحدهما محكوما بالوجوب والآخر محكوما بالحرمة ، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي ، فانه لا تلازم بينهما في أنفسهما ، بل التلازم انما يتفق لمن سكن العراق وما سامته من النقاط ، واما إذا كان التلازم دائميا فلا محالة يقع التعارض بين الدليلين.

القسم الخامس : أن يكون منشأ التزاحم اجتماع الأمر والنهي في مورد واحد بناء على إمكانه ، وامّا بناء على امتناعه اما لكون مورد الاجتماع طبيعة واحدة وامّا لسراية كل من التكليفين إلى متعلق الآخر ولو كان طبيعتين فهو خارج عن باب التزاحم.

وفيه : انه لو كان في البين مندوحة بان كان المكلف متمكنا من الصلاة في غير الأرض المغصوبة فهو خارج عن باب التزاحم كلية ، لتمكن المكلف من امتثال كل من الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب ، وان لم يكن هناك مندوحة فالتزاحم وان

٣١

كان ثابتا إلّا أنّه يرجع إلى القسم الرابع ، وهو ما كان منشأ التزاحم هو الملازمة بين الواجب والمحرم كما هو واضح ، فهذا القسم أيضا يرجع إلى القسم المتقدم.

وإلى هنا كان التزاحم من جهة عجز المكلف في جميع الأقسام المتقدمة ، فكان عدم القدرة على امتثال التكليفين كان جامعا بينهما.

القسم السادس : ما إذا لم يكن منشأ التزاحم فيه عجز ، المكلف بل كان قادرا على امتثال كلا الحكمين ، بل كان منشؤه العلم الخارجي. وقد ذكر قدس‌سره انّ مورد هذا القسم نادر في الفقه ، بل لم يعثر له إلّا على مورد واحد وهو باب الزكاة وثبوت شاة لكل خمس من الإبل بعد مضي الحول عليها ، فإذا فرضنا انّه كان للمكلف خمس وعشرون إبلا ومضى عليها ستة أشهر فزادت واحدة فصارت ستا وعشرين وزكاة الست والعشرين بنت مخاض ، فبعد تمامية السنة الأولى يجب عليه إعطاء خمسة شياة ، لمضي الحول على الخمس والعشرين ، وبعد انقضاء ستة أشهر أخر يجب إعطاء بنت مخاض ، لما دل على انّ في الست والعشرين بنت مخاض ، وامتثال كلا الحكمين بإعطاء كلتا الزكاتين مقدور للمكلف ، إلّا أنه دل الدليل من الرواية وغيرها على عدم وجوب زكاتين لمال واحد في سنة واحدة ، فيكون الحكمان من المتزاحمين. هذا ولكن الظاهر خروجه عن باب التزاحم.

وحاصل الكلام انّ أقسام التزاحم على المختار ثلاثة :

الأول : ان يكون منشؤه عدم قدرة المكلف على امتثال كلا الخطابين الطوليين أو العرضيين اتفاقا.

الثاني : ان يكون منشؤه توقف الواجب على مقدمة محرمة اتفاقا مع الانحصار ، فانه حينئذ لا يكون للمكلف مندوحة.

الثالث : ان يكون منشؤه الملازمة الاتفاقية بين فعل الواجب وفعل المحرم ، واما باب اجتماع الأمر والنهي فقد عرفت دخوله في هذا القسم لو لم يكن للمكلف

٣٢

مندوحة.

وفي هذه الأقسام الثلاثة يكون منشأ التزاحم عجز المكلف.

وذكر الميرزا قدس‌سره قسما آخرا للتزاحم ليس منشؤه العجز ، وهو باب الزكاة فيما إذا ملك أحد خمسا وعشرين من الإبل الّذي هو أول حد النصاب ، فإذا مضى عليه سنة يجب فيها خمس شياة فإذا فرضنا انّ تلك الإبل زادت في أثناء السنة بواحدة تكون موردا للنصاب الثاني ، وحكمه إعطاء بنت مخاض ، فإذا مضى الحول على النصاب الثاني أيضا يجب إعطاء الزكاة عن الثاني بمقتضى دليله ، والمكلف قادر على إعطاء كلا الأمرين ، إلّا انّه يعلم من الخارج عدم تعلق زكاتين بمال واحد في سنة واحدة ، فيقع التزاحم بينهما لا محالة.

وفيه : انّ مورد التزاحم كما عرفت انما هو بعد ثبوت الملاكين والفراغ عن جعل كلا الحكمين ، ومن الواضح عدم ثبوت الملاك لكلتا الزكاتين في المقام ، وإلّا لم يكن وجه لتفويت أحدهما من دون جهة شرعية ولا عقلية ، فيستفاد من ذلك انّ الثابت ليس إلّا ملاك واحد ، وانّ المجعول ليس إلّا وجوب إحدى الزكاتين ، فيقع التعارض بين الدليلين.

والصحيح : تقديم دليل النصاب الأول وفاقا للجواهر لا لسبقه على النصاب الثاني زمانا ، بل لأنّ دليله يكون معدما لموضوع النصاب الثاني وحاكما على دليله ، كما في تقديم الأمارات على الأصول العملية ، فانّ الشك مأخوذ في موضوعها ، فإذا دلت أمارة على حكم في مورد يكون المكلف حينئذ عالما بالتعبد فيخرج عن الشاك عن موضوع أدلة الأصول. وفي المقام أيضا كذلك ، فانه بعد مضي الحول على النصاب الأول جامعا لشرائط وجوب الزكاة يحكم بوجوب إعطاء خمس شياة لتحقق موضوعه ، وهو مضي الحول على خمس وعشرين من الإبل ، فلا يكون في البين مانع عن فعلية ذلك الحكم ، ونفس حكم الشارع بوجوب الزكاة الأول

٣٣

يوجب انعدام موضوع الزكاة الثاني ، لأنّ وجوب الزكاة مشروط بان لا يكون المال مزكى في تلك السنة ، أي بعدم كونه محكوما بوجوب الزكاة فيه ، فإذا تمت السنة على النصاب الثاني لا يكون المال مما مضى عليه الحول ولم يزك بحكم الشارع ، لأنّ مقدارا منه كان مزكى شرعا ، ولا يتعلق به الزكاة في نفس الحول ثانيا ، فلا بدّ في ثبوت الزكاة الثاني من مضي الحول الثاني. هذا فأقسام التزاحم ثلاثة كما عرفت.

ويقع الكلام في ثبوت الترتب في كل منها مستقلا. وحق التقسيم ان يكون هكذا بان يقال : انه تارة يكون التزاحم بين واجبين ، وأخرى بين واجب وحرام ، وعلى الثاني ، تارة : يكون منشأ التزاحم الملازمة ، وأخرى : التوقف والمقدمية.

ويقع الكلام فعلا في تزاحم الواجبين ، فان كانا متساويين يحكم فيهما بالتخيير ، كما انه لو كان أحدهما أهم أو محتمل الأهمية يتقدم ، فهل يمكن مع بقاء إطلاق خطاب الأهم بالإضافة إلى عصيان خطاب المهم وعدمه ان يبقى خطاب المهم مشروطا بعصيان الأهم أم لا يمكن؟

وبعبارة أخرى : المولى لا يرضى بترك الأهم ويعاقب عليه مطلقا سواء أتى بالمهم أم لم يأت ، ولا يعاقب على ترك غير الأهم إذا أتى المكلف بالأهم وصرف قدرته فيه ، لأنه حينئذ يكون عاجزا عن الإتيان بالمهم ، إلّا انه هل يمكن ان يعاقب على ترك المهم أيضا عند تركه للأهم وعصيانه له أم لا؟

وقد اختلفت في ذلك كلماتهم ، وليعلم انّ إمكان الترتب مساوق لوقوعه ، فانّ التزاحم انما يقع بين إطلاق كل من الخطابين لا بين أصلهما ، فانّ لكل من الدليلين دلالتان: إحداهما الدلالة على ثبوت أصل الحكم والأخرى على إطلاقه بالقياس إلى عصيان الآخر وعدمه ، فيدور الأمر بين رفع اليد عن أصل الخطاب أو عن إطلاقه ، والمتعين هو الثاني ، لأنّ الضرورات تقدر بقدرها.

٣٤

الكلام في الترتب :

وكيف كان ذهب المحقق الثاني إلى إمكان الترتب ، وذهب شيخنا الأنصاري إلى امتناعه على ما يظهر منه في مسألة الإتمام في مورد القصر حيث ينقل عن كاشف الغطاء تصحيحه بالترتب ثم يورد عليه بعدم إمكانه.

وقد ذكر المحقق النائيني لإثبات إمكانه مقدمات (١) ونحن نتعرض لجملة منها وان كانت جميعها تامة إلّا انّ بعضها مما لا يبتني عليه إمكان الترتب ، وببيان تلك المقدمات وإيضاحها يثبت الترتب بوضوح من غير حاجة إلى إقامة دليل عليه ثبوتا أو إثباتا.

المقدمة الأولى : وهي بمنزلة تحرير محل النزاع وحاصلها : انّ الأمر بالأهم هل هو بنفسه معجز عن المهم أو امتثاله معجز عنه؟ وعلى الأول لا مجال للترتب أصلا ، وعلى الثاني لا وجه لإنكار الترتب ، إذ عليه في فرض عصيان الأهم وعدم الإتيان به يكون المكلف قادرا على فعل المهم ، فلا مانع من الأمر به ، وهذه هي النكتة الوحيدة للترتب إثباتا ونفيا.

وبعبارة أخرى : من الواضح انّ المكلف ليس له قدرتان يستعمل إحداهما في الإتيان بالأهم والأخرى في الإتيان بالمهم ، وانما له قدرة واحدة فهل تستلزم وحدة القدرة وحدة الأمر أو لا يوجب ذلك إلّا تقييد الإطلاقين أو إطلاق الخطاب بالمهم لو كان أحدهما أهم؟ ومن هنا ذكرنا انّ الترتب لا معنى له في موارد دخل القدرة في ملاك الحكم ، كما لو دار الأمر بين صرف الماء في حفظ النّفس المحترمة وصرفه في الطهارة المائية المشروطة بالقدرة شرعا التي ليس لها ملاك في ظرف عجز المكلف ، ولذا لا تصح لو عصى التكليف بحفظ النّفس المحترمة وتوضأ بذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٢٨٧ ـ ٢٩٨.

٣٥

الماء ، إذ ليست بالإضافة إليه ذات ملاك أصلا.

المقدمة الثانية : العصيان المشروط به الأمر بالمهم هل يعتبر بنحو الشرط المتقدم أو المتأخر أو المقارن؟

الصحيح : هو الأخير ، لا لما ذهب إليه الميرزا قدس‌سره من استحالة الشرط المتأخر ، بل لأنه لم يرد دليل لفظي في المقام على اشتراط الأمر بالمهم وتقييده بعصيان الأمر بالأهم لينظر في ما يستظهر منه ، بل اشتراطه بحكم العقل لأجل عجز المكلف ، فالاشتراط لا بد وان يكون بما يرتفع به العجز ، ومن الواضح انّ العصيان المتقدم أو المتأخر لا دخل له في القدرة على المهم أصلا ، وانما الدخيل فيها هو العصيان المقارن ، فهو الّذي يقيد به الأمر بالمهم بحكم العقل.

ويظهر مما ذكرنا انه لا وجه لما ذكره في الكفاية من انّ الشرط هو العزم على العصيان أو إرادته ، إذ ليس بشيء منهما دخل في قدرة المكلف على المهم أصلا.

المقدمة الثالثة : انّ امتثال الأمر لا بدّ وان يكون مقارنا زمانا مع ثبوت الأمر ، وهكذا عصيانه ، أو يمكن امتثال الأمر السابق المنعدم حال الامتثال أو الّذي لم يحدث بعد؟

الصحيح : هو الأول ، وذلك لأنّ التحريك التشريعي كالتحريك الخارجي ، فكما يعتبر التقارن الزماني بينه وبين التحرك كذلك يعتبر ذلك بين التحريك التشريعي والتحرك ، إذ من الواضح انّ نسبة الامتثال إلى الأمر بمنزلة نسبة المعلول إلى علّته ، فتقدمه عليه رتبي لا زماني ، فلا بد وان يكون الأمر ثابتا حين امتثاله أو عصيانه وان كان سابق عليه حدوثا.

وعليه فالامر بالأهم وعصيانه ، والأمر بالمهم وعصيانه أو امتثاله متقارنة زمانا وان كانت مختلفة طبعا ورتبة ، فإنّ الأمر بالمهم متأخر عن الأمر بالأهم برتبتين ، إذ هو متأخر عن عصيان الأهم تأخر الحكم عن موضوعه لاشتراطه به ،

٣٦

وعصيان الأمر بالأهم متأخر عن نفس الأمر بالأهم كذلك.

وبالجملة القائل بالترتب يدعى :

أولا : انّ المعجز عن المهم ليس نفس الأمر بالأهم ، بل امتثاله معجز عنه.

وثانيا : انّ عصيان الأمر بالأهم مأخوذ في الأمر بالمهم بنحو الشرط المقارن لا المتأخر ولا المتقدم.

وثالثا : انّ الأمر بالأهم وعصيانه والأمر بالمهم وامتثاله أو عصيانه كلها متقارنة زمانا.

وملخص الكلام في المقدمات :

امّا المقدمة الأولى : فهي انه لو كانت القدرة مأخوذة في دليل الواجب المزاحم بالأهم فيسقط وجوبه رأسا ، كما في صرف الماء المنحصر في الوضوء دون حفظ النّفس المحترمة ، فإنّه عند العجز الشرعي لا يكون له ملاك أصلا.

وامّا في القدرة العقلية فإطلاق الخطاب بالأهم باق على حاله بحكم العقل ، وإطلاق الأمر بالمهم تقيد بصورة عصيان الأهم.

امّا المقدمة الثانية : فهي انّ زمان امتثال الأمر أو عصيانه لا بدّ وان يكون متحدا مع زمان ثبوت الأمر ، ولا معنى لامتثال الأمر المعدوم ولا لعصيانه ، وعليه فزمان الأمر بالأهم متحد مع زمان عصيانه ، كما انّ الأمر بالمهم مقارن مع عصيانه أو امتثاله.

امّا المقدمة الثالثة : فهي انّ الشرط للأمر بالمهم انما هو العصيان المقارن دون غيره من المتقدم أو المتأخر ، أمّا الأمر المتقدم فهو أجنبي عن المتزاحمين ، إذ لا مزاحمة بين الأمر بأحد الضدين في وقت والأمر بضده الآخر في وقت آخر ، فعصيانه أجنبي عنه. وامّا الشرط المتأخر فهو وان كان معقولا في نفسه إلّا انه يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، وليس في المقام ما يدل عليه.

٣٧

فتحصل من هاتين المقدمتين تقارن زمان كل من الأمر بالأهم والمهم وعصيانهما ، أو عصيان الأول وامتثال الآخر ، والترتب المبحوث عن إمكانه هو هذا.

المقدمة الرابعة : وهي التي يدور عليها الترتب ، انا ذكرنا انّ تقابل الإطلاق والتقييد ليس تقابل العدم والملكة ، ولذا قد يستلزم استحالة أحدهما ضرورية الآخر أحيانا على تفصيل مر في محله ، وذكرنا أيضا انّ الإهمال النّفس الأمري ثبوتا غير معقول ، فلا بدّ وان يكون الحكم مطلقا أو مقيدا بالقياس إلى كل ما يلحظ إليه من غير فرق بين الانقسامات الأولية والثانوية ، ومن الانقسامات الثانوية مسألة الامتثال والعصيان ، فالحكم بالقياس إليهما مطلق لكن لا بمعنى أخذ القيود ، إذ يستحيل أخذهما في الحكم ، فانّ أخذ الامتثال فيه مستلزم لطلب الحاصل ، وأخذ العصيان فيه مستلزم لطلب الجمع بين نقيضين ، وكلاهما محال ، بل بمعنى رفض القيود بمعنى ان يكون التكليف متوجها إلى عامة المكلف من غير فرق في ذلك بين الممتثل والعاصي.

والحاصل : انّ انحفاظ الحكم في تقدير لا يخلو عن أحد أقسام ثلاثة :

الأول : ان يكون ذلك القيد دخيلا في الخطاب ويكون مشروطا ومربوطا به الحكم ، كما في قوله عليه‌السلام «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» فعند الزوال يكون وجوب الصلاة ثابتا لكونه قيدا مأخوذا فيه ، وهكذا الحال في انحفاظ كل وجوب مشروط عند تحقق شرطه كوجوب الحج عند حصول الاستطاعة.

الثاني : ان يكون ذلك القيد أجنبيا عن الحكم بالكلية ولا يكون له دخل في ثبوت الحكم أصلا ، وهذا هو الإطلاق الّذي عرفت انه بمعنى رفض القيود ، كما لو قال المولى (ان سافرت فقصر) فانّ الحكم بوجوب القصر ثابت للأبيض والأسود والعجمي والعربي وغير ذلك.

٣٨

الثالث : ان يكون الانحفاظ لأجل كون الحكم مستبطنا لذلك القيد وجودا أو عدما ، كما في الإطاعة والعصيان ، فانّ التكليف مقتضى لوجود الأول ولعدم الثاني ، ومن ثم يكون محفوظا فيهما لا محالة.

فهذه أقسام ثلاثة ، ثم يضم إلى هذا ما ذكرناه في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من انّ الأحكام بأيّ معنى فسرت لا تضاد بينها لعدم كونها من الأمور المتأصلة ، بل يكون تضادها امّا من ناحية المبدأ من الإرادة والكراهة في الأوامر العرفية ومن المصلحة والمفسدة في الشرعية ، أو من ناحية المنتهى وامتثال العبد خارجا.

إمّا من ناحية المبدأ فلا تنافي في المقام ، لأنّه لا مانع من ثبوت المصلحة والملاك في كل من الضدين ، ولذا لو كان المكلف قادرا على الجمع بينهما لأمر بهما معا.

وأمّا من حيث المنتهى فالتنافي ثابت في المتزاحمين العرضيين ، وذلك لأنّ المكلف لا يمكنه الانبعاث عن كلا البعثين ، لعدم قدرته على الجمع بين ضدين ، فيستحيل البعث أيضا ، لأنّ التكليف معناه إيجاد ما يمكن ان يكون داعيا للمكلف فإذا استحال الانبعاث يستحيل إيجاد ما يمكن ان يكون باعثا.

وامّا فيما نحن فيه ، أي فيما إذا رتب الأمر بأحد الضدين على عصيان الآخر ، فهل يكون التنافي من ناحية المنتهى ثابتا أو لا؟ الصحيح : هو الثاني ، وذلك لأنّ الأمر بالأهم لا يقتضي إلّا امتثاله والإتيان بمتعلقه خارجا ولا يهدم إلّا عصيان نفسه ، وأما في فرض عصيانه فهو أجنبي عن الإتيان بشيء دون شيء. وامّا الأمر بالمهم مشروطا بعصيان الأهم فهو لا يقتضي عصيان الأهم وعدمه ، لأنه مشروط بتحققه ، فإذا تحقق بسوء اختيار العبد يقتضي الإتيان بالمهم ، فأين التنافي بينهما من ناحية المنتهى؟!

٣٩

وبعبارة أخرى : إذا امر المولى عبده بالحركة وامره بالسكون أيضا عرضا في آن واحد فحيث انّ كل من الأمرين بالالتزام يقتضي عدم الإتيان بمتعلق الآخر فلا محالة يقع التنافي بينهما من ناحية المنتهى ، وامّا في ما نحن فيه فلا ينفي شيء من الأمرين ما يثبته الآخر ، وكذلك العكس ، لأنّ الأمر بالمهم لا يقتضي عصيان الأهم كما انّ الأمر بالأهم لا يقتضي شيئا في فرض عصيانه وتركه ، ففي فرض عصيان الأمر بالإزالة لا يقتضي ذلك الأمر الإتيان بشيء دون شيء كالإتيان بالقيام دون الصلاة ، وكذا العكس ، فاذن لا تنافي في المقام من ناحية المنتهى أيضا ، ويشهد لصحة ما ذكر وقوع ذلك في الأمور التكوينية ، فإنّا إذا فرضنا وجود مقتضى الحركة بشيء إلى جانب معين كالجنوب ووجود المقتضي لتحركه نحو طرف آخر أيضا كالشمال يقع التزاحم بينهما لا محالة. واما لو فرضنا وجود المقتضى لتحرك شيء إلى جهة ووجود المقتضى لتسويده أو تبييضه مثلا إذا لم يتحرك إلى ذلك الطرف لا مزاحمة ولا مضادة بين المقتضيين أصلا ، والمقام من هذا القبيل.

والحاصل : انه لو امر المولى بالحركة وامر بالسكون كل منهما بنحو الإطلاق يستحيل ذلك ، لأنّ كلا منهما بالالتزام ينفي مفاد الآخر ، وهكذا لو امر بالسكون مطلقا وامر بالسكون مشروطا بمجيء زيد وفرض تحقق ذلك الشرط فانه يقع المضادة بين الحكمين حينئذ لا محالة واما لو امر المولى بالضدين في غير المثال مما لهما ثالث كما هو محل الكلام لكن مشروطا بترك الآخر لا يلزم منه طلب الجمع بين الضدين ، ولا تنافي بينهما أصلا ، وذلك لأنّ الأمر بالأهم لا يقتضي إلّا الإتيان بمتعلقه وعدم عصيانه ، كما انّ الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم لا يقتضي إيجاد العصيان خارجا ، بل دائما يكون مشروطا ومترتبا على العصيان حتى في حين تحقق العصيان ، إذ الواجب المشروط لا يصير مطلقا بحصول شرطه ، بل يكون باقيا على اشتراطه ، فالامر بالمهم دائما يقتضي الإتيان بمتعلقه على فرض عصيان الأهم ، ولذا

٤٠