دراسات في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

يعرف ذلك أحد حتى الملك نفسه. فالمشية الإلهية بمنزلة الإرادة الملكية ، والاخبار التعليقية نظير القوانين ، غاية الأمر في المقام مولانا جلّ شأنه عالم بعلمه المكنون بالمشية ، والملك غير عارف بإرادته قبل تحققها.

هذا كله في الأمر الأول.

وامّا الأمر الثاني ، وهو ما صدر عن بعض الأنبياء والأئمّة من الإخبارات التي لم تتحقق خارجا ، فنقول : انّ الاخبار بشيء تارة : يكون اخبارا حتميا منجزا فهو من القسم الثاني ، ولا بدّ وان يقع ، وإلّا يلزم تكذيب الأنبياء. وأخرى : يكون تعليقيا وقد صرح فيه بالتعليق على المشية صريحا فتكون تلك القرائن العامة كافية في كونه معلقا على المشية ، فلا يلزم من عدم تحقق المخبر به في الخارج محذور.

ثم لا يخفى انّ العامة الذين شنعوا على الشيعة بل استهزءوا بهم لالتزامهم بالبداء أيضا التزموا به ، والاخبار الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرقهم في ذلك أكثر مما ورد من طرق الخاصة ، قد حكاها جماعة من الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كابن عباس وغيره منها : ما ورد في تفسير الآية الشريفة (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) ومنها : ما ورد في باب الأدعية إلى غير ذلك مما ذكر في كتبهم ، ولذا التزم جملة منهم بإمكان البداء في كل شيء ، واستثنى بعضهم من ذلك السعادة والشقاوة تمسكا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الشقي شقي في بطن أمه» وبما رووه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من انه رأى أحد الصحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيده اليمنى كتاب وبيده اليسرى كتاب ، فسئل عما في يمينه ، فقال : كتاب فيه أسامي أهل الجنة ، وعما في يساره ، فأجاب : بأنه كتاب فيه أسامي أهل النار. ولكن يخالف ذلك ما رووه عن عمر من انه كان يدعو ويقول : «اللهم ان كنت سعيدا فثبتني ، وان كنت شقيا فامحني واجعلني سعيدا» وقد رووا عن كعب الأحبار ، انه قال لو لا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وما يكون وهي قوله تعالى (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ).

فالبداء مما اتفق عليه الخاصة والعامة. وقد عرفت انه بالمعنى الّذي بيناه غير

٣٢١

مستلزم لمحذور أصلا ، بل هو مما لا بدّ منه عقلا ، والروايات إرشاد إلى حكم العقل ، فانه مستقل بأنه تعالى عالم بجميع الأشياء حتى الملازمات والمعدومات ، لأنه تعالى مجمع الصفات الحسنة التي منها العلم بجميع الأشياء.

بقي الكلام في وجه تسمية ذلك بالبداء. ويذكر له وجهان :

الأول : المشاكلة ، فانّ تعلق مشيته المقدسة بعدم تحقق ما تحقق المقتضي لثبوته شبيه بالبداء الحقيقي ، ومن هذا الباب قوله تعالى (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً)(١) مع انه كان عالما به ، وقوله تعالى (لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(٢) مع انه كان مميزا عنده.

الثاني : وهو وجه دقيق بعيد عن الفهم العرفي ، وتوضيحه يكون ببيان مقدمة وهي : انه تعالى له علمان ، علمه الذاتي وهو انكشاف ذاته لديه ، وفي هذا يتحد العلم والعالم والمعلوم ، فانّ العالم ذاته والمعلوم ذاته والانكشاف أيضا ذاته المقدسة ، وعلمه الفعلي وهو علمه بمخلوقاته ، فانها حاضرة لديه جل وعلا بأعلى مراتب الحضور ، ونمثل لذلك بعلمنا ، فانّ الإنسان إذا تصور صورة شيء خارجي في ذهنه فيكون عالما به بالعلم الحصولي أي ترتسم صورة منه في الذهن ، وهذا هو المعبر عنه بالعلم الحصولي المستحيل فيه تعالى وتقدس. وامّا نفس تلك الصورة التي هي مخلوقة للنفس فهي بواقعها حاضرة لدى النّفس ، والنّفس عالمة بها لا بصورتها وإلّا لزم التسلسل ، كما انّ علم النّفس بنفسها أيضا حضوري ، فانّ النّفس بواقعها حاضرة لدى النّفس ، وفيه يتحد العالم والمعلوم. وعلم الباري جل شأنه بمخلوقاته حضوري نظير علم النّفس بمخلوقاتها ، وعلمه بذاته نظير علم النّفس بذاتها فانّ النّفس مرآة له تعالى ذاتا وفعلا وصفة ، وهذا معنى قوله تعالى (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ

__________________

(١) الكهف ـ ١٢.

(٢) الأنفال ـ ٣٧.

٣٢٢

مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ)(١) فانّ جميع الأشياء بتحققها ووجوداتها حاضرة لديه بأعلى مراتب الحضور.

إذا عرفت هذا فنقول : إذا كان المقتضي لتحقق شيء موجودا فلم يوجد بل وجد خلافه بمشيته المكنونة فقد بدا وظهر له ما وجد ، لما ذكرنا من علمه الفعلي ، وانه بمعنى حضور الأشياء بوجوداتها لديه وظهورها عنده ، فيصدق انه بدا له تعالى لوجوده بعد ما كان خلافه ظاهرا عند الناس.

واما البداء الثابت في حق بعض الأئمة عليهم‌السلام وأولهم الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام بالإضافة إلى إسماعيل بن الصادق عليه‌السلام ، وثانيهم الجواد عليه‌السلام ، وثالثهم الهادي ، ورابعهم الحسن العسكري عليه‌السلام كما هو وارد في زياراتهم فتوضيح الحال فيه : انّ الأئمّة عليهم‌السلام كانوا معينين بأشخاصهم ولم يكن العلم بهم من العلم المكنون ، بل أخبر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض عباده بذلك ، بل كانت أسماؤهم مذكورة في مصحف الصدّيقة عليها‌السلام ، وقد روى انّ رجلا دخل على أمير المؤمنين عليه‌السلام وشهد بإمامة الاثني عشر بأسمائهم عليهم‌السلام وكان هو الخضر عليه‌السلام إلّا انه لم يكن امرا ظاهرا لعامة الناس حتى الشيعة ، وانما كانوا يعلمون بأنّ الإمام اللاحق بعد السابق هو ولده الأكبر إذا كان صالحا للإمامة ، وانّ الإمامة لم تجتمع في أخوين إلّا في الحسنين عليهما‌السلام ، ولذا انتقلت الإمامة إلى الحسين عليه‌السلام من أمير المؤمنين لا من أخيه الحسن عليه‌السلام ، ولذا تقول في زيارته السلام عليك يا وارث علي أمير المؤمنين ، ويا وصي أمير المؤمنين ، وليس في زياراته السلام عليك يا وارث الحسن ، ولذا كان الحسن عليه‌السلام إماما في حياة أخيه الحسين غايته كان يلزم عليه متابعة الحسن لكبره.

وبالجملة هذه الكبرى الكلية وهي انّ الإمامة تنتقل إلى الولد الأكبر مع

__________________

(١) يونس ـ ٦١.

٣٢٣

صلوحه كانت ظاهرة عند أغلب الشيعة ، ولم يكن بيان الإمام تفصيلا لعامة الناس ممكنا للأئمة عليهم‌السلام لابتلائهم بالتقية ، بل كانوا يخفون كثيرا كما هو ظاهر. ولهذه الكبرى كانت الشيعة تتخيل انّ الإمام بعد الصادق عليه‌السلام ولده إسماعيل لكبره وجلالة قدره لعدم علمهم بموته ، فإذا مات وتحققت في الخارج إمامة موسى بن جعفر بدا لله بوجوده وتحققه بعد ما كان امرا خفيا عند الناس فظهر لهم أيضا. هذا معنى البداء بالإضافة إلى مولانا موسى ابن جعفر ، وقد وقع نظيره في الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام بالإضافة إلى السيد محمد عليه‌السلام ، فيجري فيه ما قدمناه. وامّا البداء في أبي جعفر الجواد والهادي عليهما‌السلام فيكون من جهة البداء الثابت في حق موسى ابن جعفر ، فانّ البداء في حقه بداء في حق أولاده أيضا بحسب الكبرى المتقدمة.

٣٢٤

مبحث المطلق والمقيد

المجمل والمبيّن

تعريف الإطلاق والتقييد.

حمل المطلق على المقيد.

الإطلاق الشمولي والبدلي.

٣٢٥
٣٢٦

(المطلق والمقيد)

الظاهر انه ليس للقوم اصطلاح خاص في هذين اللفظين ، بل يريدون بالمطلق اللغوي وهو المرسل ، وبالمقيد خلافه ، ويتصف بكل منهما كل من اللفظ والمعنى ، فيقال : معنى مطلق أو لفظ مقيد ، وعلى هذا فلا وجه لتعريف المطلق والمقيد ثم الإشكال عليه بعدم الاطراد والانعكاس.

وقد تعرضوا بالمناسبة لبيان ما وضع له جملة من الأسماء.

منها : اسم الجنس. فنقول في توضيحه : انّ الإنسان قد يلحظ الماهية مقتصرا على ذاتياتها ولا يلاحظ معها شيء آخر أصلا حتى الاقتصار على الذات وعدمه ويعبر عنها بالماهية المهملة ، ولا يحمل عليها شيء سواء ذاتها وذاتياتها ، فيقال : الإنسان من حيث هو حيوان أو ناطق أو حيوان ناطق بنحو القضايا الأولية ، وهي موجودة في ضمن جميع الأقسام الآتية ، وهي المعبر عنها بالكلي الطبيعي. وقد تلحظ بالإضافة إلى الخارج عن ذاتياتها ، ويعبر عنها حينئذ أي إذا لوحظت مع لحاظ الخارج عن ذاتياتها باللابشرط المقسمي ، وكأنّه قسم للطبيعة المهملة ، لأنها لم يكن يلحظ معها شيء خارج عن ذاتها ، وفي اللابشرط المقسمي يلحظ ذلك وهو مقسم للاقسام الآتية ، فانّ الماهية بعد ما لوحظت مع الخارج عن ذاتياتها.

فتارة : تلحظ موضوعيا بحيث لا تصدق على شيء من افرادها أصلا ، ويعبر عنها بالماهية المجردة وبشرط لا ، وهي الكلي العقلي ، ولا موطن لها إلّا في الذهن ، فلا يحمل عليها إلّا المعقولات الثانوية مثل عنوان نوع ان كان جامعا بين الافراد ، أو عنوان جنس ان كان جامعا بين الأنواع.

٣٢٧

وأخرى : تلحظ مرآة لكن بحيث لا تصدق إلّا على بعض الافراد كصنف منها كالإنسان المقيد بالعلم ، ويعبر عنها بالماهية المخلوطة وبشرط شيء ، ولا يفرق في ذلك بين ان يكون القيد امرا وجوديا ، أو عدميا من قبيل عدم الملكة ، أو السلب في قبال الإيجاب ، وتوهم كون ذلك من قبيل بشرط لا إذا كان القيد عدميا خلاف الاصطلاح.

وثالثة : تلحظ الطبيعة فانية في جميع الافراد بإلغاء جميع القيود وعدم دخل شيء منها المستلزم لسريانها في جميع الافراد ، لا أخذ جميعها فان أريد التصريح بذلك يقال : أكرم كل إنسان سواء كان عالما أو لم يكن ، سواء كان فاسقا أو لم يكن ، فجميع القيود تكون ملغاة ، وهذه هي اللابشرط القسمي المعبر عنها بالطبيعة المطلقة.

وتحصل مما ذكر أمور :

الأول : فساد ما ذكره في الكفاية (١) من انّ اللابشرط القسمي وهي الطبيعة السارية كلي عقلي غير قابل للصدق على الافراد ، فانّ لحاظ السريان غير مأخوذ فيها ، بل الملحوظ هو إلغاء جميع القيود وطرحها ، وهو يستلزم السريان.

الثاني : فساد ما ذكره الميرزا قدس‌سره من انّ اللابشرط المقسمي ليس هو الكلي الطبيعي المنطبق على الافراد ، وانما هو اللابشرط القسمي ، فانّ اللابشرط المقسمي هو الجهة الجامعة بين ما ينطبق على ما في الخارج وما لا ينطبق ، فكيف يكون منطبقا عليه (٢).

ووجه الفساد انّ الكلي الطبيعي هو ما يكون قابلا للصدق على ما في الخارج ، ولا يعتبر فيه الصدق بالفعل ، فالمعتبر فيه قابلية الصدق ، ومن الواضح انّ القدر

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٧٨.

(٢) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٥٢٣.

٣٢٨

الجامع بين ما ينطبق وما لا ينطبق قابل للصدق والانطباق ولو بلحاظ بعض أصنافه.

الثالث : انّ الماهية المهملة ليست هي اللابشرط المقسمي الّذي هو المقسم للابشرط القسمي وبشرط لا وبشرط شيء ، بل هو كالقسيم لها للحاظ الخارج عن الذاتيات معها ، وبعد لحاظ الخارج عن مقام الذات يحصل التقسيمات الثلاثة من المجردة والمخلوطة والمطلقة.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ اسم الجنس مطلقا ولو كان من قبيل الأمور الاعتبارية موضوع لنفس الذات ، والشاهد عليه صحة استعماله في جميع الأقسام بلا عناية ، فيقال : الإنسان نوع ، ويقال : الإنسان العالم يجب إكرامه ، ويقال : كل إنسان ضاحك بالقوة ، ويقال : الإنسان حيوان ناطق ، وعليه فلا يدل من حيث هو إلّا على الذات ، والإطلاق لا بدّ وان يستفاد من دليل آخر.

ومنها : علم الجنس كلفظ أسامة. والمعروف انه موضوع للطبيعة المتعينة بالتعين الذهني ، ولذا يعامل معه معاملة المعرفة. وقد أشكل على ذلك في الكفاية (١) بأنه على هذا يكون كليا عقليا ، ولا يكاد يصدق على الخارجيات لتقيده باللحاظ الذهني ، ولا فائدة لوضع اللفظ لمثل ذلك ، فلا يصدر من الحكيم.

ونقول : بعد وضوح انّ مراده من الكلي العقلي ليس هو المصطلح أعني الطبيعة المقيدة بالكلية ، بل أطلقه مسامحة على الطبيعة المقيدة باللحاظ الذهني ، فانّ كلا منهما غير قابل للصدق على ما في الخارج ، انّ الكلام في ذلك تارة : يقع في مرحلة الإمكان ، وأخرى : في الوقوع.

اما المقام الأول ، فالقيد المأخوذ في الشيء ، تارة : يكون جزء له ، كالدار فانه

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

٣٢٩

مقيد بالقبة والسرداب والسطح ، وكل منها يكون جزء لها ، وأخرى : شرطا له ، كما في الرقبة المقيدة بالايمان ، وثالثة : يكون أخذ القيد والتقيد لمجرد المعرفية ، فيكون مشيرا محضا من دون ان يكون له دخل في المقيد أصلا ، نظير ما إذا قال «أكرم أخا عمرو أو والد بكر» فانّ الأخوة أو البنوة انما أخذ قيدا لأنّ المخاطب لا يعرف إلّا بهذا العنوان من دون ان يكون لهما دخل في الحكم بوجوب الإكرام.

وعليه ففي المقام ان كان اللحاظ الذهني في علم الجنس جزء للموضوع له بان كان أسامة موضوعا للحيوان المفترس ، والتعين في الذهن أو شرطا له بان كان موضوعا للحصة الخاصة من الحيوان المفترس وهي المتعينة في الذهن لكان الأمر كما ذكره ، فانه يستحيل صدق الموجود الذهني بما هو كذلك على ما في الخارج إلّا بالتجريد والمفروض خلافه ، ولكن إذا أخذ التعين الذهني بالتصور أو التصديق في معناه معرفا محضا فلا يلزم محذور أصلا ، ونظير هذا ان يقول أعط الدراهم لمن تعلم بفقره ، أو لمن تعرفه علويا ، فهل يتوهم أحد استحالة امتثال مثل هذا التكليف لأنّ المتعين في الذهن لا ينطبق على ما في الخارج ، وهكذا لو قال أعطني ما تعرف انه الكتاب الفلاني ، فهل يجيبه المكلف انّ الموجود في ذهني يستحيل انطباقه على الخارج؟ كلا ، وليس هذا إلّا لأنّ أخذ العلم والمعرفة انما هو من جهة المعرفية والمشيرية لا غير ، فلفظ أسامة يمكن ان يكون موضوعا للحيوان المفترس المعلوم في الذهن لكن بنحو يكون العلم معرفا لا غير ، ولا يلزم منه عدم صدقه على ما في الخارج ، فهو إمكانا ممكن.

وامّا المقام الثاني ، أعني مرحلة الوقوع ، فالظاهر عدم أخذ التعين الذهني فيه أصلا ، فانّ العارف باللسان لا يفهم من لفظ أسامة سوى ما يفهمه من لفظ الأسد ، كما انّ غير العارف باللغة لا يفهم منهما شيء أصلا ، فوقوعا لم يوضع علم الجنس إلّا لما وضع له اسم الجنس وهو الطبيعة المهملة ، والظاهر انّ ما ذهب إليه المشهور من

٣٣٠

النحويين من أخذ التعين الذهني في علم الجنس انما هو من جهة انّ العرب يعاملون معه معاملة المعرفة ، فالتزموا بذلك ، ولا حاجة إلى هذا التكليف أصلا ، ضرورة إمكان ان يكون في اللغة العربية نكرات يعامل معها معاملة المعارف ، فتكون معارف سماعية ، كما ثبت فيها مؤنثات سماعية ، وهي أسماء يعامل معها معاملة التأنيث من دون ان تكون مؤنثات حقيقية أو لفظية كالمكرر من أعضاء الإنسان مثل اليد والرّجل والعين وأمثال ذلك ، فيقال اليد اليمنى أو الرّجل اليسرى وهكذا من دون ان يكون مؤنثا لفظا ولا معنى.

ومنها : المفرد المعرف باللام ، ذكر في الكفاية (١) انّ المعروف انّ اللام تكون موضوعة للتعريف ومقيدة للتعيين في غير العهد الذهني. ثم أورد على ذلك بما تقدم من انّ لازم أخذ التعين في المعنى عدم صدقه على ما في الخارج.

ويجري فيه ما ذكرناه حرفا بحرف ، ثم اختار بعد ذلك انّ اللام مطلقا تكون للتزيين ، والتعيين مستفاد من خصوصيات الموارد.

ونقول : الظاهر انّ اللام موضوعة للإشارة نظير لفظ «هو» أو «ذا» غاية الأمر كما انه تارة : يشار بلفظ «هو» إلى الكلي فيقال : «الكلي هو الّذي يكون قابلا للصدق على الكثيرين» ، وأخرى : يشار به إلى الموجود الخارجي ، وثالثة : إلى غير ذلك ، كذلك لفظ (أل) تارة : يشار به إلى الطبيعي فيفيد الاستغراق كما في قوله تعالى (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)(٢) أي جنسه ، فيعم جميع الافراد إلّا ما استثنى ، وأخرى : يشار به إلى المذكور في الكلام كما في قوله تعالى (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(٣) ويعبر عنه بالعهد الذكري ، وثالثة : يشار به إلى الخارج ، فيقال «أكرم

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٨٠.

(٢) العصر ـ ١.

(٣) المزمل ـ ١٦.

٣٣١

الرّجل ويعبر عنه بالعهد الخارجي.

وكل من هذه الخصوصيات لا بدّ وان يستفاد من الخارج كما هو الحال في لفظ «هو» وبقية أسماء الإشارة ، واما العهد الذهني فلم نعرف له معنى محصلا ليمكن الإشارة إليه باللام ، فان أريد منه المقيد باللحاظ الذهني ، فيرد عليه ما في الكفاية من لزوم عدم صدقه على ما في الخارج ، وان أريد به نفس الطبيعة فهو الجنس لا شيء آخر.

والظاهر والله العالم انّ النحاة رأوا انه قد يعامل مع المعرف باللام معاملة النكرة فيوصفونه بالجملة مع انها بحكم النكرة ، فذهبوا في تصحيحه إلى الالتزام بالعهد الذهني.

والصحيح : انّ اللام في مثل ذلك يكون للتزيين كما في الكفاية وهو بدل لتنوين التمكين الّذي لا يتم الاسم المعرب إلّا به أو باللام ، والشاهد عليه انا لا نرى أي فرق بين قوله «ولقد امر على اللئيم يسبني» الّذي مثلوا به للعهد الذهني وبين ان يقال : «ولقد امر على لئيم» بالتنوين أصلا ، ولهذا يعامل معه معاملة النكرة.

هذا كله في المفرد المعرف باللام.

وامّا الجمع المعرف به ، فقد تقدم الكلام فيه ، وذكرنا انه إشارة إلى الجماعة ، وبما انه ليس في الكلام ما يعينها من عهد ذكرى أو خارجي فلا بدّ وان يراد به الاستغراق ، ويكون إشارة إلى جميع الافراد وإلّا فيكون مجملا ، وأقل الجمع انما هو متيقن لا متعين ، فلا وجه للاقتصار عليه.

ثم لا يخفى انّ الشارح الرضي قد صرح بما ذكرناه من عدم الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس معنى ، وانهما موضوعان للطبيعة المهملة إلّا انهم يتعاملون مع علم الجنس معاملة المعرفة ، فتعريفه نظير التأنيث في المؤنثات السماعية. كما انه قدس‌سره صرح أيضا بما بيناه في العهد الذهني ، وذكر انا لا نرى فرقا من حيث المعنى بين

٣٣٢

المعرف باللام للعهد الذهني بان يقول «أعطه الدرهم» وبين الفاقد للام بان يقول : «أعطه درهما» ، ومن ثم يتعاملون معه معاملة النكرة.

ومنها : النكرة. وتطلق تارة : في مقابل المعرفة ، وأخرى : في مقابل اسم الجنس ، ومحل كلامنا هو الإطلاق الثاني.

وذكر في الكفاية (١) انّ النكرة بالحمل الشائع امّا هو الفرد المعين في الواقع غير المعين عند المخاطب كما في قوله تعالى (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى)(٢) أو حصة خاصة من الطبيعي أي الماهية المقيدة بقيد الوحدة كما في قولك «أعط زيدا درهما أو درهمين» فإنه لو كان المراد به الجنس لشمل الدرهمين أيضا ولم يكن وجه لذكره فانه المستفاد منه.

امّا ما ذكره أولا فلا يمكن المساعدة عليه ، فانّ الرّجل في الآية لم يستعمل إلّا في الحصة الخاصة من الطبيعي أو المقيد بقيد الوحدة ، والتعين انما هو من لوازم الاخبار بالتحقق الخارجي ، فانّ الجائي لا يعقل ان لا يكون معينا في الخارج.

فالصحيح : ما ذكره ثانيا ، وانّ النكرة في مقابل اسم الجنس هي اللفظ الموضوع للماهية المقيدة بالوحدة توضيح ذلك : انّ اسم الجنس الموضوع تارة : يستعمل مع اللام فيكون إشارة إلى الجنس فيفيد الاستغراق ، وأخرى : يستعمل بلا كلمة (أل) فلا بدّ وان يكون مع التنوين إلّا في حال الوقف. والتنوين تارة : يكون تنوين التمكن أي ما يستقر به الاسم المختص بالأسماء المعربة ، وأخرى : يكون تنوين التنكير ، وبينهما عموم من وجه ، فقد يكون التنوين متمحضا في التمكن كما في قولك «أكرم زيدا» ، وأخرى متمحضا في التنكير كما في أسماء الأفعال التي هي مبنيات ، وقد يجتمعان كما في قولك «أعط زيدا درهما أو درهمين» فيستفاد منه امران التمكن

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٨١.

(٢) يس ـ ٢٠.

٣٣٣

والتنكير ، فيدل على الحصة الخاصة من الطبيعي وهي المقيدة بالوحدة ، فالنكرة عبارة عن اسم الجنس إذا لحقه تنوين التنكير ، ويدل على الماهية المقيدة بالوحدة ، وهذا كله ظاهر لا كلام لنا فيه.

وانما الكلام فيما يطلق عليه عنوان المطلق ، وقد عرفت عدم ثبوت اصطلاح خاص فيه وفي لفظ المقيد ، وانه يراد منهما معناهما اللغوي أي الإرسال فيقال : «فرس مطلق العنان» ، وفي قباله المقيد وهو خلافه ، فيتصف بكل منهما كل من اللفظ والمعنى كما تقدم ، وعليه فنطلق المطلق على اسم الجنس وعلى النكرة وعلى علم الشخص أيضا بلحاظ حالاته فانّ كلا منها مرسل بحسب اللفظ إذا لم يقيد بقيد لفظا ، وبحسب المعنى إذا لم يلحظ فيه قيد.

ثم بقي الكلام في انّ تقييد المطلق يوجب مجازيته أم لا؟

اما في عدم استلزامه المجازية في علم الشخص فواضح ، لأنه لم يوضع إلّا للشخص ، فلا ينافيه التقييد من حيث الحالات.

واما في اسم الجنس والنكرة ، فالأقوال ثلاثة : ثالثها : التفصيل بين التقييد بالمتصل وانه مجاز ، وبين التقييد بالمنفصل وانه حقيقة.

اما التفصيل فلا وجه له ، إذ لا دخل في اتصال القرينة وانفصالها في كون اللفظ مستعملا في معناه وعدمه ، فلا بدّ من القول بالحقيقة مطلقا ، أو بالمجاز كذلك ، ويبتنى القولان على الخلاف فيما وضع له اسم الجنس ، فان قلنا : بأنه موضوع للابشرط القسمي أو الطبيعة المطلقة التي لوحظ فيها رفض جميع القيود والخصوصيات فلا محالة يستلزم التقييد للمجازية ، فانّ المقيد غير مستعمل في الماهية كذلك بالضرورة ، واللابشرط القسمي يباين بشرط شيء. واما ان قلنا : بأنه موضوع للماهية المهملة كما هو المختار فالتقييد لا يستلزم المجازية ، لأنّ الماهية المهملة موجودة في جميع الأقسام ، وقد عرفت انه هو الصحيح ، وذلك لصحة استعمال اسم

٣٣٤

الجنس في نفس الماهية في الحدود فيقال : «الإنسان حيوان ناطق» وفي المجرد فيقال : «الإنسان نوع» وفي المخلوطة فيقال «الإنسان الضاحك» وفي المطلقة فيقال : «أكرم كل إنسان» من غير حاجة إلى عناية ومسامحة. هذا مضافا إلى انّ حكمة الوضع أيضا تقتضي وضعه لذلك دون اللابشرط القسمي للحاجة إلى الاستعمال في جميع الأقسام دون خصوصية ، فالتقييد مطلقا لا يستلزم المجازية إلّا إذا لم يكن التقييد بنحو تعدد الدال والمدلول بل استعمل اللفظ في المقيد بما هو مقيد فيكون مجازا لا محالة.

ثم انه بعد ما أثبتنا كون اسم الجنس موضوعا للماهية المهملة ، وانّ كلا من التقييد المعبر عنه بشرط شيء والإطلاق المعبر عنه باللابشرط القسمي خارجان عما وضع له لفظه ، لا بدّ وان يكون استفادة كل منهما بقرينة خارجية حالية أو مقالية ، فإذا شككنا في مورد في الإطلاق والتقييد فحينئذ يدور الأمر بين قسمين أي اللابشرط القسمي أو بشرط شيء ، واما بشرط لا فهو غير محتمل في القضايا المتعارفة لما عرفت من انه غير قابل للطلب أصلا ، بل لا يحمل عليه شيء سوى ما كان من المعقولات الثانوية حيث لا موطن لها إلّا في الذهن.

وبالجملة إذا شك في الإطلاق والتقييد ، فهل يكون قرينة عامة يستفاد منها الإطلاق أم لا؟

المعروف هو الأول ، ويعبر عن تلك القرينة بقرينة الحكمة لاختصاص قرينتها بما إذا كان المتكلم حكيما ، ولا تنتج في المتكلم السفيه وما يلحق به ، وهذه القرينة مركبة من مقدمات.

المقدمة الأولى : ورود الحكم على المقسم وتمكن المتكلم من التقييد ، وتوضيح ذلك : وان كان قد تقدم الكلام فيه في مبحث التعبدي والتوصلي بما لا مزيد عليه هو : انا قد ذكرنا آنفا انّ الإطلاق والتقييد مما يتصف بهما كل من اللفظ والمعنى ،

٣٣٥

فالإطلاق أو التقييد تارة : يكون ثبوتيا ، وأخرى : إثباتيا. امّا الثبوتيان فالتقابل بينهما ليس تقابل العدم والملكة كما توهم ، بل تقابل التضاد ، لأنّ كلا منهما امر وجودي متقوم باللحاظ ، فالتقييد عبارة عن لحاظ قيد وأخذه في الماهية وهي الماهية بشرط شيء ، والإطلاق عبارة عن لحاظ القيود ورفضها في مقام الحكم المعبر عنه سواء كان كذا أو كذا الّذي هو مستلزم للسريان لجميع الافراد وهي الماهية اللابشرط القسمي ، فهما ضدان ، ومن هنا ذكرنا في ما تقدم انّ استحالة أحدهما بعد وضوح استحالة الإهمال النّفس الأمري تستدعي ضرورية الآخر ، لا استحالته كما توهم مبنيا على التوهم السابق. وامّا الإطلاق والتقييد في مقام الإثبات فتقابلهما تقابل العدم والملكة ، فانّ الإطلاق عبارة عن عدم ذكر القيد في الكلام في مورد قابل للتقييد ، وعليه فإذا استحال التقييد في مورد ولم يتمكن المولى منه لتقية أو سعال أو عدم ورود الحكم على المقسم أو نحوه استحال الإطلاق أيضا ، فلا نتمكن من استكشاف إطلاق المراد من اللفظ أصلا. فالمقدمة الأولى للتمسك بالإطلاق هي تمكن المتكلم من التقييد لو كان مراده مقيدا.

المقدمة الثانية : كون المتكلم في مقام البيان ، فلو فرضنا انه في مقام الإهمال وأصل التشريع كما لو رأى طبيب مريضا في الطريق وقال له لا بدّ لك من شرب الدواء لا يتوهم عاقل جواز التمسك بإطلاق مثل ذاك الكلام وشرب مطلق ما يصدق عليه الدواء ، وهكذا لو كان في مقام البيان من جهة لا يمكن التمسك بإطلاق كلامه من الجهة الأخرى التي لم يحرز كون المتكلم في مقام البيان منها ، مثلا قوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ)(١) في مقام البيان قطعا من جهة عدم اعتبار التذكية بالذبح فيما يصطاده الكلب ، فهل يتوهم التمسك بإطلاقه من حيث عدم نجاسة

__________________

(١) المائدة ـ ٤.

٣٣٦

موضع فم الكلب ، أو عدم وجوب غسله من دمائه أو غير ذلك؟! وهكذا ما ورد في العفو عن الدم إذا كان أقل من الدرهم في الصلاة ، فهل يمكن التمسك بإطلاقه من غير جهة النجاسة مثل كونه من غير المأكول أيضا؟! وكذلك ما ورد في العفو عن نجاسة مما لا تتم فيه الصلاة وحده ، فهل يمكن التمسك بإطلاقه من حيث الغصبية أيضا ، والقول بجواز الصلاة فيما لا تتم فيه الصلاة إذا كان متنجسا ولو كان مغصوبا إلى غير ذلك؟! فكون المولى في مقام البيان من جهة لا يصح إلّا بالتمسك بالإطلاق من تلك الجهة لا من تمام الجهات.

ثم لو شككنا في كون المتكلم في مقام البيان من جميع الجهات بعد إحراز كونه في مقام البيان من جهة خاصة معينة ، فهل هناك بناء من العقلاء على كونه في مقام البيان من جميع الجهات أم لا؟

امّا إذا شك في أصل كون المولى في مقام البيان في مقابل كونه في مقام الإهمال ، فبناء العقلاء ثابت على كونه في مقام البيان ، فانّ الغرض من وضع الألفاظ انما هو بيان المرادات بها ، وهو واضح ، واما إذا أحرزنا كونه في مقام البيان من جهة واحتملنا كونه في مقام البيان من بقية الجهات ، ويعبر عنه بالإطلاق الوارد في مقام بيان حكم آخر ، فلم يثبت بناء من العقلاء على إثبات ذلك أصلا ، بل كثيرا ما لا يلتفت المتكلم إلى جميع جهات الكلام فضلا عن ان يكون في مقام بيانها ، فلا بدّ حينئذ من الاقتصار في الأخذ بالإطلاق على الجهة التي أحرز كون المولى في مقام بيانها.

والفرق بين القسمين هو انه إذا شككنا في كون المتكلم في مقام البيان أو الإهمال ، فحيث انّ الإهمال الثبوتي غير معقول على ما تقدم الكلام فيه وانه لا بدّ من الإطلاق أو التقييد ، ومقام الإثبات واللفظ تابع لمقام الثبوت إبرازا وان كان الأمر بالعكس كشفا فانّ الألفاظ موضوعة لإبراز مقام الثبوت ، فلا محالة لا يكون

٣٣٧

الإهمال ثابتا في مرحلة الإثبات واللفظ أيضا ، إلّا إذا كان هناك غرض على الإهمال ونصب عليه قرينة ، وإلّا فالمتكلم حينئذ خارج عن طرق المحاورات العرفية ، بل لا بدّ من الإطلاق أو التقييد ، ومن هنا استقر بناء العقلاء على الحكم بكون المتكلم في مقام البيان لا الإهمال مهما شك في ذلك. وهذا بخلاف ما إذا أحرزنا كونه في مقام البيان من جهة واحتملنا كونه في مقام البيان من جهات آخر ، فانّ الشك حينئذ في سعة مقام الثبوت وضيقه ، ومن ثم لم يستقر بناء من العقلاء على كونه في مقام البيان من جميع الجهات ، وهذا هو الفارق بين القسمين.

ثم انه ما المراد بالبيان المعتبر في مقدمات الحكمة.

لا ينبغي الريب في انه لم يرد منه كون المتكلم في مقام التفهيم في الجملة ، فانه ثابت في كلام كل متكلم ، ولو كان في مقام التشريع إلّا إذا كان غافلا أو نائما. كما انه لا يراد منه كونه في مقام بيان تمام ما له دخل في مراده الجدي ، فانه مناف لتأخير ذكر القرينة وانفصالها عن علم وعمد ، مضافا إلى انه غير ثابت في موارد ثبوت الوضع للفظ أي الدلالات الوضعيّة فضلا عن موارد الإطلاق والسكوت في مقام البيان ، فانّ الألفاظ على ما تقدم الكلام فيها غير موضوعة للمرادات الجدية ، وانما هي موضوعة للمرادات الاستعمالية وقصد التفهيم ، ومن هنا فصلنا في بحث العام والخاصّ بين الإرادتين أعني الإرادة الجدية والإرادة الاستعمالية ، وذكرنا انّ تطابقهما انما يكون ببناء العقلاء ، من باب تبعية مقام الثبوت للإثبات كشفا ، وانّ المراد الاستعمالي مطابق للمراد الجدي سعة وضيقا ، وإلّا فيمكن في الواقع ان يكون المراد الاستعمالي عاما والمراد الجدي خاصا ، غاية الأمر إذا كان المراد الاستعمالي عاما بحسب وضع اللفظ وعدم نصب قرينة على التخصيص يثبت عموم المراد الجدي أيضا ببناء العقلاء المعبر عنه بأصالة الظهور على ما عرفت. وهكذا في المطلق إذا كان المتكلم في مقام بيان المراد الاستعمالي وتفهيمه وسكت عن ذكر القيد وبيانه ،

٣٣٨

مثلا قال «أكرم عالما» فهو في قوة التصريح بقول «أكرم أي عالم» فيثبت إطلاق المراد الجدي ببناء العقلاء على مطابقة الإرادتين. فالمراد من كون المتكلم في مقام البيان امر وسط بين الأمرين ، وهو كونه في مقام بيان مراده الاستعمالي أي تفهيم اللفظ.

هذا ويترتب على ما ذكرناه امران.

الأول : انّ المقيد المنفصل لا يكشف عن كون المتكلم في مقام الإهمال ، لأنّ التقييد انما يكشف عن تقيد المراد الجدي دون المراد الاستعمالي كما بيناه في المخصص المنفصل ، وهو لا ينافي إطلاق المراد الاستعمالي ، ومن هنا قلنا : انّ تخصيص العام لا يوجب مجازيته.

الثاني : انّ العثور على مقيد انما يوجب رفع اليد عن الإطلاق بمقدار ما عثرنا عليه من المقيد ، وامّا في الزائد عليه فالإطلاق محكم وهو واضح.

المقدمة الثالثة : ان لا ينصب قرينة على التقييد لا متصلا لأنه يمنع عن تحقق الظهور في الإطلاق ، ولا منفصلا لأنّ القرينة المنفصلة وان لم تكن مانعة عن انعقاد الظهور في الإطلاق إلّا انها تمنع حجيتها ، فلا يترتب على المطلق حينئذ الثمر المرغوب منه ، وهو كشف إطلاق المراد الجدي.

فإذا تمت هذه المقدمات الثلاث ، أي كان المولى متمكنا من التقييد ، وكان في مقام البيان ولم ينصب قرينة على التقييد لا متصلة ولا منفصلة ، وكان المتكلم حكيما ينعقد لكلامه الظهور في الإطلاق ، وينكشف بذلك ببناء العقلاء انّ مراده الواقعي أيضا مطلق ، إذ لو كان مراده في الواقع مقيدا وفعل ذلك لكان مخالفا لطريقة العرف والعقلاء ومحاوراتهم ، والحكيم لا يفعل ذلك. فلا نحتاج بعد هذه المقدمات إلى ضم ما ذكره في الكفاية من انّ المخالفة تكون نقضا للغرض ، ولا إلى غير ذلك أصلا ، بل يكفي مجرد المقدمات الثلاثة في الإنتاج.

واما اعتبار عدم وجود القدر المتيقن في التمسك بالإطلاق فتوضيح الكلام

٣٣٩

فيه : انّ المراد من المتيقن ان لا يحتمل ثبوت الحكم لبعض الافراد أو الأصناف وعدم ثبوته لفرد أو لصنف خاص وان كان العكس بمعنى أولوية ثبوت الحكم لبعض الافراد بالإضافة إلى البعض الآخر. والمتيقن تارة : يكون متيقنا من الخارج من مناسبة الحكم والموضوع ونحوها ، ويعبر عنه بالمتيقن الخارجي ، وأخرى : يكون متيقنا من نفس الكلام وخصوصياته ، ويعبر عنه بالمتيقن في مقام التخاطب.

امّا القسم الأول : فكما لو قال المتكلم «أكرم عالما» فانّ العالم العادل هو المتيقن في ثبوت وجوب الإكرام له ، فانه لا يحتمل من مناسبة الحكم والموضوع ان يكون العالم الفاسق واجب الإكرام ولا يكون العالم العادل كذلك ، ويحتمل العكس ، ومن الواضح انه لا يضر بصحة التمسك بالإطلاق ، ولم يتوهمه أحد وإلّا لم يمكن التمسك بالإطلاق أصلا في أيّ مورد لوجود المتيقن بهذا المعنى في جميع الموارد.

وامّا القسم الثاني : فيتحقق بأمور ، منها : المورد أو مورد السؤال ، فانه كثيرا ما يكون السؤال مقيدا ويجب المتكلم بجواب مطلق يعم مورد السؤال ، وهو كثير في الاخبار ، مثلا يسأل عن حكم دم الرعاف في الصلاة ، فيجيب الإمام بنفي البأس عن الدم إذا كان أقل من الدرهم ، فانّ شمول الجواب لمورد السؤال ودخوله تحت الجواب متيقن في مقام التخاطب بحيث يفهمه المخاطب من نفس الجواب ، إذ يقبح على المتكلم ان يجيب عن السؤال بما لا يعمه لغير غرض وضرورة من تقية ونحوها.

وربما توهم انّ وجود المتيقن في مقام التخاطب يمنع عن الإطلاق.

وفيه : ما لا يخفى ، فانّ المعيار انما هو بالجواب ، ومورد السؤال انما هو من صغرياته ، وليس تيقنه إلّا لذلك لا لاختصاص الحكم به ، والفهم العرفي شاهد عليه ، ومن ثم قالوا : في العام انّ المورد لا يكون مخصصا.

ونقول في المقام : انه لا يكون مقيدا وإلّا لما أمكن التمسك بأغلب الاخبار الواردة في شرائط الصلاة وموانعها ، فانها مسبوقة بالسؤال ، وصاحب الكفاية قدس‌سره

٣٤٠