دراسات في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

انه معنون بعنوان آخر ، وهو كونه مسطورا في الكتب المعتبرة.

هذا ونقول : ما أفاده انما يتم فيما إذا لم يكن المعلوم بالإجمال بالعنوان الآخر أيضا مرددا بين الأقل والأكثر ، كما إذا علمنا بنجاسة إناء زيد واشتبه بين إناءات ثم علمنا بوقوع قطرة من الدم في أحدها ، فانا نعلم حينئذ بنجاسة أحدها لكن بعنوانين ، فإذا فرضنا انا علمنا تفصيلا بعد ذلك بأنّ قطرة الدم وقعت في أحدها بخصوصه ، فانحلال العلم الإجمالي بذلك العنوان لا يوجب انحلاله بعنوانه الآخر أعني بعنوان انّ أحدها إناء زيد كما هو واضح ، وامّا لو كان المعلوم إجمالا بالعنوان الآخر أيضا مرددا بين الأقل والأكثر كما لو فرضنا في المثال انّ إناء زيد المعلوم نجاسته أيضا مردد بين الواحد والأكثر ، فينحل العلم الإجمالي حينئذ بكلا عنوانيه إلى معلوم تفصيلي ، وهو المتيقن والمشكوك البدوي.

وما نحن فيه من هذا القبيل فانّ المعلوم بالإجمال من المخصصات الصادرة بعنوان كونها مذكورة في الكتب المعتبرة مردد بين الأقل والأكثر ، فينحل لا محالة بالظفر على المقدار المتيقن ، فيخصص به العمومات. واما احتمال وجود مخصص زائدا على ذلك فهو شك بدوي يدفع بالأصل ، فما أشكل به المحقق الخراسانيّ قدس‌سره متين جدا.

وامّا المثال المذكور في كلامه قدس‌سره ، فالعلم الإجمالي بالدين المردد بين الأقل والأكثر ينحل لا محالة بعد الظفر بالمقدار المتيقن ، امّا المقدار الزائد عليه فان كان ثبوته أو ثبوت بعضه مطمئنا به كما لو فرضنا انه ظفر على المقدار المتيقن بعد ما فحص حساباته في الدفتر إلى شهر شعبان مثلا ولكنه يطمئن بأنه استدان من هذا الشخص في شهر رمضان أيضا ، فاطمئنانه يمنع من الرجوع في ذلك إلى الأصل العملي. واما في غير ذلك مما يظن به أو يحتمله فلا مانع من الرجوع إلى الأصل العملي إلّا ما يمنع من الرجوع إليه في موارد احتمال الاستطاعة ، أو بلوغ المال حد

٢٨١

النصاب ، أو زيادة الربح على مئونة السنة وأمثال ذلك مما لا يحرز عادة إلّا بالفحص ، فان من لم يرزق مالا كثيرا ولم يربح ربحا فاحشا لا يمكنه إحراز استطاعته في سنته الأولى إلّا بالفحص ، وهكذا إحراز الأمرين الآخرين ، ففي مثل هذه الموارد يستقل العقل بوجوب الفحص ولا يجوز الرجوع إلى البراءة قبل ذلك ، وهذا أجنبي عن العلم الإجمالي كما هو ظاهر.

والّذي يشهد لما ذكرناه من انحلال العلم الإجمالي في المثال هو : انه لو فرضنا انّ الدفتر المشتمل على الحساب ضاع يجوز له الرجوع إلى البراءة في المقدار الزائد ، ولا يجب عليه الاحتياط ، مع انه لو لم يكن العلم الإجمالي منحلا لوجب الاحتياط.

الوجه الرابع ـ ما ذكره الميرزا (١) قدس‌سره مبنيا على مختاره من انّ التمسك بالعموم يبتني على جريان مقدمات الحكمة في المدخول ، وحاصله : انّ من مقدمات الحكمة كون المولى في مقام بيان تمام مراده ، فلو فرضنا انّ المتكلم يعتمد على قرائن ومقيدات منفصلة لعدم تمكنه من إبراز جميع مقاصده كما كان هذا دأب أهل البيت عليهم‌السلام وحالهم على ما يظهر من مراجعة تاريخهم وحالاتهم ، فلا يمكننا إحراز أول مقدمة من مقدمات الإطلاق إلّا بعد الفحص ، وامّا قبله فلا يتحقق الإطلاق للمدخول لينعقد العموم للعام.

وفيه : أولا ـ انّ أداة العموم كما عرفت بنفسها متكفلة لبيان الإطلاق وعدم دخل قيد زائد في المدخول ، فهي بيان العدم والإطلاق الثابت بمقدماته ليس إلّا عدم البيان.

وثانيا ـ لو سلمنا توقف العموم والسريان على إجراء مقدمات الحكمة في المدخول فمن الظاهر انّ الظهور الإطلاقي ينعقد للفظ حتى لو كان معرضا للتقييد

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٨٧.

٢٨٢

وكان المتكلم متكلا على القرائن المنفصلة غالبا كما هو ثابت ببناء العقلاء من باب تبعية مقام الإثبات لثبوت ، وظهور المقيد فيما بعد لا يكشف عن عدم انعقاد الظهور للمطلق من الأول ، وانما يكون تقديمه على المطلق من باب تقديم أقوى الظهورين كما سنبينه في المبحث الآتي. مع انّ ما ذكره قدس‌سره من انّ إجمال المخصص المنفصل لا يسري إلى العام لا يتم إلّا على ما بيناه ، مثلا لو ورد «أكرم كل عالم» وورد في دليل منفصل «لا تكرم فساقهم» وكان الفاسق مجملا من حيث شموله لمرتكب الصغيرة ، فذهب قدس‌سره إلى انّ العام حجة في ذلك ، فلو فرضنا انّ ظهور العام في العموم لا ينعقد إلّا بعد الفحص والعثور على المخصص يكشف عن عدم انعقاد الظهور للعام من الأول ، فكيف يمكننا التمسك به لإثبات وجوب إكرام العالم المرتكب للصغيرة.

فهذا الوجه أيضا غير تام.

الوجه الخامس : مما يستدل به على وجوب الفحص عن المخصص ما ذكروه في وجوب الفحص عن الأحكام الإلزامية في موارد الرجوع إلى البراءة ، وحاصله : انّ الرجوع إلى الأصل العملي قبل الفحص بما انه يكون معرضا لاندراس الأحكام أو جملة منها غير جائز ، لأنّ ديدن الشارع في الأحكام وبيانها والموالي العرفية في تبليغ قوانينهم ليس بإيصالها إليهم بالجبر والقهر ، وانما هو بيانها في معرض تمكن المكلف من الوصول إليها بالفحص ، فإذا لم يفحص يفوته ذلك عادة ولا يكون معذورا في جهله ، لأنّ العقل في مثله يستقل بلزوم الفحص والروايات تطابقه كقوله عليه‌السلام «يقال للعبد يوم القيامة هلّا تعلمت» وهذا الحكم العقلي والروايات المؤيدة له يقيد إطلاق دليل البراءة كحديث الرفع.

ونظير هذا البيان يجري في المقام أيضا ، فانه إذا أحرزنا انّ ديدن المتكلم انما هو على الاتكال على القرائن المنفصلة لتقية أو نحوها من المصالح أو المفاسد ، وانه لا يوصلها إلى المكلفين بالقهر والجبر وانما يجعلها في معرض الوصول إذا فحص العبد

٢٨٣

عنها ، فمن الرجوع إلى الأصول اللفظية كأصالة العموم فيما نحن فيه قبل الفحص يلزم اندراس الأحكام خصوصا فيما إذا كان المخصص المحتمل إلزاميا ، فذلك الحكم العقلي بلزوم الفحص عن تلك القرائن المنفصلة ثابت ، كما انّ الروايات أيضا شاملة له ، فلا محالة ليس قبل الفحص بناء من العقلاء على حجية أصالة الظهور من عموم وغيره.

والفرق بين هذا الوجه والوجه المتقدم بعد اشتراكهما في التوقف على المقدمة المذكورة انّ المدعى هناك كان عدم تحقق الظهور للعام في العموم ، وما ندعيه هنا انّ الظهور للعام في العموم منعقد ، وتقديم المخصص المنفصل عليه انما هو من باب تقديم أقوى الظهورين إلّا انه ليس بحجة قبل الفحص ، لعدم بناء من العقلاء على حجيته.

وبهذا الوجه يتم وجوب الفحص عن المخصص وغيره من قرائن إرادة خلاف الظاهر.

ثم يقع الكلام في مقدار الفحص. ذكر في الكفاية (١) انه على هذا لا بدّ وان يفحص حتى يخرج العام عن مرضية التخصيص.

ونقول : ما معنى خروجه عن المعرضية؟ فانّ معنى معرضيته لذلك هو كون ديدن الحاكم على الاتكال على القرائن المنفصلة ، ومن الواضح انّ الفحص عن المخصص العام حتى بعد القطع الوجداني بعدمه لا يوجب تبدل ديدن الحاكم وكونه متكلا على القرائن المنفصلة غالبا ، ولا نفهم معنى صحيحا لما أفاده إلّا ان يرجع إلى ما سنذكره.

والحاصل انّ محتملات المسألة ثلاثة :

الأول ـ ان يفحص إلى ان يحصل له القطع الوجداني بالعدم ، واعتبار ذلك يوجب عدم جواز العمل بالعمومات ، وذلك لأنّ حصول القطع بعدم المخصص

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٥٣.

٢٨٤

مشكل جدا حتى بعد تبويب الاخبار فضلا عما قبل.

الثاني ـ ان يحصل له الظن ، ولا عبرة به بعد ان ورد انه لا يغني من الحق شيئا.

الثالث ـ ان يحصل له الاطمئنان بالعدم ، وهذا هو الصحيح ، إذ به يخرج العام عن كونه معرضا للتخصيص بمعنى كونه في مظان ورود المخصص عليه.

ثم لا يخفى انّ ما بيانه من وجوب الفحص عن المخصص بتفصيله ، وما ذكرناه في مقداره يجري في الفحص عن المعارض أيضا بالقياس إلى حجية السند ، فانه بعد ما كانت الرواية معرضا لورود المعارض له وعرفنا انّ ديدن الحاكم على ذكر المعارضات لتقية أو لمصالح أخر يستقل العقل بلزوم الفحص عنها كما تؤيده الاخبار أيضا ، فيكون ذلك مقيدا لأدلة حجية السند بما بعد الفحص عن المعارض.

٢٨٥
٢٨٦

اختصاص الخطاب بالمشافهين وعدمه

فصل : وقع الكلام في انّ الخطابات الشفاهية تعم الغائبين والمعدومين أم لا؟ وتظهر ثمرة هذا البحث بناء على ما ذهب إليه المحقق القمي من اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه بضميمة عدم كوننا مقصودين بالإفهام إذا لم تشملنا الخطابات ، فانه عليه يكون ظواهر الخطابات الشفاهية حجة لنا بناء على شمولها للغائبين والمعدومين ، وليست حجة بالإضافة إلينا بناء على عدمه. فلا بدّ حينئذ في إثبات مؤدياتها في حقنا من التمسك بما دل على الاشتراك في التكليف ، وهو لا يجري إلّا في فرض اتحاد في الصنف ، فإذا احتملنا الاختلاف لا يجري ذلك ، مثلا في قوله عزّ شأنه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا (١) نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ)(١) نتمسك بإطلاقه ونثبت الحكم بوجوب صلاة الجمعة علينا لو قلنا بشمول الخطاب للمعدومين ، وإلّا فليس ظاهر الآية حجة بالقياس إلينا لنتمسك به ، وحيث انّ الحاضرين كانوا واجدين لخصوصية وهي كونهم في زمان الحضور ونحن نفقدها نحتمل دخلها في الحكم ، فلا تجري فيه قاعدة الاشتراك في التكليف أيضا لاختلاف الصنف ، فليس لنا دليل على وجوب صلاة الجمعة في حقنا. هذا على مسلك الميرزا القمي من عدم حجية الظواهر لغير المقصودين بالإفهام.

وتظهر الثمرة أيضا على المسلك الآخر الّذي سنبينه من حجية الظواهر حتى لمن لم يقصد افهامه في جواز التمسك بالإطلاق وعدمه ، وذلك لأنه لو كانت الخطابات مختصة بالمشافهين الحاضرين ولم يكن غيرهم مقصودا بالإفهام منها فبما

__________________

(١) الجمعة ـ ٩.

٢٨٧

انّ جميعهم في أمثال الآية الشريفة كانوا واجدين للقيد الّذي يحتمل دخله في الحكم لأنّ جميعهم كانوا في عصر الحضور فلا ملزم للمولى ان يقيد حكمه ، ولو كان مراده الواقعي مقيدا فلو لم يبين القيد لا يكون مخلا بمقصوده ، فمن عدم بيان القيد لا يستكشف إطلاق مراده الواقعي ، فلا ينعقد لكلامه إطلاق من تلك الجهة ، لعدم تمامية مقدماته.

ونظير ذلك في العرف لو كان حكمه مقيدا بالهاشميين واقعا وحيث انّ جميع المخاطبين الموجه إليهم الحكم هاشميون فيخاطبهم بقوله «افعلوا كذا» من دون تقييد ، بل يكون ذكر القيد في مثله لغوا.

وبالجملة : فعلى القول بعدم شمول الخطاب للمعدومين لا ينعقد له إطلاق لنتمسك به ، ولو قلنا بحجية الظواهر لغير المقصودين بالإفهام أيضا ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بشموله للمعدومين ، فانه حينئذ لا يجري البيان المتقدم ، لأنّ من المقصودين بالإفهام حينئذ من يكون واجدا لذاك القيد المحتمل دخله في الحكم كالكون في عصر الحضور في المثال فلا بدّ للمولى من بيان القيد وذكره لو كان مراده واقعا مقيدا ، فإذا لم يبين نتمسك بإطلاق كلامه لا محالة ، وننفي احتمال دخله في الحكم.

ومما يؤيد ثبوت الثمرة حتى على القول بعدم اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالإفهام انّ هذا البحث كان من الأبحاث القديمة ومتداولا بين العلماء السابقين على الميرزا القمي ، فانهم كانوا يبحثون فيه ، ويجعلون ثمرته صحة التمسك بظاهر الخطابات وعدمها. فهذه المسألة مسألة أصولية مهمة ولا وجه لنفي الثمرة عنها كما في الكفاية.

ثم انّ صاحب الكفاية (١) جعل البحث في مراحل ثلاثة ، بعضها عقلية

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٥٥.

٢٨٨

وبعضها لفظية ، وذكر انّ فيه جهات :

الأولى ـ ان يبحث في انّ تكليف الغائبين والمعدومين ممكن عقلا أو مستحيل ، وهذا بحث عقلي.

الثانية ـ ان يبحث في إمكان توجيه الخطاب إلى الغائبين والمعدومين واستحالته ، وهذا أيضا بحث عقلي.

الثالثة ـ ان يبحث في أداة الخطاب وانها موضوعة بنحو يعم الغائبين والمعدومين أم لا؟ وقد جعل الميرزا (١) البحث في مرحلتين.

ولكن الصحيح : ان يجعل البحث في مرحلة واحدة ، إذ لا ينبغي النزاع في الأخريين أصلا ، بيان ذلك : انه لا ينبغي الإشكال في صحة تعلق التكليف بالمعدومين بعد ما بيناه في محله من انّ الحكم ليس إلّا اعتبار شيء على ذمة المكلف ، فكما يمكن تعلق الاعتبار بشيء معدوم يمكن الاعتبار لشيء معدوم كما نرى ذلك في باب الوصية والوقف على البطون اللاحقة ، ونرى ذلك في القوانين العرفية والدولية ، ومن ثمّ لم يستشكل أحد في ثبوت الأحكام المبينة بغير الخطابات الشفاهية للغائبين والمعدومين ، وانها مجعولة بنحو القضايا الحقيقية. نعم فعلية الحكم منوط بفعلية موضوعه فهذه المرحلة مما لا نزاع فيها.

وامّا المرحلة الثانية وهي إمكان توجيه الخطاب إلى المعدومين واستحالته فكذلك ، لأنه ان أريد من الخطاب معناه الحقيقي أعني توجيه الكلام إلى الغير بداعي التفهيم والتفهم ، فهو مستحيل بالإضافة إلى غير الملتفت الشاعر من النائم والمغمى عليه ونحوه فضلا عن الغائب والمعدوم ، وان أريد به الخطاب الإنشائي أي توجيه الكلام لا بداعي التفهيم والإفادة بل بدواعي أخر ، فهو ممكن بالإضافة إلى الجماد

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٨٩.

٢٨٩

والنبات والمعدوم والغائب أيضا كما في جملة من الإشعار وغيرها في جميع اللغات. فهذه أيضا مما لا ينبغي النزاع فيها.

انما البحث في المرحلة الثالثة ، وانّ أداة الخطاب هل هي موضوعة للخطاب الحقيقي ليستحيل شمولها للمعدومين والغائبين أو هي موضوعة للخطاب الإنشائي ليعم الغائبين والمعدومين أيضا؟ والظاهر هو الثاني ، وذلك لأنا لا نرى أي مسامحة في الخطابات المتوجهة إلى الجمادات ونحوها ، بل يصح قول الشاعر أيا جبلي نعمان ... إلخ. بلا عناية كالخطاب الموجه إلى الشاعر الملتفت فتأمل وهكذا نظائره من النثر والشعر ، فأداة الخطاب موضوعة للخطاب الإنشائي أعني به إبراز الخطاب وإنشائه ، ومع التنزل على ذلك وتسليم كونها موضوعة للخطاب الحقيقي فالخطابات الشفاهية الواردة في الكتاب ليست كذلك قطعا لعدم اختصاص مؤدياتها من الأحكام بخصوص الحاضرين مجلس التخاطب ، بل تعم غيرهم من الموجودين في ذلك الزمان يقينا ، فلا محالة يعمهم الخطاب أيضا ولو استلزم كون الاستعمال مجازيا.

ثم انّ هذا كله مبني على امر غير ثابت وهو ان تكون الخطابات الواردة في الكتاب المجيد مما أنشأه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله جل شأنه ليكون الخطاب خطابا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متوجها إلى الحضار ، ولكن الثابت خلاف ذلك وانّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انما يحكي القرآن ويتلو ما نزل عليه من الله تعالى قبل ذلك كتلاوتنا إياه ، وإليه يشير قوله تعالى (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(١) فليس هناك حضار لمجلس التخاطب ليختص بهم الخطاب دون غيرهم ، فلا بدّ وان تحمل الخطابات الواردة في القرآن على الخطاب الإنشائي بداعي تفهيم البشر ، نظير ما يقع من هذا القبيل في تأليف المؤلفين. هذا في الخطابات الشفاهية الواردة في القرآن.

__________________

(١) طه ـ ١١٤.

٢٩٠

وامّا الاخبار المتكفلة للأحكام فلم نعثر فيها على خطاب شفاهي بعنوان يا أيّها الناس أو يا أيها الّذي آمنوا ونحو ذلك أصلا ليقع البحث عنها. وبالجملة فهذا النزاع مما ليس له صغرى أصلا.

تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض مدلوله :

فصل : إذا ورد لفظ عام وتعقبه ضمير في حكم آخر أو قضية أخرى يرجع إلى بعض افراد العام ، ودار الأمر بين الالتزام بالاستخدام وان يراد به بعض ما أريد بمرجعه حين التكلم به الّذي هو خلاف الظاهر فانّ الضمير بمنزلة الإشارة إلى لفظ بما له من المعنى ، فإذا أراد المتكلم منه حين تكلمه به معنى فالظاهر انّ ذاك المعنى هو المراد أيضا في إرجاع الضمير إليه ، وغيره خلاف الظاهر ، غاية الأمر انّ الاستخدام له مراتب ، إذ قد يكون الاستخدام بإرادة امر مباين مما أريد من المرجع أولا ، وقد يكون بإرادة بعض ما أريد منه ولكن كله خلاف الظاهر ، وبين الالتزام بالتخصيص وان المراد الواقعي من العام انما هو الخاصّ من أول الأمر؟ ومثل لذلك بقوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ)(١).

وقد وقع الخلاف في ذلك ، وذهب بعض إلى الاستخدام تمسكا بأصالة العموم كما هو ظاهر الميرزا (٢) قدس‌سره ، وذهب بعض إلى التوقف وانّ الكلام حينئذ يكون من المحتف بما يصلح للقرينية ، فلا يتمسك بأصالة العموم ولا بأصالة عدم الاستخدام كما في الكفاية (٣) ، وبعض التزم بالتخصيص تحفظا على أصالة عدم الاستخدام وهو الأظهر.

وقد ذكر لعدم جريان أصالة عدم الاستخدام وجهان.

__________________

(١) البقرة ـ ٢٢٨.

(٢) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٩٢.

(٣) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٦٢.

٢٩١

أحدهما : ما ذكره الميرزا قدس‌سره وليس بمهم.

وثانيهما : انّ الأصول اللفظية الثابتة ببناء العقلاء التي يعملون بها في مكالماتهم ، ويحتج بها بعضهم على بعض انما تجري فيما إذا كان الشك في المراد ، بان كان اللفظ موضوعا لمعنى أو ظاهرا فيه واحتمل إرادة خلافه تعويلا على قرينة ، فيتمسك حينئذ بأصالة الظهور ، وأصالة عدم القرينة ، أو أصالة الحقيقة ، ومرجع الجميع إلى شيء واحد ، فيحكم بأنّ المتكلم أراد الظاهر دون غيره. وامّا إذا كان المراد معلوما وشك في كيفية الإرادة ، فلم يثبت من العقلاء بناء على التمسك بتلك الأصول أصلا. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانّ ما أريد من الضمير وهو بعض افراد العام معلوم ويشك في كيفية إرادته ، وانه بنحو الاستخدام الّذي هو خلاف ظاهر السياق أو بغيره ، فلا مجال لجريان أصالة عدم الاستخدام.

هذا كله في بيان المنع عن جريان أصالة عدم الاستخدام ومن هنا ينشعب القولان ، أي ما ذهب إليه الميرزا قدس‌سره وما ذكر في الكفاية ، فانّ القائل بالإجمال وسقوط أصالة العموم أيضا يرى بعد سقوط أصالة عدم الاستخدام انّ العام المتعقب بهذا الضمير يكون من الكلام المحتف بما يصلح للقرينة ، لصلاحية ذيله لذلك ، فلا تجري فيه أصالة العموم ، فيتساقطان معا ، وغاية الأمر سقوط أصالة عدم الاستخدام يكون من باب عدم المقتضي ، وسقوط أصالة العموم يكون لوجود المانع. والمحقق النائيني يدعى انّ العام كلام مستقل مشتمل على حكم كذلك ، وليس الذيل صالحا لصرفه عن ظاهره ، فتجري فيه أصالة العموم ، فكل من القولين مبني على المنع عن جريان أصالة عدم الاستخدام.

والجواب عن المنع هو انه لو كان التمسك بأصالة عدم الاستخدام لتعيين كيفية الإرادة وانّ ما أريد من الضمير وهو البعض كان بنحو الاستخدام أو بغيره لتم ما ذكر ، إلّا انّ الأمر ليس كذلك ، فانّ مرادنا من أصالة عدم الاستخدام هو انّ الظهور

٢٩٢

السياقي يقتضي ان يكون المراد من الضمير عين ما أريد من مرجعه أولا لا غيره ، وهذا الظهور السياقي بمنزلة القرينة بالإضافة إلى المرجع المذكور سابقا ، ولذا نرى انّ هذا الظهور السياقي يتقدم على الوضع وأصالة الحقيقة فضلا عن غيره ، ومن ثم لو قال أحد «رأيت أسدا وعاملت معه» لا يشك أحد في انّ المراد من لفظ الأسد من الأول هو الرّجل الشجاع ، ولا يتمسك فيه بأصالة الحقيقة أصلا إلى غير ذلك من الأمثلة. وعلى هذا إذا جرت أصالة عدم الاستخدام وثبت هذا الظهور القوي نعين به أصل المراد من اللفظ العام ، فتأمل ، وانه أريد به الخاصّ من الأول ، فيرتفع به الشك في المراد.

فظهر انّ أصالة عدم الاستخدام جارية في المقام ، ولأقوائيتها تتقدم على أصالة العموم ، ويحكم في مثل المقام بالتخصيص وانّ المراد الجدي من لفظ العموم كان هو الخاصّ لا العام.

هذا كله في كبرى المسألة.

وامّا الآية المباركة فالظاهر عدم كونها من صغريات هذه الكبرى ، وذلك لأنه ليس في نفس الآية المباركة قرينة لا حالية ولا مقالية على انّ المراد من الضمير في قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)(١) خصوص المطلقات الرجعية ، فلو كنا نحن والآية لحكمنا بأنّ ذلك حكم لجميع المطلقات ، فالمراد من الضمير العموم ، فهو بمنزلة تكرار المطلقات غاية الأمر قد خصص ذلك بمخصص منفصل من الاخبار ، وهو لا يوجب المجازية على ما عرفت ، فالآية الشريفة أجنبية عن الاستخدام بالكلية.

__________________

(١) البقرة ـ ٢٢٨.

٢٩٣

تخصيص العام بالمفهوم

فصل : ذكر في الكفاية (١) انه لا خلاف في تخصيص العام بمفهوم الموافقة. وفي تخصيصه بالمفهوم المخالف خلاف ، ثم بين قدس‌سره كبرى كلية لا ترجع إلى محصل وهي : انه لو كان كل من عموم العام والمفهوم مستفادا من مقدمات الإطلاق فلا ينعقد لهما ظهور في المخصص المتصل ، ولو كان بالوضع فلا يستقر لهما ظهور ، وهكذا في المخصص المنفصل إلى آخر ما أفاد.

والتحقيق : انّ المفهوم ينقسم إلى موافق ومخالف ، والموافق ينقسم إلى قسمين : الأولوية القطعية والمساواة. والأولية أيضا على نحوين :

أحدهما : ان يكون ذلك مفهوم عرفيا من نفس اللفظ يعرفه كل عارف باللغة كقوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(٢) فانه يستفاد منه كل واحد حرمة الشتم والضرب والقتل أيضا بالأولوية القطعية ويعرف انّ ذكر كلمة «أف» انما هو من جهة كونه أدنى مرتبة التضجر.

وثانيهما : ان يحتاج استفادته إلى ضم مقدمة عقلية إليه ، كما لو قال المولى «سب الإمام موجب للكفر» فانه بعد علم من الخارج انّ ذلك انما هو لحرمة الإمام وليس لكونه بشرا مخلوقا يفهم منه حرمة سبه تعالى بالأولوية ، ولا بدّ فيه من كون المقدمة العقلية قطعية ، وإلّا فيكون استحسانا وليس بحجة.

وامّا المساواة ، وهي الملازمة بين ثبوت الحكم لموضوع وثبوته لموضوع آخر ، أي القطع بثبوت الحكم لموضوع على تقدير ثبوته لمورد آخر فهي أيضا على

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٦٣.

(٢) الإسراء ـ ٢٣.

٢٩٤

قسمين.

الأول : ان يكون منصوص العلّة قد ذكرت العلة في دليل الحكم ، كما لو قيل للمريض «لا تأكل الرمان لأنه حامض» فيفهم منه حرمة أكل كل حامض ولو من غير الرمان ، وهذا معنى ما يقال : من انّ العلّة تكون معمما ومخصصا.

وللمحقق النائيني قدس‌سره في المقام كلام تعرض له في بحث اللباس المشكوك مفصلا وأصله : انّ العلّة التي تفيد المفهوم هي التي تكون كبرى كلية قابلة الانطباق على مصاديقها بحيث يتشكل منها بعد ضم صغراها قياس بنحو الشكل الأول ، كما في قولك «لا تشرب الخمر فانه مسكر» فيتشكل منه الشكل الأول ويقال : «هذا مسكر ، وكل مسكر يحرم شربه» كما في قولك «العالم متغير وكل متغير حادث» وهذا نظير ما ذكره الشيخ الرئيس في تعريف حد الوسط من انه «ما يصلح اقترانه بلام العلّة بان يقال العالم حادث لأنه متغير» وامّا لو لم تكن العلة المنصوصة كبرى كذلك فلا محالة يكون حكمه للحكم لا يتعدى بها إلى موضوع آخر ، كما لو قيل «لا تشرب الخمر لإسكاره» إذ من المحتمل ان يكون لعنوان الموضوع أعني الخمرية خصوصية في الحكم. ورتب على هذا فروعا ، منها : تخصيص ما ورد في كثير الشك في عدد الركعات وعدم الاعتناء به ، لأنه من الشيطان ، فإذا لم يعتن به يذهب بمورده وعدم التعدي عنه إلى غير ذلك.

وفيه : انا لا نرى فارقا بين القسمين ، فانّ احتمال الخصوصية موجود على كلا التقديرين ، والظهور العرفي في عدمه أيضا ثابت في كلا الفرضين ، ومن ثم انّ الفقهاء اتفقوا على حرمة كل مسكر تمسكا بما ورد في قوله عليه‌السلام «انّ الله لم يحرم الخمر لاسمه ، وانما حرمه لإسكاره» مع انّ العلّة ليست كبرى كلية على ما ذكره قدس‌سره. نعم قد لا يستفاد المفهوم والتعميم من العلّة القريبة كما لو قال : «أعطني هذا الرمان لكبره أو لأنه كبير» فلا يستفاد منه مطلوبية كل شيء كبير ، إلّا انه لا ربط له بكون العلّة كبرى

٢٩٥

كلية وعدمه أصلا ، ولذا لا ينعقد الظهور في المفهوم حتى إذا كانت كبرى كلية كما في المثال.

الثاني : ان يحرز العلّة من الخارج. وهذا نادر جدا ، إذ ليس لنا في الغالب طريق للقطع بملاك الحكم وعلّته ، ومن الواضح اعتبار القطع به في هذا القسم دون الظن ، فانه قياس لا نعمل به ، كما كان ذلك استحسانا في الفرض الثاني من الأولوية.

إذا عرفت مفهوم الموافقة بأقسامه يقع الكلام في موردين :

المورد الأول : في مفهوم الموافقة ربما يقال بتقدمه على العموم ، بدعوى انّ العام قابل لأن يتصرف فيه حتى على القول بكون التخصيص مجازا ، بخلاف المفهوم فانّ التصرف في نفسه بلا تصرف في المنطوق مستحيل ، لأنه من اللوازم العقلية للمنطوق امّا بالمساواة وامّا بالأولوية غير منفك عنه ، وإلّا لما ثبت المفهوم أصلا ، فالتصرف فيه مع بقاء المنطوق على حاله خلف. واما التصرف في المنطوق فلا وجه له بعد عدم كونه معارضا للعام ، فالتصرف فيه مقتضى ، ولعله لهذا ذكر انّ تخصيص العام بمفهوم الموافقة مما اتفقوا عليه.

وفيه : انّ وجود الملزوم كما انه يستلزم وجود اللازم سواء كان لازما مساويا أو أعمّ كذلك عدم اللازم يستلزم انتفاء ملزومه على التقديرين وهو واضح ، مثلا إذا كان الأربعة ملزوما للزوجية يلزم من وجودها وجود الزوج ، فمن انتفاء الزوجية يلزم انتفاء الأربعة لا محالة ، وعلى هذا يبتني القياس الاستثنائي في البراهين المنطقية ، فانه بعد إثبات الملازمة فيها بين المقدم والتالي ينفى التالي فينفى المقدم ، فيقال : «ان كان هذا إنسانا فهو ضاحك بالقوة ، لكنه ليس بضاحك ، فليس بإنسان» ولو لم يكن انتفاء اللازم مستلزما لعدم الملزوم لما انتج القياس الاستثنائي.

وعلى هذا فإذا فرضنا وقوع المعارضة بين المفهوم والعام وتقديم العام على

٢٩٦

المفهوم ، فانتفاؤه مستلزم لانتفاء ملزومه وهو الحكم المذكور في المنطوق لا محالة ، من دون حاجة إلى تصرف آخر في نفس المنطوق ، وهذا نظير ما إذا قامت البينة على ثبوت أحد المتلازمين ، أو على انتفائه ، فانها تثبت اللازم الآخر أو تنفيه من دون حاجة إلى قيام بينة أخرى على ذلك.

وان شئت فقل : انّ المعارضة حقيقة تكون بين العام والمنطوق في لازمه ، فالتصرف فيه ليس بلا مقتضى ، كما انّ التصرف في المفهوم بما انه بنفسه تصرف في المنطوق لا يكون مستحيلا ، وعليه فإذا وقع التعارض بين العام ومفهوم الموافقة فان كان المفهوم أخص مطلقا من العام يخصصه ، وان كان بينهما عموم من وجه يتقدم الأظهر منهما على الآخر فيما إذا كان أحد الظهورين بالوضع والآخر بالإطلاق أو كان أحدهما أقوى من جهة أخرى ، وإلّا فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحات المعارضة ، أو القول بالتساقط والرجوع إلى إطلاق أو عموم فوقاني ، أو إلى الأصول العملية على ما بين في محله.

المورد الثاني : في تخصيص العام بالمفهوم المخالف. إذا تحققت المعارضة بين العام ومفهوم المخالفة ، هل يتقدم العموم على المفهوم ، أو ينعكس الأمر ، أو يفصل كما في الكفاية (١) بين ما إذا كان العموم بالوضع والمفهوم من مقدمات الحكمة فيتقدم العام ، وإذا انعكس الأمر ينعكس ، وان كان كلاهما بالإطلاق فلا ينعقد الظهور لشيء منهما إذا كانا في كلام واحد ، وان كانا معا بالوضع أو كانا في كلامين فلا يستقر لهما ظهور؟ وجوه.

والصحيح : انّ المفهوم إذا كان أخص مطلقا من العام يتقدم عليه مطلقا ، سواء كان العموم بالوضع وقلنا : بأنّ تخصيص العام مجازا ، أو كان بالإطلاق ، سواء قلنا :

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٦٣.

٢٩٧

بأنّ المفهوم مستند إلى الوضع أو إلى الإطلاق ، أو كان مستفادا من الوضع ومقدمات الحكمة معا كما هو المختار ، فانه متوقف على امرين ، أحدهما : رجوع القيد إلى الحكم وهو مستند إلى الوضع ، ثانيهما : عدم العدل للشرط وهو مستفاد من جريان مقدمات الإطلاق ، وذلك لأنّ ترجيح أحد الظهورين على الآخر انما يكون فيما إذا تحققت المعارضة بينهما ، فيتقدم الأقوى منهما ظهورا على غيره.

وامّا إذا لم يكن بينهما تعارض بنظر العرف ، بل كان أحدهما قرينة على الآخر بالفهم العرفي ، فيتقدم القرينة ولو كان ظهورها في نفسه مع قطع النّظر عن كونه قرينة من أدنى الظهورات ومستفادا من الإطلاق على ظهور ذي القرينة ولو كان بالوضع ومن أقوى الظهورات في نفسه ، ومن ثمّ لم يتوهم احتمال تقدم ظهور لفظ الأسد في الحيوان المفترس على ظهور الرمي في رمي النبل في قولك «رأيت أسدا يرمي» بعد ظهور كلمة يرمي في القرينية ، لكونها فضلة في الكلام.

وفيما نحن فيه بما انّ المفهوم على الفرض يكون خاصا ، لا محالة يكون قرينة على العام عرفا ، والشاهد على ذلك انه لو صرح بوجوب إكرام العالم مطلقا وقال : «يجب إكرام العالم أيّ عالم كان» ثم قال «لا تكرم زيد العالم» ووقعت المعارضة بين الحكمين بالعموم المطلق فيتقدم الثاني على الأول مع صراحته في الوجوب لعدم كونه بصيغة الأمر وكون الخاصّ ظاهرا في الحرمة ، إذ يحتمل حمل النهي فيه على بيان الفرد المرجوح ، ولا يتوهم عاقل من أهل العرف خلاف ذلك ، وعليه فيتقدم المفهوم فيما نحن فيه على تقدير تحققه وثبوته ولو كان في أدنى مراتب الحجية على العام ولو كان أقوى ظهورا في العموم ، فإذا كانا في كلام واحد لا ينعقد للعام ظهور أصلا ، وإذا كانا في كلامين لا يستقر له ظهور تصديقي على ما مر الكلام فيه.

ولهذا البحث ثمر مهم في الفقه لكثرة موارد المعارضة بين المفهوم والعموم في

٢٩٨

الاخبار ، من جملتها قوله عليه‌السلام «الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء» (١) مفهومه إذا لم يبلغ ذلك المقدار ينجسه شيء في الجملة ، وهو أخص من عمومات عدم انفعال الماء كقوله عليه‌السلام «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلّا ما غير طعمه أو ريحه» وفي بعض الاخبار «أو لونه» ولما ذكرناه لم يستشكل ظاهرا أحد من الفقهاء في تقديم المفهوم في هذه الروايات على تلك العمومات والإطلاقات.

وبالجملة : الخاصّ بمدلوله ولو كان معارضا مع العام إلّا انه بحجيته يكون حاكما عليه ، بمعنى انّ جريان أصالة الظهور والحجية الثابتة ببناء العقلاء في الخاصّ يمنع جريانها في العام لحكومتها عليها كما هو الشأن في كل قرينة وذي القرينة.

وبهذا ظهر عدم الفرق بين ما إذا كان المفهوم متصلا بالعامّ أو كان في كلام منفصل إلّا فيما بيناه كما وضح الحال أيضا فيما إذا كان المفهوم بمدلوله حاكما على العام ، كما في مفهوم آية النبإ وهي قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ)(٢) بناء على ثبوت المفهوم لها وهو حجية خبر العادل وعدم لزوم التبين عنه ، فانّ في المقام آيات وروايات مانعة عن العمل بغير العلم ، وإطلاقها يعم العمل بخبر العادل إذا لم يفد العلم ، كما انّ التعليل المذكور في الآية وهو قوله «ان لا تصيبوا» ظاهر في عدم جواز العمل إذا كان جهالة ولم يكن عن علم ورشد ، وإطلاقه يعم العمل بخبر العادل فيما لا يفيد العلم ، ولكن المفهوم على فرض ثبوته في نفسه يكون حاكما على الإطلاقين أي معدما ونافيا لموضوعهما الّذي هو أحد أنحاء الحكومة ، فانها لو ثبت للآية مفهوم يكون العمل بقول العادل علما تعبدا وخارجا عن موضوع ما دل على حرمة العمل بغير العلم فيتقدم المفهوم على الإطلاقات بلا شبهة ، وبيان ذلك : انّ العام والمطلق لا يثبت موضوع نفسه وانما هو حكم مجعول

__________________

(١) الاستبصار ـ ج ٢ ـ ص ٦.

(٢) الحجرات ـ ٦.

٢٩٩

على الموضوع المفروض وجوده ، بنحو القضية الحقيقية ، فثبوت العموم أو الإطلاق مبني على عدم ثبوت المفهوم ، وامّا المفهوم فغير متوقف على عدم العموم وإلّا لدار.

وبما بيناه ظهر فساد ما ذكره الميرزا قدس‌سره من انّ مفهوم الآية وان كان يتقدم على عمومات ما دل على النهي عن العمل بغير العلم إلّا انه لا يمكن تقديمه على التعليل المذكور في الآية لأقوائيته في الظهور ، فانّ الدليل الحاكم يتقدم على المحكوم كيف ما كان ضعيفا أو قويا على ما بين في محله. هذا كله فيما إذا كان المفهوم أخص من العام أو حاكما عليه.

وامّا إذا كان بينهما العموم من وجه ولم يكن في البين حكومة كما في مفهوم رواية الكر وإطلاق دليل الجاري كقوله عليه‌السلام «ماء النهر يطهر بعضه بعضا» وبإطلاقه يعم الكر والقليل ، كما انّ المفهوم بإطلاقه يشمل الجاري وغيره ، ومورد اجتماعهما الجاري القليل فانه ينفعل بمقتضى المفهوم ولا ينفعل بمقتضى إطلاقات الجاري ، وحينئذ ان كان في أحدهما مرجح كما هو كذلك في المقام فانّ تقديم المفهوم على روايات الجاري يوجب إلغاء عنوان الجاري بالكلية وكون أخذه لغوا ، فيتقدم الراجح وإلّا فان كان عموم المنطوق بالوضع فيتقدم على المفهوم وإلّا فيتساقطان ويرجع إلى الأصل العملي ، أن يحكم بالتخيير على الخلاف.

تعقب الاستثناء لجمل متعددة

فصل : إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة ، فهل يرجع إلى خصوص الأخير أو إلى المجموع ، أو انّ رجوعه إلى الأخير متيقن وامّا غيره من الجملات فلا يصح التمسك بعمومها أيضا لكونها من الكلام المحتف بما يصلح للقرينية فتكون مجملة؟ وجوه.

٣٠٠