دراسات في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

قابل الاتصاف بالعلم أو الجهل والفسق أو العدالة وهكذا لا بدّ وان يكون أخذ العرض فيه بنحو مفاد كان أو ليس الناقصة دون التامة ، فان كان الاتصاف له حالة سابقة يجري فيه الاستصحاب وإلّا فإثباته باستصحاب الوجود أو العدم المحمولي من أوضح أنحاء المثبت ، وذلك لأنه لو كان العرض المأخوذ فيه بنحو مفاد كان التامة ، فاما ان يكون المعروض حينئذ في المرتبة السابقة مطلقا بالإضافة إلى اتصافه بهذا العرض أو مقيدا بعدمه فيلزم التضاد لما عرفت من استحالة بقاء العام على سعته مع ثبوت المخصص لأنه مستلزم لاجتماع الضدين ، واما ان يكون المعروض مقيدا بالاتصاف به فيكون حينئذ اعتبار العرض بنحو مفاد كان التامة لغوا ، ولا يقاس هذا القسم بالأقسام المتقدمة.

الثالثة : انّ الوجود والعدم المحمولين لا يمكن اجتماعهما لاستلزامه اجتماع النقيضين ، ولا ارتفاعهما لاستلزامه ارتفاع النقيضين ، وامّا النعتان فاجتماعهما غير ممكن أيضا ، فلا يقال زيد عالم وزيد ليس بعالم إلّا مع تعدد الجهة ، واما ارتفاعهما فممكن بنحو القضية السالبة المحصلة فيما لم يكن المحل قابلا للاتصاف بذاك الوصف ولا يلزم منه ارتفاع النقيضين ، فانّ نقيض الاتصاف بالوجود ليس هو الاتصاف بالعدم وانما هو عدم الاتصاف ، فيصح ان يقال : الجدار ليس بعالم وليس بلا عالم بنحو القضية المحصلة لا معدولة المحمول من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، فانّ القضية المعدولة المحمول لا بدّ فيها من وجود الموضوع ، كما لا بدّ منه في القضية الموجبة لثبوت النسبة في كلتيهما ، فلا يقال زيد لا عالم إلّا في فرض وجوده.

ثم رتب قدس‌سره على هذه المقدمات عدم جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية وعدم إمكان إحراز الموضوع فيما نحن فيه بضم الوجدان إلى الأصل.

ونقول : أمّا ما أفاده في المقدمة الأولى فمتين جدا.

وامّا ما ذكره في الثانية في الموضوع المركب من جوهرين ، أو عرضين في

٢٦١

محلين أو محل واحد ، أو جوهر وعرض في محل آخر من كونهما مأخوذين محموليا لا نعتيا فيجوز التمسك باستصحاب الوجود أو العدم المحموليين وإحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل فكذلك متين. وهكذا ما ذكره في القسم الخامس أي الموضوع المركب من جوهر وعرض في ذلك المحل من انّ ظاهره اعتبار الاتصاف دون مجرد اجتماع الأمرين في زمان واحد ، لا لما ذكره من سبق مرتبة الاتصاف وانقسام الموضوع إليه على أخذ الغرض في الموضوع ، فانّ أخذ الوصف في الموضوع فيه يغني عن أخذ الاتصاف على ما ستعرفه ، بل لأنّ العرض ليس له وجودان ، وانما له وجود واحد غايته وجوده لنفسه عين وجوده لموضوعه ، فالاختلاف بالاعتبار ، فلا فرق بين أخذ الاتصاف في الموضوع أو أخذ الوصف فيه ، ولا فرق بين ان يقال زيد متصف بالعدالة أو العدالة موجودة فيه ، فمؤداها واحد والاختلاف في التعبير. فاذن لو كان لوجود العرض في ذاك المحل حالة سابقة فلا محالة يكون للاتصاف حالة سابقة وهكذا العكس ، بل عرفت انّ كلا من الأمرين في الحقيقة يرجع إلى الآخر ، لما ذكرنا من انّ وجود العرض لنفسه عين وجوده لموضوعه وهذا واضح. وعلى هذا لا مجال لما أفاده من انّ الموضوع في المرتبة السابقة امّا ان يكون مقيدا بالاتصاف فأخذ الوصف حينئذ لغو ، أو مطلق بالإضافة إليه أو مقيد بعدمه ، فيلزم التناقض ، فانّ أخذ الوصف في المحل مغني عن أخذ الاتصاف فيه.

ولكن عمدة خلافنا مع المحقق المزبور الّذي عليه يدور جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية هو : انّ هذا انما يتم في ما إذا كان الموضوع مركبا من وجود العرض ومحله ، لا في الموضوع المركب من الجوهر وعدم الوصف فيه ، فانّ العرض وجوده لنفسه عين وجوده لموضوعه ، وليس عدمه كذلك ، فحال الموضوع المركب من الجوهر وعدم العرض حال بقية الأقسام المتقدمة التي يحتاج أخذ الاتصاف فيها إلى مئونة زائدة ، وظاهر أخذه في الموضوع أخذه محموليا بنحو مفاد ليس التامة ، لا

٢٦٢

الناقصة. وعليه ففي المقام بعد ورود المخصص يكون الموضوع في العام بحسب المراد الجدي مركبا من عنوان العام وعدم كونه معنونا بالعنوان المأخوذ في الخاصّ ، فيجري فيه استصحاب العدم الأزلي كما في المرأة التي يحتمل كونها قرشية فيستصحب عدم انتسابها إلى قريش قبل وجودها.

وبالجملة : ما أفاده في المقدمة الأولى صحيح ، فانّ الخاصّ يوجب تعنون العام بغير عنوان الخاصّ سواء كان متصلا أو منفصلا وهكذا ما ذكره في المقدمة الثالثة من إمكان ارتفاع الوجود والعدم النعتيين لعدم التناقض بينهما ، فانّ نقيض كل شيء رفعه ، فنقيض الاتصاف بالوجود عدمه لا الاتصاف بالعدم ، فيصح ان يقال : زيد قبل وجوده لا عالم ولا لا عالم ، وهذه قضية محصلة سالبة بانتفاء الموضوع التي مفادها نفي الاتصاف ، وامّا الموجبة المعدولة المحمول فبما انّ مفادها الاتصاف بالعدم فلا تصح إلّا بعدم وجود الموضوع ، وهذا واضح.

وانما الكلام في المقدمة الثانية التي أفادها ، فانّ الموضوع المركب من الجوهر وصفة وان كان ظاهره دخل الاتصاف فيه كما عرفت إلّا انه لا يتم فيما إذا أخذ عدم الوصف في الموضوع ، فانّ طبع أخذ العدم في شيء يقتضي ان يكون بنحو السالبة المحصلة أي عدما محموليا لا الموجبة المعدولة المحمول أي العدم النعتيّ كما هو الحال فيما إذا أخذ الموضوع مركبا من جوهرين أو من وجود جوهر وعدم الآخر ، فأخذ عدم الوصف في الموضوع ناعتيا يحتاج إلى مئونة زائدة ولحاظ ارتباطه بينه وبين الجزء الآخر ، وبدون ذلك لا يتحقق المقسم لانقسام الموضوع إلى الإطلاق أو التقييد بالقياس إلى الاتصاف بالعدم ، فلا مجال فيه لشيء مما ذكره المحقق المزبور في الموضوع المركب من الجوهر ووصفه ، فانه انما يتم بالإضافة إلى الأوصاف التي ينقسم الموضوع إلى الاتصاف بها وعدمه في طبعه ونفسه لا في ما يتوقف تحقق المقسم على اعتبار الشارع كما في المقام ، فانه لو لم يعتبر ذلك لا يبقى مجال للانقسام

٢٦٣

ولا لإطلاق الموضوع بالقياس إليه وتقييده.

نعم بعد ما اعتبر ذلك وتحقق المقسم والانقسام يمكنه رفض تقيده بالاتصاف فيثبت الإطلاق ، كما يمكنه أخذه وجودا أو عدما ولو لا هذا لانسد جريان الاستصحاب في الموضوعات المركبة مطلقا حتى الأقسام الأربعة المتقدمة ، لجريان ما ذكره قدس‌سره من انقسام الموضوع من حيث الاتصاف مع جزئه الآخر وعدمه فيها إلى آخر ما أفاد ، وهذه هي النكتة الوحيدة في جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية ، وقد أطلنا الكلام في بيان ذلك في مبحث اللباس المشكوك.

وكيف كان على هذا يكون العدم المأخوذ في الموضوع المركب من الجوهر وعدم وصفه عدما محموليا بحسب طبعه من دون لزوم لغوية ولا اجتماع ضدين أو نقيضين. ففي المثال المعروف المرأة التي تحيض إلى خمسين هي المرأة التي لا تتصف بهذه الصفة ، وعدم اتصافها بها أزلي يشك في تبدله حين وجودها ، فيستصحب ، فيلتئم الموضوع من دون ان يكون هذا الاستصحاب مثبتا.

ثم انه قدس‌سره أشكل على الآخوند بإيراد لفظي وهو انه لما ذا استصحب عدم الانتساب؟ فانه لو كان جاريا يستصحب نفس عدم القرشية. وفيه ما لا يخفى ، فانّ القرشية ليس إلّا الانتساب إلى قريش فما كان يفهم من ياء النسبة صرح به الآخوند قدس‌سره.

ثم انّ من جملة أمثلة المقام ، المثال المعروف وهو اللباس المشكوك كونه من غير المأكول ، فانه يجوز الصلاة في كل شيء خرج عنه عنوان اجزاء ما لا يؤكل ، فإذا شك في لباس انه من المأكول أو غيره ، فهل يمكن إحراز عدم كونه من غير المأكول بالاستصحاب أم لا؟

فصل في ذلك بين ما إذا كان هذا الوصف معتبرا في المصلي كالطهارة ، أو معتبرا في نفس الصلاة كما هو ظاهر حديث أبي بكير ، أو شرطا للباس ، فعلى الأول

٢٦٤

يجري استصحاب عدم كون المصلي لابسا لغير المأكول ، وعلى الثاني يجري استصحاب كون الصلاة في غير المأكول فيما إذا احتمل وقوع شيء من اجزائه عليه في أثناء الصلاة ولم يحتمله من أول شروعه فيها ، وعلى الثالث يجري فيما إذا كان الشك في اللباس طارئا لأجل التصاق شيء به غير نفسه كالدكمة والقيطان ونحو ذلك.

ونقول : امّا على المختار من جريان استصحاب العدم الأزلي فتصح الصلاة فيه على جميع الفروض والتقادير كما هو واضح. وامّا بناء على عدم جريانه وكون الشرط معتبرا في اللباس كما هو ظاهر الفقهاء ، ومن ثم تعرضوا له في مبحث لباس المصلي ، فهل يمكن تصحيح الصلاة فيه باستصحاب العدم النعتيّ أم لا؟

المختار هو الأول ، وذلك لأنّ الاستصحاب لا يختص جريانه بالاعراض الخارجية وجودا أو عدما ، بل يجري في الصور النوعية أيضا ، فلو شككنا في زوال الصورة النوعية عن شيء واتصافها بصورة نوعية أخرى نقول تلك المادة كانت متصفة بالصورة الأولية ونشك في زوال اتصافها بها فنستصحبه ، وكانت متصفة بعدم الاتصاف بالصورة الأخرى فنستصحبه ، مثلا إذا احتملنا تبدل الخمر بالخل نجري استصحاب اتصاف المادة بالصورة الخمرية وعدم الخلية. والظاهر انّ جريان هذا الاستصحاب مما لا إشكال فيه ، كما انه في مورد العلم الإجمالي باتصاف المادة بإحدى الصورتين من الخمرية والخلية لا يكون استصحاب عدم اتصافها بالصورة الخمرية معارضا باستصحاب عدم اتصافها بالخلية ، فانه لا يثبت خمريتها إلّا على القول بالأصل المثبت ، ولا يترتب عليه أثر آخر فلا يجري أصلا.

وبعد وضوح الأمرين من جريان الاستصحاب في الصورة النوعية ، وعدم كون معارضا في مورد العلم الإجمالي في نظائر المثال ، نقول : في ما نحن فيه بما انّ جميع اجزاء الحيوان متبدّلة مما يأكله أو يشربه من الغذاء والشراب ، ولا وجه لما

٢٦٥

ذكره بعض المتكلمين في دفع شبهة اتحاد الآكل والمأكول من انّ غذاء الإنسان لا ينقلب جزء منه ، وانما يوجد الله تعالى اجزائه من غير شيء ، فانه مخالف للبداهة وللاخبار والروايات ، فمهما شككنا في كون شيء جزء من غير المأكول نقطع بأنّ مادته حين كانت متصورة بالصورة الغذائية قبل ان تؤكل كانت متصفة بعدم كونها من غير المأكول فنستصحب اتصافها بعدم تلك الصورة ، وهو عدم نعتي كما هو واضح ، ولا يعارضه استصحاب اتصافها بعدم الصورة المأكولية ، إذ لا أثر له كما عرفت.

وبالجملة يمكن تصحيح الصلاة في اللباس المشكوك بوجوه ثلاثة :

استصحاب العدم الأزلي ، وان أنكرناه ، فاستصحاب عدم اتصاف المادة بالصورة النوعية غير المأكولة ، وان منعناه ، فاستصحاب عدم مانعية ذلك اللباس بالخصوص بمعنى عدم تقيد الصلاة بعدم لبسه ، وقد بينا في مبحث البراءة انّ مرجع الشك في تقيد المركب بشيء هو البراءة دون الاشتغال.

هذا كله في اللباس المشكوك.

التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية فيما إذا كان المخصص لبيا :

ثم انه ذهب جماعة إلى جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية فيما إذا كان المخصص لبيا ، بدعوى : انّ مرجع التخصيص بحكم العقل إلى القطع بعدم إرادة العموم من اللفظ ، فلو ورد «أكرم كل عالم» وعلمنا بقبح إيجاب إكرام من يعمل بالقياس كأبي حنيفة فنعلم بخروجه وخروج أمثاله عن العموم بذاك الملاك ، فكل فرد علمنا بخروجه عن العام يخرج ، وما لم نعلم بخروجه يكون داخلا تحت العام. وهذا بخلاف المخصص اللفظي ، فانّ فيه يكون هناك حجتين نسبة الفرد المشكوك إلى كل منهما على حد سواء.

وقد تنظر المحقق النائيني قدس‌سره في ذلك ، وحاصل ما ذكره هو انّ المخصص اللبي

٢٦٦

تارة : يكون حكما عقليا بديهيا ، فيكون بمنزلة المخصص المتصل ، كما لو ورد في الدليل «أكرم كل عالم» فانا نقطع بعدم شموله للعالم بالرقص والموسيقى مثلا ، بل المراد منه علماء الدين أو الدنيا مما ينفع الناس ، فلا ينعقد للعام ظهور إلّا في ذلك ، فإذا شككنا في فرد انه عالم ديني أو عالم بالرقص لا ينبغي الريب في عدم جواز الرجوع فيه إلى العام.

وأخرى : يكون من قبيل المخصص المنفصل كالإجماع مثلا ، فلو فرضنا تحقق الإجماع وانعقاده على عدم وجوب إكرام شارب الخمر منهم فانّ ذلك يكشف عن انّ المراد الجدي من العام غير شارب الخمر ، فمع الشك في فرد لا يمكننا التمسك بالعموم. وكان قدس‌سره يعبر ويقول الميزان انما هو المنكشف لا الكاشف ، والمنكشف ليس إلّا وجوب إكرام العالم غير الشارب للخمر ، فلا يعم الفرد المشكوك ، فلا فرق بين المخصص اللبي واللفظي.

نعم استثنى قدس‌سره عن ذلك موردا واحدا وهو ما إذا كان الشك في الفرد المشكوك من جهة الشك في الملاك ، فانه إذا علمنا بعدم اشتمال فرد على الملاك نقطع بخروجه عن العموم لا محالة ، بناء على مسلك العدلية من تبعية الأحكام للمصالح اما في نفسها أو في متعلقاتها. وامّا لو شككنا في ذلك فبما انّ كشف الملاك من وظائف المولى لا يعقل ان يكون الموضوع مقيدا بثبوت الملاك فيه عند الشك في ثبوت الملاك للمكلف ان يمتنع عن امتثال تكليف المولى معتذرا بعدم إحرازه الملاك ، فلا محالة في المقام يتمسك بالعموم ونحرز ثبوت الملاك للفرد المشكوك بذلك.

هذا والظاهر عدم تمامية ذلك على إطلاقه ، بل لا بدّ من التفصيل ، فنقول : امّا في القضايا التي تكون من قبيل القضايا الحقيقية مما يكون تطبيق الموضوع فيها موكولا إلى المكلف فإذا علمنا بعدم ثبوت الملاك في فرد مع كونه فردا من الموضوع ، فلا بدّ وان يكون ذلك لثبوت مانع في ذاك الفرد ، فلا يخلو امّا ان يكون

٢٦٧

ذلك المانع معينا عندنا ، أو يتردد بين امرين أو أكثر ، مثلا نفرض انّ المانع عن ملاك وجوب إكرام العالم في زيد العالم كونه شارب الخمر أو تارك الصلاة مثلا ، فلا يخلو امّا ان يكون المانع خصوص الأول ، أو كلا الأمرين ، أو أحدهما معينا أو مرددا ، أو نعلم في مانعية الأول ونحتمل مانعية الثاني أيضا ، وعلى أيّ ما هو مانع في زيد من اشتماله على الملاك يكون مانعا عنه إذا وجد في فرد آخر أيضا لتساوي الافراد من هذه الجهة ، فلا بدّ حينئذ من ان يكون الحكم العام مقيدا بعدم تحقق تلك الخصوصية وان لم يكن الموضوع مقيدا بالملاك كما أفاد.

فعلى الأولين يكون العموم وهو قوله «أكرم كل عالم» مقيدا بغير شارب الخمر ، أو بان لا يكون تارك الصلاة وشارب الخمر ، أو بان لا يكون متصفا بأحد الوصفين على الثالث ، وقد عرفت عدم جواز التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية سواء كان المخصص لفظيا أو غير لفظي ، وعلى الرابع يكون ذلك من قبيل المخصص المجمل ، وقد عرفت انّ إجماله يسري إلى العام ، وعلى الخامس يلحق بدوران المخصص بين الأقل والأكثر ، وذكرنا جواز الرجوع فيه إلى العموم فيرجع إليه في المقام أيضا. وبالجملة : فتجري في الفرض جميع الوجوه المذكورة في المخصص اللفظي وتفاصيلها.

وامّا فيما يكون من قبيل القضايا الخارجية ، فبما انّ تطبيق الموضوع فيها بيد المولى ولا بدّ له ان يطبق حكمه على ما فيه الملاك دون غيره ، ولو علمنا بعدم اشتمال فرد من افراد موضوع حكمه على الملاك لا محالة نحكم باشتباه المولى وغفلته عن ذلك فيما كان من الموالي العرفية ، أو بثبوت مانع عن إخراجه أو مصلحة في إدخاله في الموضوع. واما لو شككنا في ذلك فكما ذكر قدس‌سره لا يمكننا رفع اليد عن امتثال تكليف المولى بعدم إحراز ثبوت الملاك ، بل نحرزه من تعلق التكليف به ، ومن هذا القبيل (لعن الله بني أمية قاطبة).

٢٦٨

وحاصل الكلام في المقام انّ شيخنا الأنصاري قدس‌سره ذهب إلى جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية فيما إذا كان المخصص لبيا ، ولا يقاس ذلك بالمخصص اللفظي ، وذلك لأنّ فيه يكون هناك حجتان ، ونسبة الفرد المشتبه إلى كل منهما نسبة واحدة ، ولا ترجيح في البين ، وهذا بخلاف المقام فانّ المخصص اللبي انما هو بمنزلة القطع الخارجي ، فلا يرفع اليد عن العام الّذي كان حجة في الفرد المشتبه.

وقد فصل الميرزا قدس‌سره بما يظهر الجواب عنه بما نبينه من المختار. وليعلم انّ هذه المسألة مما يتفرع عليها ثمر فرعي لكثرة تخصيص العام بالإجماع والسيرة ونحوهما من الدليل اللبي وان لم يكن تخصيص العمومات بحكم العقل كثيرا.

فنقول : تارة يكون العام المخصص بالدليل اللبي من قبيل القضايا الحقيقية ، كما هو الغالب فيما هو محل ابتلائنا من الأحكام الفرعية ، وأخرى ، يكون من قبيل القضايا الخارجية.

اما ما كان من قبيل الأول ، فلا فرق فيه بين المخصص اللفظي والمخصص اللبي أصلا ، وذلك لأنه بعد ما قطعنا بخروج فرد عن عموم العام وحكم به العقل فبما انّ حكم العقل لا يكون جزافا ، فلا بدّ وان نفتش عن أوصاف الفرد الخارج لنرى ما هو السبب والملاك في خروجه ، فان تمكنا من تعيينه فلا محالة يكون المراد الجدي من العام ما لم يكن فيه ذاك الوصف سواء كان وجوديا أو عدميا كما في المخصص اللفظي ، ومن الواضح عدم شموله للفرد المشتبه ، فلا يمكن التمسك فيه بالعموم. وان لم نتمكن من تعيينه ، فاما ان يتردد بين متباينين فلا محالة إجماله يسري إلى العام على ما عرفت في المخصص اللفظي ، فيكون العام مجملا ، واما يكون مرددا بين الأقل والأكثر كما لو فرضنا انا أحرزنا كون وصف شرب الخمر والنّظر إلى الأجنبية معا مانعا عن وجوب الإكرام لكن احتملنا كفاية كل منهما في المنع عن وجوب الإكرام فنتمسك بالعموم في الزائد على المتيقن كما عرفت في المخصص اللفظي. هذا كله في

٢٦٩

القضايا الحقيقية.

وامّا إذا كان العام من قبيل القضايا الخارجية التي هي خارجة عن محل ابتلائنا ، ونتعرض له تتميما للبحث ، فان وكلّ المولى مع ذلك تطبيق الموضوع إلى العبد كما لو فرضنا انه ورد بلدة لا يعرف أهلها فقال لعبده : «أضف علماء البلد» فانّ ظاهره إيكال تطبيق الموضوع على ما في الخارج إلى العبد ، يجري فيه ما قدمناه في القضايا الحقيقية حرفا بحرف ، فإذا قطع بعدم وجوب ضيافة أحدهم لا بدّ من الفحص والتفتيش على ما تقدم. وان تكفل المولى التطبيق أيضا كما لو قال لعبده «بع جميع الكتب الموجودة في الغرفة الخاصة» فان كان المخصص حينئذ حكما عقليا ضروريا فهو بمنزلة المخصص المتصل الّذي لا ينعقد معه ظهور للعام أصلا ، فلا معنى فيه للرجوع إلى العام في الفرد المشتبه ، وان كان حكما عقليا نظريا الّذي هو كالمخصص المنفصل فيرجع في الزائد عن متيقن الخروج إلى عموم العام لا محالة ، لأنّ المولى هو الّذي طبق الموضوع على جميع الافراد ، ففيما قطعنا خروجه لا بدّ لنا من الحكم بأنّ المولى غفل عن إخراجه أو كانت مصلحة في إدخاله ان كان المولى حكيما ، وامّا الفرد المشكوك فنرفع الشبهة فيه بتطبيق المولى موضوع حكمه عليه ، ففي المثال المتقدم لو علمنا بأنّ الكتاب الخاصّ وقف والمولى لا يأمر ببيعه لا محالة نقطع بأنه غفل عن استثنائه أو كان هناك مفسدة فيه ، واما لو شككنا في فرد آخر في انه وقف أم لا فنتمسك بكلامه ونحكم بعدم وقفيته ، لأنه أعرف بكتبه ، إذ لو كان وقفا لما امر ببيعه ومن هذا القبيل قوله «لعن الله بني أمية قاطبة» فانا لم نعثر على أمرهم عليهم‌السلام بلعن بني أمية ليكون من قبيل القضايا الحقيقية ، فليس في البين إلا ما صدر منهم عليهم‌السلام من لعنهم قاطبة ، ونقطع من الخارج بعدم جواز لعن المؤمن ، فان كان هذا حكما ضروريا بمنزلة المخصص المتصل ، فلا محالة لا يجوز لنا لعن من نشك في إيمانه منهم ، إذ لا ظهور على هذا لقولهم عليهم‌السلام «لعن الله بني أمية قاطبة» إلّا في لعن

٢٧٠

غير المؤمن منهم. واما لو لم يكن كذلك بل كان عدم جواز لعن المؤمن منهم حكما لبيا نظريا ، فمن تيقنا بإيمانه منهم لا يجوز لنا لعنه ، ومن شككنا في إيمانه يجوز لعنه لعموم قولهعليه‌السلام «لعن الله بني أمية قاطبة».

هذا ومحصل ما ذكر انّ ما أفاده الشيخ قدس‌سره من الرجوع إلى العموم في المخصص اللبي انما يتم هذا الفرض لو كان الحكم اللبي من الأحكام النظرية. كما انّ ما أفاده الميرزا أيضا مورده خصوص هذا الفرض فيما إذا كان المخصص من الأحكام الضرورية.

هذا تمام الكلام في التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

الشك في شمول العام لفرد من غير جهة احتمال التخصيص

ثم انّ بعضهم ذهب إلى جواز التمسك بالعموم فيما إذا شك في شمول الحكم العام لفرد من غير جهة احتمال التخصيص ، كما إذا نذر الإتيان بشيء من العبادات كالوضوء أو الغسل بمائع مضاف كماء الورد مثلا وشك في شمول دليل الوفاء بالنذر له وعدمه فيتمسك بعموم دليل وجوب الوفاء بالنذر ويثبت به تعلق الأمر المولوي بذاك الوضوء أو الغسل ، وبما انّ المولى لا يأمر بالفاسد فينكشف منه صحته ، وحيث لا فرق في صحة العمل بين تعلق النذر به وعدمه تستفاد صحة الوضوء أو الغسل بالماء المضاف مطلقا تعلق النذر به أم لم يتعلق.

ونقول : أولا لا بدّ لنا من تحليل هذه الكبرى ، أعني الشك في شمول الحكم العام لفرد وعدمه من غير جهة احتمال التخصيص ، فانّ الشك في ذلك لا يخلو امّا ان يكون بعد شمول الموضوع العام له بماله من القيود ، فلا بدّ وان يكون الشك من جهة التخصيص واحتمال كونه مصداقا للمخصص ، فيجري فيه ما تقدم. واما ان يكون

٢٧١

من جهة الشك في شمول الموضوع المأخوذ في العام بماله من القيود له في نفسه ، فالشك في ذلك من غير جهة احتمال التخصيص منحصر بالثاني.

وعليه فان كان منشأ الشك في ثبوت الحكم لفرد أخذ أمر وجودي في موضوع العام يشك في ثبوته للفرد المشكوك فتكون الشبهة مصداقية مع اتصال المخصص ، ولا يجوز التمسك فيها بالعموم اتفاقا ، وان كان منشؤه أخذ أمر عدمي بمعنى إخراج بعض الافراد عن العموم الّذي هو من قبيل المخصص المنفصل وشك في ثبوت الحكم العام لفرد لاحتمال كونه منها ، فيلحقه حكم التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية في فرض انفصال المخصص وقد عرفت انّ المختار عدم جوازه.

فهذه الكبرى فسادها ظاهر بعد التحليل. نعم لو بنينا على جواز الرجوع إلى العموم في أمثال المقام. فبما أنّ أصالة العموم من الأصول اللفظية يثبت بها لوازمها ، فلو أمكن الرجوع إلى عموم دليل وجوب الوفاء بالنذر في المثال لثبت به صحة الوضوء أو الغسل التي هي من لوازمه.

هذا كله في الكبرى.

وامّا الصغرى والمثال المذكور فتفصيل الكلام فيها انّ الأدلة المتكفلة للأحكام الثابتة للعناوين الثانويّة تارة : يكون الموضوع فيها مقيدا بالرجحان أو بالجواز ، امّا بنفس ذاك الدليل ، أو بدليل منفصل آخر كما في دليل وجوب الوفاء بالنذر أو الشرط ، أو استحباب إجابة المؤمن ، أو الوالد أو الزوج لما ورد من أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، أو قولهعليه‌السلام «المؤمنون عند شروطهم إلّا ما أحل حراما أو حرم حلالا» وأمثال ذلك.

وأخرى : لا يكون الحكم الثابت للعنوان الثانوي مقيدا بشيء من ذلك أصلا.

امّا على الأول فإذا شككنا في شمول عموم الحكم الثابت بالعنوان الثانوي لمورد للشك في جوازه وحرمته ، كما لو أمر الوالد بشرب التتن ، وشككنا في إباحته ،

٢٧٢

فان كان هناك أصل عملي يثبت به جوازه كما لو فرض الشبهة بدوية بعد الفحص فلا محالة يدخل المشكوك في موضوع دليل الحكم الثابت للعنوان الثانوي ويعمه حكمه ، وان لم يكن في البين أصل عملي كما لو فرضنا الشبهة في أطراف العلم الإجمالي ، نظير ما إذا امر مؤمن بشرب أحد المائعين المعلوم نجاسة أحدهما ، أو كانت حكمية قبل الفحص ، فلا يجوز التمسك بعموم ذاك الدليل أصلا ، لأنّ الدليل لا يتكفل إثبات موضوعه ، بل هو من التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية الّذي تقدم الكلام فيه ، خصوصا في أمثال المقام الّذي يكون المخصص فيه عنوانا وجوديا قد اعتبر في العام الّذي يكون بحكم المخصص المتصل والمثال من هذا القبيل.

وامّا على الثاني فتارة : يكون الحكم الثابت للشيء بعنوانه الأولي بنظر العرف في مقام الجمع حكما طبيعيا لموضوعه ، أي ثابتا له في طبعه وقد ذكرنا في مبحث اللباس المشكوك انّ المراد مما لا يؤكل لحمه المعتبر في اللباس هو ما يحرم أكله في نفسه وطبعه ، ولا يعم ما إذا فقد الحرمة لعارض ، فيثبت حينئذ الحكم الثابت له بالعنوان الثانوي ، إذ لا منافاة بينهما مثلا ثبتت إباحة أكل لحم الغنم في نفسه ، فإذا فرضنا انه كان مضرا بالنفس أو مستلزما لإفطار صوم يوم واجب صومه فبما انّ العرف في مقام الجمع بين الحكمين لا يرى معارضة بينهما ، بل يحكم بأنّ الإباحة حكم طبعي للّحم ، والحرمة حكم ثابت له بعنوان الإضرار أو الإفطار ، فيتقدم الحكم الثانوي.

واما لو كان كلا الحكمين فعليا كما هو ظاهر في موارد الأحكام الإلزامية فلا محالة يقع التنافي بينهما ، وقد ذهب الآخوند قدس‌سره إلى إدخال ذلك في باب التزاحم وتقديم أقوى الملاكين من ملاك الوجوب والحرمة. ولكنه مخدوش من وجهين :

الأول : انه يعتبر في المتزاحمين تمامية الحكمين من حيث مقام الجعل وإمكان جعلهما معا ، غايته انّ المكلف لا يقدر على امتثالهما فيقدم الأقوى ملاكا ، وفي المقام

٢٧٣

تعلق حكمين بشيء واحد ولو بعنوانين مستحيل جعلا ، لأنه مستلزم لاجتماع الضدين ، فنعلم بعدم ثبوت جعل أحدهما لا محالة ، وهذا معنى التعارض ، فلا بدّ من علاجه ، فان كان بينهما جمع دلالي بان كان أحد الدليلين أخص مطلقا من الآخر يتقدم عليه ، وإلّا فيتساقطان ويرجع إلى أصل آخر.

الثاني : انه لو سلمنا ذلك والحق المقام بباب التزاحم فنقول : وجوب تقديم الأقوى ملاكا بإطلاقه غير صحيح ، وذلك لأنّ المقدار الزائد من الملاك الثابت في الأقوى إن كان ملزما يجب الترجيح ، وإلّا فيستحب ذلك.

بقي الكلام في الفرعين المذكورين في المقام من نذر الإحرام قبل الميقات ، والصوم في السفر ، وانه كيف يصح ذلك بالنذر مع انه يعتبر الرجحان في متعلق النذر ، ولا رجحان في شيء منهما على ما صرح به في الاخبار ، وقد ذكر لذلك وجوه ثلاثة :

الأول ـ احتمال ان يكون كل من الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر مشتملا على مصلحة ، غاية الأمر هناك مانع عن امر المولى به ، وبالنذر يرتفع المانع.

وفيه : أولا ـ انه خلاف ظاهر الأدلة.

وثانيا ـ لازمه صحة الإتيان بكل منهما بدون النذر أيضا لاشتماله على المصلحة ، وعدم الأمر به لمانع لا يوجب فساده ، ولا يلتزم بذلك.

الثاني ـ انّ الرجحان المعتبر في متعلق النذر انما هو رجحانه في ظرف العمل لا في زمان النذر ، ولذا ينعقد من الحائض نذر صوم يوم بعد انقضاء حيضها ، وهو حاصل في المقام ولو بالنذر.

وقد ذكر ذلك السيد في العروة. وأورد عليه الميرزا قدس‌سره في حاشيته بما حاصله : انّ الرجحان الناشئ من قبل النذر لو كان كافيا لزمه صحة تعلق النذر بالمحرمات

٢٧٤

أيضا ، فانها تكون راجحة بالنذر.

والظاهر انّ إيراده غير وارد ، وذلك لأنّ مراد السيد قدس‌سره وغيره من الرجحان في ظرف العمل ليس الرجحان الناشئ من قبل النذر ، بل المراد به الرجحان الثابت ولو بعد النذر غايته انّ ثبوته يحتاج إلى دليل ، وقد يكون الدليل عليه نفس ما دل على صحة النذر إذا تعلق به كما في المقام ، فإشكاله قدس‌سره على السيد غير وارد.

إلّا انّ ما ذكر خلاف ظواهر الأدلة.

الثالث ـ وهو الصحيح ، الالتزام بالتخصيص وانّ الرجحان معتبر في متعلق النذر إلّا في الموردين ولا بأس بذلك.

التمسك بالعامّ لإثبات التخصص

ثم انه قد تكرر منا انّ الأصول اللفظية حجة في مثبتاتها ، وعليه فإذا ورد عام وورد خاص أيضا وشككنا في كونه مخصصا له مثلا ورد «أكرم علماء البلد» وقال «لا تكرم زيدا» وتردد بين زيد العالم والجاهل ، فيتمسك بأصالة العموم في وجوب إكرام زيد العالم ، ولازمه ثبوت الحرمة لإكرام زيد الجاهل. ونظير هذا ما إذا قامت البينة على طهارة أحد الإناءين معينا المعلوم نجاسة أحدهما ، فانه يثبت به نجاسة الإناء الآخر ، وهذا واضح.

وامّا إذا علمنا حكم فرد وانه خارج عن حكم العام ولكن شككنا في انّ خروجه بنحو يوجب التخصيص في العام ، أو بنحو التخصص ، مثلا لو علمنا بأنّ زيدا يحرم إكرامه ولكن شككنا في انه عالم يحرم إكرامه ليكون تخصيصا في دليل إكرام العلماء ، أو انه جاهل يحرم إكرامه ليكون تخصصا ، فهل يمكن في مثل ذلك التمسك بأصالة العموم والحكم بجهله ليترتب عليه آثاره لو كان له آثار أم لا؟

٢٧٥

ومثاله الفقهي ماء الاستنجاء ، فانه لا يتنجس قطعا للأدلة الخاصة ، ولكن يشك في انه متنجس لا ينجس ليكون ذلك تخصيصا لعموم انّ كل منجس يتنجس ، أو انه طاهر ولا ينجس ليكون تخصصا فيترتب عليه لوازم الطهارة من جواز الشرب ونحوه.

الظاهر عدم إمكان إثبات التخصص في المقام بأصالة العموم ، لا من جهة أنّ الأصول اللفظية لا تثبت مثبتاتها ، بل لعدم جريان أصالة العموم وعدم حجيتها في أمثال المقام ، فانّ دليل حجيتها ليس إلّا بناء العقلاء ، وبنائهم في الرجوع إليها انما هو فيما إذا شك في ثبوت الحكم العام لفرد وعدمه لا فيما إذا علمنا بخروج فرد عنه وتردد خروجه بين كونه بنحو التخصيص أو التخصص ، فلم يثبت حجية أصالة العموم في المقام ليترتب على ذلك آثار التخصص ولوازمه امّا بعكس النقيض أو بغيره.

٢٧٦

التمسك بالعامّ قبل الفحص

وقع الكلام في جواز التمسك بالعامّ قبل الفحص. وهذا النوع غير مختص بالعمومات ، بل يجري في مطلق التمسك بالظهورات عند احتمال وجود قرينة على إرادة خلاف الظاهر منها ، ولذا يتعرض له في مبحث حجية الظواهر أيضا وهو جار في بحث المطلق والمقيد ونظائره. وقد ذكروا انه كما لا يجوز التمسك بالأصول العملية قبل الفحص كذلك لا يجوز التمسك بالأصول اللفظية قبل ذلك.

وهل هناك فرق بين الفحص في الموردين أم لا؟ ذهب صاحب الكفاية (١) إلى الأول ، وانّ الفحص في المقام فحص عن المانع والمزاحم الأقوى فانّ العام حجة في العموم وانما يفحص عن الحجة الأقوى المزاحمة له ، وامّا الفحص في التمسك بالأصول العملية فانما هو عن المقتضى ، فانّ العقلية منها وهي قبح العقاب بلا بيان موضوعها متقوم بالفحص ، وقبله لا موضوع له أصلا ، واما الشرعية منها كحديث الرفع فموضوعه في نفسه وان كان مطلقا غير مقيد بالفحص ولكنه مقيد به بالإجماع ، أو بالأخبار كقوله في بعضها «هلّا تعلمت» فيكون الفحص في مطلق الأصول العملية فحصا عن المقتضي والموضوع بخلاف المقام.

وقد أورد على ذلك بعدم الفرق بين الموردين ، وحاصل ما قيل : انّ بناء العقلاء والسيرة الثابتة على العمل بأصالة العموم ونحوها ان لم يكن مقيدة بالفحص فيجب العمل بالعموم قبل الفحص أيضا ، لأنه حجة ببناء العقلاء ما لم تثبت حجة أقوى على خلافها. وان كانت مقيدة به ففي الحقيقة يكون الفحص عن الموضوع

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٥٤.

٢٧٧

والمقتضي كما في الفحص في الأصول العملية.

هذا والصحيح : عدم تمامية كل من القولين على إطلاقه ، وتماميتها في الجملة ، وذلك لأنّ منشأ لزوم الفحص ان كان هو العلم بأنّ المتكلم يعتمد في بيان مراداته على القرائن المنفصلة ، امّا لتصريحه بذلك وامّا للقطع الخارجي ، فالحق مع المستشكل لعدم ثبوت بناء من العقلاء على الرجوع إلى أصالة الظهور في مثل ذلك إلّا بعد الفحص ، فالفحص حينئذ يكون عن المقتضى.

وامّا ان كان منشؤه العلم الإجمالي بورود مخصصات وقرائن على إرادة خلاف الظاهر وكان العام الّذي نريد العمل به من أطرافه ، فالحق فيه مع المحقق الخراسانيّ ، لأنّ العام حينئذ مورد لأصالة العموم في نفسه ببناء العقلاء إلّا انّ العلم الإجمالي الموجود مانع عنها ، فالفحص بما يوجب انحلاله يكون فحصا عن المانع ، ونظيره ثابت في بعض موارد الرجوع إلى الأصل العملي أيضا كما في موارد العلم الإجمالي بحرمة أحد المائعين ، فانّ جريان أصالة الإباحة في كل منها مشروط بالفحص الموجب لانحلال العلم الإجمالي الّذي هو فحص عن المانع. فكل من الكلامين المتقدمين تام في مورد دون آخر ، والحق هو التفصيل.

وكيف كان فقد استدل على وجوب الفحص عن المخصص بوجوه :

الوجه الأول ـ انّ العمل بالعامّ انما هو من باب الظن بالمراد ، وهو لا يحصل إلّا بعد الفحص ، وهكذا الحال في كل ظاهر احتمل وجود قرينة منفصلة على إرادة خلافه.

وفيه : انه ممنوع صغرى وكبرى. امّا صغرى ، فلأنّ العام كغيره من الظهورات بنفسه موجب للظن النوعيّ بالمراد كما هو واضح. وامّا كبرى ، فلأنّ الوجه في العمل بالظواهر انما هو بناء العقلاء لا من باب افادته للظن بالمراد.

الوجه الثاني ـ انّ غالب العمومات تكون من قبيل الخطابات الشفاهية

٢٧٨

وهي لا تعم الغائبين والمعدومين ، فإثبات مفادها لهم لا بدّ وان يكون بما دلّ على الاشتراك في التكليف من إجماع ونحوه ومؤداه انما هو ما يطمئن ثبوته للحاضرين ، ولا يحصل الاطمئنان بثبوت مؤدى العام لهم إلّا بعد الفحص.

وفيه : أولا ـ انّ دعوى كون أغلب العمومات من قبيل خطاب المشافهة المختص بالحاضرين مما لا شاهد عليها.

وثانيا ـ انّ حصول الاطمئنان بثبوت العموم بعد الفحص ممنوع بعد احتمال وجود مخصص لم نعثر عليه كما هو ظاهر ، فعلى ذلك لا يفرق بين ما قبل الفحص وبعده.

الوجه الثالث ـ العلم الإجمالي بورود مخصصات على جملة من العمومات الواردة في الكتاب والسنة ، وكما انّ العلم الإجمالي يمنع جريان الأصول العملية في الأطراف يمنع جريان الأصول اللفظية أيضا.

وفيه : انّ لازم هذا الاستدلال بهذا المقدار هو عدم جواز التمسك بالعمومات مطلقا ، وذلك لأنّ أطراف العلم الإجمالي على ما هو ظاهر المستدل انما هو جميع كتب الاخبار من المعتبرة وغيرها ، بل ومن كتب العامة أيضا بل الكتب الفقهية أيضا ، إذ يحتمل وجود مخصص مذكور فيها لم يذكر في الكتب المعدة لنقل الروايات ، ومن الظاهر انّ وقت الإنسان بأجمعه لا يسع الفحص عنها.

فلا بدّ وان يقال : انّ هذا العلم الإجمالي الكبير منحل بعلم إجمالي آخر صغير ، وهو العلم بصدور مخصصات من الأئمة عليهم‌السلام مذكورة في الكتب المعتبرة عند الشيعة ، وانّ المعلوم بالإجمال فيها يكون بمقدار المعلوم بالتفصيل من حيث العدد ، مثلا المتيقن من المخصص الصادر للعمومات نفرضه خمسمائة فنعلم إجمالا بثبوت خمسمائة مخصص في الكتب المعتبرة ، فبهذا ينحل العلم الإجمالي بصدور مخصصات في ضمن جميع ما في كتب الروايات وغيرها من الكتب الفقهية كما هو الميزان في

٢٧٩

الانحلال.

وقد أورد في الكفاية على هذا الاستدلال بأنه أخص من المدعى ، وذلك لأنّ هذا العلم الإجمالي انما يوجب الفحص عن المخصص إلى ان ينحل بالظفر على المقدار المعلوم بالتفصيل ، كما في بقية موارد العلم الإجمالي بما هو مردد بين الأقل والأكثر ، ففي الفرض المتقدم إذا فحصنا مقدارا من الكتب المعتبرة حتى ظفرنا على خمسمائة مخصص وخصصنا بها العمومات ، فليس لنا بعد ذلك علم إجمالي بالمخصص ، بل ينحل ويكون احتمال وجود المخصص في غير ذلك شكا بدويا يدفع بالأصل ، مع انّ المدّعى هو وجوب الفحص عن المخصص مطلقا.

وأورد عليه المحقق النائيني (١) قدس‌سره بما حاصله : انّ الانحلال بالظفر على المتيقن في موارد العلم الإجمالي المردد بين الأقل والأكثر انما يتم فيما إذا لم يكن المعلوم بالإجمال معنونا بعنوان آخر غير عنوان العدد بل كان متمحضا في العدد ، واما إذا كان له عنوانان ، فانحلاله من حيث أحدهما لا يوجب انحلاله من الحيثية الأخرى ، وقد مثل لذلك بما إذا علم إجمالا بأنه مديون لزيد بمقدار مردد بين عشرة دنانير أو أكثر ولكنه عالم أيضا بأنّ مقدار دينه مسطور في الدفتر ، فحينئذ له علم إجمالي بعنوانين ، أحدهما عنوان العدد المردد بين الأقل والأكثر ، وثانيهما : بعنوان المسطور في الدفتر ، فانحلاله من حيث العدد لكونه من الشك في الأقل والأكثر لا يستلزم انحلاله من حيث العلم بكونه مديونا لزيد بمقدار مسطور في الدفتر وهل يمكن القول في مثل ذلك بأنه إذا رجع إلى دفتره وفحص إلى ان عثر بالمقدار المتيقن لا يجب عليه الفحص بعد ذلك ويرجع إلى أصالة البراءة ، فانه واضح الفساد. والمقام من هذا القبيل ، فانّ المعلوم بالإجمال وان كان مرددا بين الأقل والأكثر من حيث العدد إلّا

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٨٥.

٢٨٠