دراسات في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

المتكلم قصد تفهيم العموم لمصلحة في ذلك ، ومن الواضح انّ الحجية وكون المراد الاستعمالي مطابقا للمراد الجدي أجنبي عن الحقيقة والمجاز.

وبالجملة : قد ذكرنا في مبحث الوضع انّ الوضع في المفردات عبارة عن تعهد الواضع والتزامه بذكر اللفظ عند قصد تفهيم المعنى ، فإذا استعمله عند عدم إرادة تفهيم المعنى يكون ذلك على خلاف التزامه وتعهده ، فالدلالة الوضعيّة هي دلالة اللفظ على قصد تفهيم المعنى المعبر عنها بالدلالة التصديقية. وامّا هيئة الجمل الخبرية فموضوعة للحكاية بها عن النسبة إيجابا أو سلبا ، ولذا ذكرنا انّ الجملة الخبرية من حيث دلالتها الوضعيّة لا تتصف بالصدق والكذب ، وانما تتصف بهما من حيث مطابقة الحكاية مع الخارج وعدمها. واما هيئة الجمل الإنشائية فموضوعة لإبراز الاعتبار النفسانيّ.

وامّا الدلالة على المراد الجدي وكونه مطابقا للمراد الاستعمالي فهي ثابتة ببناء العقلاء ، وهذه الدلالة ثابتة في الأفعال أيضا كما هو واضح.

إذا عرفت هذه المقدمة نقول : إذا كان التخصيص بالمتصل كالاستثناء ونحوه فلا مجال لتوهم مجازية العام ، لأنّ المدخول أولا يتضيق ثم يرد العام عليه من غير فرق بين الإخبارات والإنشاءات. وامّا إذا كان المخصص منفصلا فلا بدّ من التفصيل بين الجمل الخبرية والإنشائية ، ففي الجملة الخبرية كما لو قال «زارني جميع علماء البلد» ثم أخبر بأنه «ما زارني النحاة منهم» يحمل أحد الخبرين على الكذب عرفا ، كما يشهد به وجداننا ، ولا يحمل العام على الخاصّ لا من حيث المراد الجدي ولا الاستعمالي.

واما في الجمل الإنشائية فلا معنى للصدق والكذب ، بل يكون الخاصّ المنفصل مزاحما لحجية العام وكونه مرادا جديا للمتكلم فتأمل ، فيتقدم عليه لأظهريته ، فلا مجازية أصلا.

٢٤١

فيبقي الكلام في أمرين.

أحدهما : انّ المتكلم لما ذا يأتي باللفظ العام مع انّ مراده الجدي هو الخاصّ؟! ثانيهما : انّ غاية ما ذكر هو احتمال كون الخاصّ مزاحما للإرادة الجدية دون الاستعمالية ، ولكن يحتمل ان يكون الخاصّ قرينة على مجازية العام وعدم استعماله في العموم ، فيكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.

امّا الأول فالوجه فيه في المتكلم العرفي يمكن ان يكون جهله بالحال ، وفي المولى الحكيم ربما يكون ذلك لمصلحة في تأخير بيان المخصص ، وربما يكون لمفسدة في ذكره من أول الأمر.

وامّا الثاني فجوابه : انّ بناء العقلاء ثابت في الرجوع إلى أصالة الحقيقة ما لم يثبت قرينة على الخلاف ، والمخصص غير صالح لذلك بعد ما يمكن رفع التنافي بينه وبين العام بجملة على خلاف الإرادة ، الجدية فتأمل.

حجية العام في تمام الباقي بعد التخصيص

فصل : لا ينبغي الريب في انّ العام المخصص سواء كان بالمتصل أو بالمنفصل حجة فيما بقي من افراد العام ، فيتمسك به لإثبات الحكم في الافراد الباقية.

امّا على مسلك الميرزا قدس‌سره من كون التخصيص تقييدا لإطلاق مدخول أداة العموم فلأنّ التخصيص بالمتصل حقيقة تضييق دائرة العموم ، مثلا لو قال «أكرم كل رجل عالم» أو «أكرم كل رجل إلّا الجهال» فهو بمنزلة ان يعبر عن ذلك المعنى الضيق بلفظ بسيط لو كان له لفظ بسيط ، فنفرض انّ لفظ القضية موضوع للرجل العالم فكأنه قال «أكرم كل فقيه» فهل يتوهم عدم جواز التمسك بعمومه؟ كلا. وبالجملة لا فرق بين ان يعبر عن المفهوم الضيق بلفظ مركب أو بلفظ بسيط في جواز التمسك بالعامّ ، وهذا ظاهر.

٢٤٢

واما في التخصيص بالمنفصل على هذا المسلك فلأنّ تقييد المطلق من جهة لا يستلزم إجماله ، ولم يتوهم فيه ذلك ، لأنّ عدم كون المولى في مقام البيان من جهة لا ينافي كونه في مقام البيان من الجهات الأخرى ، فلو قال «أكرم كل رجل عالم» ثم قال «لا تكرم زيد العالم» يستكشف منه عدم كون المولى في مقام بيان العموم من حيث ذاك الفرد فقط ، دون غيره من الافراد ، وهكذا لو ورد «أكرم كل عالم» ثم ورد «لا تكرم فساق العلماء» فانّ عدم كونه في مقام البيان عند ذكر العام من حيث الفسق لا ينافي كونه في مقام البيان من سائر الحيثيات.

وامّا على المختار ، فالخاص انما يزاحم العموم ويعارضه من حيث كونه مرادا جديا للافظ المعبر عنه بالحجية ، ولا يعارض المراد الاستعمالي ، فانّ العام ينحل إلى أحكام عديدة إذا كان استغراقيا ، ويكون متعددا من حيث المتعلق إذا كان عمومه مجموعيا ، والخاصّ يزاحمه في الحجية بالقياس إلى بعض الافراد فيتقدم عليه لأقوائيته. ومن الظاهر انّ رفع اليد عن حجية الدليل في بعض مدلوله لمعارضته بما هو أقوى منه أو مساو له لا ينافي حجيته في الباقي ، نظير ما إذا أخبرت البينة بأنّ جميع كتب زيد لعمرو وعلمنا من الخارج اشتباهها في كتاب مفتاح الكرامة مثلا ، فانه لا يوجب رفع اليد عن حجيتها في غيره ، بل يؤخذ بها فيه كما عليه السيرة وبناء العقلاء ، وهكذا الحال في معارضة العامين من وجه.

فتحصل : مما ذكر انّ العام المخصص حجة في تمام ما بقي على مسلك الميرزا قدس‌سره من كون التخصيص يرجع إلى تقييد المتعلق ، وهكذا على المختار من انّ للفظ دلالتان : إحداهما : دلالته على انّ المتكلم قصد تفهيم المعنى الّذي تعهد ذكر ذلك اللفظ عند إرادة تفهيمه ، ثانيهما : دلالته على مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي في مقابل السخر به والاستهزاء وأمثال ذلك ، وانّ المخصص انما يزاحم العام في الدلالة الثانية المعبر عنها بالحجية ، فانّ رفع اليد عن حجية العام في بعض افراده

٢٤٣

لمعارضته بحجة أقوى أو مساو لا يقتضي إلّا رفع اليد عنه في ذاك المقدار.

وامّا على القول بمجازية العام المخصص فذكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره ما حاصله : انّ هذا المجاز ليس كسائر المجازات ، فإنّ المجازية فيه ليس من جهة دخول ما دخل تحت العام ، وانما هي من جهة خروج ما خرج فيكون العام حجة في الباقي.

وقد أوضحه الميرزا قدس‌سره (١) بما حاصله : انّ العام كما انه منحل إلى أحكام عديدة عرضية أي غير متوقف ثبوت كل من تلك الأحكام على موضوعه على ثبوت الحكم لفرد آخر ، كذلك في مقام الإثبات يكون العام منحلا إلى دلالات عديدة عرضية ، بمعنى انّ دلالة العام على ثبوت الحكم لفرد غير متوقفة على دلالته على ثبوت الحكم لفرد آخر ، وإلّا لزم الدور ، فانّ نسبة الافراد إلى العام على حد سواء ، وإذا كان كذلك فانتفاء الحكم عن فرد لا يستلزم انتفائه عن غيره ، وهكذا انتفاء الدلالة بالإضافة إلى فرد لا يستلزم انتفائها بالإضافة إلى بقية الأفراد ، كما انّ نسخ حكم لا يستلزم نسخ غيره.

ونقول : ما أفيد من المقدمة وان كان تاما ، فإنّ العام منحل إلى أحكام عرضية ، كما انّ الدلالة أيضا كذلك ، ولكن النتيجة لا تترتب عليها ، وذلك لأنّ جميع تلك الدلالات معلولات لعلّة واحدة وهي استعمال العام في العموم ، فإذا ثبت ذلك يثبت جميع الدلالات عرضا ، واما إذا لم يثبت ذلك فلا يثبت شيء منها.

وبعبارة واضحة : استكشاف مراد المتكلم من اللفظ لا بدّ وان يستند إلى أحد أمور ثلاثة : امّا إلى الوضع ، واما إلى القرينة الخاصة ، وامّا إلى القرينة العامة. امّا الوضع فمفقود في الفرض ، لأنّ العام غير مستعمل في معناه الحقيقي ، وهكذا القرينة العامة والخاصة ، وحينئذ فكما يمكن ان يكون العام مستعملا في تمام الباقي يحتمل ان

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٥٣.

٢٤٤

يكون مستعملا في بعضه ، فما هو المعيّن للأول؟ فتأمل ، ولو في فرض القطع بعدم ورود مخصص آخر فضلا عما إذا احتمل ذلك ، فانّ القطع بعدم المخصص الآخر لا يستلزم استعمال العام في تمام الباقي فكيف بالأصل العقلائي ، فينحصر القول بحجية العام المخصص في تمام الباقي على البناء على أحد الوجهين المتقدمين.

هذا مضافا إلى انّ توجيه الميرزا قدس‌سره لا يتم إلّا في العام الاستغراقي دون المجموعي فانه غير منحل إلى أحكام عديدة عرضية كما هو واضح ، والظاهر انه لم يفصل أحد بين القسمين.

ثم انّ عدم العموم تارة : يكون من جهة ورود المخصص واستكشاف انّ العموم لم يكن مرادا جديا للمتكلم ، وقد عرفت الكلام فيه. وأخرى : يكون العموم مرادا جديا ويعلم من الخارج مطابقة الإرادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية إلّا انا علمنا من الخارج اشتباه المتكلم وخطأه ، كما لو فرضنا انّ البينة أخبرت بنجاسة كل إناء في البيت وعلمنا بطهارة بعضها المعيّن وانّ العموم خطا واشتباه ، فهل يمكننا في مثل ذلك التمسك بالعامّ في الباقي ، أو انّ البينة تسقط عن الحجية رأسا؟

وبعبارة أخرى : ذكرنا في بعض المباحث المتقدمة انّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية ثبوتا وسقوطا ، فهل الدلالة التضمنية أيضا كذلك ، أم لا؟ الظاهر هو التفصيل بين موارد الانحلال بحيث يكون المخبر به أحكاما عديدة قد أديت بلفظ واحد للاختصار ، وعدمه كالعام المجموعي ، فيكون العام حجة في الباقي في الأول دون الثاني.

والحاصل : انه إذا أخبرت البينة بشيء ، فتارة : تشك في مطابقة الخبر للواقع من جهة الشك في مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي ، وهذا هو مورد بناء العقلاء على مطابقة ما قصد تفهيمه للمراد الجدي.

وأخرى : يشك في ذلك بعد العلم بمطابقة مراده الاستعمالي لمراده الجدي من

٢٤٥

جهة احتمال غفلته واشتباهه ونحوه ذلك ، وهذا أيضا يدفع بأصالة عدم الغفلة ، وهذا هو معنى حجية البينة.

وثالثة : يقطع باشتباه البينة فيما أخبرت به بالإضافة إلى بعض مدلوله ، فهل تكون تلك البينة حجة في الباقي ، أو تسقط عن الحجية رأسا على ما بيناه في بحث الواجب المشروط من تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية؟

الظاهر هو التفصيل بين ما إذا كان اخبار البينة من قبيل العام الاستغراقي الّذي يكون لبّا منحلا إلى إخبارات عديدة ودلالات عديدة ، بل في الحقيقة يكون الجمع في اللفظ والتعبير للاختصار ، وما إذا كان من قبيل العام المجموعي الّذي ليس إلّا اخبارا واحدا ، فنلتزم بحجية البينة في الباقي على الأول دون الثاني. والسر في ذلك ما ظهر مما بيناه من انحلال الأول إلى إخبارات ، نظير ما لو أخبرت بأنّ جميع الكتب الموجودة في الدار ملكا لزيد ، فانه منحل إلى انّ هذا الكتاب له وذاك أيضا له وهكذا من دون ان يكون بينها انضمام وتوقف ، فإذا علمنا بكذب الخبر بالإضافة إلى بعضها المعيّن لا ينافي ذلك صدقه بالإضافة إلى الباقي لعدم ارتباط بينها ، وهذا نظير ما ذكرناه من انّ رفع اليد عن حجية العام في بعض افراده بحجة أخرى لا ينافي بقاء حجيته بالقياس إلى الباقي.

وهذا بخلاف ما لو كان اخباره من قبيل العام المجموعي ، كما لو أخبر العادل بوجوب صلاة أربع ركعات فإذا علمنا بعدم وجوب الركعة الرابعة من الخارج لا يمكننا العمل بالخبر في الثلاث الباقية ، لأنه لم يكن إلّا اخبار واحد لفظا ولبا ، فإذا كان كذبا لا يمكن ان يتصف بالصدق أصلا بل يسقط رأسا.

٢٤٦

حجية العام مع المخصص المجمل

فصل : بناء على حجية العام المخصص في تمام الباقي إذا فرضنا إجمال المخصص فهل يسري إجماله إلى العام أم لا؟

اما في المخصص المتصل فلا إشكال في السراية على المسلكين ، وذلك لأنّ المخصص المتصل انما يوجب تقييد المتعلق ، اما بقيد وجودي نظير ما إذا كان بالوصف كما لو قال : «أكرم كل رجل عالم» ، أو عدمي كالتخصيص بالاستثناء كقوله : «أكرم كل عالم إلّا النحويين» أي العالم غير النحوي ، فإذا كان المخصص مبينا يتضيق به دائرة المتعلق ويكون مصب العام ضيقا ، فيقل افراده لا محالة ، كما لو كان له لفظ بسيط فعبر به. واما إذا فرضنا انّ المخصص مجمل مردد بين الأقل والأكثر أو بين متباينين ، فلا يعلم المراد الجدي من العام وان كان المراد الاستعمالي منه معلوما ، مثلا لو قال : «أكرم كل عالم عادل» ولم تدر انّ العدالة اسم للمجتنب عن خصوص الكبائر أو عنها وعن الصغائر ، فلا محالة يكون المراد الجدي من العام وهو «أكرم كل عالم عادل» مجملا مرددا بين ما يقل افراده وما يكثر ، وهذا معنى قولهم انّ إجمال المخصص يسري إلى العام.

وبالجملة إجمال المخصص المتصل ولو كان مرددا بين الأقل والأكثر يوجب التردد في المراد الجدي من العام ، امّا سعة وضيقا ، وامّا من حيث التردد بين متباينين.

واما في المخصص المنفصل فبما انّ العام ينعقد له الظهور في العموم وتثبت حجيته بناء العقلاء على مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي لا يرفع اليد عنه إلّا

٢٤٧

بحجة أقوى ، فان كان إجمال المخصص من حيث دورانه بين متباينين فبما انه حجة أقوى يعلم منه ان العموم لم يكن مرادا جديا للمتكلم بالقياس إلى ما أريد من الخاصّ ، وحيث انه مردد بين شيئين وحجة في أحدهما لا محالة يكون المراد الجدي من العام أيضا مرددا ، وهذا معنى إجماله ، ونتيجته نتيجة السراية التي ذكرناها في المخصص المتصل ، وان كان بينهما فرق فإنه في المتصل لم ينعقد له ظهور في المراد الجدي أصلا ، وفي المنفصل قد انعقد له الظهور في ذلك إلّا انه يرفع اليد عنه بحجة أقوى ، ومثال ذلك ما إذا قال «أكرم كل عالم» ثم قال «لا تكرم زيدا» وتردد بين كونه ابن عمر أو ابن خالد فنتيجة الخطابين : «أكرم كل عالم إلّا أحدهما». هذا كله في المنفصل المردد بين متباينين.

وامّا ان كان المخصص مرددا بين الأقل والأكثر ، فالظاهر عدم سراية إجماله إلى العام ، وذلك لأنّ العام كما عرفت انعقد له الظهور الّذي هو حجة ببناء العقلاء ، فلا يمكن رفع اليد عنه إلّا بمقدار قامت الحجة الأقوى على خلافه ، والمخصص على الفرض لم يثبت حجيته إلّا في المقدار المتيقن وهو الأقل ، فلا وجه لرفع اليد عن العموم الّذي كان حجة بالإضافة إلى الأكثر ، مثلا لو قال «أكرم كل عالم» ثم قال «لا تكرم فساقهم» ولم نعلم انّ معنى الفاسق خصوص مرتكب الكبيرة أو أعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، فمن حيث الوضع وان لم يكن في البين قدر متيقن ، ولا معنى لأن يقال : انّ وضعه للأقل متيقن وللزائد مشكوك ، بل الأمر من حيث الوضع دائر بين متباينين إلّا انه ينحل من حيث الظهور الاستعمالي ، فيقال : إنّ إرادة خصوص مرتكب الكبيرة منه قطعي ، فهو حجة فيه ، واما الزائد فلم يحرز إرادته منه لشبهة مفهومية فلم تثبت حجيته فيه.

وبعبارة أخرى : لم يرد من الفاسق في المثال مفهومه من حيث هو ، إذ لا معنى للنهي عن إكرام الطبيعي بما هو ، وانما أخذ هذا العنوان مرآة لما في الخارج ، فالمعنى

٢٤٨

لا تكرم من ارتكب هذه المعصية وتلك المعصية وهكذا ، فمقدار من المعاصي نعلم بخروج مرتكبها عن العام ، واما الباقي فنشك في خروجه ، وأصالة العموم بالإضافة إليها محكمة. والسر الحقيقي لذلك ما ذكرناه من انه لا يجوز رفع اليد عن الحجة إلّا بحجة أقوى على خلافها ، ولم يثبت حجة على خروج المقدار الزائد.

وبما بيناه ظهر الجواب عما قيل : من انه إذا قال «أكرم كل عالم» ثم قال «لا تكرم فساقهم» فيكون العام معنونا بغير عنوان المخصص ، فالمراد من العالم وجوب إكرام كل عالم غير فاسق ، فإذا تردد الفاسق بين الأقل والأكثر في نفسه فلا محالة يتردد العام بينهما أيضا ، لما عرفت من انّ الفاسق عنوان مشير إلى الفساق الموجودين في الخارج ، فالمعنى حينئذ أكرم العلماء غير هذا وذاك وهكذا بقية الافراد المتيقنة الدخول في الخاصّ دون المشكوكة فانه لم يعلم خروجها.

وبالجملة ففي سراية إجمال المخصص المنفصل نفصل بين ما إذا كان إجماله من قبيل الدوران بين المتباينين فيسري ، وما كان من قبيل الأقل والأكثر فلا يسري ، من غير فرق بين القضايا الحقيقية كالمثال المتقدم والقضايا الخارجية كما لو قال «أكرم جيراني» ثم أشار إلى بعضهم وقال «لا تكرم هؤلاء» وتردد المشار إليه بين الأقل والأكثر.

التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية

ثم انه هل يجوز الرجوع إلى العام في الشبهة المصداقية أم لا؟

امّا في ما إذا كان المخصص متصلا كما لو قال «أكرم كل عالم إلّا الفساق منهم» ولم نعلم كون زيد فاسقا أو غير فاسق لا لشبهة مفهومية بل لاشتباه خارجي فلا ينبغي الريب في عدم جواز التمسك بالعموم ، وذلك لأنّ الحكم لا يتكفل إثبات موضوعه ، وانما يثبت بعد فرض وجوده ، فإذا علمنا بكون زيد عالما غير فاسق يعمه الحكم العام وإلّا للزم جواز الرجوع إلى عموم العام في كل مورد شككنا في

٢٤٩

دخوله تحت موضوع العام ولو لم يكن العام مخصصا ، كما لو ورد «أكرم كل عالم» أو احتملنا كون زيد عالما فنتمسك بالعموم ونحكم بكونه عالما ، وهذا بديهي الفساد. ومن الواضح انه لا فرق بين وحدة اللفظ وتعدده.

وامّا في ما إذا كان المخصص منفصلا ، فربما يتوهم جواز الرجوع إلى العام بدعوى : انّ الفرد المشتبه كان داخلا في عمومه وكان العام حجة فيه ، والآن لشبهة مصداقية لا نعلم كونه مصداقا للمخصص فلا نعلم حجية فيه ، فلا وجه لرفع اليد عن الحجة الأولى بالإضافة إليه.

وبالجملة : إذا ورد عام كقولك «أكرم كل عالم» ثم ورد خاص وشككنا في انطباقه على فرد ، فهل يمكننا التمسك فيه بالعموم أم لا؟

نسب إلى مشهور القدماء جوازه ، والظاهر انّ هذه المسألة غير معنونة في كلماتهم ، ومنشأ النسبة فتاواهم في فروع عديدة بما توهم توقفها على التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، ومن جملتها الحكم بالضمان فيما إذا تنازع المالك وصاحب اليد ، فادعى المالك انّ يده على العين التالفة كانت يد ضمان وادعى صاحب اليد كونها يد أمان تمسكا بعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» إلى غير ذلك من الفروع ، ونتعرض لبعضها ونبين عدم توقفها على التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية.

وهكذا نسب ذلك إلى السيد بتخيل توقف جملة من الفروع المذكورة في العروة عليه. وليس الواقع كذلك ، كما صرح به في كتاب النكاح في مسألة ما إذا تردد أمر المرأة بين الأجنبية واحد محارمه ، وحكم فيها بحرمة النّظر لا من جهة التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

وكيف ما كان أحسن تقريب يمكن ان يقال في الاستدلال على جواز ذلك هو : انّ تنجز كل حجية متوقف على وصولها صغرى وكبرى كلتيهما ، فلو وصلت

٢٥٠

الصغرى وعلمنا خمرية مائع ولكن لم يصل إلينا حرمة شرب الخمر لا عن تقصير لا يكون منجزا. امّا الثاني فواضح ، وامّا الأول فلأنّ كل حكم مجعول على نحو القضية الحقيقية ينحل إلى أحكام عديدة بحسب ما له من الافراد ، فقولك «لا تكرم الفساق» ينحل إلى النهي عن إكرام هذا الفاسق وذاك الفاسق وهكذا ، والعلم بثبوت الحكم لجملة من الافراد أي المعلومة منها لا يستلزم ثبوته للفرد المشكوك فيه ، فالتحرك عن امر المولى أو الانزجار والتجنب بنهيه انما يكون بعد وصوله من كلتا الحيثيتين.

إذا عرفت هذه المقدمة يقال : بعد ما ورد العام وثبت ببركة الوضع استعماله في العموم وثبتت حجيته ومطابقته للمراد الجدي ببناء العقلاء فلا محالة يكون العام حجة حتى في الفرد المشكوك فيه ، وبعد ما ورد الخاصّ نرفع اليد عن حجية العام بالمقدار الّذي يكون الخاصّ حجة فيه لأقوائيته ، وقد عرفت انحصار حجيته بالافراد المتيقنة التي يكون الحكم بالإضافة إليها وأصلا صغرى وكبرى ، وليس حجة بالإضافة إلى الفرد المشكوك ، فحجية العام بالقياس إليها محكمة ، إذ لا يجوز رفع اليد عنها إلّا بحجة أقوى.

هذا ونقول : انّ حجية الخاصّ تكون من جهتين وحيثيتين ، والتقريب المتقدم ناشئ من اشتباه إحداهما بالأخرى. بيان ذلك : انه تارة : يراد بحجية الخاصّ كونه قاطعا للعذر ومصححا لاحتجاج المولى ، وهي من هذا الحيث متقومة بالوصول صغرى وكبرى ، فلو فرضنا وصول الكبرى الكلية أعنى بها قوله «لا تكرم الفساق» ولكن الصغرى لم تكن واصلة بان شك في كون زيد فاسقا لا محالة يتمسك بالبراءة العقلية والشرعية المتفق عليها في الشبهات الموضوعية حتى عند الأخباريين سوى المحدث الأسترآبادي ، فيكون معذورا في إكرامه ، وهذا بخلاف ما إذا أحرزت الصغرى أيضا وعلم بكون زيد فاسقا فانه يصح للمولى الاحتجاج

٢٥١

حينئذ إذا خالف العبد ، وليس له عذر.

وأخرى : يراد بحجيته كونه موجبا لسقوط العام عن الحجية وعدم كون العموم مرادا جديا للمتكلم ، وهذه الجهة غير متوقفة إلّا على وصول نفس الكبرى ، ففي المثال يستفاد من الخاصّ انّ المراد الجدي من كل عالم هو العالم غير الفاسق ، فتنحصر حجيته فيه ، فإذا شك في انطباق الفاسق على شخص لا محالة يشك في انطباق ما أريد من العام عليه أيضا ، ومعه كيف يصح التمسك به؟!

ثم انّ الفرق بين الشبهة المصداقية والمفهومية مما لا يكاد يخفى ، فانّ إجمال المخصص هناك انما كان في مرحلة الجعل وكان المجهول مرددا بين الوسيع والضيق ، ولذا قلنا بتخصيص العام بالمقدار المتيقن من الخاصّ ، واما في الزائد فالعام حجة لعدم قيام حجة أخرى على خلافها.

وهذا بخلاف المقام الّذي لا إجمال للمخصص في مرحلة الجعل ، وانما الإجمال من حيث الانطباق ، إذ لا نشك في ما هو المراد من الفاسق في المخصص أصلا وانّ العام قد قيد إطلاقه وسريانه بغير الفاسق الواقعي فتأمل ، غايته نشك في انطباقه على فرد إذ من الواضح انّ الموضوع في القضايا الحقيقية ليس هو الافراد الخارجية ، وهكذا في القضايا الخارجية في أمثال المقام مثل قولك «أكرم جميع جيراني» بل كثيرا ما لا يعرف الحاكم الافراد ولا مقدارها أصلا ، فتأمل.

وبالجملة : الفرق بين الشبهة المفهومية في دوران امر المخصص بين الأقل والأكثر وبين الشبهة المصداقية فيما إذا كان للمخصص افراد متيقنة وافراد مشكوكة بحيث يظهر به الجواب عن استدلال القائل بجواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية هو : انّ الحجية تارة : تكون في مقام العمل ، وأخرى : في مقام الاستناد والإفتاء ، والأولى متقومة بوصول الحكم صغرى وكبرى ، فلو لم يحرز حرمة شرب الخمر أو خمرية المائع المعيّن لا تكون حرمته منجزة. وامّا الثانية فغير متوقفة على

٢٥٢

وصول الصغرى أصلا ، فانّ الفقيه بعد ما وصل إليه المخصص يفتى على طبقه ، ويكون له حجة على ذلك بنحو القضية الحقيقية ولو لم يكن لما أفتى به صغرى في الخارج فضلا عن إحرازها مثلا بعد ما ورد قوله عليه‌السلام «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء» ووصل إليه هذا العام ثم شك لشبهة حكمية في انّ القليل أيضا لا ينفعل بملاقاة النجس أو ينفعل فوصل إليه قوله عليه‌السلام «الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء» بمجرد ذلك يفتى على طبقه ويكتب في الرسالة حكمين بنحو القضية الحقيقية ، أحدهما : انّ الماء القليل ينفعل ، والآخر : انّ الكثير لا ينفعل بعد ما تصور طبيعي الماء القليل والماء الكثير من دون توقف على وجود صغرى لهما في الخارج فضلا على إحرازها ، فتكون هناك قضيتان حقيقيتان ، فإذا شككنا لشبهة مصداقية في فرد ولم يحرز انه مصداق للقليل أو للكثير لا يمكننا إدخاله تحت إحداهما ، لأنّ نسبته إلى كل من القضيتين نسبة واحدة فتأمل.

فالعبرة في الحجية في مقام الإفتاء انما هي بوصول الكبرى ، وهي في موارد الشبهة المصداقية مجعولة وواصلة وانما الشك في انطباقها على الفرد المشكوك ، فلا بدّ من الإفتاء على طبقها. وهذا بخلاف موارد الشبهة المفهومية ، فانّ الكبرى بالإضافة إلى الزائد على المتيقن لم يعلم جعلها أصلا ، فتأمل. فالاستدلال المتقدم منشؤه الخلط بين الحجيتين كما عرفت.

وان شئت قلت : انّ التخصيص نتيجته الحكومة ، فبعد وروده يعلم انّ المراد من العام كان من الأول هو الحصة المقيدة بغير عنوان المخصص كعنوان العالم غير الفاسق في المثال ، ولا فرق بين التخصيص والحكومة إلّا من حيث انّ هذا المعنى مدلول مطابقي للحاكم ومدلول التزامي للمخصص ، فإذا شك في صدق الخاصّ على فرد لا محالة يشك في صدق العام المخصص عليه أيضا ، فكيف يمكن التمسك به.

٢٥٣

«تذنيب»

تقدم التفصيل في بحث سراية إجمال المخصص إلى العام بين المتصل والمنفصل ، وقلنا : بالسراية في المنفصل أيضا إذا كان الأمر فيه مرددا بين متباينين ، وعدمها إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر بالبيان المتقدم.

وربما يدور الأمر بين التخصيص والتخصص ، فهل يرجح الثاني على الأول أم لا؟ الظاهر هو الأول ، لعين ما تقدم ، فانّ العام حجة في جميع ما يمكن ان يفرض له من الافراد ، ولا يرفع اليد عنها إلّا بحجة أقوى ، وما يحتمل كونه مخصصا لإجماله لا يكون حجة ، مثلا لو قال «أكرم كل عالم» ثم قال امّا متصلا أو منفصلا «لا تكرم زيدا» وتردد بين كونه زيد العالم أو زيد البقال ، فبما انّ العام حجة بالقياس إليه ، والخاصّ مجمل وليس بحجة أصلا لا بدّ من الرجوع إلى أصالة العموم فيثبت التخصص.

وقد يتوهم انّ العلم الإجمالي بحرمة إكرام أحد الشخصين فيما إذا كان الخاصّ حكما إلزاميا منجز لحرمة إكرام كليهما ، فلا يمكن الرجوع إلى العموم.

والجواب عنه واضح لما بيانه في محله من انّ العلم الإجمالي بنفسه لا يكون منجزا ، بل هناك واسطة بينه وبين التنجيز وهي تعارض الأصول وتساقطها. وفي المقام لا تعارض بين الأصلين لاختلاف مرتبتهما ، فانّ الأصل الجاري في مصداق العام انما هو أصل لفظي وهو أصالة العموم ، وفي الآخر أصل عملي وهو البراءة ، ولا معارضة بينهما ، بل الأصل اللفظي بالالتزام يثبت انّ المراد من زيد انما هو زيد الجاهل دون العالم ولوازمه حجة.

ثم انه ربما يتمسك للتمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية بقاعدة المقتضي والمانع بدعوى : انّ عنوان العام كالعلم في مثالنا مقتضي لوجوب الإكرام ، وثبوت الضيق مانع عنه ، وحيث انّ تحققه في الفرد المشكوك فيه غير معلوم تجري فيه

٢٥٤

قاعدة المقتضي ، ويبنى على عدم المانع.

وفيه : أولا ـ انّ هذه القاعدة لا دليل عليها على ما سنبينه في مبحث الاستصحاب، لا من الاخبار ولا من بناء العقلاء.

وثانيا ـ انه يمكن ان لا يكون عنوان المخصص مانعا ، بل كان شرطا كأن يقول : يشترط في إكرام العالم ان يكون عادلا ، فالقاعدة على تقدير تماميتها غير مطردة ، فتأمل.

بقي الكلام فيما نسب إلى المشهور من جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية. وقد ذكرنا انّ منشأ ذلك فتاواهم في موارد توهم عدم استقامتها إلّا على القول بذلك ، منها : ما حكموا به من ضمان صاحب اليد في العين التالفة فيما إذا اختلف مع المالك وادعى المالك انّ يده كان يد ضمان وادعى صاحب اليد انه لم يكن كذلك ، فتوهم انّ هذا انما يستقيم تمسكا بعموم «على اليد» مع انّ الشبهة مصداقية ، لأنه خرج عن عموم الأيادي الأمانية مثل الوديعة ونحوها.

وقد تنظر الميرزا قدس‌سره (١) في ذلك وذكر :

أولا : ما حاصله : انّ الضمان في المقام من موارد إحراز أحد جزئي الموضوع المركب بالوجدان وجزئه الآخر بالتعبد ، وذلك لأنّ الموضوع للضمان مركب من استيلاء على مال الغير ومن عدم طيب نفسه ورضاه ، وفي المقام الاستيلاء محرز بالوجدان ، وعدم رضاء المالك يستصحب ، فانه لم يكن طيب النّفس ثابتا قبل استيلائه على العين فيستصحب ، ولا بأس بذلك ، فانّ الموضوعات المركبة كما يمكن أن تكون جميع اجزائها محرزة بالوجدان ويمكن ان يكون جميع اجزائها محرزة بالتعبد يمكن ان يكون بعضها محرزا بالوجدان وبعضها بالتعبد.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٦٢.

٢٥٥

وثانيا : انّ مورد النزاع في جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية انما هو في المخصص المنفصل ، وامّا في المخصص المتصل فلم يتوهم أحد ذلك ، والمخصص في المقام من قبيل المتصل ، لأنّ ظاهر الأخذ انما هو الاستيلاء على الشيء مع القهر والغلبة ، فلا يمكن التمسك فيه بالعموم أصلا.

وفيه : أولا : انّ ما ذكره أولا من استصحاب عدم طيب النّفس وان كان جاريا في بعض الموارد إلّا انه غير مطرد ، إذ ليس النزاع دائما في حصوله ، بل ربما يتفق اتفاقهما على حصول الرضا وطيب النّفس ، كما لو ادعى المالك انّ العين كانت قرضا وصاحب اليد ادعى انها كانت هبة ، أو ادعى المالك انها كانت مبيعا وصاحب اليد قال كانت هبة ، فانّ الضمان يعم الضمان بالمسمى أيضا ، وفي هذا الفرض لا معنى للتمسك بالاستصحاب.

وما أفاده ثانيا : من انّ ظاهر الأخذ هو الغلبة والاستيلاء قهرا وعدوانا فغير مسلّم.

ولكن الظاهر انّ عموم «على اليد» في نفسه غير شامل لموارد اليد الأمينة كالودعي ، خصوصا إذا كان محسنا أو الموهوب مجانا ونحو ذلك قطعا ، إذ لا يتوهم عاقل ثبوت الضمان في هذه الموارد.

والحاصل : ما أجاب به المحقق النائيني قدس‌سره عن ما توهمه جمع من ابتناء الحكم بالضمان في الفروع المتقدمة على التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية من انّ ذلك من باب إحراز أحد جزئي الموضوع بالوجدان والجزء الآخر باستصحاب عدم الرضا وان كان متينا في الجملة إلّا انّ استصحاب عدم الاذن والرضا لا يجري في جميع الفروض ، وذلك لأنّ عدم الضمان في موارد الاستيلاء على مال الغير انما يكون بأحد وجوه ثلاثة.

الأول : ان يكون بإجازة المالك ، فلو اختلفا في الفرض فادعى صاحب اليد

٢٥٦

انّ العين كانت هبة مجانية أو انّ الخبز أباحه له المالك فأكله وادعى المالك انه غصبها عدوانا ، ففي هذا الفرض يمكن التمسك باستصحاب عدم الرضا وعدم ثبوت الإجازة المالكية.

الثاني : ان يكون الاستيلاء بإجازة الشارع كما في مجهول المالك أو مال الغائب أو اللقطة ، مثلا ادعى صاحب اليد انّ العين ضاعت منه وانه أخذها لأن يردها إليه والمالك ادعى انه سرقها منه ، وفي هذا الفرض أيضا يجري استصحاب عدم إجازة الشارع واذنه.

الثالث : ان يكون اختلافهم في التسليط المجاني وعدمه ، بان اتفقا على كون استيلائه على المال كان بإذن المالك وإجازته ولكن اختلفا فادعى المالك انه باعه إياه وادعى صاحب اليد انه وهبه له مجانا ، فانّ التسليط المجاني مما يوجب زوال احترام المال وعدم الضمان ، أو ادعى صاحب اليد انه أباح له التصرف فيه مجانا وادعى المالك انه كان قرضا عنده الّذي حقيقته نقل العين إلى الذّمّة ، وفي أمثال هذه الفروض لا مجال لما ذكره قدس‌سره من استصحاب عدم الاذن والرضا ، بل لا بدّ فيها من التمسك باستصحاب العدم الأزلي الّذي صححناه في محله ، فانّ التسليط المجاني مسبوق بالعدم الأزلي فيستصحب ، ويترتب عليه عدم الضمان ، لأنه متقوم بعدم كون التسليط مجانيا من دون حاجة إلى التمسك بعموم «على اليد» ليتوهم اختصاصه بالاستيلاء على ملك الغير لا ملك نفسه وان كان الشيخ قدس‌سره في المكاسب أجاب عن مثل هذه الشبهة في التمسك بقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)(١) ولا يكون استصحاب عدم التسليط المجاني معارضا باستصحاب طرفه كالبيع ونحوه ، إذ لا يترتب على استصحاب عدم البيع ثبوت الضمان إلّا على القول بالأصل المثبت.

__________________

(١) البقرة ـ ١٨٨.

٢٥٧

والبحث عن جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية من المباحث الشريفة التي يترتب عليه فوائد مهمة في كتاب الطهارة وغيره.

٢٥٨

التعويض عن العام باستصحاب العدم الأزلي

ثم يبقى الكلام في إمكان إدخال الفرد المشكوك تحت العام باستصحاب العدم الأزلي ، وهذا هو نتيجة التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية وعدمه.

امّا لو كان المخصص عنوانا وجوديا للعام ، كما لو قال «أكرم كل عالم عادل» أو قال «أكرم كل عادل» ثم بالمنفصل قال «يشترط ان يكون العالم عادلا» فاستصحاب العدم الأزلي ينتج عكس ذلك ، أي دخول الفرد المشكوك في المخصص دون العام.

وامّا لو كان موجبا لتقييد العام بعنوان عدمي ، كما لو قال : «أكرم كل عالم إلّا فساقهم» بالاستثناء أو قال بالمنفصل «لا تكرم فساقهم» فهل يمكن حينئذ إدخال الفرد المشكوك تحت العام باستصحاب عدم تحقق عنوان المخصص فيه أم لا؟ والمثال المعروف لذلك عموم ما ورد من انّ المرأة تحيض إلى خمسين ، وخصص ذلك بالقريشية والنبطية وانها تحيض إلى ستين ، فلو شككنا في المرأة انها قرشية أم لا ، فهل يمكن إدخالها تحت العموم باستصحاب عدم انتسابها إلى قريش أزلا أم لا؟

ذهب الآخوند قدس‌سره (١) إلى جواز التمسك باستصحاب العدم الأزلي في الشبهة المصداقية وإدخال الفرد المشكوك تحت العام في المخصص المتصل إذا كان استثناء ، وفي المنفصل إذا كان بعنوان وجودي (١).

__________________

[١] فان الفرد المردد كان مصداقا للعام يقينا ويشك في اتصافه بعنوان المخصص والأصل عدمه صحيح.

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٣٦.

٢٥٩

وأنكره المحقق النائيني قدس‌سره ببيان مقدمات (١).

الأولى : انّ المخصص وان كان منفصلا يوجب تعنون العام وتضييقه بغير عنوان الخاصّ ، فانه يستحيل بقاء العام على سعته وإطلاقه مع ثبوت المخصص لاستلزامه اجتماع الضدين ، غايته في المخصص المتصل لا ينعقد ظهور للعام أصلا إلّا في المقدار الضيق ، وامّا في المنفصل فالظهور الجدي يكون ضيقا على المختار ، وإطلاق الوجوب يتقيد على مسلكهقدس‌سره ، ولا يكون التخصيص بالمنفصل من قبيل موت بعض افراد العام وانعدامه كما توهم ، خصوصا فيما يكون من قبيل القضايا الحقيقية التي ليس فيها نظر إلى الافراد الخارجية وانما هي أحكام معلقة على موضوعاتها المقدر وجودها.

الثانية : انّ الموضوع المركب ان كان مركبا من جوهرين كوجود الابن والأم في الإرث مثلا يمكن إحراز ذلك باستصحاب وجود كل منهما بنحو مفاد كان التامة ان كان متيقنا ، ويجري فيه استصحاب عدمه بنحو مفاد ليس التامة ان كان مسبوقا به. وهكذا ان كان مركبا من عرضين في محلين كركوع الإمام وركوع المأموم في الائتمام ، أو في محل واحد ككرية الماء وإطلاقه في زوال النجاسة به ، أو علم زيد وعدالته ، أو كان مركبا من جوهر وعرض في محل آخر كموت المورث بناء على عدم كونه من الاعراض وإسلام المورث ، فالظاهر في جميع هذه الموارد عدم اعتبار اتصاف الجزءين ، فانّ اعتباره فيهما يحتاج إلى مئونة زائدة ومن ثم يمكن فيهما إجراء الاستصحاب بنحو مفاد كان أو ليس التامة إذا كان امرا عدميا.

وامّا ان كان الموضوع مركبا من العرض ومحله فبما انّ انقسام الموضوع إلى اتصافه به وعدمه من الانقسامات السابقة للموضوع ، فانّ الرّجل مثلا في نفسه

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٦٥.

٢٦٠