دراسات في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

ثم لا فرق في ما ذكرناه من ظهور القيد في الاحترازية بين ما إذا كان في كلام واحد متصل كالمثال المتقدم ، أو في كلامين منفصلين في حكم الكلام الواحد المتصل كما لو قال «أعتق رقبة» وقال : «أعتق رقبة مؤمنة» وعلمنا من الخارج اتحاد الحكمين ، فلا بدّ حينئذ من حمل المطلق على المقيد سواء قلنا بمفهوم الوصف أم لم نقل.

الثالث : انّ المراد من الوصف ليس الوصف الاصطلاحي ، بل المراد منه مطلق القيد ولو مثل الجار والمجرور ونحوه مما يوجب تضييق الموضوع أو المتعلق ، فمثل قولك «صل في المسجد» داخل في محل البحث ، فانّ القيد فيه يضيق المتعلق ، ولذا لا يتحقق امتثاله بإتيان الصلاة في غير المسجد ، فكان الأنسب ان يعبر عن مفهوم الوصف بمفهوم القيد.

وكيف ما كان الظاهر انّ الوصف لا مفهوم له. وتفصيل ذلك : انّ القيد الوارد في الكلام ثبوتا يمكن ان يرجع إلى الهيئة أي الحكم ويعبر عنه بالمنشإ ، فيكون مقيدا من غير فرق بين إنشاء الطلب وغيره من العقود والإيقاعات فينشأ البيع معلقا على مجيء عمرو غاية الأمر ورد الدليل على مبطلية التعليق في غير الوصية والتدبير من العقود والإيقاعات ، كما يمكن ان يرجع إلى الموضوع أو المتعلق بان يقيد في المرتبة السابقة عن ثبوت الحكم ثم يتعلق به الحكم مقيدا فمهما كان القيد في الكلام من قبيل الأول فيثبت له المفهوم ويدل على انتفاء الحكم عند انتفاء القيد وإلّا لم يكن وجه ليضيقه ويقيده به ، وهذا بخلاف ما إذا كان القيد راجعا إلى الموضوع أو المتعلق فانّ ثبوت الحكم لموضوع خاص لا يستلزم انتفائه عن موضوع آخر ولو كان تعليق الحكم على القيد في بعض الموارد مشعرا بعلّيته للحكم.

نعم إذا كان علّة منحصرة له لدل على انتفائه عند انتفائها ، إلّا انه لا دلالة للكلام على الانحصار كما هو واضح ، فان ثبت بقرينة خارجية يثبت المفهوم أيضا. هذا كله في مقام الثبوت.

٢٢١

وامّا بحسب مقام الإثبات فإنّ ظاهر القضية المشتملة على الوصف رجوعه إلى الموضوع لا الحكم ، بل الظاهر انّ استعمالها في مورد إرادة إرجاع القيد إلى الهيئة غلط محض كأن يقول أحد «أكرم رجلا عالما» وأراد به تعليق وجوب إكرام الرّجل على كونه عالما ، وانه يثبت وجوب إكرامه إذا كان عالما. وعليه فدلالة الوصف على المفهوم تنحصر بما إذا قامت قرينة من الخارج على كونه علّة منحصرة.

وقد ذكر الميرزا (١) قدس‌سره انّ الوصف يدل على المفهوم في موردين ، أحدهما : إذا كان قيدا للحكم ، والثاني : فيما إذا استفيد انحصاره في العلّية من الخارج.

وقد عرفت انّ الموارد الأول غير تام لاستحالة رجوع الوصف إلى المنشأ ، وامّا الثاني فهو تام إذا قامت قرينة على الانحصار.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٣٥.

٢٢٢

مفهوم الغاية

الكلام في مفهوم الغاية : يقع في مقامين :

أحدهما : من حيث منطوق الكلام المشتمل على الغاية سعة وضيقا أعني دخول الغاية في المغيا وعدمه.

ثانيهما : من حيث المفهوم ودلالته على انتفاء الحكم عند تحقق الغاية وعدمها. ونؤخر التكلم في المقام الأول لنكتة ستظهر إن شاء الله فنقول :

امّا المقام الثاني : فثبوت المفهوم للكلام وعدمه يدور مدار رجوع القيد إلى الحكم ورجوعه إلى المتعلق أو الموضوع بحسب مقام الثبوت ، فعلى الأول ينتفي الحكم عند انتفاء القيد وإلّا لم يكن وجه لتقييده به على ما عرفت في مفهوم الشرط ، وقد استظهرناه هناك في مقام الإثبات أيضا خلافا للشيخ قدس‌سره حيث أنكر رجوع الشرط إلى الحكم لزعمه استحالته للوجهين المذكورين في كلامه. وامّا رجوع القيد إلى الحكم في القضية الشرطية بحسب القواعد العربية والظهور اللفظي فلم ينكره أحد حتى الشيخ قدس‌سره.

وبالجملة بحسب مقام الثبوت يمكن ان ترجع الغاية كغيرها من القيود إلى الحكم ، كما يمكن رجوعها إلى المتعلق أو الموضوع. وامّا بحسب مقام الإثبات فالغاية واسطة بين الشرط والوصف ، فانّ القضية الشرطية ظاهرة في تعليق مفاد جملة بجملة ، ومن ثم اخترنا دلالتها على المفهوم ، وامّا الوصف غير الغاية فالظاهر رجوعه إلى المتعلق أو الموضوع دون الحكم ، ولذا أنكرنا دلالته على المفهوم ، وامّا الغاية فكما ليس لرجوعها إلى الحكم أو الموضوع ضابط كلي ثبوتا ، ليس لها ضابط

٢٢٣

إثباتا أيضا ، وعليه فان كان الكلام المشتمل عليها ظاهرا في رجوعها إلى الموضوع أو المتعلق كما في قوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) فانّ ظاهره تحديد اليد التي تطلق على تمام اليد إلى المنكب وعلى المرفق فما دون وعلى الزند فما دونه بالمرفق لا تحديد الحكم ، فلا يثبت له مفهوم.

وإلّا فان كان الحكم مستفادا من الهيئة ومدلولا لمعنى حرفي لا يثبت له مفهوم أيضا ، وذلك لأنّ كل قيد مأخوذ في الكلام سواء كان وصفا اصطلاحيا أو ظرفا أو غاية أو غير ذلك التي يعبر عنها بالملابسات يرجع إلى المتعلق ، أعني العقل بحسب ظاهر اللفظ ، مثلا لو قال «صل في المسجد» فظاهره تقيد الصلاة بذلك لا الوجوب ، وكذا لو قال «صم إلى الليل» فيحدد الطبيعي أولا ثم يعلق به الحكم ، فلا يثبت حينئذ للكلام مفهوم ، بداهة انه لو اعترف أحد بأنّ الأرض الفلانية إلى المحل الكذائي ملك لزيد لا يستفاد منه انّ ما بعده ليس ملكا له ، وكذا لو قال المولى «الجلوس إلى الزوال واجب» لا يستفاد منه عدم وجوبه بعده.

واما ان كان الحكم مستفادا من معنى اسمي ، فان لم يكن متعلق الحكم مذكورا في الكلام كما لو قال «الخمر حرام إلى ان يضطر إليه» فبما انّ الخمر غير قابل لأن يقيد بتلك الغاية يدور الأمر بين ان تكون الغاية قيدا للمتعلق المقدر أعني الشرب ، وبين رجوعها إلى الحكم ، وحيث انّ الأول خلاف الأصل لأنه مبنى على الإضمار والتقدير يتعين الثاني ، فتكون راجعة إلى الحكم فيثبت المفهوم.

وان كان المتعلق مذكورا فلا بدّ من ملاحظة القرائن الخاصة الثابتة في الكلام ، فان دلت على رجوع الغاية إلى الحكم يثبت للكلام مفهوم ، كما انه إذا دلت على رجوعها إلى المتعلق أو إلى الموضوع لا يثبت له المفهوم ، وان لم يكن في البين قرينة

__________________

(١) المائدة ـ ٦.

٢٢٤

معينة لذلك فلا يثبت له المفهوم أيضا لإجمال الكلام. فثبوت المفهوم للغاية وعدمه ليس تحت ضابط كلي ، بل لا بدّ فيه من التفصيل ، ولذا ذكرنا انه وسط بين مفهوم الشرط والوصف.

وبالجملة ثبوت مفهوم الغاية مترتب على كون الغاية غاية للحكم لا لغيره من الموضوع أو المتعلق ، وإلّا فتدخل الغاية في الوصف الّذي عرفت عدم دلالته على المفهوم.

ثم انه بناء على رجوع الغاية إلى الحكم لا مجال للنزاع في المقام الأول أعني كون الغاية داخلة في المعنى وعدمه ، وهذه هي النكتة التي أخرنا لأجلها التكلم في المقام الأول.

بيان ذلك : انه لو كانت الغاية غاية للموضوع كما في آية الوضوء فانّ قوله فيها «إلى المرافق» تحديد لما أخذ موضوعا فيها وهو اليد ، يمكن النزاع في انّ الغاية أعني المرفق وهو مجمع العظمين داخل في المعنى أعني الموضوع وهو اليد فتعمه حكمه أعني به «وجوب الغسل» أو خارج عنه وامّا إذا كانت غاية للمتعلق كما في قولك «صم إلى الليل» فلا معنى لكون الغاية أعني الليل داخلة في المعنى وهو الإمساك حقيقة.

نعم يمكن ان تكون داخلة فيه حكما بان يكون محكوما بحكمه ، وامّا إذا كانت غاية لنفس الحكم كما لو قال : «الجلوس واجب إلى الزوال» فلا معنى لدخول الزوال في الحكم لا حقيقة ولا حكما ، فتأمل.

وكيف ما كان الأقوال في دخول المغيا في المعنى وعدمه أربعة ، ثالثها : التفصيل بين ما إذا كانا من جنسين أو من جنس واحد ، ورابعها : التفصيل بين ما إذا كانت الغاية مدخولا لكلمة «إلى» وما إذا كانت مدخولة لكلمة «حتى» بدعوى انّ لفظ «حتى» انما يستعمل لبيان الفرد الخفي كقولك «مات الناس حتى الأنبياء» فانهم

٢٢٥

من حيث الموت من الافراد الخفية للناس ، فلا محالة تكون داخلة في المعنى.

وفيه : ما لا يخفى فانّ كلمة «حتى» المستعملة لبيان الفرد الخفي كما في المثال أجنبية عن الغاية ، بل هي عاطفة بمعنى الواو ، ولذا لا يتعين الجر في مدخولها ، فهي خارجة عما نحن فيه ، فهذا التفصيل كالتفصيل السابق لا وجه له.

والصحيح : انه ليس لذلك ضابط كلي ، بل يختلف دخول الغاية في المغيا باختلاف الموارد والقرائن الخاصة ، ولو لم يكن في البين قرينة يكون الكلام مجملا من ذلك الحيث ، فيرجع إلى الأصل العملي.

٢٢٦

مفهوم الحصر

الكلام في مفهوم الحصر بكلمة «انما» أو لفظ «إلّا» الاستثنائية لا ما يكون وصفا كما في قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١).

وقد وقع الكلام في انّ لفظ «انما» كلمة مفردة أو مركبة من «انّ» و «ما» ولا أثر للبحث عن ذلك ، كما انه لا أثر للبحث عن كون دلالة أداة الحصر على الانتفاء عند الانتفاء دلالة منطوقية لكونها موضوعة لذلك ، أو انها دلالة مفهومية وانها موضوعة للحصر وبالالتزام تدل على ذلك.

فالمهم لنا استظهار دلالتها على الحصر. وكلمة «انما» وان لم نجد لها مرادفا في الفارسية إلّا انّ الظاهر عدم الخلاف عند أهل اللسان في دلالتها على الحصر كدلالة إلّا الاستثنائي عليه ، فانّ الاستثناء من النفي إثبات وبالعكس وقد خالف في دلالة لفظ «انما» على الحصر الرازي في تفسيره لقوله عزّ شأنه (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ)(٢) فانه على ما حكى بعد تسليمه نزول الآية في شأن علي عليه‌السلام أنكر دلالة «انما» على الحصر ، واستشهد في ذلك بقوله عزّ شأنه (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(٣) بدعوى انّ الحياة الدنيا غير منحصرة بها ، إذ يمكن صرفها في غير تلك الأمور من الجهاد والعبادات ، فلا يتم الحصر.

وفيه : ما لا يخفى ، امّا أولا : فبالنقض بكلمة «إلّا» فانه سلّم دلالتها على

__________________

(١) الأنبياء ـ ٢٢.

(٢) المائد ـ ٥٥.

(٣) محمد ـ ٣٦.

٢٢٧

الحصر ، وقد ورد في الآية الشريفة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُور)(١).

وثانيا : بالحل ، فانّ ما ذكره من الإشكال انما يتم لو كانت الحياة مضافة إلى الدنيا ، وهو أول الكلام ، بل الظاهر انّ الدنيا صفة للحياة أي الحياة الدنية ، فانّ الحياة تنقسم إلى عليا ودنيا ، والدنيا ليس إلّا متاع الغرور وليس إلّا لهو ولعب كحياة الحيوانات ، واما الحياة العليا فهي التي تصرف في مرضاته تعالى.

وبالجملة : بعد ما راجعنا ما ذكره في ذيل تفسيره لآية الولاية رأينا انه استشهد على ما أنكره من دلالة «انما» على الحصر بآيتين.

إحداهما : قوله عزّ شأنه (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ)(٢) بدعوى انّ لازم ظهور هذه الكلمة في الحصر ان يكون مثل الحياة منحصرا بما ذكر في الآية ، وهو واضح الفساد ، فانه يمكن تمثيل الدنيا بكل امر غير قار كالنوم ونحوه.

ثانيهما : قوله تعالى (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(٣) بدعوى انّ «انما» لو كان للحصر لزم ان يكون اللهو واللعب منحصرا بالحياة الدنيا دون غيرها من حياة الآخرة والبرزخ ، أو دون غيرها من الحياة العليا والوسطى لو كانت الدنيا صفة للحياة.

ويرد على الأول : انه انما يتم لو لم يكن الماء مدخولا لكلمة «لام» ، واما معه فلا مجال لذاك التوهم أصلا ، فإنّ معنى الآية حينئذ انّ مثل الحياة الدنيا بما يشبه الماء المنزل من السماء إلى آخر الآية ، أي من الأمور غير القارة لا في نفس الماء.

ويرد على الثاني : انّ الحصر في الآية المباركة حصر الحياة الدنيا باللهو واللعب لا العكس ، وقد ذكرنا انّ الحياة ليست مضافة إلى الدنيا ، بل الدنيا على

__________________

(١) آل عمران ـ ١٨٥.

(٢) يونس ـ ٢٤.

(٣) محمد ـ ٣٦.

٢٢٨

وزن فضلي صفة لها بمعنى افعل التفضيل أي الحياة الأدنى كحياة الحيوانات ، وهي منحصرة في اللهو واللعب دون غيرها من الحياة الوسطى والعليا ، فالحصر ثابت في الآيتين ولا محذور فيه.

وخالف أبو حنيفة في دلالة «إلّا» الاستثنائية على الحصر بتوهم انه لو كان مفيدا للحصر لزم عدم صدق الصلاة على غير الطهور لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا صلاة إلّا بطهور».

وفيه : انّ المستثنى لو كان مدخولا لحرف الجر فمفاد الاستثناء ليس إلّا عدم تحقق المستثنى منه بدونه لكونه دخيلا فيه شطرا أو شرطا كما في قوله عليه‌السلام «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» أو «إلّا إلى القبلة» فمفاده : انحصار تحقق المستثنى منه في فرض تحقق المستثنى ، وهذا ثابت واضح.

ثم انه قد استدل على دلالة الاستثناء على الحصر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أسلم من قال لا إله إلّا الله» فإنّه لو لم يكن دالا على الحصر لما كان دالا على الإقرار بالتوحيد.

وأورد على ذلك : تارة : بأنّ قبوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك لعله كان للتعبد أو لقرائن خاصة.

ولكن الإنصاف : انّ ظهور الاستثناء في الحصر أوضح من ان يستدل عليه بهذا الاستدلال ليجاب عنه ، فانه امر ظاهر عند أهل اللسان ، وقد صرحوا به في كتب اللغة.

ثم انّ في كلمة الإخلاص إشكال معروف وهو انه لو قدر فيها خبر لا لفظ موجود لما دل على نفي إمكان تعدد الآلهة ، ولو جعل المقدر عنوان ممكن لما استفيد منه إثبات وجود الإله الواحد.

والجواب عنه واضح ، فانّ الإله واجب الوجود ذاتا وصفة ، فلو جعلنا الخبر ممكن لا يجوز ان يراد منه إمكان الخاصّ الّذي هو بمعنى سلب الضرورة من

٢٢٩

الطرفين ، بل لا بدّ وان يراد منه الإمكان الخاصّ أي نفي الضرورة من ناحية عدمه فالمعنى لا إله ممكن بالإمكان الخاصّ إلّا الله ، فإذا أمكن وجب وجوده. كما انه لو جعل المقدر موجود فنفي الوجود عن المتعدد مستلزم لنفي إمكانه ، لأنّ الواجب بالذات لو كان ممكنا لوجب وجوده ، فعدم وجوده ملازم لعدم إمكانه ، كما انّ صفاته الذاتيّة أيضا كذلك ، فانّ كل صفة يمكن ثبوتها فيه تعالى تجب كالصفات الثبوتية من الحياة والعلم والقدرة ، وما لا يمكن ثبوته فيه يجب عدمه كالصفات السلبية.

ثم انّ بعض أجرى ما ذكرناه في صفاته تعالى في أفعاله أيضا على ما حكاه شيخنا المحقق في حاشية الكفاية بدعوى : انه تعالى فياض ومنبع للفيض فان كان المحل قابلا يجب عليه الإفاضة ، وإلّا فيمتنع ، فإمكان الاستفاضة في المحل ملازم لوجوب الإفاضة.

وفيه : انّ الوجوب هناك ليس وجوبا ذاتيا وانما هو بمعنى ما لا ينبغي تركه على الحكيم ، فانا قد بينا في محله انّ أفعاله تعالى صادرة عنه بإرادته واختياره ، فهو فاعل مختار لا مجبور ، وهذا بخلاف الوجوب في ذاته وصفاته فانه وجوب ذاتي ، وأحد أدلة التوحيد التي استدل به ، فانهم ذكروا انّ تعدد الإله لو كان ممكنا لوجب وجوده ، فيلزم وجود الآلهة إلى ما لا نهاية له ، إذ لا ترجيح لبعض مراتب العدد على بعض.

هذا تمام الكلام في بحث المفاهيم.

٢٣٠

مبحث العام والخاصّ

تعريف العام واقسامه.

حجية العام في الباقي بعد التخصيص.

حكم العام مع المخصص المجمل.

عدم حجية العام قبل الفحص عن المخصص.

اختصاص الخطاب بالمشافهين وعدمه.

تعقب العام بضمير يرجع إلى بعضه.

تخصيص العام بالمفهوم.

تعقب الاستثناء لجمل متعددة.

تخصيص العام القرآني بخبر الواحد.

النسخ والبداء.

٢٣١
٢٣٢

العام والخاصّ

الكلام في العموم والخصوص يقع في جهات :

الجهة الأولى : انّ العموم لغة بمعنى الشمول. واصطلاحا عبارة عن شمول اللفظ لكل ما يصلح ان ينطبق عليه بالوضع ، سواء كان ذلك بدلالة اللفظ بمادته مثل «كل» أو بهيئته فقط كالجمع المحلى باللام ، ويعبر عنه بالعامّ الأصولي.

وبهذا القيد ظهر الفرق بينه وبين الإطلاق ، فانّ المطلق أيضا يشمل كل ما يمكن ان ينطبق عليه إلّا انه ليس بالوضع بل بمقدمات الحكمة ، كما في قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) وقوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً)(٢) فالبيع فيها يشمل كل ما يمكن انطباقه عليه من أفراده إلّا انه ليس لأجل وضع اللفظ لذلك ، بل هو من جهة عدم وجود قرينة في الكلام معينة لبعض الافراد ، وحلية الفرد غير المعين لا فائدة فيها ، فيحمل على العموم والشمول ، وهكذا الكلام في لفظ الماء في الآية الثانية.

وقد ظهر أيضا مما ذكرناه في تعريف العموم الاصطلاحي أعني الأصولي انّ المركب الشامل لأجزائه غير داخل فيه وان كان عاما لغويا كالدار والصلاة والاعداد ، فانها وان كانت تشمل اجزائها إلّا انّ كل منها ليس مما يصلح ان ينطبق عليه تلك العناوين ، فلا ينطبق عنوان الصلاة على كل من الركوع والسجود ونحو ذلك ، كما لا ينطبق عنوان الدار على كل من القبة والسرداب والسطح ، والعشرة لا

__________________

(١) البقرة ـ ٢٧٥.

(٢) الفرقان ـ ٤٨.

٢٣٣

تنطبق على كل من الوحدات وهكذا ، فلا يعمه التعريف الاصطلاحي. نعم يمكن ان يعم كل منها أفراده إذا ادخل عليه بعض أداة العموم كلفظ كل ، فقيل كل عشرة ينقسم إلى متساويين مثلا ، ولكن العموم حينئذ مستفاد من أداته لا من لفظ العشرة.

ثم انّ ثمرة هذا الاصطلاح تظهر في مبحث التعادل والتراجيح في مسألة التعارض بين العموم والإطلاق ، فانّ العام يتقدم على المطلق بلا إشكال. ولتوضيح ذلك اصطلحوا على العام بالعامّ الأصولي.

الجهة الثانية : انّ العموم ينقسم إلى أقسام من الاستغراقي والمجموعي والبدلي. ولا فرق بين هذه الأقسام من حيث الشمول الّذي هو الجهة المشتركة بينها ، فهذا التقسيم انما هو بلحاظ اختلاف كيفية جعل الحكم لا في نفسه ، فانّ الحاكم في مقام حكمه ، تارة : يلاحظ الطبيعي بما هو طبيعي فتكون القضية طبيعية ، فلا يحمل عليه سوى ذاتياته ، كقولك «الإنسان حيوان ناطق» ، وهو خارج عن محل الكلام ، وأخرى : يلاحظه فانيا في أفراده بنحو مطلق الوجود ، ومن هذا القبيل غالب القضايا الحقيقية فيقال «أكرم كل عالم» وثالثة : يلاحظه فانيا في الافراد من حيث المجموع ، ورابعة : يلاحظه فانيا فيها بنحو صرف الوجود المنطبق على أول الوجودات ، ويعبر عنه بالعامّ البدلي. نعم العام البدلي شمولي من حيث مدلوله الالتزامي ، وهو ترخيص المكلف في تطبيق الطبيعي على أيّ فرد شاء.

ثم انه لا يشتبه العموم البدلي بالقسمين الأولين ، لأنّ أداته غالبا تكون كلمة «أيّ» ، ولكن ربما يشتبه كل منهما بالآخر فيما إذا كان أداة العموم هيئة الجمع المحلى باللام ، كما لو قال «أكرم العلماء» فإذا شككنا في انّ المراد هو العموم المجموعي أو الاستغراقي ولم يكن قرينة معينة لأحدهما ، فهل هناك أصل لفظي يعين لنا أحدهما ، أم لا؟

٢٣٤

ذهب الميرزا قدس‌سره (١) إلى انّ الأصل في العموم ان يكون استغراقيا ، لأنّ المجموعي محتاج إلى مئونة زائدة في مقام الثبوت ، وهو لحاظ وحدة الكثرات ، فإذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه فالإطلاق يقتضي عدمه.

ويظهر الجواب عنه مما بيناه ، فانّ العموم المجموعي والاستغراقي ليسا من قبيل الأقل والأكثر ليحتاج أحدهما إلى مئونة زائدة ، بل كل منهما محتاج إلى لحاظ مباين للحاظ الآخر ، ففي العموم الاستغراقي لا بدّ من لحاظ الكثرات على ما هي عليها من الكثرة فتأمل ، وفي العموم المجموعي لا بدّ من لحاظها واحدة ، فليس في البين أصل لفظي يرجع إليه ، بل لا بدّ حينئذ من الرجوع إلى الأصل العملي.

ثم انه لا إشكال في ثبوت ألفاظ موضوعة للعموم وسريان الحكم إلى مجموع الافراد ، كما لا إشكال في ثبوت ألفاظ للخصوص كلفظ «البعض». ولا وجه لما ذكر من انّ من ثبوت ذلك مستلزم لكثرة المجاز فانّ أغلب العمومات مخصصة حتى قيل انه ما من عام إلّا وقد خص ، فإذا كانت ألفاظه موضوعة للعموم يلزم ان تكون أغلب الألفاظ الموضوعة للعموم مستعملة في غير ما وضعت له لما ستعرفه ، مضافا إلى انّ إرادة خلاف الظاهر له من اللفظ غير مستلزم لمجازيته من انّ التخصيص بالمتصل لا ينافي عموم العام وشموله ، لأنّ المدخول أولا يقيد ثم يرد عليه لفظ العموم ، وهكذا في المنفصل ، فانّ عدم شمول الحكم لبعض الافراد لا ينافي استعمال العام في العموم كما سيتضح إن شاء الله.

ثم انه وقع الخلاف في انّ سعة الحكم وشموله لجميع أفراد الطبيعة هل يتوقف على إجراء مقدمات الحكمة في مدخول أداة العموم أم لا؟

ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره إلى الأول وتبعه الميرزا قدس‌سره في ذلك (٢) ، وتعرض

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٤٣.

(٢) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٣٤ ـ ٣٣٥. أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

٢٣٥

لكل من لفظ «كل» و «الجمع المحلى باللام والنكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي» وذكر ما حاصله : انّ لفظ «كل» وان كان موضوعا لسراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله إلّا انه قد يكون المدخول وسيعا ، كما لو قال «أطعم كل حيوان» وقد يكون ضيقا كما لو قال : «أكرم كل إنسان» فسعة دائرة المدخول وكثرة أفراده أو ضيقه وقلة أفراده أجنبي عن لفظ «كل» فإذا قال «أكرم كل عالم» واحتملنا انه أراد منه خصوص الفقيه وأطلق عليه العالم من باب إطلاق المطلق على بعض أفراده ، ونصب عليه قرينة خفيت علينا ، فلفظ «كل» لا يدفع ذلك ، بل لا بدّ فيه من الرجوع إلى قرائن خاصة أو عامة ، وهي مقدمات الحكمة.

وامّا المحلى باللام فكلمة «لام» لا تفيد العموم ، كما انّ مجرد الجمع أيضا لا يفيده ، بل العموم مستفاد من ورود مجموع تلك الهيئة على الطبيعي ، وإطلاقه لا بدّ وان يستكشف من إجراء مقدمات الحكمة في المادة. وامّا النكرة في سياق النفي أو النهي فانعدام الطبيعي وان كان بعدم جميع أفراده عقلا إلّا انّ كون متعلقه هو مطلق الطبيعي دون المقيد لا بدّ وان يستفاد من الإطلاق ومقدمات الحكمة.

هذا ونقول : ما أفاده في النكرة في سياق النفي أو النهي متين جدا ، فانّ لفظة «لا» انما تدل على انّ متعلقها مورد لزجر المولى أو لنفيه ، وامّا كون المتعلق مطلق الطبيعي أو الحصة الخاصة منه فهو أجنبي عن الهيئة كما في الإيجاب ، فلا فرق بين القضية الموجبة والسالبة من هذه الجهة ، فكما انّ شمول الحل في قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) لجميع أفراده مبني على إجراء مقدمات الحكمة في المتعلق ، كذلك في قولك «لا تكرم فاسقا» إطلاق الفاسق وعدم تقيده بقيد لا بدّ وان يدفع بتلك المقدمات ، والهيئة لا دلالة فيها إلّا على الزجر عن ما أريد من المتعلق ، فالشمول في ذلك لجميع

__________________

(١) البقرة ـ ٢٧٥.

٢٣٦

الافراد مبني عليها.

ومن ثم لو وقع التعارض بين القضية السالبة والموجبة كما لو ورد «أكرم عالما» وفي آخر «لا تكرم فاسقا» لا يقدم الثاني على الأول ، بل يرجع فيه إلى مرجحات باب التعارض ، وليس هذا إلّا من جهة انّ السريان في كل منهما مستفاد من مقدمات الحكمة وان كان إطلاق الثاني شموليا والأول بدليا ، مع انّ كلامنا فعلا ليس من تلك الحيثية أعني الترجيح من حيث البدلية والشمولية ، وهذا في النكرة في سياق النفي أو النهي واضح.

واما لفظ «كل» فالظاهر انه بالوضع يدل على عدم تقيد مدخوله بغير ما ذكر في الكلام من القيود ، فما هو مستفاد من عدم التقيد في الإطلاق لعدم الدليل يستفاد من نفس كلمة «كل» بالوضع ، فهي دليل على العدم والشاهد على ذلك هو الاستعمالات العرفية ، فلو قال أحد لعبده «بع كل كتبي أو جميعها» فيسأل العبد مولاه بعد ذلك هل أبيع خصوص العربية منها أو جميعها يلومه مولاه ويقول له «أما قلت لك بع كلها».

وبالجملة فلفظ «كل وجميع وما بمعناه» بنفسها تدل على إطلاق المدخول وعدم تقيده بقيد زائد على ما ذكر في الكلام ، ومعه لا مجال للتمسك بمقدمات الحكمة ، وهذا هو السر في تقديم ذلك على المطلقات عند التعارض كما هو ظاهر.

وامّا الجمع المحلى باللام ، فلا ينبغي الريب في دلالته على العموم بالوضع كلفظ «كل» ، ولذا لو قال المولى «أكرم العلماء» لا مجال لسؤال المكلف عن انّ مرادك إكرام جميعهم أو خصوص حصة منهم؟

وانما الكلام في انّ العموم مستفاد من وضع خصوص المادة أعني بها الجمع ، أو من هيئة المجموع من حيث المجموع من اللام والجمع ، أو من خصوص الألف واللام.

٢٣٧

امّا احتمال استفادته من خصوص الجمع فواضح الفساد ، ولم يقل به أحد. كما انّ احتمال وضع هيئة المجموع لذلك يدفعه صحة استعمال الجمع المحلى باللام في موارد العهد من الذهني والذكري بلا مسامحة ، ولو كانت تلك الهيئة موضوعة للعموم لكان استعمالها في ذلك مجازا ، مضافا إلى انه لا وجه لوضع مجموع الهيئتين بعد وضع كل منهما مستقلا ، لأنه خلاف المتعارف في باب الأوضاع.

فيتعين الاحتمال الثالث ، وهو كون العموم مستفادا من كلمة «أل» ، بيان ذلك : هو انّ هذه الكلمة موضوعة للإشارة والتعريف ، فإذا أدخلت على المفرد أعني الطبيعي تكون إشارة إلى الجنس ومعرفا له ، سواء أريد به نفس الطبيعي كما في قولك «الإنسان نوع» أو أخذ بنحو السريان إلى الخارج كما في قولك «الرّجل خير من المرأة» واما إذا دخلت على الجمع فبما انّ الجمع لا يراد منه الطبيعي بل يكون ناظرا إلى الافراد لدلالته على العدد ، كما انه ليس المراد منه صرف وجود الطبيعي لدلالته على التعدد والكثرة ، وطبيعي الكثرة ليس إلّا جامعا مسامحيا انتزاعيا ، فلا بدّ وان يراد باللام الافراد الكثيرة وتعيين تلك الكثرة وتعريفها. فإذا كان في البين عهد ذهني أو ذكري يتعين به مقدار منها ، كما لو ذكر جماعة من العلماء ثم قال «أكرم العلماء» فهو ، وإلّا فلا بدّ وان يكون اللام إشارة إلى جميع الافراد ، لأنه المعين الّذي لا إبهام فيه ولا ترديد دون غيره من مراتب الكثرة.

فلا وجه لأن يقال : انّ أقل الجمع وهو الثلاثة هو المتعين ، لأنه وان كان معينا من حيث العدد إلّا انه نكرة مبهم من حيث الانطباق على كل ثلاثة من الطبيعي ، وهكذا احتمال تعيين أكثر مراتب الجمع وهو العشرة.

وبالجملة الافراد الكثيرة المتعينة من جميع الجهات إلّا جميع الافراد فيتعين باللام ، فدلالته على العموم تكون مستندة بالوضع بهذا البيان ، ولذا يتقدم الجمع المحلى باللام على المطلق عند المعارضة ولو كان إطلاقه شموليا فضلا عن ما إذا كان بدليا.

٢٣٨

فصل : في العام المخصص وانه هل يكون مجازا أم لا؟

امّا على ما سلكه الآخوند (١) وتبعه في ذلك الميرزا قدس‌سره (٢) من استفادة العموم من إطلاق المدخول فعدم المجازية واضح ، اما في المخصص المتصل فلأنّ إطلاق المدخول يقيد ويضيق دائرته أولا ثم يرد العموم عليه ، فيكون العموم بمقدار سعة المدخول ، وعليه فإطلاق التخصيص على مثل ذلك غير خال عن المسامحة. وامّا في التخصيص بالمنفصل ، ففي غير الشارع المقدس العالم بالأشياء يكون التخصيص بالمنفصل من قبيل النسخ والبداء ، فلو قال «أضف جيراني» ثم قال «لا تضف البغدادي منهم» يكون الثاني نسخا للحكم الأول بالقياس إلى بعض مدلوله ، فلا يستلزم مجازية العموم واستعماله في غيره ، واما في الشارع المستحيل في حقه البداء فالتخصيص المنفصل يستكشف منه انّ مراده من المدخول من الأول لم يكن مطلقا ، بل كان مقيدا ، ومن الواضح كما سيأتي في بحث المطلق والمقيد انّ تقييد الإطلاق لا يستلزم المجازية وان كان خلاف الظاهر ، وذلك لأنّ شيئا من الإطلاق والتقييد ليس جزء مما وضع له اللفظ المطلق ، بل وكلاهما خارجان عن الموضوع له ، وظهور اللفظ في الإطلاق وان لم يكن قابلا للإنكار إلّا انه مستفاد من مقدمات الحكمة كما هو ظاهر.

وامّا على المسلك المختار ، فعدم المجازية في التخصيص بالمتصل واضح ، فانّ المدخول يقيد أولا ثم يدخل أداة العموم على المفهوم الضيق ، وقد عرفت ان لفظ

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٣٥.

(٢) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٤٧.

٢٣٩

أداة العموم موضوعة للدلالة على عدم دخل خصوصية أخرى في الحكم غير ما ذكر في اللفظ. وامّا في التخصيص بالمنفصل ، فبيان عدم المجازية يتوقف على ذكر مقدمة وهي : انا قد ذكرنا في مبحث الوضع انّ الدلالة الوضعيّة انما هي الدلالة التصديقية ، أي دلالة اللفظ على انّ المتكلم به أراد تفهيم معناه ، وهي التي تستند إلى الوضع ، واما الدلالة التصورية فهي مستندة إلى أنس الذهن وأجنبية عن الوضع ، وذلك لأنّ الوضع عبارة عن تعهد الواضع ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، فالدلالة الوضعيّة دلالة اللفظ على قصد تفهيم المعنى وبيانه ، وهذه هي النعمة المهمة التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان وذكرها بقوله عزّ شأنه (عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(١) ولو لا تلك أي القدرة على البيان لاختل أمور الإنسان ولم يتمكن من تفهيم أكثر مقاصده بالإشارة ونحوها ، امّا في الكلمة ونحوها فظاهر ، وامّا في غيره فلعدم إمكان تفهيم جميع المقاصد بها كما هو واضح.

والظاهر انّ المراد بالناطق المستعمل في تعريف الإنسان هو القدرة على تفهيم مقاصده بالألفاظ ، لا مجرد التكلم ، فانه مشترك بينه وبين جملة من غيره من الحيوانات ، فالدلالة المستندة إلى الوضع هي دلالة اللفظ على قصد المتكلم للتفهيم ، وهناك دلالة أخرى للفظ مستندة إلى بناء العقلاء وهي الدلالة على انّ ما قصد تفهيمه هو مراده الجدي ، ويعبر عنها بالحجية.

إذا عرفت هذا فنقول : القرائن المنفصلة ومنها التخصيص انما تزاحم الدلالة الثانية وهي الحجية دون الدلالة الأولى ، مثلا إذا قال : «أكرم كل عالم» ثم قال «لا تكرم فساقهم» فالمخصص سواء كان حكما شخصيا أو كليا يكشف عن انّ المراد الجدي لم يتعلق بالعموم وجميع أفراد العالم ، ولا ينافي الدلالة الأولى أعني كون

__________________

(١) الرحمن ـ ٤.

٢٤٠