دراسات في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

مفهومه موجبة جزئية ، أو انّ المنفي هو الحكم العام فيكون المفهوم موجبة كلية؟ وجهان بل قولان.

ذهب جماعة إلى الأول بدعوى : انّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية ، والمفهوم هو نقيض المنطوق. وذهب بعض منهم الميرزا قدس‌سره (١) إلى الثاني ، وذكر انّ ما ذهب إليه المنطقي من انّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية أجنبي عن مداليل الألفاظ ، لأنّ المنطقي غرضه انما هو جعل قواعد كلية ممهدة في مقام البرهان ، فلما رأى انّ الموجبة الجزئية هي التي تناقض السالبة الكلية بحيث لا يتصادقان ولا يتكاذبان ويستحيل اجتماعهما وارتفاعها فذكروا انّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية دون غيرها ، وهذا لا ربط له بظهورات الألفاظ ومداليلها المبتنية على الاستظهارات العرفية.

وعليه فحيث انّ العموم في القضية مستفاد من معنى حرفي وهو وقوع النكرة في سياق النفي وليس مستفادا من معنى اسمي مثل لفظة «كل» ونحوه فهو غير قابل للتعليق على الشرط ، فالمعلّق عليه لا بدّ وان يكون مفاد جملة الجزاء ، وهو الحكم العام المنحل إلى أحكام عديدة بعدد افراد موضوعه ، فإذا انتفى الشرط تنتفي تلك الأحكام بأجمعها ، فمفهوم قوله عليه‌السلام «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء» انه إذا لم يبلغ الكر ينجسه كل شيء.

ثم ذكر قدس‌سره انّ كلية المفهوم وعدمها لا يترتب عليها ثمرة في المثال ، لأنه إذا ثبت تنجس الماء القليل بشيء ما من النجاسات يثبت انفعاله بجميعها بعدم القول بالفصل. نعم يترتب الثمرة على ذلك في غير المقام.

ثم أجاب عنه بأنه يمكن ان يقال : بظهور الثمرة في ملاقاة القليل مع المتنجس

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٢١.

٢٠١

لعدم تحقق الإجماع بالقياس إليه.

ودفع ذلك أيضا : بأنه لا يمكن ان يراد من الشيء في الحديث كل ما يطلق عليه هذا العنوان ، فانّ لازمه ان ينفعل القليل بكل شيء حتى بملاقاته مع الطاهر أو بالتكلم ونحوه ، وهذا بديهي الفساد ، بل المراد منه ما يكون فيه قابلية التنجيس وشأنيته ، فقوله : «لا ينجسه شيء» من قبيل عدم الملكة ، وقابلية الشيء للتنجيس وعدمها لا بدّ وان يستفاد من دليل آخر. وعليه فدليل تنجيس المتنجس ان كان له إطلاق يثبت به تنجيسه للماء القليل وإلّا فلا ، سواء كان المفهوم كليا أو جزئيا.

هذا ملخص ما أفاده ، ولنا فيه مواقع للنظر.

اما : أولا : فلأنّ ما أفاده من استحالة رجوع القيد إلى العموم لكونه مستفادا من معنى حرفي قد عرفت ما فيه.

وثانيا : نسلم انّ المعلّق انما هو الحكم العام لا عموم الحكم ، إلّا انّ المنشأ فيه ليس إلّا حكما واحدا متعلقا بالطبيعة السارية ، فانّ اللفظ الواحد ليس له إلّا مدلول واحد غايته لبّا ينحل إلى أحكام عديدة ، فالانحلال مدلول التزامي له لا انه ينشأ به أحكاما عديدة ، كما في الاخبار أيضا فإذا أخبر أحد كذبا مثلا قال : «كل فرد ينقسم إلى متساويين» لم يكذب كذبا غير متناه بالبداهة ، لانحلال خبره إلى اخبار غير متناهية لعدم تناهي الاعداد ، وذلك لأنّ المخبر به هو امر واحد غايته بالالتزام ينحل إلى إخبارات عديدة ، وهذا امر ظاهر.

وعليه فإذا كان الحكم في المنطوق حكما واحدا فهذا الحكم الواحد ينتفي بانتفاء الشرط وتحقق انتفائه بالموجبة الجزئية كما هو واضح ، وقد مثلنا لذلك بمثالين عرفيين : أحدهما : ما إذا قيل «إذا لبس زيد درعه فلا يخاف أحدا» فانه ليس مفهومه انه لو لم يلبسه يخاف من كل أحد ، وكذا لو قيل «انّ الأمير إذا غصب لا يحترم أحدا» فانه ليس مفهومه انه إذا لم يغضب يحترم كل أحد ، والسر في جميع ذلك ما

٢٠٢

ذكرناه من انّ المنفي عند انتفاء الشرط ليس إلّا الحكم المذكور في المنطوق أعني الحكم العام على ما عرفت.

وثالثا : ما ذكره من عدم ظهور الثمرة في تنجيس المتنجس للماء القليل.

وفيه : انه لو كان في البين دليل خاص على انفعال الماء القليل بملاقاته مع المتنجس كما يستفاد ذلك من بعض الاخبار الواردة في الوضوءات البيانية وانه عليه‌السلام اغترف بيده من الإناء وقال هكذا ان كانت الكف طاهرة ، فلا ثمرة ، كما انه لا ثمرة أيضا لو قلنا بوجود الدليل الخاصّ على عدم انفعال الماء القليل من المتنجس ، كما ذهب إليه في الكفاية ومال إليه بعض مشايخنا العظام قدس‌سرهم. ولكن لو فرضنا عدم الدليل على شيء من الأمرين فلا محالة تظهر الثمرة حينئذ ، لأنّ مفهوم الخبر المزبور ان كان موجبة كلية فيستفاد منه تنجسه بالمتنجس ، وان كان موجبة جزئية فلا.

وتوهم : انّ المراد من الشيء في الحديث خصوص ما يكون فيه شأنية التنجيس ذاتا لا مطلقا وإلّا فما فيه شأنية التنجيس بالعرض فغير متناه ، فلا ثمرة بين القولين في تنجيس المتنجس وعدمه.

مدفوع : إذ لا وجه لتخصيص الشيء بالنجاسات العينية أصلا.

وبالجملة فثمرة كلية المفهوم وجزئيته تظهر في المتنجسات ، فانّ عدم القول بالفصل غير تام بالإضافة إلى المتنجسات. نعم في نفس المتنجسات عدم القول بالفصل ثابت ، إذ لم يفصل في تنجس الماء القليل بمتنجس دون متنجس ، وهذا واضح.

التنبيه الرابع : فيما إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء. والمثال المعروف لذلك قولهم «إذا خفي الأذان فقصر ، وإذا خفي الجدران فقصر» ولم يرد هذا المضمون في الروايات ، وما ورد في الاخبار انما هو تواري المسافر عن البلد ، الّذي أرجعوه إلى تواري البلد عنه وعدم سماعه للأذان ، ولا كلام لنا في ذلك.

٢٠٣

وعلى أي حال تارة : يكون بين الشرطين ملازمة خارجا لا يتحقق أحدهما بدون الآخر ، بل يكونان عنوانين لأمر واحد ، نظير عنوان بريدين وثمانية فراسخ ومسيرة يوم وبياض يوم المأخوذ شرطا في وجوب القصر ، فانّ المراد من مجموعها شيء واحد ، ولا بأس بأن نعبر عن ذلك بالتساوي.

ونقول : تارة : يكون الشرطان متساويين لكن في الصدق ، وهذا الفرض خارج عن محل الكلام ، لأنه من قبيل اتحاد الشرط.

وأخرى : يكون أحد الشرطين أخص مطلقا من الآخر بمعنى انّ أحدهما أقل ويتحقق قبل الآخر ، كما لو حدد المسافة المعتبرة في القصر في رواية بميل وفي أخرى بميلين ، وقال في أحدهما «إذا سرت ميلا فقصر» وفي الآخر «إذا سرت ميلين فقصر» وفي هذا الفرض يقع المعارضة بينهما لا محالة ، فانّ مقتضى التحديد بالأقل عدم اعتبار الزائد فيه ، فلا بدّ من علاج التعارض إلّا إذا كانا معرفين للآخر أو كان أحدهما معرفا للآخر نظير ما ذكر في تحديد الكر بالأشبار من انه معرف للوزن وقيل ذلك في خفاء الجدران والأذان مطلقا. فانّ الظاهر ان خفاء الجدران جعل معرفا لخفاء الأذان ، حيث انّ النّظر غالبا لا يصادف أوقات الأذان والميزان في خفاء الأذان انما هو بالبلد المتعارف والمؤذن المتعارف والمحل المتعارف والهواء المتعارف وغير ذلك مما يوجب اختلافا فيه ، فانّ عدم سماع الأذان يختلف باختلاف قوة سامعة المسافر وصوت المؤذن ومكان الأذان من حيث كونه في آخر البلد أو وسطه وهكذا ، وحيث انّ ذلك غير مضبوط ويعسر إحرازه للمسافر غالبا جعل خفاء الجدران الّذي هو امر ميسور معرفا لذلك ، فلا يضر اختلافه في المقدار مع خفاء الأذان.

وهذا الفرض أيضا مطلقا غير داخل فيما بينه ، فما مثل به في الكفاية لمحل البحث بهما غير خال عن المسامحة ، إذ لا تجري فيه الوجوه المذكورة لرفع التنافي كما

٢٠٤

ستعرف.

وثالثة : يكون الشرطان من قبيل المتباينين بمعنى استحالة اجتماعهما خارجا ، نظير ما لو قال «ان تولد ولدك الخاصّ في شهر المحرم فتصدق» وورد أيضا «ان تولد ذاك الولد في شهر الصيام فتصدق» وفي هذا الفرض أيضا لا مجال لجريان بعض الوجوه المذكورة لرفع التنافي على ما سنبينه.

ورابعة : يكون بين الشرطين عموم من وجه بمعنى إمكان تحقق كل منهما خارجا بدون الآخر وإمكان اجتماعهما ، وفي هذا أيضا لو لم نقل بثبوت المفهوم للقضية الشرطية مطلقا فلا تنافي بين القضيتين ، لأنه نظير الأمر بإكرام زيد وإيجاب إكرام عمرو ، ولا ربط لأحدهما بالآخر ، واما إذا قلنا بثبوت المفهوم لهما فلا محالة يقع التنافي بين منطوق كل منهما ومفهوم الآخر.

وبالجملة فمحل الكلام الّذي يجري فيه جميع الوجوه الآتية متقوم بأمرين.

أحدهما : ان يكون بين الشرطين عموم من وجه.

وثانيهما : ان يلتزم بثبوت المفهوم للجملة الشرطية ، وحينئذ فبما انّ مفهوم كل منهما يقتضي انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط المذكور فيه مطلقا لا محالة يقع التنافي بين إطلاقه ومنطوق الآخر المثبت للجزاء عند تحقق الشرط الآخر.

وقد ذهبوا في دفع ذلك إلى جهات.

أحدها : انه لا تدل كل من القضيتين حينئذ إلّا على الثبوت عند الثبوت ، ولا تدلان على الانتفاء عند الانتفاء ، فلا مفهوم لهما ، وقد نسب ذلك إلى الجواهر.

وفيه : انه لا وجه لرفع اليد عن المفهوم رأسا مع كون المعارضة بين إطلاقه ومنطوق الآخر ، فأنّه انما يرفع اليد عن المتعارضين أو عن أحدهما بمقدار التنافي لا أزيد.

ثانيها : انه يقيد إطلاق كل من المفهومين بعدم تحقق الشرط الآخر.

٢٠٥

وفيه : انّ المفهوم انما هو دلالة التزامية ثابتة بحكم العقل مستفادة من انحصار العلّة ، المستفاد من إطلاق الحكم وتعليقه على الشرط من دون ذكر عدل له ، نظير دلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدمته من باب الملازمة ، ومع بقاء المنطوق على إطلاقه يستحيل تقييد المفهوم لأنه تخصيص في حكم العقل ، وهو مستحيل كاستحالة تخصيص وجوب مقدمة الواجب بمورد دون مورد.

ثالثها : ان يقيد إطلاق كل من القضيتين بالآخر بالواو ، فيكون الشرط حينئذ مركبا منهما ، فإذا تحققا معا يتحقق الجزاء ، وإذا انتفى أحدهما ينتفي الجزاء.

ورابعها : ان يقيد إطلاق كل من الشرطين بالآخر بأو ، فيكون الشرط أحدهما على البدل ، فإذا انتفيا معا ينتفي الجزاء.

خامسها : ما ذكره في الكفاية واستدل عليه ببرهان عقلي ، وهو كون الشرط هو الجامع بينهما ، لأنّ الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد ، فتأثير كل منهما في تحقق الجزاء يقتضي ان يكون المؤثر امرا واحدا وهو الجامع بينهما (١).

وفيه : على فرض تسليم البرهان وانّ الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد ولا يصدر إلّا من الواحد انّ ذلك لا يجري فيما يرجع إلى الأحكام الشرعية التي ذكرنا مرارا انّ بابه أجنبي عن باب التأثير والتأثر ، وانما هي معرفات.

هذا مضافا إلى انّ ذلك انما يتم فيما إذا قلنا : بأنّ كلا من الشرطين شرط على البدل ، وامّا إذا قلنا : بأنّ مجموعهما شرط فلا مجال حينئذ لهذا البرهان والقول بأنّ الشرط هو الجامع أصلا.

فهذه الوجوه كلها فاسدة سوى الوجهين المتوسطين ، أعني تقييد كل من الشرطين بالآخر بأو أو بالواو ، ولا بدّ من اختيار أحدهما.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣١٣ ـ ٣١٤.

٢٠٦

امّا فيما إذا كان الشرطان متباينين فالعطف بالواو غير جار ، لاستحالة اجتماعهما على الفرض ، فيدور الأمر فيه بين رفع اليد عن المفهوم رأسا ، أو يقيد كل منهما بكلمة أو ، فيكون الشرط أحد الأمرين على البدل ، أو الجامع بينهما على مسلك الآخوند ، وحيث انّ الأول لا وجه له فيتعين الثاني. كما انّ العطف بأو أيضا لا يستقيم في الفرض الثاني أعني ما إذا كان بين الشرطين عموم مطلق ، لأنّ لازمه التخيير بين الأقل والأكثر الباطل ، فينحصر مورد دوران الأمر بين التقييد بأو أو بالواو في الفرض الرابع.

وللمحقق النائيني قدس‌سره في المقام كلام نتيجته نتيجة الالتزام بالعطف بالواو وحاصله : انّ لكل من القضيتين إطلاقان ، أحدهما الإطلاق الّذي يستفاد منه كون الشرط علّة منحصرة ، ولازمه ان لا يكون له بدل ، ثانيهما : الإطلاق من حيث ترتب الجزاء على نفس الشرط الّذي لازمه استقلال كل منهما في الشرطية ، وحيث نعلم إجمالا بتقيد أحد الإطلاقين وليس في البين أصل لفظي يعين أحدهما ، فلا يمكننا الرجوع إلى شيء منهما فنأخذ بالمقدار المتيقن ، فإذا تحقق الشرطان معا نحكم بترتب الجزاء لثبوته حينئذ على التقديرين ، وإلّا فلا وهذا نتيجة التقييد بالواو ، بل نرجع إلى الأصول العملية ، أو إلى عام فوق ان كان هناك عام ، ففي المثال المعروف إذا خفي الجدران والأذان فقصر وإلّا فنتمسك بعمومات التمام ، ومن ثم اعتبر في حاشية العروة في مسألة خفاء الأذان اعتبار كلا الأمرين في وجوب القصر خلافا للسيد الماتن حيث اكتفى بتحقق أحدهما في ذلك (١).

هذا ولكن الظاهر تعين التقييد بأو ، وذلك لما بيناه في محله من انه إذا وقع التعارض بين ظاهرين لا من حيث سنديهما بل من حيث ظهورهما فلا بدّ في مقام

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٢٤.

٢٠٧

الجمع من رفع اليد عن أضعف الظهورين الّذي هو طرف المعارضة.

وامّا لو فرضنا انّ هناك ظهور ثالث لا يكون طرفا لها ولكن يرتفع التنافي برفع اليد عنه من باب السالبة بانتفاء الموضوع فلا يجوز رفع اليد عنه لعدم كونه طرفا للمعارضة ، مثال ذلك ما إذا ورد في دليل «أكرم العلماء» وفي دليل آخر «لا يجب إكرام زيد العالم» فمقتضى عموم العام وجوب إكرام زيد ، ومقتضى الخاصّ عدمه ، فيقع التنافي بينهما ، فيتقدم أقوى الظهورين ، وهو الخاصّ فيخصص به العام ، ولكن هناك ظهور ثالث ليس طرف المعارضة إلّا انه يرتفع التعارض برفع اليد عنه ، وهو ظهور الأمر في العام في الوجوب ، فانه لو حملناه على الاستحباب ارتفع التعارض ، فهل ترى من نفسك تجويز رفع اليد عنه مع انّ المعارضة ليس بينه وبين الخاصّ ، ولذا لا ينافي الخاصّ وجوب إكرام غير زيد من افراد العلماء ، وانما المعارضة بينه وبين عموم العام كما عرفت ، فلا بد من رفع اليد عنه دون الوجوب وهذا واضح.

وفي المقام نقول : انّ طرفي المعارضة فيه هما منطوق كل منهما مع مفهوم الآخر المستفاد من انحصار العلّة ، وليس ظهور القضية في استقلال كل من الشرطين في الشرطية طرفا للمعارضة أصلا وان كان برفع اليد عنه يرتفع التعارض ، ولذا لو فرضنا ترتب الحكم على كل من الشرطين لكن لا في القضية الشرطية كما لو ورد خبر على انه يجب القصر عند خفاء الأذان وخبر آخر على الأمر بالقصر عند خفاء الجدران لا تنافي بينهما أصلا ، فطرف المعارضة انما هو المفهوم المستفاد من انحصار العلّة ، وبما انّ ظهور القضية فيه أضعف من ظهور الأخرى في المنطوق فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور كل من القضيتين في انحصار العلّة بالقياس إلى منطوق الأخرى ، فيثبت العطف بأو كما هو واضح.

ثم انه بما ذكرنا ظهر فساد ما في الكفاية من انتفاء التنافي برفع اليد عن مفهوم

٢٠٨

إحدى القضيتين (١) ، لأنك قد عرفت انّ التعارض ليس بين المفهومين وانما هو بين مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الأخرى ، فهناك تعارضان كما لا يخفى ، والظاهر انما ذكره من سهو القلم.

التنبيه الخامس : انه ربما تعنون هذه المسألة من جهة أخرى بأن يقال : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فهل تتداخل المسببات ويجتزأ بإتيان الجزاء مرة واحدة أو تتعدد؟

وليعلم انّ المراد من اتحاد الجزاء في هذا الأمر هو الاتحاد بحسب الصورة لا واقعا ، وبهذا يظهر الفرق بين هذه المسألة والمسألة المتقدمة ، فانّ البحث هناك في انه إذا اتحد الجزاء واقعا مع فرض تعدد الشرط بحسب ظاهر القضية فهل يحكم فيه بالتقييد بالواو أو بأو أو بغير ذلك ، وفي المقام اتحاد الجزاء ظاهري وتعدده واقعا مفروغ عنه على عكس ما فرض هناك ، فيبحث في انه إذا تحقق الشرطان خارجا هل يثبت هناك حكمان يجب امتثال كل منهما مستقلا أو يتداخلان؟ مثال ذلك ما إذا ورد في الخبر : «ان ارتمست في نهار شهر رمضان فكفر» وفي خبر آخر «ان جامعت فيه فكفر» ففعلهما المكلف ، فهل يكتفي بكفارة واحدة أو تجب عليه كفارتان؟

إذا عرفت ذلك نقول : تارة يكون الشرطان من جنس واحد ، كما لو أكل في نهار رمضان مكررا ، وأخرى : يكونان من جنسين كالمثال المتقدم. وتارة : يقع البحث في ذلك عما يقتضيه الأصل العملي ، وأخرى : عما يقتضيه الدليل.

وبالجملة البحث في المسألة السابقة انما كان في فرض اتحاد الجزاء واقعا بأن كان الجزاء حكما واحدا كلتا القضيتين ، ومن ثم كان تقع المعارضة بين مفهوم كل

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣١٣.

٢٠٩

منهما ومنطوق الآخر ، وكانت تلك المسألة منعقدة لعلاجها ، ولذا كان موردها منحصرا بموارد ثبوت المفهوم وإلّا فلو فرض سقوط المفهومين في مورد لم تكن هناك منافاة بين القضيتين أصلا ، فالبحث فيه مختص بالقضايا الشرطية.

وامّا في هذه المسألة فبعد الفراغ عن تعدد الجزاء وانّ كلا من الشرطين إذا تحقق وحده يترتب عليه الحكم بلا شبهة يبحث عن تداخل الأسباب وتداخل المسببات ، ولذا لا يختص هذا البحث بالقضايا الشرطية بل يجري في القضايا الحملية أيضا فهو أجنبي عن مبحث المفاهيم ويذكر فيه استطرادا ، مثلا ثبت انّ الأغسال أنواع مختلفة ولو بالاعتبار وكانت كل منها على عنوان خاص فغسل الجنابة على المقاربة ونحوها ، وغسل الحيض على الحائض ، ومس الميت على من مس ميتا ، وهكذا. فيقع البحث في انه إذا تحقق عنوانان منهما هل تتداخل الأسباب بمعنى انه لا يثبت إلّا تكليف واحد بالغسل أو لا؟ وعلى فرض عدم التداخل وكون السبب الثاني مؤثرا في ثبوت فرد آخر من الغسل يبحث عن تداخل المسببات ، وانه هل يسقطان بامتثال واحد أم لا؟

ويقع الكلام تارة : فيما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في تداخل الأسباب أو الشك في تداخل المسببات في الأحكام التكليفية أو الوضعيّة ، وأخرى : فيما يستظهر من الأدلة فنقول :

اما المقام الأول : فلو شككنا في تداخل الأسباب في الأحكام التكليفية لإجمال النص وتعارضه مثلا ولم يعلم انّ السبب الثاني ان تحقق أوجب ثبوت حكم تكليفي ثاني متعلق بفرد آخر من الطبيعي أم لا ، فمن حيث التداخل ليس لنا أصل عملي يعين أحد الاحتمالين ، إلّا انّ الأصل هو البراءة عن تحقق التكليف الثاني ، ونتيجته نتيجة تداخل الأسباب ، وهذا ظاهر.

واما لو شك في تداخل المسببات بأن علمنا من الخارج بتحقق حكمين ولكن

٢١٠

احتملنا سقوطهما بامتثال واحد ، ومقتضى الأصل حينئذ هو الاشتغال بعكس ما قلنا عند الشك في تداخل الأسباب ، وذلك لأنّ الشك في ذلك شك في مرحلة الامتثال بعد العلم بتكليفين كما هو واضح ، هذا في الأحكام التكليفية.

وامّا الأحكام الوضعيّة ، فإذا شككنا فيها من حيث تداخل الأسباب فالاستصحاب يقتضى بعدم تحقق الحكم الوضعي الثاني بتحقق سببه ، وإذا شك فيها من حيث تداخل المسببات ينعكس الأمر ، فانّ مقتضى الاستصحاب عدم سقوط الحكم الوضعي الثاني بسقوط الحكم الأول ، فلا فرق من هذه الجهة بين الأحكام التكليفية والوضعيّة ، فانّ مقتضى الأصل في كل منهما موافق للقول بتداخل الأسباب وعدم تداخل المسببات ، غاية الأمر انّ ذلك في الأحكام التكليفية يثبت بالبراءة والاشتغال ، وفي الأحكام الوضعيّة بالاستصحاب وجودا وعدما.

هذا كله في ما يقتضيه الأصل العملي.

وامّا المقام الثاني ، أي ما يقتضيه الأدلة الاجتهادية ، فتفصيل الكلام فيه يقع في أمرين :

أحدهما : في تحرير محل النزاع. فنقول : لا إشكال في انّ بحث تداخل الأسباب والمسببات غير مختص بموارد القضايا الشرطية بل يجري في القضايا الحملية أيضا ، كما ورد في دليل من ارتمس في نهار رمضان تجب عليه الكفارة وفي دليل آخر من أتى أهله في نهار رمضان تجب عليه الكفارة فأتى بهما مكلف في يوم واحد فهذا أيضا داخل في محل النزاع.

ثمّ انّ الحكم المترتب على كل من الشرطين ، تارة : يكون قابلا للتعدد حقيقة كوجوب الكفارة في المثال ، فانه لا مانع من وجوب كفارة ثانية على المكلف.

وأخرى : لا يكون قابلا للتعدد إلّا انه يكون قابلا للتقيد بجهة دون أخرى وحيث دون حيث ، ونعبر عنه بالتعدد الحكمي ، كما في الحكم بالخيار فانه عبارة عن

٢١١

ملك فسخ العقد ولا معنى لثبوت ملكيتين في مورد واحد ، إلّا انّ الخيار قابل التقييد وان يكون ثبوته من حيث الغبن مثلا تارة ومقيدا بحيثية العيب أخرى ، فإذا فرضنا سقوطه من إحدى الجهتين يبقى من الحيثية الأخرى كما إذا كان له من إحدى الجهتين أثر زائد يترتب أيضا ، مثلا أثر خيار الغبن هو تخير من له الخيار بين فسخ العقد وإمضائه مجانا وأثر خيار العيب هو جواز أخذ الأرش ، فعند ثبوتهما يتخير المكلف بين الفسخ والإمضاء مجانا وأخذ الأرش ، ولا إشكال في دخول هذين القسمين في محل النزاع لإمكان التداخل وعدمه فيهما.

وثالثة : لا يكون الحكم قابلا للتعدد أصلا لا حقيقة ولا حكما إلّا انه قابل للتأكد ، كما لو فرضنا انه أوجد سببين لوجوب القتل فانّ ذلك ان كان من قبيل حق الناس والقصاص كما لو فرضنا انه قتل أب زيد وابن عمرو يكون وجوب القتل قابلا للتقيد ، ولذا يجوز لأحد الوليين ان يأخذ منه الدية وللآخر ان يقتله قصاصا ، ويجوز لأحدهما ان يعفو عنه والآخر يأخذ منه الدية أو يقتص وهكذا فهذا من قبيل الثاني وداخل في محل النزاع.

واما ان كان وجوب القتل من قبيل حق الله تعالى كما لو فرضنا انه ارتد وسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نعوذ بالله فانّ كلا منهما سبب لوجوب القتل ولا معنى لتعدد الحكم به ، إلّا انه حينئذ يتأكد كما هو واضح ، وهذا الفرض خارج عن محل النزاع ، إذ لا معنى فيه للتداخل وعدمه.

وبهذا يظهر الحال في الصورة الرابعة وهي ما إذا لم يكن الحكم قابلا للتأكد أيضا كما في الأحكام الترخيصية ، مثلا لو فرضنا انه تحقق سببان للحكم بإباحة شرب المتنجس كالاضطرار والإكراه فانّ الإباحة لا تكون آكد منها فيما إذا لم يثبت إلّا الاضطرار فقط ، وهذا أيضا خارج عن البحث بطريق أولى ، وهكذا في الأحكام الوضعيّة مثلا إذا لاقى مع البول مرتين أو مع الدم مرة ومع جسد الكافر

٢١٢

ثانيا لا تكون النجاسة فيه آكد مما لم يلاق إلّا أحدهما.

هذا هو الأمر الأول.

ثانيهما : انّ المعروف من زمن فخر الدين قدس‌سره انّ القول بالتداخل وعدمه مبني على كون الأسباب الشرعية أسبابا حقيقة أو معرفات ، وانّ الأول مستلزم لعدم التداخل ، والثاني لثبوته.

إلّا انّ التحقيق : انّ هذا النزاع لغو محض مضافا إلى انّ المقام أجنبي عنه ، وذلك لأنّ القائل بكون الأسباب الشرعية أسبابا حقيقية لو أراد بذلك انّ السبب الّذي يرجع إلى الموضوع ويكون دخيلا فيه علّة لتحقق الحكم امّا علة فاعلية وامّا غائية ففساده واضح ، وذلك لما ذكرنا غير مرة من انّ الحكم الشرعي من افعال المولى الصادرة بإرادته واختياره ، فليس للموضوع وما يرجع إليه أدنى تأثير واقتضاء لثبوته ، فعلّته الفاعلية هو المولى ، وامّا علّته الغائية فبناء على مسلك العدلية من تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد فهي تلك الأمور لا الموضوع ، وامّا على مسلك غيرهم فليس هناك علّة غائية أصلا. وامّا عدم كونه علّة صورية أو مادية للحكم فواضح ، والعلّية لا تخلو من الأقسام الأربعة.

وامّا القائل بالمعرفية فان أراد بذلك انّ السبب ملازم لما هو الموضوع واقعا فتحققه معرف لثبوت ما هو الموضوع في الواقع مثلا زوال الشمس بنفسه ليس موضوعا لوجوب الصلاة وانما موضوعه امر لازم له كاقتران كوكبين في السماء مثلا فهذا خلاف ظاهر الدليل الّذي أخذ ذاك السبب فيه موضوعا للحكم.

وان أراد انه معرف لثبوت الملاك وتحققه أو لثبوت الحكم فلا تضايق في ذلك ، إلّا انه لا يستفاد من أخذه في الموضوع سوى ترتب الحكم على نفسه وموضوعيته له والمعرفية بهذا المعنى غير ملازم للتداخل ولا لعدمه.

فالمهم في المقام الّذي يدور التداخل مداره وجودا أو عدما هو دفع التنافي

٢١٣

الواقع بين ظهورين ثابتين لكل من القضيتين ، فانّ ظاهر كل منهما هو حدوث الحكم والجزاء عند تحقق موضوعه وهو الشرط ، لا حدوثه بعد ذلك أو قبله ، وهذا الظهور يستدعي تعدد الحكم وعدم التداخل ، هذا هو الظهور الأول ، وبما انه لا معنى لتعلق وجوبين مستقلين بطبيعة واحدة بنحو صرف الوجود إلّا إذا قيدت في الثاني بمرة ثانية مثلا فظاهر إطلاق القضيتين مع تعلقهما بالطبيعي بنحو صرف الوجود وعدم تقيدهما بشيء يقتضي التداخل ووحدة الحكم ولا بد من رفع اليد عن أحد الظاهرين أي عن أضعفهما ، فعمدة بحث التداخل يدور مدار ترجيح أحد الظهورين على الآخر.

وبالجملة قد عرفت انّ مقتضى الأصل العملي هو التداخل والبراءة عن التكليف الثاني. كما عرفت انّ هذه المسألة غير مختصة بالقضايا الشرطية ، وغير مبتنية على القول بمفهوم الشرط.

نعم المسألة المتقدمة مبتنية عليه على ما تقدم تفصيله.

ثم الأقوال في المقام ثلاثة ، قول بالتداخل مطلقا ، وقول بعدمه مطلقا ، وقول بالتفصيل بين ما إذا كان الشرطان أعني الموضوعين متحدين مختلفين شخصا ووجودا وبين ما إذا كانا مختلفين نوعا.

وليعلم انّ مورد الكلام انما هو ما إذا كان الشرط أو الموضوع بعنوانه قابلا للتعدد ولم يكن معرفا لما لا يفعل التعدد فانّ عنوان الإفطار الّذي هو بمعنى الكسر أو ناقض الوضوء أو مبطل الصلاة مثلا الّذي هو غير قابل للتعدد خارج عن محل البحث ، فنفرض الشرط عنوان الأكل في نهار رمضان أو عنوان الارتماس في الماء وأمثال ذلك.

فنقول : الظاهر انّ التفصيل لا وجه له ، بل ظاهر القضيتين هو تعدد الحكم وعدم التداخل مطلقا. امّا في فرض اختلاف الشرطين نوعا فلأنّ الشروط

٢١٤

الشرعية وان لم تكن أسبابا حقيقة إلّا انّ الظاهر كونها بأنفسها موضوعات لأحكام لا أنها معرفات محضة ، ومن الواضح انّ كل موضوع يترتب عليه حكمه لا محالة سواء قاربه الموضوع الآخر أو سبقه أو لحقه أو لم يكن شيء من ذلك. واما في فرض اتحادهما نوعا فبما انّ الأحكام الشرعية مطلقا من قبيل القضايا الحقيقية فيترتب على كل وجود حكم مطلق ، سواء تحقق الوجود الآخر أم لم يتحقق ، فظهور القضيتين في التعدد غير قابل للإنكار.

وانما الكلام في انه هل هناك ظهور آخر أقوى منه معارض له ليرجع إلى الأصل المقتضي للتداخل على ما عرفت بعد تساقط الظهورين أم لا؟

فنقول : ما يتوهم معارضته لهذا الظهور هو انّ متعلق التكليف في كل من القضيتين انما هو الطبيعي بنحو صرف الوجود على ما هو مقتضى إطلاقهما وعدم تقيدهما بعنوان مرة أخرى ونحوه ، ومن الواضح انّ تعلق حكمين بالطبيعي كذلك مستلزم لاجتماع المثلين ، وهو محال كاجتماع الضدين ، فلا بدّ من الالتزام بالتداخل وعدم التعدد ، فتقع المعارضة بين هذين الظهورين ، فيرجع إلى الأصل الّذي نتيجته نتيجة التداخل.

وفيه : انا ذكرنا في موارد عديدة انّ عنوان صرف الوجود أو أول الوجود ونحوه خارج عن مدلول الأمر بالطبيعي ، فانّ المادة لا تدل إلّا على نفس الطبيعي غير المقيد بالوحدة الّذي لا يتثنى ، فانّ الاثنينية انما تتحقق من ناحية العوارض الخارجية ، والهيئة على المعروف دالة على مطلوبية الطبيعي ، وعلى المختار فهي مبرزة لاعتبار اللابدّية على ذمة المكلف.

فما هو المعروف من انّ المطلوب هو صرف الوجود انما هو من جهة انّ الطبيعي يتحقق في الخارج بأول وجوده فيسقط الأمر حينئذ لا محالة وتفرغ الذّمّة عما اشتغلت به. على هذا فإذا تعدد الأمر يكون هناك اعتباران فتكون ذمة المكلف

٢١٥

مشغولة بهما كما في موارد الدين إذا استدان أحد من غيره مرتين ، فانه تشتغل به ذمته مرتين من دون ان يكون لكل منهما تعين حتى في علم الله تعالى ، ومقتضى ذلك هو لزوم تفريغ الذّمّة عنهما بالإتيان بالطبيعي مرتين كما في الدينين ، فإذا أتى بالطبيعي أولا يسقط أحد التكليفين ، وإذا أتى به ثانيا يسقطان معا من دون ان يكون لكل منهما تعين بعنوان المرة الأولى أو الثانية أو نحو ذلك كما في الدينين.

وعلى هذا فلا مانع من اجتماع حكمين وجوبيين في طبيعة واحدة وتعلق اعتبارين بها ليكون ظهور القضيتين في ذلك معارضا لظهورهما في التعدد.

ثم ذكر الميرزا قدس‌سره بعد التنزل عن ذلك وفرض كون متعلق التكليف هو صرف الوجود انّ التنافي بين الظهورين انما ينشأ من إطلاق متعلق الحكمين المتوقف على عدم بيان القيد ، فلو فرضنا ظهور القضيتين في التعدد فلا محالة يكون ذلك قرينة على التقييد ، فيرتفع الإطلاق لا محالة ، فلا يثبت التداخل.

هذا كله في التداخل من حيث الأسباب.

وامّا التداخل من حيث المسببات فيما إذا تعدد الحكم ، فهل يمكن امتثالهما بالإتيان بفرد واحد ، أو يمكن سقوطهما بذلك بغير الامتثال أم لا؟

وقد عرفت انّ مقتضى الأصل العملي في ذلك : هو انه تارة : يكون متعلق كل من الحكمين عين متعلق الآخر ، وأخرى : يكون غيره ، وعلى الثاني امّا يتصادقان في فرد واحد ، وامّا لا يتصادقان. وعلى الأول امّا يكون الصدق من جانب واحد ، وامّا يكون من جانبين.

وبعبارة أخرى : تارة : يكون المتعلقان متساويين ، وأخرى : متباينين ، وثالثة : يكون بينهما العموم المطلق ، ورابعة : العموم من وجه ، فهذه شقوق أربعة.

اما الصورة الأولى ، فلا مجال فيها لتداخل الامتثالين أصلا ، نعم يمكن ان يسقط فيها أحد التكليفين بامتثال الآخر إلّا انه يحتاج إلى دليل.

٢١٦

وامّا الصورة الثانية فتعدد الحكم فيها لغو محض ، إذ لا يترتب على الحكم الثاني أثر بعد اتحاد متعلقيهما أصلا ، وعلى فرض عدم اللغوية وتعدد الجعل فسقوط كل منهما بامتثال الآخر محتاج إلى دليل فتأمل.

وامّا الصورة الثالثة كما لو قال المولى «أكرم عالما» بنحو العموم البدلي لا الشمولي وقال أيضا «أكرم عالما هاشميا» فبما انّ الأمر فيهما لا يتعلق بالافراد وانما يتعلق بالطبيعي وهناك طبيعتان أحدهما أوسع من الآخر لا يلزم اللغوية من تعدد الحكم ، ومقتضى إطلاق الدليل العام كون المكلف مرخصا في تطبيق الطبيعي الوسيع على مورد الاجتماع أي على الطبيعي الضيق كما له ان يطبقه على غيره ويمتثل كلا منهما بامتثال مستقل ، فإذا فعل ذلك وأكرم العالم الهاشمي يتحقق كلتا الطبيعتين ويمتثل به كلا الأمرين ، إذ لم يكن المأمور به في شيء منهما مقيدا بالوحدة والتعدد.

وامّا الصورة الرابعة فالتداخل فيها أوضح ، مثلا لو ورد امر بإكرام عالم ، وامر ثان بإكرام عادل ، فإطلاق كل منهما يعم مورد الاجتماع قطعا ، فالمكلف مرخص في تطبيقهما على المجمع ، فإذا أكرم العالم العادل فقد تحققت الطبيعتان في الخارج وسقط الأمران ، كما له ان يمتثل كلا منهما بامتثال يخصه ، هذا كله في موارد الانطباق الواقعي التكويني واضح كما في الأمثلة المتقدمة التي لم تكن من العبادات.

واما فيما يكون الانطباق فيه قصديا لا يتحقق إلّا به كنافلة المغرب وصلاة الغفيلة مما يكون بين العنوانين عموم من وجه فللمكلف ان يقصد العنوانين بصلاة واحدة. وذكر في العروة إمكان الإتيان بصلاة جعفر في ضمن الفريضة فتأمل. وهكذا في الأغسال ، فمن كان عليه غسل الجنابة وغسل مس الميت مثلا يمكنه ان يقصدهما بغسل واحد مع انهما طبيعتان متباينتان ، كما له الإتيان بكل منهما مستقلا.

وامّا الوضوء فبما انه طبيعة واحدة واختلافه من ناحية الأسباب يكون من قبيل اختلاف الافراد لا الطبيعة ، فلو فرضنا انه تحقق له سببان وقصد المكلف

٢١٧

بإتيانه رفع الحدث الناشئ من أحدهما بالخصوص كالناشئ من البول دون النوم ، ففيه : قولان : قول بصحة ذلك وارتفاع الحدث به من جهة انّ الوضوء طبيعة واحدة وقصد ارتفاع الحدث الناشئ من السبب الخاصّ لغو. وقول : ببطلانه ، لأنّ مثل هذا القصد يرجع إلى قصد المتناقضين ، فانّ قصد ارتفاع الحدث الناشئ من البول وبقاء الحدث الناشئ من النوم مع انه ليس في البين إلّا حدث واحد مرجعه إلى قصد ارتفاع الحدث وبقائه. وقد ذهب الميرزا قدس‌سره (١) إلى الثاني.

ولكن الصحيح : هو الأول ، وذلك لأنّ مثل هذا القصد وان كان من قبيل قصد المتناقضين إلّا انّ قصد ارتفاع الحدث غير معتبر في صحة الوضوء أصلا ، وانما المعتبر فيها امران : الإتيان بالافعال الخاصة وإضافتها إلى المولى ، فمثل هذا الوضوء صحيح رافع للحدث مطلقا.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٣١.

٢١٨

مفهوم الوصف

هل يستفاد من تضييق موضوع الحكم بالوصف انتفاء سنخه عند انتفاء ذاك الضيق أم لا؟ ينبغي ذكر أمور :

الأول : انّ محل البحث انما هو الوصف المعتمد على الموصوف ، وامّا غير المعتمد فهو خارج عن محل النزاع كالجوامد ، فانه ليس فيه تضييق ، ليتخيل دلالته على انتفاء الحكم عند انتفائه ، وما هو المعروف من انّ تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلّية وان كان صحيحا بل غير مختص بالوصف الاشتقاقي ويجري في الجوامد أيضا ، فإذا قال «الكذب حرام» مثلا يستشعر منه انّ عنوان الكذب علّة للحرمة لا انه معرف لما هو الموضوع لها ، إلّا انه ليس ظهورا عرفيا ، وعلى فرض تسليم الظهور العرفي كما لا يبعد هو أجنبي عن ثبوت المفهوم وعدمه ، فانّ ثبوت الحرمة للكذب وعليّته له لا ينافي ثبوتها لغير هذا العنوان بعلّة أخرى. وثبوت وجوب إكرام العالم لكونه عالما لا ينافي ثبوت وجوب غيره كالعادل بدليل آخر لعلّة أخرى ، فلا دلالة لعلّية العنوان سواء كان اشتقاقيا أو جامدا على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه.

ثم انه ظهر بما ذكرنا انّ محل البحث ليس مطلق الوصف المعتمد على الموصوف ، بل خصوص ما إذا كان موجبا لتضييق الموصوف ، فإذا فرضنا كون الوصف مساويا مع الموصوف أو أعم منه مطلقا كما لو قال : «أكرم هاشميا إنسانا» مثلا لا مجال لتوهم دلالته على المفهوم أصلا ، إذ ليس في ذلك الكلام تضييق ليستفاد منه المفهوم ، فينحصر مورد البحث بالوصف المعتمد على الموصوف فيما إذا أوجب تضييقه ، امّا مطلقا كما لو كان أخص منه مطلقا ، أو من جهة كما لو كان أخص من

٢١٩

وجه ، والأول مثل ما إذا قال : «أكرم إنسانا هاشميا» والثاني : مثل ان يقال : «أكرم رجلا هاشميا» أي منتسبا إلى هاشم فيمكن ان يقال فيه بانتفاء الحكم عن الموضوع الفاقد لذاك القيد ، وهذا معنى المفهوم.

وامّا انتفاء الحكم عن موضوع آخر غير الموضوع المذكور في الكلام إذا كان فاقدا للوصف فلا ربط له بمفهوم الوصف أصلا ، إذ لم يكن ذكر الوصف بالقياس إليه موجبا للتضييق ليستفاد انتفاء الحكم عنه عند انتفائه ، وقد توهم ذلك في قوله عليه‌السلام «في الغنم السائمة زكاة» فاستدل بعض بمفهومه على انتفاء الزكاة عن معلوفة الإبل ، وهو كما ترى.

هذا كله في تنقيح محل النزاع.

الثاني : أنهم ذكروا انّ الأصل في القيد ان يكون احترازيا. والمراد بكون القيد احترازيا دخله في متعلق الحكم أو موضوعه بحيث لو أتى المكلف بالفاقد لما امتثل ، وفي مقابله عدم كونه احترازيا ، والمراد منه كون الحكم ثابتا للمطلق أو متعلقا به والقيد انما جيء به لغرض آخر ، مثلا لو قال المولى «جئني بماء بارد» فكون القيد احترازيا معناه دخله في المتعلق ، وانه هو الحصة المقيدة بحيث لو أتى المكلف بالماء الحار لما أتى بالمأمور به. وعدم كونه احترازيا معناه انّ المأمور به هو الإتيان بمطلق الماء غاية الأمر أتى الأمر في كلامه بالقيد لأنّ المكلف غير متمكن من الإتيان بغير المقيد أو لغرض آخر. ومن الواضح انّ هذا أجنبي عن ثبوت المفهوم وعدمه إلّا انّ ظهور القيد في الاحترازية غير قابل للإنكار ، ولا يختص ذلك بما يكون من العناوين الاشتقاقية ، بل يجري في غيرها أيضا ، فلا يرفع اليد عن هذا الظهور إلّا لقرينة كما ادعيت في قوله تعالى «وربائبكم اللاتي في حجوركم» (١).

__________________

(١) النساء ـ ٢٣.

٢٢٠