دراسات في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

في المقام على ما نعلم.

والميرزا قدس‌سره بعد ذكر الإشكال المتقدم وجّه المقام بتوجيه آخر مبتن على مقدمة وهي: انّ الحكمين سواء كانا وجوبيين تعبديين أو مختلفين إذا تعلقا بموضوع واحد ، فتارة : يكونان عرضيين كما لو نذر أحد أن يزور الحسين عليه‌السلام ، فانّ الأمر الاستحبابي متعلق بذات الزيارة ، والأمر النذري أيضا كذلك لأنه توصلي ، فكلاهما عرضيان ، وفي مثله لا بدّ من الالتزام بالاندكاك ، ونتيجته حدوث امر وجوبي عبادي ، فانّ الأمر النذري يكتسب العبادية من الأمر الندبي وهو يكتسب الإلزامية من الأمر الوجوبيّ ، ونظيره في الخارج ما إذا مزج مائع أبيض حلو بمائع أحمر غير حلو فيتحقق هناك مائع حلو أحمر.

وأخرى : يكونان طوليين ، كما لو أجر أحد نفسه للعبادة عن الغير كالزيارة ونحوها ، فانّ الأمر المتحقق من جهة الوفاء بالعقد ليس متعلقا بذات العمل ، بخلاف الأمر المتعلق بالمنوب عنه فانه متعلق بذات العمل ، ولذا لا يحصل فراغ ذمة الأجير بالإتيان به كذلك ، وانما هو متعلق بإتيانه بعنوان النيابة عن الغير ، فالحكمان طوليان.

وفي هذا القسم لا مانع من بقائهما ، ولا وجه للاندكاك أصلا ، والمقام من هذا القبيل ، فانّ الأمر بالصوم متعلق بذات العمل ، وامّا الأمر بالترك فانما هو متعلق بترك امتثال ذلك الأمر أعني ترك الصوم مع النية ، فهما طوليان لا مانع من اجتماعهما ونقول : ما أفاده من الكبرى وانطباقها على المقام محل نظر. امّا الكبرى فلأنّ ما ذكره في اندكاك الحكمين العرضيين وان كان تاما كما ذكر إلّا انّ ما أفاده من الطولية في باب الإجارة على العبادات ممنوع ، وذلك لأنّ الأمر الموجود هناك ثلاثة.

١٤١

الأول : الأمر المتوجه إلى المنوب عنه.

الثاني : الأمر بتبرع كل مسلم عن كل مؤمن.

الثالث : الأمر الناشئ من الإجارة.

فطولية الأمر الناشئ عن الإجارة يلحظ إلى أي من الأمرين؟. إمّا الأمر المتعلق بالمنوب عنه فلا ربط له بالأجير ليقاس الأمر المتعلق به إليه أصلا ، بل ربما يكون معدوما حين وجوده كما في النيابة عن الميت ، فانه غير قابل للتكليف ، أو غير قادر على امتثاله فليس مكلفا بشيء.

وعلى أي تقدير ما تعلق به التكليف المتوجه إلى المنوب عنه انما هو الفعل الصادر عنه ، وهذا لا يعقل ان يكون مطلوبا عن النائب ، لأنه غير قادر على الإتيان بفعل الغير كما هو ظاهر.

فالامر الإجاري وان كان متعلقا بالإتيان بما كان المنوب عنه مكلفا بإتيانه ولذا لا معنى لأن ينوب أحد عن غيره أزيد من زمان تكليفه بان ينوب عمن عاش عشرين سنة خمسون أو أزيد إلّا انهما أجنبيان متوجهان إلى شخصين فكيف يقال : هما طوليان أو عرضيان؟ بل لا ربط بينهما أصلا ، وامّا الأمر التبرعي فهو في عرض الأمر الإجاري كما هو واضح.

ثم لو سلمنا الطولية في الأجرة في العبادات إلّا انّ قياس المقام بها لا وجه له بان يقال: انّ الأمر متعلق بذات الصوم والنهي متعلق بالتعبدية ، وذلك لا التعبد وقصد القربة مما يتعلق بها الأمر المولوي بتعدد الأمر على مختاره ، وبنفس الأمر الأول على المختار ، وليس اعتبارها بحكم العقل ، فالتعبد بالأمر بنفسه مأمور به فكيف يعقل النهي عنه؟! نعم يتم ذلك على مبنى صاحب الكفاية قدس‌سره.

فتحصل : انّ ما أفاده الشيخ هو الصحيح الّذي لا بدّ من الالتزام به.

بقي الكلام في موردين :

١٤٢

الأول : انّ الميرزا القمي قدس‌سره ذهب إلى جواز اجتماع الأمر والنهي ، بدعوى : انّ المأمور به انما هو الطبيعي كالصلاة ، والمحرم وهو الغصب مثلا انما هو الفرد وهو مقدمة للمأمور به أي الطبيعي ، ولا تسري حرمته إليها في فرض عدم الانحصار.

وفيه : أولا : انّ الوجود المتحقق في الخارج ليس إلّا وجودا واحدا ، وهو كما يكون وجودا للفرد يكون وجودا للطبيعي ، فلا تعدد في البين فضلا عن المقدمية.

وثانيا : انه لو سلمنا كون الفرد مقدمة للطبيعي ، إلّا انّ مورد كلام المحقق المزبور ان كان صورة كون التركيب انضماميا ، فلا حاجة فيها إلى هذه التكليفات ، وان كان فرض كون التركيب اتحاديا ، فلا محالة يكون طبيعي المأمور به كالصلاة مثلا متحدا مع طبيعي الغصب ، لاتحاد مصداقهما على الفرض وانطباقهما عليه ، فعاد المحذور.

فصحة ما أفاده قدس‌سره مبنى على مقدمتين إحداهما : كون الفرد مقدمة للطبيعي ، والثانية : كون الفرد بنفسه طبيعي الغصب ، وكلاهما ممنوع.

الثاني : انه بناء على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي أو في موارده ، لو فرضنا ارتفاع النهي لعذر من اضطرار أو إكراه أو نسيان عذري أو جهل بناء على كونه عذرا ، فهل يصح الإتيان بالمجمع حينئذ أم لا؟

المشهور هو الأول ، والميرزا قدس‌سره ذهب إلى الثاني ، وذكر لبيانه مقدمة بيناها في مبحث الأقل والأكثر وحاصلها : انّ المانعية المستفادة من النهي تارة : تكون من النهي الإرشادي ، فانّ النهي إذا تعلق بالمركبات الاعتبارية يكون إرشادا إلى الفساد والمانعية كما في قوله «لا تصل في الحرير» مثلا أو «نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر» فانّ المستفاد من ذلك بحسب الفهم العرفي ليس إلّا الفساد دون الحرمة المولوية. وعليه فإطلاق مثل هذا النهي يعم القادر والعاجز ، ولذا مقتضى القاعدة عند تعذر ذلك هو سقوط التكليف بالمركب إلّا في موارد دل النص على بقائه متعلقا

١٤٣

ببقية الاجزاء كما في الصلاة لقوله «الصلاة لا تسقط بحال».

وأخرى : يكون التنافي من حيث التزاحم ، كما لو فرضنا انحصار مقدمة الواجب بالحرام ، فزالت الحرمة لعذر. ومقتضى القاعدة في ذلك هو الصحة ، لأنّ الحرمة غير المنجزة لا تزاحم الوجوب المنجز ، ولذا ذكرنا في بحث الترتب صحة العمل في هذا الفرض حتى بناء على إنكار الترتب.

وثالثة : يكون التنافي من قبيل باب التعارض وعدم إمكان ثبوت الحكمين معا ، وهذا هو محل الخلاف بين المشهور وبين المحقق النائيني قدس‌سره.

وبعبارة أخرى : انّ تقييد إطلاق دليل الواجب إذا ثبت يكون بأحد أنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون التقييد بأمر أو نهي إرشادي إلى شرطية شيء فيه أو مانعيته عنه ، كما لو ورد امر بالصلاة ثم ورد «صل إلى القبلة» ، فانّه يستفاد منه شرطية القبلة للصلاة ويقيد بها إطلاق الدليل الأول ، أو ورد «لا تصل في الحرير» فيستفاد منه مانعية ذلك فيقيد به إطلاق الأمر. وحيث انّ مثل هذا الأمر أو النهي متمحض في الإرشاد وليس فيه تكليف لا يختص بالعالم ولا بالقادر ، بل يعم الجاهل والعاجز ، فيثبت به الشرطية أو المانعية المطلقة الواقعية. وعليه فلو لم يأت المكلف بذلك القيد لم يأت بالمأمور به أصلا من غير فرق في ذلك بين العبادات والتوصليات إلّا انّ في التوصليات قد يحصل الغرض بذلك فيسقط الأمر لسقوط الغرض لا للامتثال ، وعلى هذا فمقتضى القاعدة عند تعذر القيد هو سقوط التكليف رأسا إلّا إذا ثبت الأمر بالفاقد بدليل خاص كما في الصلاة ، وهذا واضح.

الثاني : ان يكون تقييد الأمر الأول من مزاحمة الأمر الأول بأمر آخر أهم أو نهي كذلك ، والأول كما إذا ورد امر بالصلاة ثم تنجس المسجد وورد أمر فوري بإزالتها ، أو انكسفت الشمس فورد الأمر بصلاة الكسوف فورا ، فحيث لا يتمكن

١٤٤

المكلف من امتثالهما لا محالة يقيد الأمر الأول بعصيان الأمر بالأهم وعدم الإتيان به. والثاني كما إذا توقف الإتيان بفرد من الواجب على مقدمة محرمة وكانت حرمتها أهم من وجوبه فلا محالة يقيد إطلاق دليله بغير هذا الفرد ، والتقييد في هذا الفرض منحصر بما إذا كان التكليف بالأهم فعليا منجزا ، وإلّا فلا يكون شاغلا لقدرة العبد ، ولا يوجب تقييد الأمر الأول كما هو ظاهر.

الثالث : ان يكون التقييد من جهة المعارضة ، ولا إشكال في عدم جريان ذلك فيما إذا كان كلا الحكمين إيجابيا حتى فيما إذا فرضنا انّ طرف أحد الواجبين الاستقلاليين هو الواجب الآخر ، كما إذا قال المولى : «صل» وقال : «اقنت في صلاتك» مع فرض كونه تكليفا استقلاليا ، فالتقييد بالحكم الإيجابي في المقام لا وجه له.

نعم يجري ذلك فيما إذا كان الدليل الثاني تحريميا ، ومن ذلك مورد بحثنا أعني موارد اجتماع الأمر والنهي مع كون التركيب اتحاديا ، كما في الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب ، فبما انّ المحرم والمبغوض يستحيل ان يكون مطلوبا ومقربا لا محالة يقيد إطلاق دليل وجوب الصلاة المتعلق بالطبيعي بنحو صرف الوجود بغير الفرد المحرم.

وفي هذا الفرض لا يفرق على المختار بين صورتي العلم والالتفات إلى الحرمة والجهل بها ، لأنّ الجهل لا يرفع الحرمة الواقعية على ما عرفت الكلام فيه.

وامّا لو ارتفعت الحرمة واقعا باضطرار أو إكراه ونحوه مما يكون رافعا للتكليف فهل يعود الأمر الساقط ويشمله إطلاق الدليل الأول كما ذهب إليه المشهور لأنّ المانع قد ارتفع ، أو انّ الإطلاق الساقط لا يعود كما ذهب إليه المحقق النائيني قدس‌سره (١)

__________________

(١) فوائد الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٤٦٧.

١٤٥

وقد ذكر قدس‌سره في تفصيل ذلك ما حاصله : انّ الحكمين إذا كانا طوليين يثبت الوجوب عند ارتفاع الحرمة ، وان كانا عرضيين فلا.

بيانه : انا ان قلنا : بأنّ عدم كل من الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر فعدم الحرمة مقدمة لوجود الوجوب ، فالنهي انما يدل على انتفاء الوجوب في مورد الاجتماع لأجل انتفاء مقدمته طولا ، فإذا سقط النهي لعذر ونحوه فلا محالة يثبت الوجوب بتحقق علّته. وامّا لو فرضنا انّ النهي في عرض دلالته على الحرمة مطابقة بالالتزام يدل على نفي الوجوب ، فسقوط مدلوله المطابقي لعذر من اضطرار ونحوه لا يستدعي سقوط مدلوله الالتزامي ، فهو باق على حاله.

وبعبارة أخرى : ان كانت دلالة النهي على انتفاء الوجوب عن مورده في طول دلالته على ثبوت الحرمة من جهة كون عدم الضد مقدمة لوجود الضد الآخر فسقوط الحرمة في مورد المعارضة يوجب شمول إطلاق دليل الوجوب وثبوته فيه ، وامّا ان كانت دلالة النهي على انتفاء الوجوب عن مورد في عرض دلالته على ثبوت الحرمة فيه ، غاية الأمر بالالتزام ، فسقوط المدلول المطابقي لا يقتضي عود الوجوب.

وفيه : انّ طولية الحكمين ومقدمية عدم كل ضد لوجود ضده غير صحيحة على ما عرفت الكلام فيه في بحث الضد ، وانّ عدم الضد أعني الحرمة ثبوتا لا يقتضي ثبوت الوجوب إلّا انّ سقوط الحرمة يوجب ثبوت الوجوب إثباتا.

وبيان ذلك : انه لو ورد عام كقولك : «أكرم العلماء» ثم ورد مخصص بقولك : «لا تكرم فساقهم» فمدلوله المطابقي هو حرمة إكرام العالم الفاسق ، كما انّ مدلوله الالتزامي عدم شمول عموم دليل الأمر لتلك الحصة ، فانّ ثبوت الحرمة لفرد لا يجتمع مع كونه مصداقا للمأمور فيما إذا كان الأمر متعلقا بالطبيعي بنحو صرف الوجود ، ولا مع كونه بنفسه مأمورا به فيما إذا فرضنا تعلق الأمر بالطبيعة بنحو

١٤٦

السريان ومطلق الوجود ، فلا محالة يختص الأمر ويقيد بغير ذاك الفرد ، فإذا فرضنا انّ دليل التخصيص خصص أيضا وانتفت حرمة إكرام فساق العلماء في يوم الجمعة مثلا كما لو قال «لا تكرم فساقهم إلّا يوم الجمعة» فعموم دليل الأمر يشمله ويحكم بوجوب إكرامهم في يوم الجمعة.

وهذا واضح وجار بعينه في المقام أيضا ، فإذا فرضنا تقديم دليل النهي وحرمة الغصب في مورد الاجتماع لا محالة يقيد إطلاق الأمر بالصلاة بغير ذاك الفرد ، فإذا خصصت الحرمة في مورد وارتفعت ولو بنتيجة التخصيص أي الحكومة بحديث الرفع ونحوه يشمله إطلاق دليل الأمر لا محالة ، فيثبت فيه الوجوب.

وربما يتوهم الفرق بين المقام وبين التخصيص بان يقال : انّ التخصيص وان كان متأخرا عن العام إلّا انّ المنكشف به هو تقيد المراد الواقعي من أول الأمر ، إذ ليس بين دليل التخصيص والعام معارضة. وهذا بخلاف الحكومة الثابتة في حديث الرفع ، فانّ الرفع انما يستعمل في مورد ثبوت المقتضي ، فيستفاد منه ثبوت المفسدة للحرمة في كل مورد ارتفعت بالحديث ، وإذا ثبتت المفسدة والمبغوضية الواقعية كيف يمكن شمول الأمر له؟!

والجواب عنه : هو انّ ثبوت المفسدة خصوصا ما إذا كانت مزاحمة بمصلحة أهم ولو كانت هي التسهيل لا ينافي الوجوب ، وما ينافيه انما هو الحرمة والمبغوضية الفعلية ، والمفروض ارتفاعها بالحديث ، فكأنّ المتوهم خلط بين المفسدة والمبغوضية.

بقي الكلام في جهة أخرى : وهي انه لو اضطر المكلف إلى البقاء في ملك الغير ، أو أكره عليه فيدخل وقت الصلاة ، فالمعروف فيه عدم جواز الإتيان بالصلاة ، وإذا استوعب ذلك الوقت كله تجب الصلاة إيماء ، لأنّ الصلاة التامة تكون تصرفا زائدا في ملك الغير.

١٤٧

ونقول : قد عرفت الكلام في ذلك مفصلا ، وإجماله : انّ الكون في ذلك المكان الّذي هو لازم الجسم المفروض انه مضطر إليه وإشغال الفضاء لا يفرق فيه بين اختلاف الهيئات ، فانّ المقدار الّذي يشغله الكر من الماء لا يفرق فيه من الزيادة والنقصان بين جعله في ظرف مربع أو مستطيل أو غير ذلك ، كما انّ تبديل الهيئة أيضا ليس تصرفا في ملك الغير ، فانه نظير ان يكره الإنسان على مطالعة شيء من الكتب المغصوبة مدة من الزمان على البدل ، فانه لا يفرق في ذلك بين ان يطالع كتابا واحدا في جميع ذلك الوقت أو يطالع في كل يوم كتابا غاصبا ، فلا تبقى إلّا مسألة الاعتماد على الأرض وهو وان كان تصرفا فيها حقيقة إلّا انه ليس كذلك بالنظر العرفي.

فالصحيح : هو الإتيان بالصلاة تامة الاجزاء والشرائط. هذا كله فيما إذا لم يكن الاضطرار بسوء الاختيار.

وامّا إذا كان كذلك ، كما لو فرضنا انّ المكلف بسوء اختياره دخل الدار المغصوبة فهو مضطر إلى الخروج لا محالة فالكلام يقع في مقامين.

الأول : في حكم نفس ما اضطر إليه ، كالخروج في المثال.

الثاني : في جواز الإتيان بالمأمور به كالصلاة حينئذ وعدمه. ومن الواضح انه مترتب على المقام الأول ، فانه لو كان ذلك التصرف في نفسه محكوما بالجواز فالصلاة أيضا جائزة ، وإلا فيكون بابه باب اجتماع الأمر والنهي.

امّا المقام الأول : فالأقوال فيه خمسة على ما في الكفاية (١) ، وتعرض الميرزا لأربعة من الأقوال.

الأول : ان يكون متمحضا في الحرمة ، كما في غير صورة الاضطرار ، فإنّ

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٦٣ وما بعدها.

١٤٨

الامتناع إذا كان بسوء اختيار العبد لا يمنع من ثبوت التكليف ، ومن ثم ذكرنا انّ التكليف بذي المقدمة فعلي قبل وجود مقدماته إذا كان اختياريا للمكلف.

الثاني : ان يكون كلا من الوجوب والحرمة فعليا ، كما في بقية موارد اجتماع الأمر والنهي.

الثالث : ان يكون متمحضا في الوجوب. وهذا أيضا على قسمين : امّا مع ثبوت العقاب فيه ، وامّا مع عدمه.

الخامس : ان لا يكون محكوما بحكم فعلي أصلا ، لا الوجوب ولا الحرمة ، غايته انه منهي عنه بالنهي السابق الساقط.

هذه ملخص الأقوال ، والعمدة منها الوجهان الأخيران ، فنقول :

امّا الوجه الأول ، ففيه : انّ النهي عن الخروج مع فرض حرمة البقاء وسائر التصرفات يكون تكليفا بما لا يطاق ، فما ذا يفعل المكلف حينئذ؟! وكون ذلك بسوء الاختيار لا يرفع استحالة التكليف بغير المقدور ، فانه نظير ان يقول المولى لعبده ، «إذا صعدت السطح فطر إلى السماء» فهل يمكن أن يقال : انّ تكليفه بالطيران الممتنع جائز إذا صعد السطح بسوء اختياره؟ نعم بقاء العقاب لا مانع منه عقلا.

وبهذا ظهر بطلان القول الثاني وذلك :

أولا : انّ الأمر بالخروج والنهي عنه تكليف بما لا يطاق وان حصل ذلك بسوء اختيار المكلف.

وثانيا : يكون ذلك مستلزما لاجتماع الضدين.

وثالثا : سنعرف انّ ثبوت الأمر لا مقتضى له أصلا ، وهذا مانع في مقام الوقوع لا الإمكان بخلاف الوجهين المتقدمين.

وامّا الثالث ، فأولا : لا مقتضى للأمر كما قلنا وستعرف.

وثانيا : انّ تعلق الأمر والنهي بشيء واحد مما لا معنى له بالقياس إلى المولى

١٤٩

العارف الملتفت وان كان زمان التكليفين مختلفا ، نعم عكس هذا ممكن بان يتعلق الأمر والنهي في زمان واحد بمتعلقين مختلفين من حيث الزمان ، وهذا مختص بالاحكام التكليفية.

وامّا الأحكام الوضعيّة فيمكن تعلق حكمين في زمانين مع اتحاد متعلقهما ، كما في بيع الفضولي على النقل ، فانا ذكرنا في محله انّ المبيع قبل حصول الإجازة يكون ملكا للمالك الأول حقيقة ، وبعد الإجازة يحكم بملكيته للمشتري من أول الأمر.

والفارق بين الأحكام التكليفية والوضعيّة من هذه الجهة هو : انّ التكاليف حيث انها متعلقة بافعال المكلفين فهي تابعة لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد ، والفعل الواحد لا يعقل ان يكون ذا مصلحة ومفسدة معا دون كسر وانكسار في البين ، فالمولى الملتفت لا بدّ وان يلاحظ متعلق حكمه من حيث المجموع ، فإن كان مشتملا على المصلحة يأمر به ، وان كان مشتملا على المفسدة ينهى عنه ، فالامر به في زمان والنهي عنه في زمان لا يناسب مقام الشارع نعم يمكن ذلك بنحو البداء في الموالي العرفية ، وهذا بخلاف الأحكام الوضعيّة ، فانها تابعة لمصالح في أنفسها ، فربما يكون جعل الحكم في زمان ذا مصلحة وفي زمان آخر جعل خلافه يكون ذا مصلحة ، وعليه فتعلق الأمر والنهي ولو في زمانين بمتعلق واحد يستحيل في تكاليف الشارع.

فهذه الأقوال الثلاثة بأجمعها فاسدة.

فبقي الكلام في القولين الأخيرين ، أي كون الخروج محكوما بالوجوب من دون ان يكون فيه عقاب أصلا ، أو عدم كونه محكوما بحكم رأسا غاية الأمر يكون المكلف معاقبا عليه بالنهي السابق الساقط ، نظير من ألقى نفسه من شاهق فانه في الأثناء لا يكون منهيا عن الوقوع على الأرض لعدم تمكنه من ذلك إلّا انه معاقب على ذلك بالنهي السابق ، أو من أطلق البندقية على مسلم فانه بعد ذلك لا يكون

١٥٠

منهيا عن قتل النّفس إلّا انه يكون معاقبا عليه وهكذا ففي المقام أيضا لا يكون امر ولا نهي ولكنّ العقاب ثابت على التقديرين ، فالعقل حينئذ من باب الإرشاد يلزم العبد بالخروج واختيار أقل المحذورين ، نظير ما إذا وقع أحد من السطح ودار الأمر بين ان يقع على رأس مؤمن أو كافر محقون الدم وكان متمكنا من اختيار أحد الأمرين ، فانّ العقل يلزمه إلى اختيار الثاني ، ولا يستلزم ذلك كون أقل المحذورين محبوبا أو مأمورا به ، مثلا لو فرضنا انّ امر الإنسان دار بين ان ينام في محل يؤذيه البق أو ينام في محل يلدغه العقرب ، فالعقل يلزمه باختيار الأول مع انه ليس بمحبوب له أصلا.

وبالجملة : امّا القول بأنّ الخروج منهي عنه بالفعل ، ففيه : انّ النهي عن كل ما يتمكن منه المكلف من الخروج والبقاء ، والمشي الزائد يكون تكليفا بما لا يطاق ، وبعبارة أخرى : النهي عن جميع ذلك مع كون المكلف مضطرا إلى الجامع بينها تكليف بغير المقدور ، وكون ذلك مسببا عن سوء اختيار العبد لا يجوز ذلك.

وامّا الثاني : أعني كونه محكوما بالوجوب وبالحرمة بالفعل فمضافا إلى كونه تكليفا بما لا يطاق مستلزم لاجتماع الحكمين في موضوع واحد بعنوان واحد ، وهو أيضا محال ، وثالثا : انّ الأمر لا مقتضى له كما سنثبته.

وامّا القول الثالث : وهو كونه محكوما بالوجوب مع إجراء حكم المعصية عليه كما اختاره في الفصول ففيه : مضافا إلى انّ الأمر لا مقتضى له انّ النهي عن شيء في زمان والأمر به في زمان آخر مما لا يجتمعان بالإضافة إلى المولى الحكيم الملتفت ، فانّ الفعل ان كان فيه المصلحة محضا أو غالبة على المفسدة فلا بدّ وان يأمر به المولى في جميع الأزمان ، ولو انعكس انعكس. فبقي قولان آخران.

أحدهما : ان يكون مأمورا به فقط من دون ان يكون فيه عقاب كما اختاره الشيخ.

١٥١

ثانيهما : ان لا يكون محكوما بحكم فعلا ولكن يجري عليه العقاب للنهي السابق الساقط ، فانّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ، وهو مختار الكفاية (١).

وذهب الميرزا قدس‌سره إلى الأول منهما ، وحيث انه مركب من عقد إيجابي وهو كونه واجبا ، وسلبي وهو عدم إجراء حكم المعصية عليه ، استدل على كل من الأمرين.

امّا ما استدل به على الإيجاب وهو كون الخروج مأمورا به فحاصله : انّ مطلق التصرف في ملك الغير لا يكون غصبا وحراما ، وانما المحرم ما لا يكون مصداقا للمأمور به ، ولذا رد مال الغير لا يكون حراما مع كونه تصرفا فيه لأنه واجب ، فلو فرضنا انّ ثوب الجار وقع في منزل شخص يجب عليه رده ، ولا يكون حراما ، بل هو إحسان إليه ، خصوصا إذا كان في معرض التلف. والمقام كذلك ، فانّ ملك الغير وان لم يمكن الرد فيه لأنه ليس من قبيل المنقولات إلّا انّ التخلية بينه وبين مالكه واجب ، فلا يكون حراما ، بل يكون واجبا.

وفيه : انه ما المراد بكون التخلية مأمورا بها ، هل هي واجبة بوجوب نفسي أو انها واجبة بوجوب مقدمي؟ وكلاهما باطل.

امّا الوجوب النفسيّ ، فلأنّ التخلية وان كانت واجبة إلّا انها في مقابل الاشغال ، فهي امر عدمي أو منتزع منه أي من عدم الاشغال ، ومن الواضح انّ المشي في ملك الغير وهو الخروج ليس مصداقا للتخلية ، بل هو إشغال لمال الغير للخروج انما هو مقدمة للكون في المكان المباح ، وهو يستلزم ذلك الأمر العدمي أعني به عدم الكون في ملك الغير المعبر عنه بالتخلية من دون ان يكون بين الكون

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٦٣.

١٥٢

في محل مباح وعدم الكون في ملك الغير مقدمية وتوقف. وقد عرفت انّ وجود الضد لا يكون مقدمة لعدم الضد الآخر وان كان بينهما ملازمة.

فاذن لا يتم القول بوجوب الخروج مقدميا حتى على القول بوجوب مقدمة الواجب ، لأنه ليس مقدمة لواجب ، وهذا هو الّذي وعدنا ان نبينه من عدم وجود المقتضى للأمر بالخروج.

هذا هو الوجه الأول الّذي بينه من حيث الإيجاب أعني كون الخروج واجبا.

واما ما أفاده من حيث النفي أعني عدم كون الخروج من صغريات الكبرى المعروفة : وهي انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ، فإذا ثبت ذلك يثبت ما اختاره قدس‌سره فأمور.

أحدها : انّ الامتناع بالاختيار انما يجري فيما لا يقدر المكلف على إيجاده ، والخروج فيما نحن فيه مقدور للمكلف وإلّا فكيف يلزمه العقل باختياره تقديما لأخف المحذورين ، وهل يمكن إلزام العقل بالممتنع؟ وبعبارة أخرى : المكلف انما هو مضطر إلى الجامع بين الخروج والبقاء والمشي الزائد ، فالأخيران منهما محكومان بالحرمة ، فانّ الاضطرار لم يتعلق بهما ليرفع حرمتهما ، وانما تعلق بالجامع ، نظير ما إذا اضطر المكلف إلى شرب أحد ما يعين يكون أحدهما المعين نجسا ، فانه لا يرفع حرمة النجس منهما ، والأول منها وهو الخروج أيضا باق على وجوبه لما عرفت ، فليس بممتنع لا عقلا ولا شرعا.

وفيه : انّ الامتناع بسوء الاختيار في باب الواجبات يفترق عنه في باب المحرمات وان كان يجمعهما كون العمل ممتنعا وانتهاء امتناعه إلى اختيار العبد ، فانّ امتناع الواجب انما هو بتعذر الفعل ، كما فيما مثل به من الحج الواجب إذا تعذر الإتيان به على من كان مستطيعا ، واما امتناع المحرم فهو بامتناع الترك ، كما فيمن ألقى نفسه من شاهق ، فانّ ترك الوقوع عليه ممتنع وان كان تحققه ضروريا.

١٥٣

وإذا عرفت هذا ففيما نحن فيه بعد ما فرضنا انّ المكلف لا يخلو امره عن أمور ثلاثة : من المكث والمشي الزائد والخروج ، وقد تعلقت الحرمة بإتيان اثنين منهما وهما البقاء والمشي الزائد ، فبالعرض يمتنع عليه ترك الخروج امتناعا شرعيا ، فالامتناع الثابت فيه امتناع شرعي عرضي ، ولا يفرق في قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» بين الامتناع التكويني والامتناع الشرعي كما هو واضح.

وبهذا الجواب يظهر الحال في بقية ما استدل به قدس‌سره من الأمور الأربعة.

وبالجملة : بعد ما حكم العقل إرشادا إلى لزوم ترك البقاء في الدار المغصوبة والمشي الزائد فيها واختيار الخروج من باب كونه أخف المحذورين وأقل الضررين ، فلا محالة يكون فعله ضروريا وتركه ممتنعا شرعا لا تكوينا.

ثانيها : انّ الخروج واجب بحكم العقل وكما تعتبر القدرة في الإلزام الشرعي كذلك تعتبر في الإلزام العقلي ، فمن ذلك يعرف كونه مقدورا ، وإلّا لما تعلق به الإلزام العقلي.

وفيه : انّ هذا من الخلط بين التكاليف الوجوبية والتحريمية ، فانّ الممتنع في الأولى هو الفعل ، وفي الثانية هو الترك وفي المقام أيضا كذلك ، فانّ فعل أحد الضدين اللذين ليس لهما ثالث وترك الآخر لا يكون ممتنعا ، وانما الممتنع تركهما معا ، ففعل الخروج في فرض ترك البقاء والمشي الزائد لا محذور فيه ولا استحالة.

نعم المستحيل ترك الخروج في هذا الفرض ، فيمتنع النهي عنه دون الأمر به ، إذ لا مانع منه ، فانّ للمكلف ان يتركه ويختار الضد الآخر من البقاء أو المشي الزائد.

وبهذا ظهر الجواب على الوجهين الأخيرين أي الثالث والرابع ، ويرجع أحدهما إلى الآخر ، وحاصل ذلك : انّ مورد قضية الامتناع بالاختيار لا ينافي

١٥٤

الاختيار مع ما نحن فيه متعاكسان ، فانّ مورد القاعدة انما هو ما إذا كان ترك المقدمة سببا لامتناع ذيها كما في ترك المشي إلى الحج الواجب فيمتنع الإتيان بالمناسك في ظرفها بسوء اختياره. ولكن في المقام إيجاد المقدمة وفعلها يوجب امتناع ذي المقدمة ، فانّ الدخول مقدمة للخروج ، وبه يمتنع الخروج على ما تقدم ، فالقاعدة لا تنطبق عليه.

وفيه : انّ هذا أيضا من شئون الفرق بين التكاليف الوجوبية والتحريمية ، ففي باب الواجبات يكون الامتناع بالاختيار مسببا عن ترك الإتيان بمقدمة الواجب ، وامّا في باب المحرمات فينعكس الأمر ويكون فعل مقدمة الحرام موجبا لامتناع تركه كما في رمي البندقية وفي من ألقى نفسه من شاهق إلى غير ذلك ، ومن هذا القبيل ما نحن فيه.

وحاصل الكلام : انه بعد تسليم امرين : أحدهما : ما ذكرناه من الفرق بين بابي الواجبات والمحرمات ، ثانيهما : كون الامتناع الشرعي كالامتناع العقلي ، تندفع جميع الوجوه المذكورة في كلامه قدس‌سره ، فانه بعد ما حكم العقل بترك الأمرين من البقاء والمشي الزائد يكون ترك الخروج ممتنعا غايته شرعا لا تكوينيا ، وحيث انه منتهى إلى سوء اختياره يكون داخلا تحت كبرى قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

فتلخص من جميع ما قدمناه انّ الصحيح : ما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره من انّ الخروج لا يكون محكوما بحكم أصلا. امّا الوجوب فلما عرفت ، وامّا الحرمة فلكون تركه ممتنعا شرعا ، ولكنه يجري فيه العقاب للنهي السابق الساقط بالامتناع ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ، فيعاقب عليه. هذا كله في الخروج من الدار الغصبية الّذي لا يكون مقدمة للواجب.

وامّا لو فرضنا انّ المكلف بسوء اختياره اضطر إلى ارتكاب محرم وكان

١٥٥

مقدمة لواجب أهم ، كما لو فرضنا انه بسوء اختياره مشى إلى الصحراء بحيث اضطر إلى أكل لحم الحيوان غير المأكول ، فانه حينئذ يكون واجبا لكونه مقدمة لحفظ النّفس الواجب شرعا ، فهل يجري فيه ما ذكرناه ، أو يتصف حينئذ بالوجوب الغيري؟

فنقول : امّا بناء على ما هو الصحيح من عدم وجوب مقدمة الواجب فلا يفرق بين هذا الفرض والفرض السابق.

وامّا بناء على وجوبها من جهة الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته فلا بدّ من الالتزام بمقالة الفصول من كونه متمحضا في الوجوب الغيري ، ويجري عليه العقاب للنهي السابق الساقط بسوء الاختيار ، فحينئذ لا بدّ من التكلم في امرين :

أحدهما : وجه اتصافه بالوجوب الغيري.

ثانيهما : عدم جريان ما قدمناه من الإيراد على الفصول من انّ تعلق الأمر بشيء في زمان مع تعلق النهي به في زمان آخر مستحيل بالنسبة إلى الآمر الحكيم الملتفت.

امّا الأول : أعني لزوم اتصاف المقدمة المحرمة بالوجوب ، فلأنّ وجوب مقدمة الواجب على القول به انما هو من باب الملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته ، ومن الواضح انّ التفكيك بين المتلازمين مستحيل ، فلا وجه لما في الكفاية من انّ وجوب المقدمة انما يكون فيما إذا لم تكن محرمة ، فانّ هذا الوجوب ليس وجوبا تحت اختيار المولى ليختص بمورد دون مورد ، بل لا بدّ له من إيجاب المقدمة بعد ما أوجب ذيها للملازمة ، فكيف يعقل التفكيك؟!

وامّا الثاني : فلأنّ النهي عن شيء والأمر به وان كان ممتنعا ولو كان في زمانين إلّا انّ ذلك يتم في الحرمة والوجوب النفسيّ ، لأنّ المصلحة فيه انما هو المتعلق ، فلا

١٥٦

مناص من الكسر والانكسار وثبوت الحكم على طبق المصلحة أو المفسدة الموجودة فيه. واما الوجوب الغيري فحيث انه ناشئ عن المصلحة في ذي المقدمة لا في نفسها فلا مانع من كون الشيء حراما ذاتا ثم يتصف بالوجوب الغيري المقدمي بعد سقوط النهي عنه للاضطرار ، فلو لم يكن بسوء اختيار المكلف يسقط العقاب أيضا ، وإلّا فيبقى العقاب للنهي السابق الساقط.

وبالجملة لا منافاة بين المبغوضية الذاتيّة وثبوت الأمر الغيري والمحبوبية كذلك ، إذ لا يلزم منه اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد ليلزم الكسر والانكسار ، فتأمل. ونظير ذلك في العرف ما إذا نهى المولى عبده من النّظر إلى زوجته ولمس جسدها ثم فرضنا انّ العبد لسوء اختيار ألقى زوجة السيد في البحر بحيث انحصر تخليصها بان يمس العبد جسدها ، فهل يشك أحد في انّ اللمس حينئذ يكون واجبا بالوجوب الغيري وان جرى عليه العقاب لكون الاضطرار مستندا إلى سوء اختيار العبد.

فتحصل من جميع ما ذكر ، انّ في الخروج الّذي لا يكون مقدمة للواجب نلتزم بما ذكره في الكفاية من عدم كونه محكوما بحكم أصلا ، ويعاقب العبد عليه لكونه بسوء اختياره.

وامّا في غير ذلك مما يكون مقدمة لواجب أهم ، فعلى القول بوجوب مقدمة الواجب نلتزم فيه بما في الفصول من كونه محكوما بالوجوب محضا غايته وجوبا مقدميا لا نفسيا ، ويجري عليه العقاب لكونه مستندا إلى سوء اختيار العبد.

هذا كله في حكم الخروج ونحوه في نفسه.

وامّا المقام الثاني : أعني به حكم الصلاة المأتي بها حال الخروج. فتفصيل الكلام فيه هو انه تارة : يصلي حال الخروج صلاة تامة الاجزاء والشرائط من الركوع والسجود وسائر ما يعتبر فيها ، وأخرى : يأتي بها إيماء في حال الخروج.

١٥٧

وعلى هذا أيضا اما ان يكون المصلي موظفا بالصلاة مع الركوع والسجود وانما يأتي بها إيماء لكونها واقعة حال الخروج ، وامّا ان تكون وظيفته الأصلية هي الصلاة عن إيماء لعذر آخر ولو أتى بها في غير حال الخروج.

امّا في الفرض الأول ، فلا ينبغي الإشكال في فساد الصلاة ، سواء قلنا بكون الخروج مأمورا به أو منهيا عنه أو لم نقل ، وذلك لأنّ الإتيان بالركوع والسجود يستدعي تصرفا زائدا على الخروج من المكث والاعتماد على الأرض ونحوه.

واما الفرض الثاني ، فكذلك لا من جهة وقوع الصلاة حال الخروج ، بل من حيث الإخلال بما هو وظيفته من الركوع والسجود ، فلا يفرق في ذلك بين القول بأنّ الخروج مأمورا به أو منهيا عنه وعدمه.

وامّا الفرض الثالث ، فالظاهر جواز الصلاة فيه فيما إذا لم يكن المكلف موظفا بالاستقرار حتى لو صلى في غير حال الخروج لخوف ونحوه ، وإلّا فتبطل صلاته للإخلال به كما هو واضح ، وهذا أيضا من غير فرق بين القول بكون الخروج واجبا أو محرما وعدمه.

ثم انّه على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي أو في موارد اتحاد متعلقهما ذكروا لتقديم جانب الحرمة وجوها :

الأول : انّ عموم دليل الحرمة شمولي وعموم دليل الوجوب بدلي ، نظير ما لو قال المولى : «أكرم عالما» وقال : «لا تكرم الفاسق» فانّ مفاد الأمر وجوب واحد متعلق بطبيعي العالم على البدل ، وقد عرفت انه في موارد تعلق الأمر بصرف وجود الطبيعي لا يكون الفرد المأتي به مصداقا للمأمور به حتى بعد الإتيان به. وهذا بخلاف دليل النهي فانّ مفاده أحكام عديدة كل منها متعلق بفرد من افراد الفاسق ، فيتقدم العموم الشمولي على العموم البدلي ، لأنّ دليل الوجوب لا يقتضي وجوب إكرام خصوص العالم الفاسق ، بخلاف دليل الحرمة فانه يقتضي عدم إكرامه ، فهو من

١٥٨

قبيل تزاحم اللااقتضاء مع المقتضي فيتقدم ما فيه الاقتضاء لا محالة.

وفيه : انّ هذا انما يتم في باب التزاحم ، مثلا شرب الماء في نفسه مباح فإذا تنجس بالملاقاة مثلا يعمه دليل حرمة شرب المتنجس ، فلا محالة يقع التزاحم بين الدليلين ، وحيث انّ دليل الإباحة لا اقتضاء ودليل النهي مقتضي للحرمة يتقدم دليل الحرمة على دليل الإباحة.

وامّا المقام فقد عرفت دخوله في باب التعارض ، فيعلم بكذب أحد الدليلين ، اما دليل الحرمة أو دليل الوجوب ، فلا يجري فيه ما ذكر أصلا ، ومن هنا في موارد التعارض بالعموم من وجه لم نجعل من المرجحات كون عموم أحد المتعارضين شموليا دون الآخر ، كما هو ظاهر فتأمل.

وبعبارة أخرى : دليل الأمر وان كان عمومه بدليا إلّا انه بعد تعلقه بصرف وجود الطبيعي بالالتزام يدل على ثبوت الترخيص في تطبيقه على أي فرد شاء ، وهذا الترخيص عمومه شمولي ، فلا محالة تقع المعارضة بينه وبين دليل الحرمة المقتضي للعدم ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

نعم في المقام لنا دليل آخر على تقديم جانب الحرمة وهو الظهور العرفي ، فانّ الحكم الثابت بالعنوان الثانوي بحسب الظهور العرفي يتقدم على الأحكام الثابتة بالعناوين الأولى ، فكأنّ دليل الحكم الثابت بالعنوان الثانوي يكون ناظرا إلى تلك الأحكام نظير الحكومة وان لم تكن حكومة حقيقية ، ودليل النهي عن الغصب من هذا القبيل.

توضيحه : انه إذا لوحظت النسبة بين دليل حرمة الغصب وكل واحد من أدلة المباحات أو المستحبات أو الواجبات يكون بينه وبينها عموم من وجه ، مثلا النسبة بينه وبين دليل إباحة شرب الماء عموم من وجه ، وهكذا النسبة بينه وبين استحباب أكل الرمان يوم الجمعة عموم من وجه إلى غير ذلك. ومن الواضح انه لا يحتمل

١٥٩

أحد من العرف جواز أكل رمان الغير عدوانا يوم الجمعة تقديما لإطلاق دليل استحبابه على دليل حرمة الغصب ، بل يقدمون دليل العنوان الثانوي مطلقا.

الثاني : انّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وفيه : انه لم يرد بذلك دليل فتختلف الأولوية باختلاف المفاسد والمصالح ، مضافا إلى انّ ذلك انما هو فيما إذا ثبتت المصلحة في فعل والمفسدة في فعل ودار الأمر بينهما ، وفي المقام يدور الأمر بين ثبوت أحدهما دون الآخر.

الثالث : الاستقراء ، وقد ذكروا له موردين.

أحدهما : الوضوء بالإناءين المشتبهين ، وقد ورد الأمر بإهراقهما والتيمم.

وثانيهما : المرأة في أيام استظهارها ، إذ يدور امرها بين ترك الواجب وفعل المحرم ، فقدم الثاني فتترك العبادة.

وفيه : أولا : انّ الوضوء بالماء المتنجس ليس من المحرمات فلا ربط له بالمقام. وامّا الحائض فلو قلنا بحرمة العبادة عليها ذاتا لا تشريعا لقوله عليه‌السلام «فلتتقي الله» فبابه باب دوران الأمر بين المحذورين بعد ثبوت وجوب العبادة على فرض وحرمتها على فرض آخر ، ومقتضى القاعدة هو التخيير ، ولكنّ الشارع قدم فيه جانب الحرمة ، هذا مضافا إلى انّ ذلك هو مقتضى استصحاب كونها حائضا لأنه كان متيقنا سابقا ، فأيّ ربط له بما نحن فيه الّذي لم يثبت بعد شيء من المصلحة والمفسدة؟!

وثانيا : انّ الاستقراء كيف يمكن إثباته بمورد أو موردين.

فهذه الوجوه لا يرجع شيء منها إلى محصل ، والصحيح في وجه تقديم دليل حرمة الغصب ما بيناه من الظهور العرفي.

ثم لا بأس بتوضيح الفرع الأول ، وانّ الحكم بإراقة الإناءين المشتبهين هل هو حكم على القاعدة ، أو انه تعبدي؟

١٦٠