دراسات في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

المركّبات.

وهذه الأمور هي الموضوع له للصلاة لكن كما عرفت فصاعدا من حيث سائر الأجزاء والشرائط ، وبهذا تندفع بقية الإشكالات المذكورة في الكفاية أيضا.

أما ما ذكره من لزوم صحّة إطلاق الصلاة على مجرّد الأركان ولو لم تكن منضمّة إلى غيرها من الأجزاء مع انه لا يصدق عرفا.

فجوابه : انا نلتزم بصحّة إطلاقها عليها ، بل ربما تكون صحيحة ومجزية كما في صورة نسيان سائر الأجزاء. مثلا لو فرضنا انه كبّر ونسي القراءة فركع ونسي الذّكر فرفع رأسه وسجد ونسي ذكر السجود والتشهّد إلى ان سلّم فبمقتضى حديث لا تعاد نقول : باجزاء تلك الصلاة فضلا عن إطلاق الصلاة عليها.

واما اشكاله الثالث ، وهو لزوم عدم صدق الصلاة على ما نقص من الاجزاء ركن واحد وان كانت مشتملة على بقية الأجزاء والشرائط.

فجوابه : انه لو لم يكن المأتي به مشتملا على بعض هذه الأركان أصلا ، ويكون فاقدا لطبيعي الركوع أو السجود مثلا فهو ليس بصلاة حقيقية ، وانما هو شكل صلاة. واما لو كان مشتملا على الطبيعي ولكن كان ناقصا من حيث العدد بان كان مشتملا على ركوع واحد فهو صلاة ، إذ المعنى في المسمى كان طبيعي هذه الأمور لا خصوصياتها من حيث العدد وغيره.

هذا ويبقى الكلام في انه ما المراد من الركوع أو السجود المعتبر في المسمّى ، هل المراد منه خصوص الركوع الاختياري للقارئ أو أعم منه ومن غيره من المراتب؟! وعلى الثاني يلزم التبدل في المقوم أيضا.

وبالجملة على المختار من ان الموضوع له لفظ الصلاة انما هو الأجزاء الخاصة فصاعدا ولا بشرط عن بقية الأجزاء من حيث المسمّى بحيث كلما وجد شيء منها يكون جزء الفرد كما هو الشأن في كثير من المركّبات الاعتباريّة ، تندفع جميع

٨١

الإشكالات الثلاثة أو الأربعة المذكورة في «الكفاية» وغيرها التي منها لزوم كون استعماله في جميع الأجزاء مجازا ، فان أخذ المسمّى لا بشرط يدفع هذا الإشكال.

ثم ان مسمّى الصلاة على ما ذكرنا انما هو التكبير والركوع والسجود والسلام على إشكال حيث ان للركوع والسجود مراتب أربعة : «الركوع القيامي والركوع الجلوسي والإيماء بالرأس والإيماء بالعين» وهكذا السجود ، فلا بدّ وان يكون المأخوذ في المسمّى بعد التكبير أحد مراتب الركوع وأحد مراتب السجود بهذا العنوان عرفا في المسمّى لا طولا وبنحو البدلية ، نظير المطلوب في الواجب التخييري وهو عنوان أحد الأمرين أو الأمور ومتعلق غرض العطشان إذا أراد ما يرفع به عطشه. مثل لفظ «الحلو» الّذي هو موضوع لما يتركب من شيء «حلو» وأحد الأمرين من طحين الحنطة أو التّمن بالكيفيّة الخاصة.

ولا يرد على هذا البيان ما ذكر في الكفاية وقوّاه المحقق النائيني قدس‌سره (١) من انه لا معنى للبدلية في المسمّى بان يكون شيء دخيلا فيه وإذا لم يكن فبدله شيء ثاني ، وهكذا ، فان أحد المراتب على ما عرفت يكون دخيلا في المسمّى عرضا من دون ان يكون بعضها بدلا عن بعض ليلزم التبدل في اجزاء المسمّى.

وهكذا لا يلزم دخول جزء في الماهية على تقدير وجوده وعدم دخوله على تقدير عدمه على ما أفاده المحقق النائيني (٢) لنحتاج في دفعه إلى الالتزام بالتشكيك في الوجود إلى آخر ما ذكر في التقريرات. فان استحالة ذلك انما هي في المركبات الحقيقية لا الاعتبارية.

نعم يرد على المختار خروج صلاة الميت وصلاة الغريق عن عنوان الصلاة

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٩. أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤١.

(٢) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤١ ـ ٤٢.

٨٢

ونلتزم بذلك ، أما صلاة الميت فقد ورد في الأخبار انها ليست بصلاة ، وانما هي دعاء ، معلّلا بأنه ليس فيها ركوع ولا سجود ، ولذا لا يعتبر فيها شيء ممّا يعتبر في الصلاة عدا ما دل الدليل بالخصوص على اعتباره فيها كالقبلة.

وأما صلاة الغريق ، فهي أيضا ليست بصلاة ، وانما التكبيرات الأربعة التي هي وظيفته يكون كل تكبير منها بدل من ركعة ، فهي وظيفة معيّنة غير الصلاة شرعت في حقّه ليشتغل في حال موته بذكر الله تعالى ، وليس ذلك بصلاة ، ولا يكون الغريق مكلّفا بها أصلا ، وإلّا لكان عليه الإتيان بما يقدر من اجزائها ولو بتكبيرة الإحرام والبسملة ، مع انه لم يقل أحد بوجوبها عليه.

ثم انا بعد ما أبطلنا إمكان تصوير الجامع على الصحيحي وبنينا على استحالته فلا نحتاج في مقام الإثبات إلى دليل بعكس ما ذكره في «الكفاية» ، فانه بعد استحالة تصوير الجامع الأعم يلتزم بالصحيح ونحن بالعكس.

وما استدلّ به للصحيحي من الأخبار الواردة في ان الصلاة معراج المؤمن ، وعمود الدين ، وتنهى عن الفحشاء وأمثال ذلك لا دلالة على شيء منها ، وذلك لأن المراد من الصلاة فيها هو الصحيح لا المسمّى ، وفيها قرينة عقلية على ذلك ، مضافا إلى ان تلك الصلاة لا يمكن ان تكون موضوعا له للفظ الصلاة حتى على الصحيحي ، لأنه يعتبر فيها الصحّة الفعلية المتوقّفة على أمور لا يمكن أخذها في المسمّى ، على ان الصلاة كثيرا ما تستعمل في الفاسدة ، فيقال يعيد صلاته أو النهي عن الصلاة في الحرير ونحوه ممّا لا يصحّ الصلاة فيها ، فلا يخفى ان ما ذكرناه في الصلاة يجري في كل ماهية مخترعة يكون لها مراتب ، وفيما ليس له إلّا مرتبة واحدة كالصوم مثلا ، فلا مجال للنزاع في الصحيح والأعم أصلا ، وبهذا نختم الكلام فيما قيل في تصوير الجامع في المقام.

واما ثمرة البحث فالمشهور ذكروا فيها أمرين :

٨٣

الثمرة الأولى : انه على الصحيحي عند الشك في شرطيّة شيء أو جزئيّته للمأمور به لا بدّ من الرجوع إلى الاشتغال ، لأن الشك يكون في مرحلة الامتثال ، وأما على الأعمي فيرجع إلى البراءة ، وقد أشكل الشيخ على ذلك بان الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال في الأقل والأكثر الارتباطيين أجنبي عن ذلك وانما هو متوقّف على انحلال الأمر المتعلّق بالمركب الارتباطي وعدمه ، فانه بناء على الانحلال يكون تعلق التكليف بالاجزاء المعلومة متيقنا ويشكّ في تعلقه بالجزء المشكوك فيرفع بالبراءة ، وأما بناء على عدم الانحلال المشكوك فثبوت أصل التكليف الوجداني يقيني ، ولكن يدور الأمر بين ان يكون متعلقا بالأجزاء بشرط شيء أو بها لا بشرط بعد ضم مقدّمة إلى ذلك وهو استحالة الإهمال في نفس الأمر ، وهما فردان للابشرط المقسمي ، وعليه فيكون المكلف به مرددا بين ضدين ، ومقتضى القاعدة فيه هو الاشتغال فاذن يكون الرجوع إلى الاشتغال ، أو البراءة أجنبيا عن هذا المبحث. هذا حاصل ما أفاد.

وأورد عليه المحقق النائيني (١) ، بان هذا ـ أعني الرجوع إلى الاشتغال على القول بعدم الانحلال وإلى البراءة على القول بالانحلال ـ انما يتمّ في أحد الشقّين أي على القوم بالأعم. واما على الصحيح ، فلا وجه للتفصيل أصلا ، بل يكون المرجع هو الاشتغال دائما ، فان الشك عليه يكون في مرحلة الامتثال وهو مورد الاشتغال.

ونقول : ما أفاده قدس‌سره بإطلاقه غير صحيح ، وذلك لأن الأقوال في تصوير الجامع الصحيحي ثلاثة :

قول : بأنه أمر بسيط يكون نسبته إلى الافراد نسبة الكلّي إلى مصاديقه كالإنسان وأفراده ، وهذا الّذي اختاره في الكفاية ، غايته ذكر انه لا يمكننا العلم به

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٩.

٨٤

تفصيلا ، فلا بدّ وان نشير إليه بآثاره من النهي عن الفحشاء ونحوه.

وقول : بأنه أمر انتزاعي تكون الافراد منشأ انتزاعه كعنوان القائم والضارب المنتزع من الشخص المتصف بالقيام أو الضرب.

وقول ثالث : بأنه مسبب توليدي من الأفعال الخارجية كعنوان القتل المتولد من ضرب العنق ونحوه.

وعلى هذا فان قلنا بان الجامع بين الافراد الصحيحة نسبته إلى المأتي به نسبة الطبيعي والفرد ، فحيث ان الطبيعي متحد مع الفرد وجودا ، بل هو الفرد مع إلغاء الخصوصيات الفردية ، فالأمر به بعينه امر بالافراد الخارجية ، فعلى القول بالانحلال يكون تعلق التكليف بالأمور المعلومة متيقّنا فتأمل ، ويشك في تعلقه بالجزء المشكوك فيه فيرفع بالبراءة ، بخلاف ما لو لم نقل بالانحلال.

هذا ولكن أصل المبنى فاسد ، فان تصوير الجامع الحقيقي المنطبق على ما في الخارج انطباق الكلّي على افراده يكون أردأ الوجوه المذكورة في المقام ، إذ الجامع بين الافراد الصحيحة لا يمكن ان يكون مركبا ، لما ذكرنا من ان أي مقدار من الاجزاء إذا فرض جامعا يكون صحيحا بالقياس إلى بعض المكلفين وفاسدا بالنسبة إلى البعض الآخر ، فلا بد وان يكون بسيطا ، والجامع البسيط يستحيل انطباقه على المركب خصوصا من المقولات المتباينة فانه يكون من قبيل انطباق الواحد على الاثنين وانطباق الجوهر على العرض ، فالمبنى فاسد.

وأما على القولين الآخرين ، فكما ذكره لا يمكن الرجوع إلى البراءة أصلا ، لأن الشك دائما يكون في المحصل للأمر الانتزاعي أو للعنوان التوليدي بعد العلم بتعلق التكليف بهما ، وهو مورد الاشتغال.

فتحصل : انه على الصحيحي يكون الحق مع الشيخ مع بعض الأقوال ومع النائيني قدس‌سره على بعض ، فالصحيح هو التفصيل.

٨٥

والتحقيق في المقام : ان النزاع في البراءة والاحتياط في الشبهات التحريمية وان كان كبرويا إلّا انه لا نزاع في جريان البراءة في الشبهات الوجوبية إذا كان الشك في التكليف دون المكلف به ، فكلما وقع النزاع فيه في الرجوع إلى البراءة والاشتغال من الشبهات الوجوبية كالأقل والأكثر الارتباطيين يكون النزاع فيه صغرويا في ان الشك في ذلك هل هو في أصل التكليف لتكون من صغريات مورد البراءة أو في المكلف به ليدخل في صغريات مجرى الاشتغال.

إذا عرفت ذلك نقول : على القول بالأعم يكون الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال متفرعا على الانحلال وعدمه ، إذ.

على الأول ـ يكون تعلّق التكليف بالمتبقي معلوما ويشك في وجوب الزائد ، والشك فيه في أصل التكليف ، فيدفع بالبراءة.

وعلى الثاني ـ يكون أصل التكليف ثابتا ويشك في المكلف به لتردده بين ضدين على ما ذكرنا ، فكلام الشيخ على الأعمي واضح.

وأما على الصحيحي ، فلو التزمنا بان الجامع بين الأفراد الصحيحة نسبته إلى الافراد نسبة الكلي الطبيعي إلى مصاديقه ، وقلنا بأن الطبيعي أمر بسيط يوجد في ضمن الأفراد ، فلا مجال حينئذ للرجوع إلى البراءة ، لأن تعلق التكليف بذلك الأمر البسيط معلوم ، فيكون الشك في حصول امتثاله بإتيان هذا الفرد ، وهو مورد الاشتغال. وأما لو قلنا بان الكلّي لا وجود له في الخارج ، وانما هو مشير إلى الافراد وفي الحقيقة تكون الافراد متعلقا للتكليف ، فيكون تعلق التكليف بالاجزاء المتبقّية معلوما ويشك في تعلّقه بالجزء المشكوك ، فالشك في التكليف ، فيرجع إلى البراءة.

وأما على القول بان الجامع عنوان توليدي أو عنوان انتزاعي فلا معنى حينئذ لدعوى الانحلال أصلا ، بل لا بدّ من الرجوع إلى الاشتغال ، لأن الشك دائما يكون في المحصل ، فكلام المحقق النائيني قدس‌سره تامّ إلّا في فرض واحد.

٨٦

وتلخص ان الثمرة الأولى للبحث ثابتة ، إذ على الصحيحي لا يرجع إلى البراءة إلّا في صورة واحدة ، بخلافه على الأعمي فانه مبني فيه على الانحلال.

الثمرة الثانية : التي ذكروها انه على الأعمي يمكن التمسك بإطلاق الألفاظ ، وعلى الصحيحي لا يمكن ذلك.

ونقول في بيانه : ان الإطلاق تارة : يكون إطلاقا مقاميا ، وأخرى : لفظيا.

والإطلاق المقامي عبارة عن سكوت المولى عن بيان شيء مع كون المقام مقتضيا لبيانه لو كان دخيلا في غرضه ، كما في رواية «حماد» الواردة في كيفية الصلوات ، وهذا هو الّذي يعبر عنه بان «عدم الوجود دليل على العدم» أو ان «السكوت في مقام البيان بيان» ، وبالجملة لو كان المولى في مقام بيان تمام غرضه ولم يبين شيئا يستكشف منه عدم المقتضى بتبعية مقام الإثبات لمقام الثبوت.

ويجري ذلك في التكاليف الاستقلالية والضمنية ، مثلا لو كان في مقام بيان كيفية الصلاة ولم يبيّن وجوب القنوت فيها تمسك بالإطلاق المقامي لعدم دخله فيها. وهكذا لو كان في مقام بيان الوظائف اليومية ولم يذكر صلاة الليل نستكشف عدم وجوبها إلى غير ذلك ، وهذا الإطلاق جار على القول بالصحيح والأعم ، ولا يفرق فيه القولان.

وأما الإطلاق اللفظي ، فأول مقدمة من مقدماته ان يكون صدق اللفظ بما له من المفهوم على المورد والموجود الخارجي محرزا. فلو لم يكن الصدق محرزا ، أما لشبهة مفهوميّة ، أو لشبهة موضوعية لا يكون مجال للتمسّك بالإطلاق. مثلا ورد في الآية : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً)(١) ، وصدق الماء على اللزاج والكبريت مشكوك مفهوما ، فلو شك في طهوريّة ذلك لا يمكننا التمسّك بإطلاق الآية أصلا ،

__________________

(١) الفرقان ـ ٤٨.

٨٧

وهكذا لو شككنا في طهوريّة المائع المردد بين الماء والنفط ، لا يمكننا الرجوع إلى إطلاق الآية ، لأنه صدق الماء على ذلك المائع غير محرز وورد في الآية (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) [البقرة ـ ٢٧٥] فلو شك في صحّة بيع وقع بغير العربية مثلا لأجل الشكّ في اعتبارها فيه بعد فرض صدق البيع عليه لا مانع من الرجوع إلى إطلاق (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) سواء كانت الحلّية بمعنى الإقرار والإمضاء أو كانت بمعنى الحلّية العقليّة ، وأما لو شككنا في صحّة بيع غير الأموال من جهة الشك في صدق البيع على ذلك لأجل احتمال اعتبار مالية العوضين في عنوان البيع كما هو ظاهر تعريف المصباح ، فانه لا يتوهم عاقل جواز التمسك بإطلاق الآية حينئذ لإثبات صحّة مثل ذلك البيع ، لأن صدق الموضوع عليه يكون مشكوكا فيه. وبالجملة فأول المقدمات هو إحراز صدق اللفظ على المورد ، وإذا ثبت ذلك يضم إليه بقية المقدمات الأخر ، فيتم الإطلاق ، وإلّا فلا مجال لذلك أصلا.

إذا عرفت هذا نقول : على الصحيح لا يمكن التمسك بالإطلاق ، لا لما قيل من ان المكلّف به هو العمل المقيد بالصحّة ، والصحّة مأخوذة فيه أما قيدا وأما تقيّدا ، ليقال ان ذلك غير مأخوذ في المأمور به فتمسّك فيه بالإطلاق ، فانه غير تام إذ الصحّة عنوان منتزع من انطباق المأمور به ، على المأتي به كما ان الفساد منتزع من عدم انطباقه عليه ، فهما متأخّران عن تعلّق الأمر بالشيء وإتيانه خارجا ، فكيف يعقل أخذ الصحّة في الأمر؟! بل لأن الموضوع له على ذلك يكون مجملا عرفا وقد أشير إليه بآثاره وإذا لم يكن مبينا فلا محالة يشك في صدقه على العمل الفاقد للجزء أو الشرط المشكوك فلا مجال فيه للتمسّك بالإطلاق.

وأما على الأعمّي فصدق اللفظ على الفاقد يكون محرزا ويشك في دخل قيد زائد فيه ، فإذا انضم إليه بقية المقدمات يتمسك بالإطلاق ، وهذا واضح ، فهذه الثمرة أيضا تامّة.

٨٨

وقد أورد على ذلك بوجهين :

الوجه الأول : ان هذه الثمرة فرضيّة لا يترتب عليها أثر فقهي ، وذلك لأنه يعتبر في التمسك بالإطلاق بعد فرض صدق اللفظ على المشكوك فيه ان يكون المتكلّم في مقام البيان ، وليس في ألفاظ العبادات الواردة في الكتاب والسنّة ما أحرز فيه ذلك بل نحتمل فيها كون الشارع في مقام التشريع لا بيان الأجزاء والخصوصيّات.

وفيه : انه ان أريد بذلك خصوص ألفاظ العبادات الواردة في الكتاب فالأمر كذلك ، وان أريد به ما في الروايات أيضا فهو غير صحيح كما يظهر ذلك من مراجعتها.

الوجه الثاني ـ ان ما ذكر من اعتبار صدق اللفظ بما له من المفهوم على المشكوك في التمسك بالإطلاق ليس المراد منه صدق الطبيعي بما هو طبيعي ، بل بما له من القيود والخصوصيات المأخوذة في الموضوع ، مثلا ورد في الأخبار ان الله خلق الماء طهورا لا ينجّسه شيء ، وقد قيد ذلك بمفهوم قوله عليه‌السلام : «الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء» (١) ، فلو رأينا ماء غير معلوم كرّيته لا يمكن التمسك بإطلاق الحديث الأول لإثبات طهوريّته ، لأن صدق الماء بما هو عليه وان كان محرزا إلّا ان صدقه بما أخذ فيه من القيد بمقتضى الحديث الثاني غير محرز.

وبعبارة أخرى : التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية غير جائز فضلا عن الإطلاق. وعليه فنقول على الأعمي ولو كان الطبيعي بما هو صادقا على الفرد الفاقد للمشكوك إلّا ان المراد من المأمور به ليس هو الطبيعي بما هو ، بل الطبيعي الصحيح ، إذ هو مطلوب المولى ، وصدقه بهذا القيد على الفاقد مما لا يحرز فلا يمكن التمسك

__________________

(١) الاستبصار ـ ج ١ ـ ص ٦.

٨٩

بالإطلاق على الأعمّي أيضا.

هذا وقد أطالوا الكلام في الجواب عن هذه الشبهة.

ولكن جوابها اتّضح بما بيّناه ، فانّ الصحّة التي هي أمر انتزاعي من انطباق المأمور به على المأتي به لا يعقل أخذه في المأمور به على الصحيحي فكيف على الأعمي ، بل المأمور به هو الطبيعي من دون ان تكون الصحّة مأخوذة فيه لا قيدا ولا تقيّدا ، فالثمرة ثمرة مهمّة تامّة.

ثم انه من الموارد التي ورد لفظ الصلاة في مقام البيان ويمكننا التمسّك بإطلاقه ما ورد في باب قضاء الفوائت «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتت» ، فانه وقع الخلاف في اعتبار الترتيب بين الفوائت في غير الصلوات المترتّبة ، فذهب بعض إلى اعتباره مطلقا ، والمحقق النائيني إلى اعتباره في خصوص ما علم الترتيب ، وبعض آخر إلى عدم اعتبار الترتيب فيها مطلقا ، كما في الصوم. فلو شككنا في ذلك ولم يكن هناك دليل خاص فيتمسك بإطلاق دليل القضاء على الأعمّي ونحكم بعدم اعتبار الترتيب دون الصحيحي ، فانه على الصحيحي لا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي وهو الاشتغال ، فما قيل من ان الثمرة في المقام ثمرة فرضيّة غير صحيح ، وإذا تتبّعت تعثر على غير ذلك أيضا.

ومن الثمرات التي رتّبناها على هذا البحث في الدورة السابقة ما إذا حاذى الرّجل مع المرأة في الصلاة ولم يكن بينهما مقدار ذراع واحد أو عشرة أذرع على الخلاف ، ولكن كان أحدهما سابقا على الآخر في الشروع فيها ، فانه حينئذ تكون صلاة اللاحق محكومة بالفساد يقينا. وأما فساد صلاة السابق منهما فمبني على هذا البحث ، فان قلنا ان الصلاة اسم للأعم فيصدق ان السابق يصلي وبحذائه امرأة تصلّي ان كان رجلا وبالعكس ان كانت المرأة ، وأما على الصحيح فلا يصدق هذا العنوان. وهكذا لو فرضنا ان صلاة أحدهما فاسدة من غير جهة المحاذاة ، كما يقع

٩٠

الابتلاء بذلك كثيرا ، فيرى الإنسان ان هناك امرأة تصلي صلاة فاسدة ويريد ان يصلي بحذائها ، فهو أيضا مبني على ما ذكر.

فهذا أيضا ثمر مهم ، إلّا ان ذلك لا يمكن ان تكون ثمرة لمسألة أصولية ، لما ذكرنا من ان المسألة الأصولية لا بد وان تكون ثمرتها كبرى كلّية لو انضم إليها صغراها أنتجت حكما فرعيا ، وأما تطبيق الكلّي على ما في الخارج فلا يمكن ان يجعل ثمرة للمسألة الأصولية نظير البحث عن معنى الصعيد ليترتّب عليه جواز التيمّم بمطلق وجه الأرض ، أو اختصاصه بخصوص التراب.

هذا تمام الكلام في ثمرة البحث في العبادات.

وأما في المعاملات فربما ينكر ثبوت هذه الثمرة أعني التمسّك بالإطلاق على الصحيح دون الأعم ، بل يتمسّك بإطلاق ألفاظها على التقديرين ، وقد ذكر لذلك وجوه :

أحدها : انه ليس للشارع معاملة تأسيسية أصلا ، بل جميع المعاملات إمضائية ، غاية الأمر قد زاد الشارع فيها بعض الخصوصيّات ، أو ألغى بعض أقسامها كبيع المنابذة مثلا. فلا بدّ من حمل ألفاظها إذا صدر من الشارع على المعاني العرفية مطلقا ، فما يعتبره العرف في معاملة لا بدّ من اعتباره ، وما لا يعتبره فيها يتمسك بإطلاق اللفظ لعدم اعتباره من غير فرق بين القول بالصحيح والقول بالأعم.

وفيه : ان هذا انما يتم لو كانت الألفاظ موضوعة للأسباب ، وليس الأمر كذلك ، بداهة ان المراد من النكاح في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (النكاح سنّتي) (١) ليس مجرّد قول

__________________

(١) مستدرك الوسائل ـ ج ١٤ ـ ص ١٥٣.

٩١

أنكحت ، وليس المراد من (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) حلّية قول بعت واشتريت فقط ، وانما المراد المسببات المترتبة على ذلك من الزوجية والنقل والانتقال وأمثال ذلك. وعلى هذا فلا يمكن التمسّك بالإطلاق على المسلكين ، لما عرفت من انه يعتبر في التمسّك بالإطلاق تحقق الطبيعي في الخارج وصدقه عليه ، وتحقّق المسبّب عند احتمال دخل قيد مفقود في السبب غير محرز ، فكيف يمكن التمسّك بالإطلاق ، ولذا التجأ بعض للتمسّك بالإطلاق في باب المعاملات إلى قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) ، بدعوى ان العقد اسم للأسباب قطعا والآية بوحدتها جامعة لجميع المعاملات.

وأورد على ذلك ان العقد وان كان اسما للسبب إلّا انه لا بدّ من حملها في الآية على المسبّب للحكم المترتّب عليه وهو «أوفوا» ، فان الوفاء ليس معناه ترتيب الأثر كما ذكره بعض الأساطين بل معناه الإنهاء والإتمام يقال : «درهم واف» أي كامل ، فلا معنى للوفاء بالسبب الّذي هو أمر يوجد وينصرم ، بل لا بدّ من ان يتعلّق بما يكون فيه قابليّة الإتمام ، وليس ذلك إلّا المسبب ، فالمراد بالوفاء بالعهد إتمام الالتزام.

وهكذا في الوفاء بالنذر وأمثال ذلك ، وعليه فمن الحكم بالوفاء بالعقود يستفاد ان المراد منها المسبّبات دون الأسباب ، فيعود المحذور.

وقد ذكر المحقق النائيني (٣) للتمسك بالإطلاق في المعاملات وجها آخر حاصله : ان نسبة الإنشاءات إلى المعاملات ليست نسبة السبب إلى المسبّب ، وانما هي نسبة الآلة إلى ذي الآلة ، وحيث انهما متّحدان وجودا يمكن التمسك بإطلاق ذي الآلة لنفي اعتبار خصوصية في الآلة ، مثلا لو أمر بالقتل يمكن التمسّك بإطلاقه لنفي

__________________

(١) البقرة ـ ٢٧٥.

(٢) المائدة ـ ١.

(٣) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٥٠.

٩٢

احتمال اعتبار آلة خاصة فيه من الخنق والغرق والحرق والقتل بالسيف وأمثال ذلك.

وفيه : على تقدير تسليم الآلية نقول ان الآلة وذيها موجودان مستقلان بالبداهة ولا وجه للتمسّك بإطلاق الآلة لنفي الخصوصيّة عن ذيها ، كما لا يمكن التمسّك بإطلاق المسبّب لنفي القيد عن سببه ، وقياس المقام بالأمر بالقتل قياس مع الفارق ، فان القتل أمر تكويني وآلاته أيضا أمور تكوينيّة ، واما المعاملات فآلاتها أيضا لا بدّ وان تثبت بإمضاء من الشارع ، وإطلاق دليل ذي الآلة غير متكفّل لإمضاء الآلات كما لا يخفى.

فالتحقيق : يقتضي ان ننظر فيما هو الموضوع له لألفاظ المعاملات أولا ، ثم تعيين المراد من الصحيح والأعم فيها ، فنقول : الموجود في الخارج في مقام البيع وغيره من المعاملات أمور ثلاثة : اعتبار المتعاملين ، وإبراز ذلك ، وإمضاء العقلاء والشارع. ومن الواضح ان البيع مثلا ليس اسما لمجرّد اعتبار المتبايعين ، إذ لو اعتبر المعاوضة في نفسيهما ولم يبرزاه أصلا بل علمنا ذلك من جفر أو رمل لا يقال انهما باعا مالهما ، وهكذا ليس اسما لنفس قول «بعت» مجردا عن الاعتبار بحيث لو كان المتكلّم مازحا أو كان في مقام التمثيل لصيغة المتكلّم وقال «بعت» يكون ذلك بيعا عرفا ، وهكذا لا يمكن ان يكون اسما للإمضاء الشرعي أو للمقيد بذلك ، للعلم بان هذه الألفاظ كانت مستعملة قبل ورود شرع وشريعة ، بل لا يعقل ذلك في مثل قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) إذ لو كان البيع اسما للبيع الممضى شرعا لما أمكن أخذه موضوعا ل «أحلّ» فانّه لا معنى لأن يقال أحلّ الحلال ويؤخذ الحكم في الموضوع ، فيدور الأمر بين ان يكون اسما للاعتبار المبرز مطلقا أو للاعتبار المبرز للمعنى عند العقلاء وما يستفاد من اللغة وموارد الاستعمالات هو الأول ، وعلى التقديرين بعد ما تحقق بيع مثلا وأحرزنا صدق عنوان البيع عليه عرفا وعند العقلاء

٩٣

ولكن احتملنا دخل قيد زائد في تأثيره نتمسّك بإطلاق (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) وننفي اعتباره من غير فرق بين القول بالصحيح أو الأعم ، وبالجملة ففي المقام أمور أربعة : اعتبار المعاملين ، وإبرازهما ، وإمضاء العقلاء فان العقلاء لا يمضون كل بيع وقع في الخارج كما في بيع مال الغير أو من لا يكون مالكا له أو بيع المجنون والسكران فانه اعتبر في كثير من المعاملات كالبيع أمورا لم يعتبرها العقلاء مثل عدم الغرر وعدم كون البيع كلبا أو خمرا مثلا وإمضاء الشارع.

والبيع اسم لاعتبار المبادلين الّذي يكون مبرزا في الخارج ، أما باللفظ وأما بالتعاطي الخارجي أو بغير ذلك مما جعل مبرزا للاعتبار حتى مثل إلقاء الخمار على رأس الزوجة في طلاق الأخرس مثلا.

وأما التقيّد بالإمضاء الشرعي فقد عرفت ما فيه. وأما دخل الإمضاء العقلائي في المسمّى وأخذ الصحّة بهذا المعنى فيه وان كان ممكنا إلّا انه على هذا أيضا لو تحقّق خارجا جامعا للقيود المعتبرة عند العقلاء وشككنا في صحّته لاحتمال ان يكون الشارع قد أخذ فيه قيدا آخر كالعربية مثلا يدفع ذلك بالإطلاق سواء ذهبنا إلى الصحيح بهذا المعنى ، أو إلى الأعم وعدم دخل إمضاء العقلاء في المسمّى. نعم تظهر الثمرة بين القولين فيما إذا شككنا في صحّة بيع لم نحرز كونه جامعا للشرائط المعتبرة في إمضاء العقلاء ، فانه حينئذ على القول بالأعم يمكننا التمسّك بالإطلاق دون الصحيحي ، والثمرة المهمّة لذلك تظهر في بعض أقسام البيع المستحدثة ، هذا كلّه في التمسّك بإطلاق البيع والتجارة ونحو ذلك.

وأما التمسّك بإطلاق (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) ، فالعقد المرادف في اللغة الفارسية

__________________

(١) البقرة ـ ٢٧٥.

(٢) المائدة ـ ١.

٩٤

للفظ (كره) موضوع للعهد والالتزام المشدد ، أي المبرز على ما ذكر في كتب اللغة ، فهو يشمل كل التزام أبرز خارجا.

وأما الوفاء فهو بمعنى الإتمام والإنهاء ، والأمر بذلك في الآية ليس أمرا مولويّا بحيث توجب مخالفته ورفع اليد عن الالتزام العقاب والفسق ، وانما هو أمر إرشادي كما بيّن في محلّه من كتاب البيع.

فللآية مدلول مطابقي وهو الأمر بإتمام كل عقد ، ومدلول التزامي وهو صحّته وإمضائه شرعا وعليه ، فمهما شككنا في صحّة عقد أو فساده يمكننا التمسّك بإطلاق «أوفوا» ، سواء كان البيع الخارجي المشكوك صحّته جامعا للشرائط المعتبر في الصحّة عند العقلاء أم لم يكن.

نعم في مثل ذلك على الأعمي يمكننا التمسّك بإطلاق «أحل الله البيع» و «تجارة عن تراض» وأمثال ذلك أيضا ، بخلافه على الصحيحي فانه عليه يكون الإطلاق منحصرا بإطلاق «أوفوا» دون تلك المكلّفات ، وهذا واضح.

هذا كلّه في ثمرة البحث عن الصحيح والأعم في المعاملات.

ثم انك قد عرفت ان المراد بالصحيح في العبادات ليس هو الصحيح من جميع الجهات ، بل المراد منه الصحيح من حيث الأجزاء والشرائط المقوّمة للطبيعي ، ويعبّر عن الأول بجزء الطبيعي وعن الثاني بشرطه.

وهناك أمور أخر قد عبّر عنها في الكفاية بجزء الفرد وشرط الفرد بان لا يكون مقوّما للطبيعي الّذي تعلّق به الأمر ، لكنّه إذا وجد في ضمنه يصدق على المجموع انه فرد للطبيعي المأمور به ، فيكون مأمورا به بما هو فرد للطبيعي ومصداقه ، وقد يمثل لجزء الفرد بالاستعاذة والتكبيرات الافتتاحية والقنوت ونحو ذلك ، ولشرط الفرد بإيقاع الصلاة في المسجد أو جماعة وأمثال ذلك.

ولكن التحقيق : ان جزء الفرد وشرط الفرد مما لا معنى له أصلا ، وذلك لأنه

٩٥

بعد ما فرضنا ان الطبيعي المأمور به مركب من أمور ليس هذا منها ، يستحيل ان يعمّه الأمر المتعلّق بذاك الطبيعي فإذا كان مطلوبا لا بدّ وان يكون بطلب آخر غير الطلب المتعلّق بالطبيعي ، غايته اما بنحو المطلوب في المطلوب نظير الأدعية الواردة في أيام شهر رمضان التي يكون ظرف محبوبيتها تلك الأوقات بحيث يترتب على امتثالهما أجران وثوابان.

وأخرى يكون إيجاد الطبيعي الواجب في ضمن خصوصيّة خاصّة محبوبا ، وعليه يترتّب على امتثالها أجر قوي لا أجران.

والفرق بينهما اعتباري ، والمثال العرفي لذلك ما إذا طلب المولى من عبده الماء ، فان العبد لا بدّ له عقلا من إتيانه في إناء لا محالة ، وتختلف الإناءات من حيث المحبوبية والحزازة ، فامتثال ذاك التكليف مع بعض الخصوصيات كالإتيان به في ظرف نظيف يكون محبوبا بخلاف الإتيان به في إناء غير نظيف ، وبهذا صحّحنا جملة من العبادات المكروهة.

وبالجملة ليس الفرد إلّا الطبيعي المضاف إليه الوجود ، فالأمر المتعلّق به يستحيل ان يعمّ الخصوصيّات الفرديّة ، فإذا كان شيء منها مطلوبا لا بدّ وان يكون بطلب مستقل ، فجزء الفرد أو شرط الفرد بالمعنى المتقدّم غير معقول ، ويترتّب على هذا ثمر مهم في بحث النهي في العبادات.

هذا تمام الكلام في الصحيح والأعم.

٩٦

الاشتراك

الأقوال في الاشتراك ثلاثة : قول بوجوبه ، وقول باستحالته ، وقول بإمكانه. وليس المراد من الوجوب والامتناع الوجوب الذاتي أو الامتناع الذاتي ، بداهة ان الاشتراك ليس مما يوجب مجرد تصوره القطع بوجوبه أو استحالته ، بل المراد منه الوجوب الوقوعي بمعنى ان يترتّب على عدمه محذور ، والاستحالة الوقوعية بمعنى ترتّب المحذور على تحقّقه خارجا.

والقائل بوجوبه استدل على ذلك بان الألفاظ متناهية لكونها مركّبة من حروف متناهية ، والمركّب من المتناهي متناه ، والمعاني غير متناهية ، ولو لا الاشتراك لما تمّ الوضع ، إذ يستحيل وضع اللفظ المتناهي للمعنى الغير المتناهي.

وقد أجاب عنه في الكفاية (١) بوجوه ثلاثة :

الأول : ان باب المجاز واسع ، فلا حاجة لوضع اللفظ لجميع المعاني.

الثاني : ان المعاني ولو لم تكن متناهية إلّا ان الاستعمال يكون متناهيا ، والوضع أيضا كذلك ، لأن الوضع انما يكون بمقدار الاستعمال ، ولا حاجة لوضع اللفظ على معاني لا تستعمل فيها.

الثالث : ان المعاني الجزئية ولو كانت غير متناهية إلّا انها ليست موضوعا له للألفاظ ، وانما الموضوع له المعاني الكليّة ، والكلّيات متناهية.

وهذا الجواب ليس بشيء ، لأن الكلّيات الفرضية أيضا غير متناهية أيضا.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٥٣.

٩٧

والصحيح هو الجواب الثاني كما عرفت ، فان الوضع متناه لا محالة ، ويكفي في الوضع المتناهي اللفظ المتناهي.

ويمكن ان يجاب عنه بجواب آخر وهو ان يقال : ان المركّب من المتناهي لا بدّ وان يكون متناهيا إذا كان التركيب خارجيا ، واما التركيب الفرضي فيمكن فرض التركيب الغير المتناهي من مبدأ متناه. والمثال الواضح لذلك هو الأعداد ، فانها غير متناهية مع انها مركبة من الواحد أو من الآحاد ، فان كل عدد يفرض إذا زيد عليه واحد تحقق عدد آخر لا محالة ، بل الحروف في ذلك أولى من العدد. مثلا إذا زيد ألف على أول كل لغة مكتوبة في كتاب القاموس يضاعف عددها لا محالة ، ويضاعف ذلك باختلاف حركات الألف المزيدة إلى غير ذلك.

وتقريب آخر : نقول الألفاظ وان كانت مركبة من الحروف المحدودة ، ولكن ربما يكون التركيب ثنائيا وربما يكون ثلاثيا وهكذا ، وعلى التقادير تارة : يكون الحرف الأول مفتوحا ، وأخرى : مكسورا ، وثالثة : مجرورا ، وهكذا الحرف الثاني إلى ما لا نهاية له ، فالتركيب الفرضي في الألفاظ أيضا غير متناه ، فلا يتمّ الاستدلال المزبور ، فتأمّل.

وأما دليل القائل بامتناع الاشتراك فهو : انه نقض للغرض ، وهو محال ، فان الغرض من الوضع انما هو التفهم ، والاشتراك ينافي ذلك ، فانه لو استعمل اللفظ المشترك لا يعلم أي معنى من معناه اراده اللافظ ، وهذا من غير فرق بين القول بجواز استعمال المشترك في أكثر من معنى وعدمه ، غايته على القول بالجواز تكون الأطراف والمحتملات أكثر كما هو واضح.

وفيه : ما ذكره في الكفاية (١) من ان الغرض كثيرا ما يتعلق بالإجمال ، على ان

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٥٣.

٩٨

باب القرنية واسع.

فإلى هنا لم يظهر وجه لوجوب الاشتراك ، ولا لامتناعه ، وإذا كان ممكنا فلا مانع من استعمال المشترك في القرآن كما يستعمل في غيره.

ولكن التحقيق ان يقال : ان الوضع لا يكون من قبيل القضايا الحقيقة أصلا ، أما في الأوضاع الشخصية فواضح ، وأما في غيرها فلان طبيعي لفظ الإنسان مهملا يكون موضوعا لطبيعي الماهية الخاصة ، وليس فيه انحلال كما هو شأن كل قضية حقيقية بحيث يكون كل فرد من افراد لفظ الإنسان موضوعا لفرد من افراد الماهية ليثبت الاشتراك.

فإذا عرفت ذلك نقول : يختلف الاشتراك إمكانا وامتناعا باختلاف المباني في حقيقة الوضع ، فان قلنا : بان الوضع عبارة عن اعتبار وضع اللفظ على المعنى كالوضع التكويني ، أو قلنا : بأنه عبارة عن جعل اللفظ وجودا تنزيليّا للمعنى ، أو علامة له فلا مانع من ثبوت الاشتراك حينئذ.

وأما لو قلنا : بان الوضع عبارة عن التزام الواضع وتعهّده بذكر اللفظ عند إرادة المعنى كما هو الصحيح فيستحيل الاشتراك ، إذ بعد ما التزم الواضع بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم معنى خاص كيف يمكنه الالتزام بذكره عند إرادة معنى آخر إلّا برفع اليد عن التزامه الأول ، وهذا نقل لا اشتراك.

وعليه ففي موارد توهّم الاشتراك لا بدّ من أحد أمرين ، أما الجامع بين تلك المعاني كما هو الغالب ، مثل لفظ الجنّ أي الجيم والنون المشدد ، وانه يستعمل في الجن وفي الجنين ، ويقال جنة ومجنة ولكن عند القائل يظهر ان استعماله في كل من هذا انما هو للجامع بينها وهو الستر ، واما من تعدد الوضاع ، ولذا ذكر بعض ان الاشتراك ناشئ من جمع اللغات اما في كتاب ، أو في بلد كان مجمع القبائل ، فلفظ عين نفرض انه كان يستعمل عند قبيلة في الجارية ، وعند قبيلة أخرى في الباكية ، وعند الثالثة في

٩٩

الذهب وبعد جمع اللغات توهّم اشتراكه بين المعاني ، والمستعملون لا بدّ وان يكونوا ملتزمين باستعماله في أحد هذه الأمور.

وبالجملة فالاشتراك بهذا المعنى أمر ممكن ، واما الاشتراك الاصطلاحي فهو مستحيل ، ولا يترتّب على تطويل البحث ثمرة مهمّة ، فنتكلّم في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى بعد تسليمه ، ولا يختص البحث باستعمال خصوص لفظ المشترك ، بل يعم استعمال اللفظ في معناه الحقيقي ومعناه المجازي معا واستعمال اللفظ في معنيين مجازيين أيضا.

استعمال اللفظ في أكثر من معنى :

وليعلم انه ليس المراد من ذلك استعمال اللفظ في الجامع بين معنيين أو المعاني ، فان ذلك مما لا إشكال في جوازه ، بل المراد استعماله فيهما معا مستقلا بان هناك لفظ واحد واستعمالا فيه كما في تكرار اللفظ ، والحق جواز ذلك.

وربّما يستدلّ للمنع عن ذلك بان حقيقة الاستعمال هي فناء اللفظ في المعنى ، فلا بدّ في كل استعمال من لحاظ اللفظ آليا وفانيا ولحاظ المعنى استقلاليا كما في رؤية الوجه في المرآة ولذا كثيرا يتّفق ان المتكلّم مع من لا يفهم الفارسي مثلا يتكلّم باللغة الفارسية وليس ذلك إلّا من جهة ان النّظر يكون إلى المعنى وخصوصيات اللفظ تكون مغفولا عنها ، فإذا كان المعنى متعددا لا مناص من لحاظ اللفظ بتصورين آليين ، وتعلق لحاظين بملحوظ واحد في آن واحد محال.

هذا ونقول : لو كان الاستعمال عبارة عن إفناء اللفظ في المعنى لكان ما ذكر تاما ، إلّا ان حقيقته ليس إلّا إبراز المعنى باللفظ ، وعليه فيكون المعنى ملحوظا استقلالا ، ولا نقول ان اللفظ دائما يكون ملحوظا استقلالا ، وانما نقول لا يلزم ان

١٠٠