دراسات في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وأما ما في الفصول (١) من الإش كال على عدم كون الألفاظ مستعملة في هذه الأمور بأنه مستلزم لتركّب القضية من جزءين ، فالجواب عنه واضح ، فانه لم يرد هناك آية ولا رواية على لزوم تركب القضية اللفظية من أجزاء ثلاثة ، بل المشاهد خلافه في كثير من الموارد.

هذا ، ثم انه إذا أطلق اللفظ فله دلالات ثلاثة :

الأولى : دلالته على معناه ، وانتقال السامع العالم بالوضع منه إلى المعنى الموضوع له ، وتسمى بالدلالة التصورية ، وهي غير متوقّفة على ان يكون اللافظ شاعرا وملتفتا أصلا ، بل يتحقق ولو صدر اللفظ من احتكاك حجر بحجر.

الثانية : الدلالة التصديقية ، ولها مرتبتان :

إحداهما : تصديق السامع بان المعنى كان مرادا للّافظ وقصد تفهيمه ، ومن ثم تسمى بالتصديقية.

ثانيهما : ان المعنى المستعمل فيه اللفظ كان مراده الجدي ، بان لم يكن في مقام الهزل ونحوه ، إذ ربما لا يكون ما استعمل فيه اللفظ مرادا جديّا للافظ ، بل يكون مرادا استعماليّا فقط ، أو يكون المراد الجدي أمرا آخر كما في الكتابة ونحوها ، ومما يكون المراد الجدي مباينا مع المراد الاستعمالي ففي قولك : «زيد كثير الرماد» فانه لم يرد منه معناه الحقيقي ، وان لزيد مزبلة يجمع فيه الرماد ، بل المراد الجدي لازمه المباين له وهو الجود ، كما ربما يكون بين المعنيين العموم المطلق كما في العمومات المخصّصة بمنفصل وستعرف إن شاء الله تعالى ان ذكر تلك العمومات انما يكون لضرب القانون ، والمراد الجدي منها هو الخاصّ من أول الأمر.

وكيف كان ذهب المشهور من المتأخرين إلى ان الدلالة الوضعيّة منحصرة

__________________

(١) الفصول ـ ص ٢٢.

٦١

بالدلالة التصورية ، واما التصديقية بكلا مرتبتيها تكون ببناء العقلاء وانهم بنوا على ان كل متكلم يكون في مقام البيان ما لم يعلم خلافه ، وان ما استعمل فيه اللفظ هو مراده الجدي ، ويجري ذلك في غير اللفظ من سائر الأفعال أيضا مثلا إذا أشار المولى إلى عبده بيده ان أقبل فالظاهر عند العقلاء انه غير هازل في فعله وانه كان في مقام التفهيم والجد ، ولذا لو لم يقبل العبد يكون مذموما عندهم.

هذا ولكن العلمين ذهبا إلى ان الدلالة الوضعيّة منحصرة بالدلالة التصديقية ، ومما ذكرنا في حقيقة الوضع يظهر ان الحق ما أفاداه.

والتحقيق : هو ان الدلالة التصديقية بالمرتبة الثانية تكون ببناء العقلاء ، ولذا نقول ثابتة في غير الألفاظ أيضا ، فليست مستندة إلى الوضع ، فالدلالة الوضعيّة يدور أمرها بين ان تكون هي الدلالة التصورية أو التصديقية بالمرتبة الثانية.

والصحيح : ان الدلالة التصورية مستندة إلى أنس الذهن ، وأما الوضعيّة فهي الدلالة التصديقية لوجهين :

الأول : ان الوضع على ما عرفت هو الالتزام وجعل شيء لازما على نفسه ، فلا بد وان يكون متعلقه أمرا مقدورا للواضع ، وانتقال السامع من سماع اللفظ مطلقا إلى معناه ليس كذلك ، وانما المقدور له هو ذكر اللفظ عند قصد تفهيم معناه.

الثاني : ان الواضع لا يكون لاغيا ، فلا بد وان يكون الوضع بأي معنى فرضناه سعة وضيقا بمقدار الغرض المقصود منه ، ومن الواضح ان الغرض من الوضع ليس إلّا للفهم والتفهم ، فلا بدّ من جعل العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى عند إرادة التفهيم وقصده لا مطلقا ، فان الإطلاق يكون لغوا ، وهو أيضا يحتاج إلى مئونة زائدة كالتقييد.

٦٢

وعليه فاللفظ بالدلالة الوضعيّة يدل على قصد تفهيم المعنى وإرادته لكن طريقا إلى ذات المعنى لا مستقلا ، ففي الحقيقة يكون الموضوع والمحمول في قولك «زيد قائم» ذات زيد وذات القائم لا بما هما مراده ولا قصد الأمرين ، فلا يلزم المحاذير المذكورة في الكفاية على هذا التقريب.

ثم انه هل يكون للمركبات زائدا على وضع مفرداتها وضع مستقل أم لا؟ أما وضعها بما هي مركبات فممّا لا يتفوّه به عاقل ، وذلك :

أولا : لأن المحمولات والمعاني المركبة غير متناهية ، والوضع للغير المتناهي محال.

وثانيا : لا حاجة لوضع المركب بما هو مركب بعد وضع مفرداته ، فهو لغو واضح.

وثالثا : نرى بالوجدان صحّة تركيب الألفاظ بعضها مع بعض بحسب اختلاف مقاصد المتكلمين ومراداتهم في كل لغة من غير توقف على ثبوت وضع واستعمال ، ولو كان للمركبات وضع مستقل لكان صحة الاستعمال متوقفا على ثبوته وثبوت الاستعمال في تلك اللغة.

وأما وضع المركبات بمعنى وضع الهيئة التركيبية فهو أمر قابل للنزاع ، ولذا وقع الخلاف بينهم في ان الدال على النسبة والربط هل هو الهيئة ، أو هو الضمير المستتر ، أو هو الإعراب ، والمحقق النائيني (١) خصص ذلك بالجمل الاسمية ، ولا وجه لذلك.

والصحيح : ان الهيئات التركيبية بأجمعها تكون موضوعة ، بداهة انا نستفيد من المركبات مزايا وخصوصيات لا نستفيدها من المفردات ، كالحصر من تقديم ما

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٣٢.

٦٣

حقه التأخير في مثل قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(١) وكون السابق من الاسمين فاعلا والمسبوق مفعولا في قولك «ضرب موسى عيسى» مع عدم ظهور الإعراب على لفظهما ، وليس هذه الدلالة عقلية ولا طبعية ، فلا بد وان تكون وضعية ، والدال على ذلك ليس إلّا الهيئة التركيبية.

ثم المعروف جريان المجاز والاستعارة والتشبيه في المركبات ، وقد مثلوا للأول بالمثال المعروف وهو قولهم في المتحير «يقدم رجلا ويؤخر رجلا». وللثاني بقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ)(٢).

ونقول : أما الاستعارة والتشبيه فتجري في المركبات كما في الآية ، فانه ربما يشبه الاجزاء بالاجزاء بنحو العام الاستغراقي ، مثلا يشبه الإيمان بإيقاد النار أو بضوئه ، وذهاب الإيمان بخمود النار إلى غير ذلك ، وربما يشبه المجموع بالمجموع بنحو العموم المجموعي أي مفاد المركب بالمركب ، وأما المجاز واستعمال المركب في محل مركب آخر مجازا فممنوع بعد ما عرفت من ان المركب بما هو مركب ليس له معنى حقيقي أصلا.

ثم انهم اصطلحوا على ان وضع المواد يكون شخصيا ، ووضع الهيئات يكون نوعيا ، وقد أشكل على ذلك بأنه لو كان الوجه في كون الوضع في المواد شخصية ان الموضوع فيها شخص المادة لا غيرها ، ففي الهيئات أيضا يكون طرف العلقة الوضعيّة ذات الهيئة الخاصة كهيئة «فعل» لا غيرها كهيئة «يفعل» مثلا ، وهكذا لو كان نوعية وضع الهيئات سريان الهيئة في المواد ، فهو ثابت في المواد أيضا ، فما هو الفارق بينهما ليكون الوضع في إحداهما شخصية وفي الأخرى نوعية.

__________________

(١) الحمد ـ ٤.

(٢) البقرة ـ ١٧.

٦٤

ونقول : أولا : ان هذا مجرد اصطلاح ليس تحته أثر عملي.

وثانيا : يمكن ان يقال : ان الهيئة لا تكون قابلة للّحاظ إلّا في ضمن إحدى المواد لا على التعيين ، بخلاف المادة فانه يمكن لحاظها عاريا عن كل هيئة سوى تقدم بعض الحروف على بعض مثل «ضاد» و «راء» و «باء» فتأمل.

٦٥

الحقيقة الشرعية

ثم انه وقع النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية ، وحيث لا يترتب عليه ثمر مهم ، فان الثمرة التي رتبت عليه هو حمل الأسامي الخاصة على معناها الشرعي لو ثبت ذلك وإلّا فتحمل تلك الألفاظ في الروايات على معانيها اللغوية ، وقد أورد على هذه الثمرة بان اللازم على تقدير عدم ثبوت الحقيقة الشرعية هو التوقف لا الحمل على المعنى اللغوي ، لاحتمال كونها مجازا مشهورا في المعاني المستحدثة. وعلى أي تقدير لا يترتب على هذا البحث ثمرة ، فان جلّ الأخبار صادرة عن الصادقين عليهما‌السلام ، وفي زمانهما قطعا صارت الألفاظ حقائق في المعاني المستحدثة ، ولم نجد رواية نبوية أو عن علي عليه‌السلام شك في المراد منها من هذه الحيثيّة أصلا.

هكذا في ألفاظ القرآن فنختصر في التكلّم في هذا المبحث ونقول : ثبوت الحقيقة الشرعية ، تارة : يكون بالوضع التعييني ، وأخرى : بالوضع التعيّني.

اما بالوضع التعييني ، فتارة : يدعى ان الشارع أعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صرّح بوضع هذه الألفاظ الخاصة للمعاني المستحدثة ، وأعلن ذلك لأصحابه ، وهذا يكون بعيدا غايته ، إذ لو كان ثابتا لنقل ذلك ووصل إلينا ولم يقع فيه الخلاف ، فمن عدم ثبوته يستكشف عدمه ، ولا يقاس ذلك بالتصريح بالولاية والخلافة لعلي فتأمل.

فانه أولا : ثابت لمن لم يتجاهل.

وثانيا : كان لإخفاء ذلك دواعي وأسباب لا تكون في ثبوت الوضع.

وأخرى ندعي ثبوت الوضع التعييني لا بالتصريح والاستقلال بل بنفس الاستعمال ، كما يقول من يريد تسمية ولده : جئني بحسين مشيرا إلى ذاك الطفل ، فانه بنفس هذا الاستعمال يتحقق الوضع أيضا ، ولا ضير في عدم كون هذا

٦٦

الاستعمال حقيقيّا ولا مجازيا كما في استعمال اللفظ في شخصه ، والظاهر ان ثبوت الوضع بالاستعمال أيضا لا يتم لا لما ذكره المحقق من استلزامه الجمع بين اللحاظين ، فان اللفظ في مقام الاستعمال يلاحظ طريقا وفانيا في معناه ، وفي مقام الوضع لا بد من أن يلحظ استقلالا ، فان هذا قابل للدفع ، إذ لا مانع من تحققها كما لو فرضنا ان المتكلم يريد بتكلمه بلفظ الماء مثلا ان يفهم السامع انه عارف باللغة العربية ويريد الماء أيضا فيقول لعبده «جئني بالماء» ، بل لأن الوضع بأي معنى كان إما يكون اعتبارا أو التزاما ، وهو فعل نفساني مستحيل ان يكون معلولا للاستعمال ، نعم يمكن ان يضع الشارع اللفظ للمعنى ويجعل مبرزه الاستعمال بدل التصريح ، وهذا لا بأس به ولا يبعد دعواه في الألفاظ المخترعة.

وأما ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعيّني فهو مما يطمئنّ به ، إذ لا شبهة في كثرة استعمال هذه الألفاظ المتداولة في الألسنة مثل الصلاة والصوم والحج في لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في المعاني المستحدثة ، بل لا يبعد ان يقال : ان استعمالها في ذلك الزمان كان أكثر بمراتب من استعمالها في هذه الأزمنة.

وما قيل : من ان كثرة استعمالها في لسان خصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير معلوم لا وجه له ، إذ لا يعتبر في ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعيّني كثرة الاستعمال في لسان شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يكفي إذا تحقّق ذلك في لسانه ولسان تابعيه من حيث المجموع.

ولا وجه أيضا لما في الكفاية (١) من ان ثبوت الحقيقة الشرعية يتوقف على كون هذه المعاني مستحدثة في هذه الشريعة ، وعدم ثبوتها في الشرائع السابقة ، وظاهر الآيات ثبوتها فيها كقوله عزّ شأنه :

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٢.

٦٧

(وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ)(١) ، وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٢) ، وقوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً)(٣) ، إلى غير ذلك.

اما أولا : فلأن الغرض من البحث عن ثبوت الحقيقة الشرعية ليس إلّا حمل الألفاظ الواردة في الأخبار على المعاني المستحدثة على تقدير ثبوتها ، وهذا يترتب على مجرد ثبوت الحقيقة الشرعية ولو في الشرائع السابقة.

ثانيا : ان مجرد ثبوت هذه الماهيات غير مستلزم لأن تكون مسمّاة بهذه الأسامي في تلك الشرائع ، بل الظاهر خلافه ، فان لغة أهل تلك الشرائع لم تكن عربية وانما نقل أعمالهم في القرآن باللغة العربية ترجمة مثل قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)(٤) ، فان من البديهي ان هذه العبارات ليست كلمات موسى نفسها بل هي نقل معاني كلامه باللغة العبرانيّة.

والمتحصّل من جميع ما ذكر ان دعوى ثبوت الحقيقة الشرعية اما بالوضع التعييني بالمعنى المتقدّم أو بالوضع التعيّني غير بعيد ، واما الحقيقة المتشرعة فثبوتها في غاية الوضوح.

ثم إنا لا نتعرّض لعلائم الحقيقة والمجاز لأنه انما كان للبحث عنها قيمة في سالف الأزمان في زمان كانوا يعتمدون على أصالة الحقيقة ، ولكن المتأخرين انما يعتمدون على الظهورات العرفية ، فان ثبت الظهور فهو حجّة سواء كان معنى مجازيا للّفظ أو حقيقيّا ، وإلّا فلا ، وعليه فلا داعي لإطالة الكلام في علائم الحقيقة والمجاز.

__________________

(١) مريم ـ ٣١.

(٢) البقرة ـ ١٨٣.

(٣) الحج ـ ٢٧.

(٤) الأعراف ـ ١٤٢.

٦٨

الصحيح والأعم

لا إشكال في ان الألفاظ الخاصّة تستعمل في زماننا هذا في الماهيّات المخترعة بنحو الحقيقة ، ولم نعرف شخصا خاصا وضع تلك الألفاظ لهذه المعاني من الأئمة أو الخلفاء وغيرهم ، بل وصل إلينا صحّة استعمالها فيها يدا بيد من زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ذكرنا ان ثبوت الوضع التعييني منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعنى الثاني غير بعيد كما ان ثبوت الوضع التعيّني أيضا في لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولسان تابعيه كان قويّا جدا. وعلى أي حال يقع البحث في ان ما يستعمل فيه هذه الألفاظ بنحو الحقيقة هل هو الصحيح من هذه الماهيّات ليكون استعمالها في الفاسد مجازا أو هو الأعم من الصحيح والفاسد وتكون شرائط الصحّة دخيلة في المأمور به لا في المسمّى ، فتأمل.؟

وتظهر ثمرة البحث فيما إذا تعلق الأمر بأحد هذه الألفاظ وشككنا في دخل قيد خاص في المأمور به ، فانه على الأعم يكون العنوان صادقا على الفاقد لذلك الجزء أو الشرط أيضا وشك في اعتبار ذلك القيد في المأمور به ، ومقتضى الإطلاق عدمه ، وأما على الصحيح فصدق العنوان على الفاقد يكون مشكوكا ولا يعلم كون الفاقد مصداقا للطبيعي أصلا ، فيكون الشك في الصدق ، ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق لنفي اعتبار القيد أصلا.

ثم لا بد لنا من تصوير الجامع على القولين ، فعلى الصحيح لا بدّ من تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة ، وعلى الأعم لا بدّ من تصويره بين الافراد الصحيحة والفاسدة.

٦٩

وما يقال : من ان هذه الألفاظ يكون وضعها من قبيل الوضع عام والموضوع له خاص فلا تحتاج إلى تصوير الجامع غير صحيح ، وذلك :

أولا : لأنّا نرى وجدانا انها تكون كغيرها من الألفاظ الموضوعة للمعاني الكلّية نظير لفظ الإنسان ولذا يحمل عليها محمولات تناسب الطبيعي مثلا يقال الصوم جنّة من النار أو الصلاة معراج المؤمن ، أو تنهى عن الفحشاء.

وثانيا : لو كان كذلك أيضا تحتاج إلى تصوير الجامع ، إذ الوضع عام على أي تقدير.

والمحقق النائيني (١) ذكر في بيان عدم الحاجة إلى تصوير الجامع وجها آخر حاصله : ان الصلاة مثلا موضوعة للمرتبة العالية منها واستعمالها في غيرها من المراتب يكون في تنزيل تلك المرتبة منزلة المرتبة الكاملة بنحو الاستعارة على ما يذكره السكاكي ، فيكون التنزيل في المراتب الصحيحة هي الاشتراك في الأثر وفي الافراد الفاسدة المشاكلة في الصورة.

وفيه : أولا : إنّا نرى بالوجدان صحّة استعمال الصلاة في غير المرتبة الكاملة بلا عناية وتنزيل أصلا نعم إطلاقها على صلاة الغريق ببعض مراتبها يكون مسامحة لا محالة فتأمل.

وثانيا : ان المرتبة الكاملة أيضا تكون مختلفة باختلاف أصنافها ، فان المرتبة الكاملة من صلاة الصبح ركعتان ، ومن المغرب ثلاثة ، ومن الظهرين أربعة ، ومن صلاة الآيات كيفية خاصة ، ومن صلاة العيدين شكل خاص ، فإذا لا بدّ لنا من تصوير الجامع بين أصناف تلك المرتبة أيضا.

ثم المراد من الصحة في تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة أو الأعم هل

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٣٦.

٧٠

الصحة من جميع الجهات أو من حيث الاجزاء والشرائط فقط؟

الظاهر هو الثاني ، وذلك لأن الصحة من جميع الجهات ربما تتوقف على أمور لا يمكن أخذها في المسمّى. مثلا يعتبر في صحّة العبادة ان لا تكون منهيّا عنها ، فان النهي في العبادة يوجب الفساد ، ومن الواضح ان تقيد المسمّى بان لا يكون منهيا عنه غير ممكن ، فان النهي عن العبادة فرع ان يكون هناك شيء سمّي بلفظ خاص وأمر به وتعلق النهي به أيضا كصوم العيدين مثلا ، ومع هذا كيف يمكن دخل عدمه في المسمّى؟! ومثل عدم المزاحم بناء على اعتباره في صحّة العبادة ، ومثل قصد القربة ، فان هذه الأمور معتبرة في الصحّة الفعلية ولا يعقل أخذها في المسمّى.

فالمراد من الصحّة هنا الصحّة من حيث الأجزاء والشرائط ، فالصحيحي يدّعي وضع الألفاظ للعمل المستجمع للأجزاء والشرائط ، والأعمّي يدعي وضعها للأعم منه ومن الفاقد لبعض الاجزاء والشرائط.

وبالجملة لا معنى لأن يكون المراد من الصحيح في المقام الصحة الفعلية ومن جميع الجهات ، إذ يعتبر فيها أمور متأخّرة عن المسمى مثل عدم النهي وعدم المزاحم وقصد القربة وأمثال ذلك.

والّذي يدل على ذلك ان أحدا من القائلين بفساد العبادة في مورد اجتماع الأمر والنهي لم يستدل على فسادها بعدم كونها مصداقا لذلك المسمّى ، حتى من القائلين بوضع الألفاظ للصحيح ، فالظاهر انه لم يقل أحد بان المراد من الصحّة في المقام الصحّة من جميع الحيثيّات ، بل صرحوا بان المراد هو الصحة من حيث الأجزاء والشرائط فقط.

وكيف كان لا بدّ من تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة على القول بذلك ، وبين الأعم منها ومن الفاسدة على القول الآخر ، وما قيل في تصويره على الصحيح وجوه.

٧١

أحدها : ما ذكره في الكفاية (١) وحاصله : انه يترتب على الصلاة مثلا أثر بسيط وهو الانتهاء عن الفحشاء ، ووحدة الأثر على ما برهن عليه في محلّه تكشف عن وحدة المؤثر ، فيستكشف من ذلك ان هناك جامع بسيط يكون هو المؤثر في ذلك الأثر وان لم نعلم بحقيقته فنشير بهذا العنوان إليه ، ويكون اللفظ موضوعا لذاك الجامع.

ثم ذكر ان تصوير الجامع المركب للصحيحي غير معقول ، إذ كل مركب يفرض جامعا يكون صحيحا في بعض الحالات وبالنسبة إلى بعض الأشخاص وفاسدا بالنسبة إلى البعض الآخر ، فلا بدّ وان يكون الجامع أمرا بسيطا متحدا مع هذه المركبات لا مسببا عنها ، فلا مانع من إجراء البراءة عند الشك في اجزاء العبادات وشرائطها على هذا القول إلى آخر ما أفاد.

ونقول يرد عليه :

أولا : انه لا يمكن ان يراد من المؤثر المؤثر الفعليّ ، إذ يعتبر في ذلك أمور متأخرة عن المسمّى التي عرفت انها غير مأخوذة في المسمّى ، مثل عدم النهي عنه ، فان الصلاة المنهي عنها لا يعقل ان تكون ناهية عن الفحشاء مع إنها بنفسها تكون معصية وفحشاء ، فيعتبر في المؤثر الفعلي ان لا يكون منهيا عنه ، وهذا غير داخل في الموضوع له قطعا ، فلا بدّ وان يكون المراد من المؤثر بهذا الأثر ما يكون فيه قابلية التأثير لا فعليته ، وإذا كان كذلك فجملة من الافراد الفاسدة كالصلاة بلا سورة يكون فيها قابلية التأثير ولو بلحاظ بعض الحالات ، وعليه فيكون هذا الجامع جامعا للأعمي لا للصحيحي.

وثانيا : انه كيف يعقل تصوير الجامع الحقيقي بين المركب الاعتباري من

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٦.

٧٢

مقولات متباينة من الكيف النفسانيّ والكيف المسموع والفعل والوضع وغير ذلك ، فتصوير الجامع الحقيقي بحيث يكون متّحدا مع الافراد اتحاد الطبيعي ومصاديقه مستحيل ، بل تصويره بين اجزاء صلاة واحدة غير معقول فكيف بين افراد الصلاة.

وأما ما أفاده من وحدة الأثر المترتب على هذه المركبات فلا يبعد ان يقال : انه ليس أمرا واحدا بسيطا مترتبا على تلك المركبات ، بل كل جملة منها مترتب على جزء من المركب ، مثلا الانتهاء عن الكذب مترتب على تكبيرة الإحرام ، وعن الغيبة مترتب على الركوع إلى غير ذلك ، كما يمكن ان يقال بل هو الأقرب إلى فهمنا : ان باب التأثير والتأثّر بل معناه ان المصلّي لا محالة ينتهي عن جملة من الفحشاء ، مثلا بعد التفاته إلى اعتبار إباحة مكان المصلّي ولباسه لا محالة يجتنب عن السرقة والمعاملات الفاسدة لأن لا تكون أمواله مغصوبة. وإذا التفت إلى اعتبار الطهارة عن الخبث فيها فلا محالة يجتنب عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير والميتة ونحو ذلك.

هذا مضافا إلى انه يحتمل ان يكون المراد من الانتهاء حصول القرب الموجب لذلك ، وعلى أي حال من الضروري انه ليس هناك أثر خاص بسيط يترتب على الصلاة ليستلزم وحدة المؤثر وثبوت الجامع البسيط أصلا.

ومما ذكر في تصوير الجامع الصحيحي ما أفاده بعض الأعاظم من المحقّقين وحاصله : تصوير الجامع بين هذه المقولات لا من حيث ماهياتها بل من حيث وجودها ، فان الوجود يكون جامعا بينها فيكون اللفظ موضوعا بإزاء الوجود أي يترتب على الأثر الخاصّ (١)

وفيه : أولا : ان مفهوم الوجود أمر جامع بين جميع الوجودات حتى بين

__________________

(١) نهاية الأفكار ـ ج ١ ـ ص ٨١ ـ ٨٢.

٧٣

الوجود الممكن والواجب على بعض الأقوال ، ونحن نريد تصوير الجامع بين أجزاء المركب الخاصّ.

ثانيا : انه لا ريب في ان هذه المركبات كالصلاة مثلا من الماهيات وليست من قبيل الوجود ، ولذا يحمل عليها الوجود تارة ، ويقال الصلاة موجودة ، والعدم أخرى ، فيقال الصلاة معدومة.

وبالجملة المؤثر انما هو الوجودات المتباينة ، فلا يمكن تصوير جامع حقيقي بين وجودات أجزاء صلاة واحدة ، فكيف تصويره بين جميع افراد المركب.

ومما قيل في تصويره أيضا ما عن بعض أعاظم مشايخنا قدس‌سره وهو أيضا تصويره من ناحية الأثر لكن لا بالتقريب المتقدم ، وحاصل ذلك : ان من الألفاظ ما يكون موضوعا للماهية اللابشرط عن جميع العوارض والخصوصيات كما هو الغالب ، مثل لفظ الإنسان والفرس والبقر ، ومنها ما يكون موضوعا لشيء مبهم من جميع الجهات إلّا من حيث اتصافه ببعض الاعراض ، مثل لفظي الغداء والعشاء ، فانهما موضوعان لما يؤكل في وقت خاص مبهم من حيث كونهما من الحنطة أو من الشعير أو من الرز ، ومثل الخمر فانه موضوع لما يسكر مبهم من حيث كونه متخذا من التمر ، أو من الزبيب ، أو من الشعير ، أو الحنطة ، وهكذا لفظ المعجون فانه على ما قيل موضوع لما فيه أصل مبهم من سائر الجهات ، فألفاظ العبادات أيضا تكون من هذا القبيل ، مثلا لفظ الصلاة موضوع لعبادة موظفة في وقت خاص أو مؤثر في الأثر المخصوص ، مبهم من سائر الجهات (١) انتهى.

والحاصل : انّ تصوير الجامع بالنحو المذكور في الكفاية يرد عليه مضافا إلى ما تقدم انه على فرض الغض عن جميع الوجود المتقدمة ، وتسليم ان وحدة الأثر

__________________

(١) نهاية الدراية ـ ج ١ ـ ص ١٠١ ـ ١٠٢.

٧٤

كاشف عن وحدة المؤثر ، وتمامية البرهان المزبور ، لا يمكن الالتزام بكون ذلك المؤثر هو الموضوع له لهذه الألفاظ ، فان المسمى لها لا بدّ وان يكون أمرا يفهمه العرف والعامّة حتى البدوي ، ومن الواضح ان هذا المعنى مما لا يعرفه الخواصّ فضلا عن العوام والأعراب.

واما تصويره من حيث الوجود ، فقد ذكرنا ان مفهوم الوجود مفهوم عام جامع بين جميع الموجودات ، مضافا إلى ان الصلاة مركبة من أمور وجودية وأمور عدمية فكيف يمكن ان تكون من قبيل الوجود؟! بل لا بدّ وان تكون من قبيل الماهيات ، ولذا يحمل عليها ما يحمل على الماهيات ، فيقال الصلاة موجودة تارة ومعدومة أخرى ، أو ثلثها الركوع وثلثها الطهور.

وأما ما ذكره بعض أعاظم مشايخنا قدس‌سرهم من انه تارة : يكون اللفظ موضوعا لذات معينة ماهية مهملة من حيث جميع العوارض كلفظ الإنسان ، وهذا هو الغالب في الألفاظ الموضوعة للطبائع. وأخرى : يوضع لماهية مهملة من حيث ذاتها مبينة من حيث بعض عوارضها كلفظ الغداء والعشاء الموضوعين لما يسد به الجوع في الوقت الخاصّ أعم من ان يكون من الحنطة ، أو من الشعير أو من غير ذلك ، ولفظ الخمر الموضوع لما يسكر العقل أعم من ان يكون مأخوذا من الخشب أو من الشعير أو من التمر والزبيب أو من غير ذلك ، وهذه الألفاظ تكون من قبيل الثاني. مثلا لفظ الصلاة موضوعة لما هو مؤثر في الأثر الخاصّ أو للعبادة المفروضة في الوقت الخاصّ أعم من ان تكون ركعتين أو ثلاثة أو أربعة ، عن قيام أو عن جلوس ، أو مستلقيا ، أو مضطجعا إلى غير ذلك ، انتهى.

وفيه : ان وضع اللفظ للذات المبهمة إلّا من حيث اتصافها بالعرض الخاصّ وان كان ممكنا كما في المشتقات على ما سيأتي بيانه مفصلا ، مثلا القائم الموضوع لذات متّصف بالقيام مبهمة من حيث كونها إنسانا قائما ، أو فرسا أو حمارا أو جدارا

٧٥

أو ذئبا إلّا ان ذلك لا يصح في هذه الألفاظ ، إذ لو كانت موضوعة لمفهوم الماهية الناهية عن الفحشاء ، مثلا من قبيل الوضع العام والموضوع له العام ، فلازمه ان تكون مرادفة مع هذا العنوان.

وفيه : أولا : وهو خلاف ما يفهمه العرف منها ، فان أهل العرف لا يفهمون من لفظ الصلاة إلّا نفس الأركان.

وثانيا : محل الكلام تصوير الجامع الحقيقي الّذي تكون نسبته إلى الافراد نسبة الطبيعي إلى مصاديقه ، وليس هذا المعنى كذلك ، بل هو عنوان انتزاعي تكون الأشخاص منشأ لانتزاعه ، كما في عنوان القائم المنتزع من الذات المتصفة بذاك الوصف ، فانه ليس كلّيا منطبقا على ما في الخارج ، إذ الموجود في الخارج ليس إلّا الذات وتلك الصفة لا غير ، ولو كانت موضوعة لكل ما يكون ناهيا أي ناهيا عن الفحشاء والمنكر بنحو الوضع العام والموضوع له خاص كما في وضع الحروف لواقع التقيدات ، فهو مخالف لمبناه من كون الموضوع له فيها عاما كالوضع ، مضافا إلى انّا نرى وجدانا انه يحمل على معاني هذا الألفاظ ما يحمل على نفس الطبيعي.

ومما قيل في تصوير الجامع ما ذكره بعض المدقّقين من ناحية العناوين الثانوية وملخص ما أفاد : ان للافعال عناوين أولية وعناوين ثانوية متولّدة منها ، والعناوين الأولية للافعال لا تختلف ولا تنفك عنها باختلاف الأزمان والأمكنة والأشخاص أصلا ، مثلا القيام بعنوانه الأولي قيام ، فهو قيام في كل مكان وفي كل زمان وبالنسبة إلى كل قوم ، واما العناوين الثانوية فهي تختلف باختلاف الأزمان والأمكنة والعادات ، كعنوان التعظيم والاستهزاء وأمثال ذلك ، فان القيام عند قوم يكون بالعنوان الثانوي تعظيما وعند طائفة لا يكون كذلك ، وتعظيم العالم يكون بنحو وتعظيم الملك يكون بنحو آخر وتعظيم الوالد يكون بكيفية ثالثة إلى غير ذلك ، بل يمكن ان يختلف بالجعل ، مثلا يجعل الملك تعظيمه بلبس لباس مخصوص ،

٧٦

أما مطلقا ، أو في كل وقت بشكل خاص مثلا تعظيمه في يوم الجمعة بلبس اللباس الأحمر والتعظيم في يوم السبت بلبس اللباس الأبيض إلى غير ذلك.

وبعد هذا ذكر ان لفظ الصلاة مثلا يكون موضوعا للعنوان التوليدي وهو العطف والتوجه والرغبة وما يرادف لفظ «المهرباني» في الفارسية وحيث انه من العناوين الثانوية فيختلف بجعل الشارع ، ففي الفجر جعل التوجه إليه بصلاة ركعتين ، وفي الظهرين بأربعة ، وفي المغرب ثلاثة ، وللقادر عن قيام ، وللعاجز عن جلوس ، وللمريض عن اضطجاع إلى غير ذلك.

وفيه : مع كونه امتن الوجوه صورة انه لو كان وضعها لعنوان العطف بنحو الوضع العام والموضوع له العام ، فيرد عليه : مضافا إلى بعض الوجوه المتقدمة انه عليه لا يمكن التمسك بإطلاقها لنفي جزئية ما يشك في جزئيته وشرطية ما شك في شرطيته في المأمور به ، فتأمل ، وكان هذا هو الغرض من هذا البحث ولا يمكن التمسك بالبراءة أيضا عند الشك في ذلك ، بل لا بدّ من الرجوع إلى الاشتغال ، لأنه شك في مرحلة الامتثال بعد العلم بالتكليف ، ولا يلتزم القائل بذلك في الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين. وان كان الموضوع له فيها خاصا فيرد عليه : مضافا إلى ما ذكر ان القائل غير ملتزم بذلك فيها.

فتحصل مما ذكره انه لا يمكن تصوير الجامع الصحيحي العرفي بين الأفراد أصلا.

هذا كله في تصوير الجامع الصحيحي.

وأما تصوير الجامع على الأعمي ، فقد ذكروا فيه وجوها.

منها : عن بعض مشايخنا العظام قدس‌سرهم (١) وهو ان ما تصورناه جامعا صحيحا

__________________

(١) نهاية الدراية ـ ج ١ ـ ص ١١٣.

٧٧

بعينه يكون جامعا على الأعمي لو قطعنا النّظر عن صدوره عن الفاعل الخاصّ ، فان كل صلاة تكون صحيحة من أي شخص يمكن ان تكون فاسدة إذا فرضنا صدورها عن شخص آخر.

بيان ذلك : هو ان الصلاة التي هي مركبة من افعال خاصة لا تختلف تلك الأفعال من حيث عناوينها الأولية ، فان القيام قيام صدر من أي شخص ، والركوع ركوع كذلك ، وهكذا السجود وسائر الأفعال ، ولكن تختلف من حيث صدورها عن المصدر ، فنفس الأفعال الخاصة إذا صدرت من الحاضر تكون صحيحة بعينها ، وإذا صدرت من المسافر تكون فاسدة أو بالعكس. وعليه فبإلغاء جهة الصدور من الجامع بين الافراد الصحيحة يكون جامعا بين الصحيحة والفاسدة ، انتهى.

وفيه : ان هذا يتوقف على مقدمتين :

الأولى : ان نتصور الجامع الصحيحي ، وقد عرفت انه ممنوع.

الثانية : ان تكون الكلّية من الطرفين ، بمعنى ان كل ما يكون صحيحا يمكن فرضه فاسدا وبالعكس كل ما يكون فاسدا يمكن فرضه صحيحا. وهذا أيضا ممنوع ، فان الكلّية ليست إلّا من طرف واحد ، إذ كل ما يكون صحيحا يمكن فرضه فاسدا ، ولكن ليس كل ما يكون فاسدا يمكن فرضه صحيحا ، كالصلاة بلا طهور أو بلا ركوع أو مع خمسة ركوعات فتأمّل.

ومنها : ما نقله في الكفاية (١) عن المحقق القمّي من ان المسمّى لهذه الألفاظ انما هو الأركان وبقية الاجزاء والشرائط دخيلة في المأمور به لا الموضوع له ، وقد أورد عليه بوجوه ثلاثة :

الأول : ان لازمه ان يكون استعمال اللفظ في مجموع الأركان والاجزاء

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٧.

٧٨

والشرائط مجازا ، لأنه ليس من قبيل إطلاق لفظ الكلي على فرده ، وانما هو من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلام ، وهو مجاز اتفاقا.

الثاني : ان لازمه عدم صدق اللفظ على الصلاة الفاقدة لبعض الأركان ولو كانت مشتملة على تمام الاجزاء والشرائط ، ومن الواضح صدقه عليها عرفا.

الثالث : ان لازمه ان تصدق الصلاة على مجرد الأركان فقط ، ولا يصدق عليها عرفا. هذا ونتعرض لهذه الوجوه بعد إتمام الكلام في تصوير الجامع.

ومنها : ما حكاه في الكفاية (١) أيضا ، وهو ان يكون اللفظ موضوعا لما يدور مدار التسمية عرفا.

وفيه : ان الصلاة ليست أمرا عرفيا لتدور التسمية فيها مدار الصدق العرفي ، بل لا بدّ في تعيين معناها من الرجوع إلى الشرع ، مضافا إلى ان ذلك إحالة إلى مجهول ، فهو بظاهره فاسد.

والتحقيق ان يقال : ان المركّبات على قسمين :

منها : ما يكون مركّبا حقيقيا خارجيا أي يكون له وجود واحد في الخارج ، كالماهيات الحقيقية مثل الإنسان والغنم والشجر ، وفي ذلك لا بدّ من ان تكون اجزائه مبينة ويستحيل الإبهام فيها.

ومنها : ما يكون مركبا اعتباريا بحيث تكون هناك وجودات عديدة اعتبرت شيئا واحدا كما في الدار والمعاجن ، وممكن ان تكون مبهمة من حيث الاجزاء ، مثلا تكون الدار اسما لساحة يكون بها حائط وغرفة لا يشترط من حيث السطح والسرداب والحوض ونحوه ، فان وجدت فيها فيطلق الدار على مجموعها ، وان لم توجد فلا يضر بصدقها على الساحة المحاطة بجدار مشتملة على غرفة ، وان

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٧.

٧٩

نقص من ذلك لا يصدق هذا العنوان ، فيكون الموضوع له لا بشرط من حيث الزيادة ، وهذا نظير قولهم : «الكلمة ما ركب من كلمتين فصاعدا» فلفظ «أحد» كلمة وان زيد عليه الميم وقيل : «أحمد» والمجموع أيضا كلمة ، والصلاة أيضا من هذا القبيل ، فهي موضوعة لمعظم الاجزاء فصاعدا ، ونظير ذلك عنوان البلد والقرية ونحوها.

وبهذا يندفع أحد الإشكالات الثلاثة المذكورة في الكفاية ، وهو كون استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل ، إذ على ما ذكرناه يكون الموضوع له لا بشرط من حيث بقية الاجزاء ، فإطلاقه على الصلاة الصحيحة التامّة يكون من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد لا استعمال الموضوع للجزء في الكلّ.

ثم انه لا بدّ في تعيين مقوم كل مركب من الرجوع إلى مخترعه ، ومخترع الصلاة هو الشارع ، فلا بدّ من تعيين معظم الاجزاء الّذي هو المقوّم للمركب وهو المسمى والموضوع له من الرجوع إليه ، فنرى ان في الأخبار ورد ان الصلاة أولها التكبير وآخرها التسليم فمن ذلك نستكشف ان المقوّم الأول للصلاة هو تكبيرة الإحرام ، ومقومها الأخير هو التسليم ان قلنا بان نسيان التسليم مبطل للصلاة ، كما ذهب إليه بعض الأعلام وذكر انه إذا وقع الحديث بعد التشهّد وقبل التسليم يكون مبطلا لكونه واقعا في الأثناء ، وأما ان قلنا بان نسيان التسليم لا يوجب بطلانها كما هو الحق ، لحديث لا تعاد ، فنلغي مقوّمية التسليم ، ونقتصر على خصوص التكبير. وورد في الأخبار أيضا ان الصلاة ثلثها الركوع وثلثها السجود ، فنستفيد منه ان الركوع والسجود أيضا من الأجزاء المقوّمة لها ، هذا من حيث الأجزاء. ومن حيث الشرائط ورد ان ثلثها الطهور ، فنفهم ان الطهارة شرط مقوّم للصلاة ، وعليه فيكون المقوّم لهذا المركب الاعتباري أمور أربعة : «التكبير ، والركوع ، والسجود ، والطهور ، والسلام أيضا» على قول والهيئة الاتصالية المعتبرة عرفا في جميع

٨٠